العفو مِن أبواب العزِّ!









كتبه/ عصام حسنين


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن العفو بشرط الإصلاح(1) كما قال الله -تعالى-: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40)، باب عظيم مِن أبواب العز كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا) (رواه مسلم).

وهو مِن آكد الأمور التي حثَّ الله -عز وجل- عليها فقال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (الشورى:43).

وأخبر -عز وجل- أنه لا يقوم به إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، وأنه لا يوفق له إلا أولو العزائم والهمم العالية والبصائر النافذة، قال الله -تعالى-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34-35).

والعفو وصف الكريم الرحمن -جلَّ وعلا-، وآثاره مشاهَدة في عباده وخلقه، وشهود العبد هذه الآثار مما يهيجه على التخلق بهذه الصفة العظيمة؛ تعبدًا لله -تعالى- بذلك، وطلبًا لعفوه وصفحه، فإن الجزاء مِن جنس العمل.

عن عليّ -رضي الله عنه- قال: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- حَدَّثَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)، (وَسَأُفَسِّرُهَ ا لَكَ يَا عَلِيُّ: مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، أَوْ بَلاءٍ فِي الدُّنْيَا، فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِمِ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، فَاللهُ تَعَالَى أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ) (رواه أحمد، وحسنه الشيخ أحمد شاكر).

كما أن العفو والصفح مِن خُلُق قدوتنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومِن وصفه؛ هكذا وصفته عائشة -رضي الله عنها-، وكذا هو وصفه في التوراة، فقد سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: (لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وعن عطاء بن يسار بن يسار قال: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: "أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (الأحزاب:45)، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ" (رواه البخاري).

ولقد كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- واقعا حيًّا لهذا الخلق الكريم: فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ" (متفق عليه).

قال النووي -رحمه الله-: "فيه: احتمال الجاهلين، والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة. وفيه: كمال خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحلمه وصفحه" (انتهى مِن شرح النووي على مسلم).

وغير ذلك مِن الأمثلة كثير، كلها تحُثنا حثًّا على التخلق بهذا الخلق الكريم.

واعلم أن الدنيا ساعة، والمقام بها يسير، فلا تحتمل تقاطعًا أو تدابرًا إلا في الله -تعالى- ولله، وأنه ينبغي أن نعامِل إخواننا بالسهولة واللين -قدر الاستطاعة- فقد وصف جابر -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا سَهْلًا... " (رواه مسلم). أي كان سهل الخُلق، كريم الشمائل، لطيفًا، ميسرًا في الخلق.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ سَهْلاً هَيِّناً لَيِّناً حَرَّمَهُ الله عَلَى النَّارِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى) (رواه البخاري)، وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: (ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرْ اللهُ لَكُمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

ولننتبه إلى أن الشحناء والتقاطع مِن أسباب حجب المغفرة عن العبد، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا) (رواه مسلم). (أَنْظِرُوا): أي أخِّروا.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ينزل ربنا -تبار وَتَعَالَى- إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لأَهْلِ الأَرْضِ إِلا مُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) (رواه أحمد وابن أبي عاصم في السنة، وصححه الألباني).

إخواني الأحبة:

فما أحوجنا في هذه الآونة إلى هذا الخُلق الكريم، واقعًا حيًّا بيننا.

نسأل الله -تعالى- العفو والمعافاة في الدنيا والآخرة.


والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ

(1) قال العلامة السعدي في تفسيره: "وشرط الله في العفو الإصلاح فيه؛ ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به" اهـ.