الأمانة من الأسس التي قام عليها ديننا الحنيف


مجلة الفرقان



إنَّ الأمانة واحدة من الفضائل والأسس التي قام عليها الدين الإسلامي الحنيف، فهي أداء حقوق الآخرين والمحافظة عليها، وهي الفريضة العظيمة التي رفضت الجبال والسماوات والأرض أن يحملنها لعظمتها وثقلها ولكنَّ الإنسان حملها، وهي دليلٌ على إيمان المرء وحسن خلقه، وهي الوفاء بالعهد، والثبات عليه، والصدق والإخلاص في كل الأعمال، ولقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العلاقة القوية بين الإيمان والأمانة، فلا وجود للإيمان في حياة المسلم دون أن يتحلى بالأمانة والصدق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا إيمانَ لمن لا أمانة لهُ، ولا صلاة لمن لا طُهور لهُ، ولا دينَ لمن لا صلاةَ لهُ، إنَّما موضع الصلاة من الدين كموضع الرَّأس من الجسد».



والأمانة ضد الخيانة، وأصل الأَمْن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمانة مصدر أمن بالكسر أمانة فهو أمين، ثم استعمل المصدر في الأعيان مجازًا، فقيل الوديعة أمانة ونحوه، والجمع أمانات، فالأمانة اسم لما يُؤمَّن عليه الإنسان، نحو قوله -تعالى-: {وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} (الأنفال: 27)، أي: ما ائتمنتم عليه، وقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأحزاب: 72).

معنى الأمَانَة اصطلاحًا

الأمانة: هي كلُّ حقٍّ لزمك أداؤه وحفظه، وقيل هي: «التَّعفُّف عمَّا يتصرَّف الإنسان فيه مِن مال وغيره، وما يوثق به عليه مِن الأعراض والحرم مع القدرة عليه، وردُّ ما يستودع إلى مودعه»، وقال الكفوي: «كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار».

ترغيب القرآن الكريم في الأمَانَة

قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النِّساء: 58)، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «نزلت في ولاة الأمور: عليهم أن يؤدُّوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين النَّاس أن يحكموا بالعدل، وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة»، وقال الشَّوكاني: «هذه الآية مِن أمَّهات الآيات المشتملة على كثير مِن أحكام الشَّرع؛ لأنَّ الظَّاهر أنَّ الخطاب يشمل جميع النَّاس في جميع الأمانات، وقد رُوِي عن علي، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب أنَّها خطاب لولاة المسلمين، والأوَّل أظهر، وورودها على سبب لا ينافي ما فيها مِن العموم، فالاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، كما تقرَّر في الأصول».

عظم شأن الأمانة

وقال -عز وجل-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْمُشْرِكِين َ وَالْمُشْرِكَات ِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الأحزاب: 72-73)، ففي هذه الآية عظَّم -تعالى- شأن الأمَانَة، التي ائتمن الله عليها المكلَّفين، التي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السِّرِّ والخفية، كحال العلانية، وأنَّه -تعالى- عرضها على المخلوقات العظيمة، السَّماوات والأرض والجبال، عَرْض تخيير لا تحتيم، وأنَّكِ إن قمتِ بها وأدَّيتِهَا على وجهها، فلكِ الثَّواب، وإن لم تقومي بها، ولم تؤدِّيها فعليك العقاب. فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا أي: خوفًا ألا يقمن بما حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لربِّهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعَرَضَها الله على الإنسان، على ذلك الشَّرط المذكور، فقَبِلها، وحملها مع ظلمه وجهله.

من صفات المفلحين

وقال -تعالى- في ذكر صفات المفلحين: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون: 8)، أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء بها، وهذا شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربِّه، كالتَّكاليف السِّرِّيَّة، التي لا يطَّلع عليها إلَّا الله، والأمانات التي بين العبد وبين الخلق، في الأموال والأسرار.

ترغيب السُّنَّة النَّبويَّة في الأمَانَة

عن عبد الله بن عبَّاس -رضي الله عنهما-، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»، يعني إذا ائتمنه النَّاس على أموالهم أو على أسرارهم أو على أولادهم أو على أي شيء مِن هذه الأشياء فإنَّه يخون -والعياذ بالله-، فهذه مِن علامات النِّفاق، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضًا قال: «بينما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدِّث القوم، جاء أعرابيٌّ فقال: متى السَّاعة؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدِّث. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أُراه السَّائل عن السَّاعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: فإذا ضُيِّعت الأمَانَة فانتظر السَّاعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السَّاعة»، وعن عبد الله بن عمرو عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا يضرَّنَّك ما فاتك مِن الدُّنْيا: صِدْق حديث، وحِفْظ أمانة، وحُسْن خليقة، وعفَّة طُعْمة».

أقوال السَّلف والعلماء في الأمَانَة

قال أبو بكر الصِّديق -رضي الله عنه-: «أصدق الصِّدق الأمَانَة وأكذب الكذب الخيانة»، وعن ابن أبي نجيح قال: «لما أُتِي عمر بتاج كسرى وسواريه جعل يقلبه بعود في يده ويقول: والله إنَّ الذي أدَّى إلينا هذا لأمين. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدُّون إليك ما أدَّيت إلى الله فإذا رتعت رتعوا. قال: صدقت»، وعن هشام أنَّ عمر قال: «لا تغرُّني صلاة امرئ ولا صومه، مَن شاء صام، ومَن شاء صلى، لا دين لمن لا أمانة له»، وقال عبد الله بن مسعود: «القتل في سبيل الله كفَّارة كلِّ ذنب إلَّا الأمَانَة، وإنَّ الأمَانَة الصَّلاة والزَّكاة والغسل مِن الجنابة والكيل والميزان والحديث، وأعظم مِن ذلك الودائع»، وعن أبي هريرة قال: «أوَّل ما يرفع مِن هذه الأمَّة الحياء والأمَانَة، فسلوها الله»، وقال ابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: «لم يرخِّص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمَانَة»، وقال نافع مولى ابن عمر: «طاف ابن عمر سبعًا وصلَّى ركعتين، فقال له رجل مِن قريش: ما أسرع ما طفت وصلَّيت يا أبا عبد الرَّحمن! فقال ابن عمر: أنتم أكثر منَّا طوافًا وصيامًا، ونحن خير منكم بصدق الحديث، وأداء الأمَانَة وإنجاز الوعد».






أنواع الأمَانَة

هناك مجالات تدخل فيها الأمَانَة وهي كثيرة؛ فـالأمانة باب واسعٌ جدًّا، وأصلها أمران: أمانة في حقوق الله: وهى أمانة العبد في عبادات الله -عز وجل-. وأمانة في حقوق البشر، وفيما يلي تفصيل ما يدخل تحتهما من أنواع:

(1) الأمَانَة فيما افترضه الله على عباده

فمِن الأمَانَة: «ما ائتمنه الله على عباده مِن العبادات التي كلَّفهم بها، فإنَّها أمانة ائتمن الله عليها العباد».

(2) الأمَانَة في الأموال

ومِن الأمَانَة: العفَّة عمَّا ليس للإنسان به حقٌّ مِن المال، وتأدية ما عليه مِن حقٍّ لذويه، وتأدية ما تحت يده منه لأصحاب الحقِّ فيه، وتدخل في البيوع والديون والمواريث والودائع والرهون والعواري والوصايا وأنواع الولايات الكبرى والصُّغرى وغير ذلك، ومنها الأمَانَة المالية وهي: الودائع التي تُعْطَى للإنسان ليحفظها لأهلها. وكذلك الأموال الأخرى التي تكون بيد الإنسان لمصلحته، أو مصلحته ومصلحة مالكها؛ وذلك أنَّ الأمَانَة التي بيد الإنسان إمَّا أن تكون لمصلحة مالكها أو لمصلحة مَن هي بيده أو لمصلحتهما جميعًا، فأمَّا الأوَّل فالوديعة تجعلها عند شخص، تقول -مثلًا-: هذه ساعتي عندك، احفظها لي. أو: هذه دراهم، احفظها لي. وما أشبه ذلك، فهذه وديعة المودع فيها بقيت عنده لمصلحة مالكها، وأمَّا التي لمصلحة مَن هي بيده فالعارية: يعطيك شخصٌ شيئًا يعيرك إيَّاه مِن إناء أو فراش أو ساعة أو سيَّارة، فهذه بقيت في يدك لمصلحتك، وأمَّا التي لمصلحة مالكها ومَن هي بيده: فالعين المستأجرة، فهذه مصلحتها للجميع، استأجرت منِّي سيَّارة وأخذتها، فأنت تنتفع بها في قضاء حاجتك، وأنا أنتفع بالأجرة، وكذلك البيت والدُّكَّان وما أشبه ذلك، كلُّ هذه مِن الأمانات.

(3) الأمَانَة في الأعراض

فمِن الأمَانَة في الأعراض: العفَّة عمَّا ليس للإنسان فيه حقٌّ منها، وكفُّ النَّفس واللِّسان عن نيل شيء منها بسوء، كالقذف والغيبة.

(4) الأمَانَة في الأجسام والأرواح

فمِن الأمَانَة في الأجسام والأرواح: كفُّ النَّفس واليد عن التَّعرُّض لها بسوء، من قتل أو جرح أو ضرٍّ أو أذى.

(5) الأمَانَة في المعارف والعلوم

فمِن الأمَانَة في المعارف والعلوم تأديتها دون تحريف أو تغيير، ونسبة الأقوال إلى أصحابها، وعدم انتحال الإنسان ما لغيره منها.

(6) الأمَانَة في الولاية

فمِن الأمَانَة في الولاية: تأدية الحقوق إلى أهلها، وإسناد الأعمال إلى مستحقِّيها الأكفاء لها، وحفظ أموال النَّاس وأجسامهم وأرواحهم وعقولهم، وصيانتها ممَّا يؤذيها أو يضرُّ بها، وحفظ الدِّين الذي ارتضاه الله لعباده مِن أن يناله أحدٌ بسوء، وحفظ أسرار الدَّولة وكلِّ ما ينبغي كتمانه مِن أن يسرَّب إلى الأعداء، إلى غير ذلك مِن أمور، قال ابن عثيمين -رحمه الله: «ومِن الأمَانَة -أيضًا- أمانة الولاية، وهي أعظمها مسؤوليَّة، الولاية العامَّة والولايات الخاصَّة، فالسُّلطان -مثلًا، الرَّئيس الأعلى في الدَّولة- أمينٌ على الأمَّة كلِّها، على مصالحها الدِّينية، ومصالحها الدُّنيويَّة، على أموالها التي تكون في بيت المال، لا يبذِّرها ولا ينفقها في غير مصلحة المسلمين وما أشبه ذلك. وهناك أمانات أخرى دونها، كأمانة الوزير -مثلًا- في وزارته، وأمانة الأمير في منطقته، وأمانة القاضي في عمله، وأمانة الإنسان في أهله».

(7) الأمَانَة في الشَّهادة

وتكون الأمَانَة في الشَّهادة بتحمُّلها بحسب ما هي عليه في الواقع، وبأدائها دون تحريف أو تغيير أو زيادة أو نقصان.

(8) الأمَانَة في القضاء

وتكون الأمَانَة في القضاء بإصدار الأحكام وفْقَ أحكام العدل التي استُؤْمِن القاضي عليها، وفُوِّض الأمر فيها إليه.



(9) الأمَانَة في الأسرار التي يُستأمن الإنسان على حفظها

وتكون الأمَانَة فيها بكتمانها، ومِن الأمانات ما يكون بين الرَّجل وصاحبه مِن الأمور الخاصَّة التي لا يجب أن يطَّلع عليها أحدٌ؛ فإنَّه لا يجوز لصاحبه أن يخبر بها، فلو استأمنك على حديث حدَّثك به، وقال لك: هذا أمانة، فإنَّه لا يحلُّ لك أن تخبر به أحدًا مِن النَّاس، ولو كان أقرب النَّاس إليك، سواءً أوصاك بألا تخبر به أحدًا، أو عُلِم مِن قرائن الأحوال أنَّه لا يحب أن يطلع عليه أحدٌ؛ ولهذا قال العلماء: إذا حدَّثك الرَّجل بحديث والتفت فهذه أمانة. لماذا؟ لأنَّ كونه يلتفت فإنَّه يخشى بذلك أن يسمع أحدٌ، إذًا فهو لا يحبُّ أن يطَّلع عليه أحدٌ، فإذا ائتمنك الإنسان على حديث فإنَّه لا يجوز لك أن تفشيه، ومِن ذلك أيضًا ما يكون بين الرَّجل وبين زوجته مِن الأشياء الخاصَّة، فإنَّ شرَّ النَّاس منزلةً عند الله -تعالى- يوم القيامة الرَّجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثمَّ يروح ينشر سرَّها، ويتحدَّث بما جرى بينهما.

(10) الأمَانَة في الرِّسالات

وتكون الأمَانَة فيها بتبليغها إلى أهلها تامَّة غير منقوصة ولا مزاد عليها، وعلى وفْقِ رغبة محمِّلها، سواء أكانت رسالة لفظيَّة أو كتابيَّة أو عمليَّة.

(11) الأمَانَة في السَّمع والبصر وسائر الحواس

وتكون الأمَانَة فيها بكفِّها عن العدوان على أصحاب الحقوق، وبحفظها عن معصية الله فيها، وبتوجيهها للقيام بما يجب فيها مِن أعمال، فاستراق السَّمع خيانة، واستراق النَّظر إلى ما لا يحلُّ النَّظر إليه خيانة، واستراق اللَّمس المحرَّم خيانة، ومِن معاني الأمَانَة أن تنظر إلى حواسك التي أنعم الله بها عليك، وإلى المواهب التي خصَّك بها، وإلى ما حُبيت مِن أموالٍ وأولادٍ، فتدرك أنَّها ودائع الله الغالية عندك، فيجب أن تسخرها في قرباته، وأن تستخدمها في مرضاته. فإن امتُحِنتَ بنقص شيء منها فلا يستخفَّنَّك الجزع متوهمًا أنَّ ملكك المحض قد سُلب منك، فالله أولى بك منك. وأولى بما أفاء عليك وله ما أخذ وله ما أعطى. وإن امتُحِنتَ ببقائها فما ينبغي أن تجبن بها عن جهاد، أو تفتتن بها عن طاعة، أو تستقوي بها على معصية. قال الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 27-28).

(12) الأمَانَة في النُّصح والمشورة

ومِن أنواع الأمَانَة أن تنصح مَن استشارك، وأن تَصْدُق مَن وَثَقَ برأيك، فإذا عرض عليك أحدٌ مِن النَّاس موضوعًا معيَّنًا، وطلب منك الرَّأي والمشورة والنَّصيحة، فاعلم أنَّ إبداء رأيك له أمانة، فإذا أشرت عليه بغير الرَّأي الصَّحيح، فذلك خيانة، وقد قال الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -: «المستشار مؤتمن».




الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: حكم خيانة الأمانة


قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -: خيانة الأمانة من علامات النفاق، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «آية المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان»، ولا يحل لأحد أن يخون الأمانة سواءٌ كانت قوليه أم فعلية؛ لأنه إن فعل ذلك كانت فيه علامةٌ من علامات النفاق، وربما تسري هذه حتى تصل إلى النفاق الأكبر والعياذ بالله. فإذا حدثك إنسان بحديث وقال: إنه أمانة حرم عليك أن تفشيه لأي أحد، وإذا عاملك معاملة وقال: إنها أمانة حرم عليك أن تفشيها لأي أحد، فإن فعلت فقد خنت الأمانة، لكن لو فرض أنك أخطأت فخنت الأمانة فالواجب عيك أن تتحلل ممن ائتمنك؛ لأنك ظلمته؛ حيث خنته لعل الله يهديه فيحللك، والذي ينبغي لمن جاءه أخوه معتذراً أن يعذره ويحلله حتى يكون أجره على الله -عز وجل-، كما قال -تعالى-: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}، ولا شك أن الأمانات تختلف في آثارها، فقد يكون إفشاء السر في هذه الأمانة عظيماً يترتب عليه مفاسد كثيرة، وقد يكون متوسطاً وقد يكون سهلاً..





على المسلم أن يؤدي الأمانة وينصح في عمله




المشروع لكل مسلم ومسلمة التبليغ عن الله -تعالى- لما سمع من الخير، كما دل على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «نضر الله امرًا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بلغوا عني ولو آية».

وكان إذا خطب الناس وذكرهم يقول: «فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلّغ أوعى من سامع».

فأنا أوصيكم جميعًا أن تبلغوا ما سمعتم من الخير عن بصيرة وتثبت؛ فكل من سمع علمًا وحفظه يبلغ أهل بيته وإخوانه ومجالسيه ما يرى فيه الخير من ذلك، مع العناية بضبط ذلك، وعدم التكلم بشيء لم يحفظه؛ حتى يكون من المتواصين بالحق، ومن الدعاة إلى الخير.

أما الموظفون الذين لا يؤدون أعمالهم أو لا ينصحون فيها، فقد سمعتم أن من خصال الإيمان أداء الأمانة ورعايتها، كما قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 258).

فالأمانة من أعظم خصال الإيمان، والخيانة من أعظم خصال النفاق، كما قال الله -سبحانه- في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المعارج: 32)، وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال: 27). فالواجب على الموظف أن يؤدي الأمانة بصدق وإخلاص، وعناية وحفظًا للوقت؛ حتى تبرأ الذمة، ويطيب الكسب، ويرضي ربه، وينصح لدولته في هذا الأمر، أو للشركة التي هو فيها، أو لأي جهة يعمل فيها.

هذا هو الواجب على الموظف: أن يتقي الله وأن يؤدي الأمانة بغاية الإتقان وغاية النصح؛ يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ويعمل بقوله -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58).

ومن خصال أهل النفاق: الخيانة في الأمانات، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: آية المنافق ثلاث: «إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» متفق عليه، فلا يجوز للمسلم أن يتشبه بأهل النفاق، بل يجب عليه أن يبتعد عن صفاتهم، وأن يحافظ على أمانته، وأن يؤدي عمله بغاية العناية، ويحفظ وقته ولو تساهل رئيسه، ولو لم يأمره رئيسه، فلا يقعد عن العمل أو يتساهل فيه، بل ينبغي أن يجتهد؛ حتى يكون خيرًا من رئيسه في أداء العمل والنصح في الأمانة، وحتى يكون قدوة حسنة لغيره.






الشيخ العصيمي: عبادة الله أعظم أمانة حملها الإنسان


قال الشيخ صالح العصيمي - حفظه الله - إِنَّ أَعْظَمَ أَمَانَةٍ حَمَلَهَا الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ، وَيَخْضَعَ لَهُ، وَيَرْجُوَهُ وَيَخَافَهُ، فَيَفْعَلُ أَوَامِرَهُ وَيَنْتَهِي عَنْ زَوَاجِرِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَكْثَرُهُمْ خَانَهَا. فَالْأَمَانَةُ اِعْتِقَادٌ وَعبَادَةٌ وَمُعَامَلَةٌ فِيهَا جِمَاعُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَأَثْنَى اللهُ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} (المؤمنون: 8)، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ).

وَمِنَ الْأَمَانَةِ الَّتِي حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ: التَّوْحِيدُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ، وَالحَجُّ وَالْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ وَالْحُدُودُ، وَكُلُّ الْعِبَادَاتِ، وَوَدَائِعُ النَّاسِ أَمَانَةٌ، قَالَ اللهُ -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58).

فَالشَّرْعُ كُلُّهُ أَمَانَةٌ، وَالْأَمَانَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ وَظَائِفِ الدِّينِ، وَكُلَّ مَا يَخْفَى وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ مِمَّا يَعْمَلُهُ العَبْدُ الْمُكَلَّفُ. فَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُطْلِقْهَا فِيمَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْأُذُنُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُسْمِعْهَا مَا حَرَّمَ اللهُ، وَاللِّسَانُ أَمَانَةٌ، فَلَا تَتَلَفَّظْ بِمَا لَا يُرْضِي اللهَ، وَالْبَطْنُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُدْخِلْ فِيهِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْيَدُ أَمَانَةٌ، فَلَا تَمَسْ بِهَا مَا حَرَّمَ اللهُ، وَالْفَرْجُ أَمَانَةٌ فَاحْفَظْهُ، فَلَا تُطْلِعْهُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ اللهُ، وَالرِّجْلُ أَمَانَةٌ، فَلَا تَسِرْ بِهَا إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، وَالْعَقْلُ أَمَانَةٌ، فَلَا تُخَطِّطْ أَوْ تُدَبِّرْ بِهِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَوَالِدَاكَ أَمَانَةٌ فَبِرْ بِهِمَا، وَأَبْنَاؤُكَ وَزَوْجَتُكَ أَمَانَةٌ، فَارْعِهِمْ وَمُرْهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَبِحِفْظِهِمْ مِنَ الْمَحَارِمِ، فَأَنْتَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ أَمَامَ اللهِ.



الشيخ عبد العزيز آل الشيخ:


الإسلام حث على التخلق بخلق الأمانة وأمر بها ورغب فيها


قال سماحة مفتي عام المملكة رئيس هيئة كبار العلماء ورئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز ابن عبدالله آل الشيخ: الإسلام حث على التخلق بخلق الأمانة وأمر بها ورغب فيها، يقول -جل جلاله-: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، محذراً من الخيانة فيها، قال -تعالى-: {يا أيها الذين آمنو لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون }.


وإن لأداء الأمانة في الشريعة فضائل عدة، فمن أعظم فضائلها: أنها خلق أنبياء الله ورسله؛ فقد ذكر الله عن نوح أنه قال لقومه: {إني لكم رسول أمين}، وهكذا قاله هود وصالح ولوط وشعيب وموسى -عليهم السلام-، كلهم يقولون لأقوامهم: إني لكم رسول أمين، ووصف الله جبريل (سيد الملائكة وأمين الله على وحيه) بقوله -جل وعلا {مطاع ثم أمين}، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عرف بالصدق والأمانة، وكان يسمى الصادق الأمين قبل أن يوحى إليه -صلوات الله وسلامه عليه- أبداً دائماً إلى يوم الدين، يقول الله -تعالى-: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}.

ومن فضائل الأمانة أنها خلق الصالحين من عباد الله، قال -جل وعلا- في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}، ومن فضائلها أن الله عرضها على السماوات السبع والأرضين السبع والجبال فأبين أن يحملنها ليس عصيانا لله، ولكن خوفا من التبعات، يقول الله -تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.

والأمانة عامة في جميع المسؤوليات، مسؤولية الإمام العام في أموال الأمة، والعدل بينهم ورد المظالم، ومسؤولية في الفرد في أداء ما استودعه من ودائع وإعطاء الحقوق في الوجه الذي في ذمته، قال -جل وعلا-: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: « إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة».

وإن مما يدلك على عظم الأمانة أنها مسؤولية يمارسها الناس في حياتهم اليومية فهم محتاجون إليها في جميع أحوالهم، سواء كانت في الإمارة أم في القضاء أم في الحسبة أم في الإفتاء والتعليم أم في وسائل الإعلام إلى غير ذلك من الأمور المهمة.

ومن مجالات الأمانة التي أمرنا الله بها أمانة المسؤولية، أن يولى على الأمة من يعرف صلاحه وتقواه وقيامه بالواجب، {إن خير من استأجرت القوي الأمين}، فإنها مسؤولية سيسأل عنها يوم القيامة؛ فلابد أن يتولاها من هو أهل لها وللقيام بواجبها حق القيام.




الأمانة من الأمن وهو ضد الخوف


قال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله-: الأمانة مأخوذة من الأمن، وهو ضد الخوف، والله عظم من شأن الأمانة، وقال -سبحانه وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} وفي هذه الآية {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} لأنه الله عرضها على تلك المخلوقات العظيمة، عرض تخيير، ولم يعرضها عرض إلزام، فمن أداها له الأجر وحافظ عليها ومن خانها فعليه الإثم، فآثرت هذه المخلوقات السلامة على الغنيمة {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} امتنعن من حملها لعظم مسؤوليتها {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} خفن من الأمانة، وهذا يدل على عظم الأمانة، {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} آدم وذريته، آثروا الغنيمة على السلامة حبا للأجر فحملوها {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} فجنس الإنسان فيه هاتان الصفتان، وأما الإنسان فمنه من هو خير ومن هو طيب ومنهم الرسل ومنهم الأنبياء ومنهم الصالحون ولكن المقصود جنس الإنسان، فمن صفة جنس الإنسان الظلم والجهل الذي هو عدم الحلم؛ لأن الجهل على قسمين: جهل بمعنى عدم العلم، وجهل بمعنى عدم الحلم {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} والأمانة المراد بها في هذه الآية الكريمة، الأوامر الشرعية فعل الطاعات وتجنب المحرمات، مع توحيد الله -عز وجل- وعدم الإشراك به، هذا هو أعظم الأمانة التي حمله الله خلقه كما قال -جل وعلا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}؛ فالعبادة أمانة بين العبد وبين ربه جملة وأفرادا، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - الصلاة أمانة والطهارة أمانة، وهذه أمثله والأمانة عامة لكل ما شرعه الله -سبحانه وتعالى-، أمانة بين العبدِ وبين ربهِ، وكذلك الوديع التي تكون عند الأمناء للناس، أكثر الناس ما يفهم من الأمانة إلا من نوع هذا يحسب أنها مقصورة على الوديع ليس كذلك، الوديع نوع من الأمانة يجب عليه أن يؤديها أد الأمانة إلى من ائتمنك {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} هذا نوع من الأمانات، وكذلك من الأمانة الأسرار بين الناس، السر أمانة تحافظ عليه، ولا تفشهِ لأنك مؤتمن عليه، وكذلك من الأمانات العمل الوظيفي الذي يوليك ولي الأمر أمارة أو وكالة أو أي عمل وظيفي، فإنه أمانة في ذمتك وأيضاً تأخذ عليه أجرا، وهو أمانة في ذمتك يجب أن تؤديهُ نصحا لله ولرسوله وإلى أئمة المسلمين وعامتهم، تقوم بالعمل الموكل إليك في الوظيفة ولا تبخس منه شيئا؛ فهو أمانة، إذا تركت منه شيئا وفرطت فيه، فإن هذا خيانة للأمانة فيجب على المسلم أن يتنبه لهذا الأمر.