زكاة الأموال المجمدة

محمد نبيل غنايم



مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فهذا بحث في زكاة الأموال المجمَّدة، وهو أحد الموضوعات التي اختارها مجمع الفقه الإسلامي لأعمال الدورة السادسة عشر لمجلس المجمع، الذي انعقد في دبي في الفترة من 9 - 14/ 4/ 2005، وقد جاء البحث في أربعة مباحث:
المبحث الأول:
في تحديد المصطلحات، وبيان مفاهيم ألفاظ العنوان: زكاة - أموال - مجمدة.
المبحث الثاني:
في بيان ماهية الأموال المجمدة وصورها وتتضمَّن: مكافأة نهاية الخدمة - مكافأة التَّقاعد - مكافأة الادخار - الرَّاتب التَّقاعدي - الصَّداق المؤجَّل - أقساط التَّأمين التكافلي واحتياطيَّاته - الودائع الاستثماريَّة طويلة الأجل - تأمينات الخدمات.
المبحث الثالث:
في تكييفها الفقهي، حيث تبيَّن أنَّها تتردَّد بين: الملك النَّاقص - الملك التام - التَّبرعات.
المبحث الرابع:
في حكم الزَّكاة فيها، وقد تبيَّن أن منها ما تجب زكاته لتوفر شروط الزكاة فيه، ومنها ما لا تجب فيه الزكاة على طرف وتجب على الآخر، ومنها ما لا يجب على الطَّرفين.
أرجو أن يكون فيه بيان للمطلوب، وإضافة للبحوث الفقهيَّة المعاصرة التي يضطلع المجمع وخبراؤه ببحثها ومناقشتها.
والله ولي التوفيق.
المبحث الأول
في تحديد المصطلحات
"زكاة - أموال - مجمدة"
من الجدير بالذِّكر قبل البحث في زكاة الأموال المجمَّدة أن نحدد المراد بتلك الألفاظ والمصطلحات، التي يتكوَّن منها عنوان البحث، وهي: "زكاة، أموال، مجمدة"، فإذا اتَّضحت لنا معاني هذه الألفاظ استطعْنا أن نفهم العنوان المركب منها، وما يتَّصل به من أحكام، فلنبدأ ببيان معاني هذه الألفاظ؛ لنخرجَ من مجموع معانيها بالمعنى المراد مِن زكاة الأموال المجمَّدة.
1) زكاة: جاء في "المعجم الوسيط" أنَّ الزَّكاة هي: البركة والنماء، والطَّهارة والصلاح، وصفوة الشَّيء: من زكا الشيء زكوًا وزكاء وزكاة: نما وزاد، وفلان صلح وتنعم وكان في خصب فهو زكي[1].
وقال أبو محمد بن قتيبة: الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة؛ سمّيت بذلك لأنَّها تثمِّر المال وتنميه، يقال: زكا الزرع: إذا كثر وبعد، وزكت النَّفقة: إذا بورك فيها[2].
وجاء في "الموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة": "الزكاة لغةً: النَّماء والربح والزيادة من زكا يزكو زكاة وزكاء، ومنه قول علي - رضي الله عنه -: "العلم يزكو بالإنفاق"، والزكاة أيضًا: الصَّلاح، قال الله - تعالى -(فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً)[3]، قال الفرَّاء: أي صلاحًا"[4].
وهكذا نَجِدُ المعنى اللُّغَويَّ يدور حول النمو والتطهير والصلاح، والمعنى الشَّرعي لا يخرج عن ذلك؛ ولكنه يضيف الضوابط والقيود، فالزكاة في الشريعة: حق يجب في المال - كما يقول ابن قدامة - فعند إطلاق لفظها في موارد الشَّريعة ينصرف إلى ذلك[5].
وقد فصَّلتِ "الموسوعة" ذلك المُجْمَل فقالت: "وفي الاصطلاح تطلق على أداء حق يجب في أموال مخصوصة على وجه مخصوص، ويُعْتَبر في وجوبِه الحولُ والنصاب؛ كما تطلق أيضًا على المال المخرج نفسه"[6]، وقيل لِما يخرج من حق الله في المال "زكاة"؛ لأنَّه تطهيرٌ لِلمال مِمَّا فيه من حقٍّ وتثميرٍ له، وإصلاحٍ ونَماء بالإخلاف من الله - تعالى -.
وقال ابنُ حجر: "قال ابن العربي: إنَّ زكاة تطلق على الصَّدقة الواجبة والمندوبة، والنفقة والحق والعفو..."[7].
وبعد هذا البيان لمعنى الزكاة لغةً وشرعًا، وظهور التَّطابق والتَّوافق بينهما ننتقل للفظ الثاني.
2) الأموال: جمع مال وهو: كل ما يملكه الفرد، أو تَملكه الجماعة من متاع أو عُرُوض تجارة، أو عقار، أو نقود، أو حيوان، من مالَ يمول مولاً كثر ماله، فهو مال وهي مالة و.. فلانًا أعطاه المال موَّله: قدَّم له ما يحتاج من مال، تَموَّل نما له مال، و.. مالاً اتَّخذه قنية، وقد أطلق في الجاهلية على الإبل، ويقال رجل مال: ذو مال[8].
أمَّا في الاصطلاح: فقدِ اختلف الفقهاء في تعريفه كما جاء في "الموسوعة الفقهيَّة"؛ فقال ابن عابدين: المراد بالمال ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمويل الناس كافة أو ببعضهم[9]، وقال الشاطبي: "هو ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه"[10].
وقال ابن العربي: "هو ما تمتد إليه الأطماع، ويصلح عادة وشرعًا للانتفاع به" [11]، وحكى السيوطي عنِ الشَّافعي أنَّه قال: "لا يقع اسم المال إلاَّ على ما له قيمة يُباع بها وتلزم متلفه، وإن قلت، وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك" [12].
وقال الحنابلة: "المال شرعًا ما يُباح نفعه مطلقًا؛ أي في كل الأحوال، أو يباح اقتناؤه بلا حاجة" [13].
وقدِ اختلف الفقهاء أيضًا في ماليَّة المنافع وماليَّة الديون، فمنهم من قال: إنَّها أموال، ومنهم من قال: ليست أموالاً حقيقيَّة، وإن كانت مالاً مجازًا[14].
• وتنقسم الأموال باعتبارات الفقهاء إلى: عدة أقسام:
- فباعتبار القيمة تنقسم الأموال إلى: متقومة، وغير متقومة.
- وباعتبار المثلية إلى: مثلية، وقيميَّة.
- وباعتبار حق الغير إلى: ما يتعلق بها حق الغير، وما لا يتعلق.
- وبالنظر إلى النقل إلى: منقولة، وعقار.
- وبالنظر إلى النقدية إلى: نقود، وعُروض.
- وبالنظر إلى رجاء صاحبه فيه إلى: ضمار، ومرجو، والضمار هو: الذي لا يتمكَّن صاحبه من استنمائه لزوال يده عنه، وانقطاع أمله في عوده إليه؛ كالمغصوب، والمفقود، والساقط في البحر، والمدفون في الصحراء نسي صاحبه مكانه، والمجحود بلا بيئة، أمَّا المرجو فهو: المال الذي يرجو صاحبه عوده إليه؛ لإقرار من يده عليه بملك صاحبه، وعدم امتناعه عن الرد عند الطَّلب، أو عند حلول الأجل كالدين المقدور عليه ونحوه.
- وبالنظر إلى الزكاة تنقسم إلى: أموال ظاهرة، وباطنة، فوليُّ الأمر يأخذ الزكاة من الظاهرة، أمَّا الباطنة فزكاتها مفوَّضة إلى أربابها، وفي كل ذلك تفصيل وآراء ليس هذا محلها.. [15].
3) المجمَّدة: اسم مفعول من جمد إذا صلب، يقال: جمد الماء يجمد جمدًا وجمودًا: صلب ضد ذاب فهو جامد وجمد، وجمدت عينه: قل دمعها فهي جامدة وجمود، والناقة أوِ الشاة قلَّ لبنها، والأرض: لم يصبها مطر، والسنة: لم يقع فيها مطر فهي جامدة وجماد، وفلان: بخل، و.. حق فلان وجب، وجمد الشيء: قطعه.. [16]، فإذا زيدت الهمزة، أوِ التضعيف زادت صفة الجمود في الموصوف وهي الصَّلابة ماء أو جفافًا أو بخلاً كما سبق، وجامد المال: صامته، وذائبه: ناطقه أو كما نقول في اللغة المعاصرة: السيولة وقلّتها، أو النمو والركود، والجماد: القسم الثالث من الكائنات: حيوان، نبات، جماد، كالحجارة ونحوها من كل صلب، قال في "المعجم": الجمد الصلب المرتفع من الأرض والحجر، والجمع أحجار وجماد[17].
وعلى هذا تكون "المجمَّدة" صفة للأموال الصَّامتة التي لا نمو فيها، ولا حركة، ولا سيولة؛ كأنَّها جماد منَ الحجارة ونحوها.
ومن خلال تلك المعاني اللغويَّة والفقهيَّة لهذه الألفاظ الثلاثة - عنوان البحث وموضوعه - يتبيَّن المراد وهو معرفة الحكم الشَّرعيِّ للزَّكاة في تلك الأموال الجامدة الصَّامتة، هل تَجِبُ أو لا تَجِبُ فيها الزَّكاة؟ وإذا وجبت كم يكون مقدارها؟ ومتى؟... إلى غير ذلك مما سيتبيَّن بعدُ في المبحث الثالث، أمَّا المبحث الثاني فعن طبيعة الأموال المجمَّدة وأنواعها.
المبحث الثاني
"الأموال المجمَّدة"
يقصد بالأموال المجمَّدة تلك الأموال التي يكون للإنسان حق فيها؛ بناءً على وعد بها، أو إسهام فيها، وقانون ينظمها بشروط مخصوصة، ولا يستطيع صاحب الحق فيها أخذها، أو التَّصرف فيها إلاَّ باستيفاء هذه الشروط، ومثلوا لها بمكافأة نهاية الخدمة، والرَّاتب التَّقاعدي والمؤجل من صداق الزَّوجة... وغير ذلك، ولْنَقِف مع كل منها وقفة تكشف عن مفهومها.
1) مكافأة نهاية الخِدْمة:
تطلق على مبلغ شرعته قوانين العمل، وجعلتْهُ أثرًا لازمًا لانتهاء عقد العمل، ويمكن تعريفها بأنَّها: حق مالي جعلَهُ القانون للعامل على رب العمل بشروط محدَّدة، يقتضي أن يدفع الثاني للأوَّل عند انتهاء خدمته، أو لمن يعولهم مبلغًا نقديًّا دفعةً واحدةً، يلاحظ في تحديد مقداره: مدَّة الخدمة، وسبب انتهائها، والرَّاتب الأخير للعامل[18]، وجميع التَّعريفات تقترب من ذلك أو تطابقه[19].
ومن هذا يتبيَّن أنَّها أمر قانوني ينظم العلاقة بين العامل ورب العمل، وهي غير الرَّاتب الشَّهري الذي يتقاضاه العامل مقابل عمله اليومي، أوِ الشهري، والغاية منها حماية العامل - وهو الطَّرف الضَّعيف - من الضَّياع والهلاك عند فصله، أو انتهاء عمله، أو مرضه أو عجزه، أو تعرض أسرته لذلك عند موته أو عجزه، وزجر رب العمل عن استغلال العامل والتَّسلط عليه بسيف الحاجة إلى العمل، وقد قام القانون بتنظيم هذه القضيَّة إلزامًا للطَّرفينِ، فلا يجوز لأحدهما المخالفة إلاَّ لما هو أفضل للعامل، وتنصُّ هذه القوانين على أنَّ وقت استحقاق هذه المكافأة هو الوقت الذي تنتهي فيه خدمة العامل أوِ الموظف، وينقطع فيه حقه في الأجر، ولا يجوز أن يطالِبَ بالمكافأة قبل انتهاء خدمته، ولا أن يتصرَّف بها أي تصرُّف؛ كالإحالة عليها، أو التَّنازل عنها، أو عن بعضها، فالحق في المكافأة لا ينشأ إلاَّ عند انتهاء عقد العمل، أمَّا قبل ذلك فهي وعد ولا يجوز لأي إنسان أن يتصرَّف في الموعود به قبل تحققه، ولا يتحقَّق ذلك إلاَّ بانتهاء العمل؛ سواء انتهى وهو حي أو مات، فتنتقل إلى من كان يعولهم بنظام خاصٍّ لا حسب الميراث، أمَّا إذا انتهى العمل وقبضها ثم مات بعد ذلك كانت تركة تورث حسب القواعد الشَّرعيَّة.
2) مكافأة التَّقاعُد:
وهو مبلغ يُعْطَى للعامل الذي يخضع لقوانين التَّأمينات الاجتماعيَّة، ولا تتوفَّر فيه شروط استحقاق الرَّاتب التَّقاعدي، فيصرف له عند انتهاء خدمته ذلك المبلغ بشروط وضوابط خاصَّة، ويمكن تعريفها على النَّحو التالي: مبلغ نقدي تؤديه الدولة أو المؤسسة العامَّة للتَّأمينات الاجتماعيَّة للموظَّفين والعمَّال المشمولين بقانون التَّأمين الاجتماعي، واقتطعت من رواتبهم أو أجورهم اشتراكات محدَّدة بصورة دوريَّة، ولم تتحقَّق فيهم جميع الشروط الواجبة لاستحقاق الراتب التَّقاعدي، وبخاصَّة شرط المدَّة التي دفع المستفيد عنها اشتراكات قبل انتهاء خدمته، فإنَّها إن لم تبلغ القدر الذي يعطي له الحق في الرَّاتب التَّقاعدي، أعطي مكافأة التَّقاعد التي تحسب على أساس نسبة معينة من الأجر السَّنوي الأخير من كل سنة من سنوات الخدمة[20].
وهذه المكافأة تختلف عن سابقتها من حيث إنَّ الطَّرف الآخر هو الدَّولة، أو مؤسسة حكوميَّة، وإنَّ العامل يدفع اشتراكات في هذه المكافأة من راتبه، وتدفع الدولة أو المؤسسة ضعفه أو ضعفيه، كما أنَّها ليست معونة للعامل؛ ولكنها تعويضٌ وبعضها ضروري عنِ الرَّاتب التَّقاعدي لو كان مستحقًّا، وقد قام رجال القانون والقضاء بشرحها وبيان كل ما يتعلَّق بها من تفاصيل[21].
3) مكافأة الادخار:
وهي نظام اختياري يقوم به بعض أرباب الأعمال مع من يرغب من عمَّالهم في اقتطاع جزء من راتبه، وإضافة جزء آخر عليه من رب العمل، واستثمار ذلك لدفعه مع عوائده للعامل عند انتهاء خدمته، أو لمن يعولهم إذا تُوفِّي، وعلى هذا؛ يُمكن تعريفُها بأنَّها: مجموعُ المبالغ النَّقديَّة التي تكوَّنت؛ جزءٌ من راتب العامل، وجزءٌ من رب العمل، وعائد استثمارهما تصرف جَميعُها عند انتِهاء خدمة العامل لأيِّ سببٍ، أو لِمَنْ يعولُهم إذا توفِّي أثناء العمل[22].
4) الرَّاتب التَّقاعدي:
هو مبلغٌ من المال يستحقُّه العامل الذي انتهتْ خِدْمَتُه بصفة دوريَّة شهريَّة، تدفعه الدَّولة أوِ المؤسَّسة المختصَّة بالتَّأمينات الاجتماعيَّة إذا تحقَّقت فيه شروط معيَّنة تتعلَّق بمدَّة الخدمة، والسن عند انتهاء الخِدْمة، وأسباب انتهائِها، ويستحقُّ العامل هذا المبلغَ طُولَ حياته، فإذا مات انتقل إلى ورثته أو بعضهم بضوابط معيَّنة[23].
ويعتبر هذا المبلغ حصيلة ما يستقطع شهريًّا من راتب العامل، وما يضيفه عليه رب العمل حكومة أو مؤسسة، وما نتج عن استثماره إلاَّ أنَّه لا يدفع مرة واحدة؛ بل يقسَّط على شكل رواتب شهريَّة، وبهذا يتَّضح الفرق بينه وبين مكافأة التَّقاعد التي لم تتوفَّر فيها شروط استحقاق الراتب، فكانت مكافأة دفعةً واحدةً، وهنا توفَّرت شروط الرَّاتب فاستحقَّه العامل، وهناك لم تتوفَّر فكانت المكافأة.
5) الصَّدَاق المُؤَجَّل:
منَ المعلوم أنَّ الصَّداق المُسمَّى يستحق نصفه بالطَّلاق قبل الدخول، ويستحقُّ كله ويثبت في ذمة الزَّوج بالدخول، إلاَّ أنَّه قد يكون معجَّلاً فتبرأ ذمَّة الزَّوج بدفعه عاجلاً أو يكون مؤجلاً، وهذا المؤجل: إمَّا أن يكون له أمد محدَّد فيؤدَّى عنده، أو ليس له أمدٌ محدَّد فيثبت بأقرب الأجلينِ الطَّلاق أوِ الوفاة، وكل ذلك ثابت ومعروف في كُتُب الفقه، والمطلوب هنا بيان حكم الزكاة فيه إن بلغ النصاب؛ كما سيتَّضح بعدُ.
6) أقساط التَّأمين التَّكافلي واحتياطيَّاته:
وهي المبالغ التي تتجمَّع لدى النقابات المهنيَّة من حصيلة الأقساط التي يدفعها الأعضاء المشاركون فيها ممن يرغبون في التَّكافل، ثم عوائد هذه الحصيلة من الاستثمارات الشَّرعيَّة، وهي أمور اختياريَّة يتَّفق عليها فئات من النَّاس تربطهم روابط خاصَّة من العمل؛ كالأطبَّاء، والمدرسين، والمهندسين، والحرفيين... وغير ذلك، حيث يقوم مجلس إدارة نقاباتهم باقتراح مشروع للتَّكافل تتجمع حصيلة صندوقه من اشتراكات الرَّاغبين فيه ومن استثماراتها، فإذا حدث لأحد هؤلاءِ الأعضاء مصيبة، أو تعرض لخطر أو غيره؛ قام الصندوق بدفع مبلغٍ له يتم تحديده بتقدير الإصابة، أو نسبة الخطر، أو قيمة الاشتراك، أو غير ذلك، والأصل فيه التَّبرع والتَّعاون على البر والتقوى، وليس المعاوضة ولا المقامرة، وجمهور الفقهاء المعاصرين على جوازه ومشروعيَّته؛ لكن هل تجب في حصيلته الزَّكاة أم لا؟ هذا ما سيتم الإجابة عنه في المبحث الرابع - إن شاء الله.
7) الاستثمارات طويلة الأجل:
وهي الودائع الاستثماريَّة لدى البنوك وشركات الاستثمار التي لا يَحِقُّ لِصاحِبِها سحبُها إلاَّ بعد فترات قد تَصِلُ إلى بِضْعِ سنوات، أو إلى نِهاية مدَّة الوعاء الاستثماري، مع استحقاقها أرباحًا توزع سنويًّا أو شهريًّا أو ربع سنويَّة، أو تتراكم للدَّفع جملةً واحدةً عند انتهاء المدَّة، أو تصفية الشَّركة.
وواضحٌ من ذلك أنَّها أموالٌ مَملوكةٌ وناميةٌ، إلاَّ أنَّ صاحبها لا يستطيع سحبها، فهل تجب فيها الزَّكاة أم لا؟ هذا ما سيتَّضح بعدُ.
8) التَّأمينات النَّقديَّة للحصول على الخدمات:
وهي مبالغ يدفعها المستفيد بالخدمة أو طالبها لضمان جديته، وحسن استخدامه، فإن أحسن وأدَّى ما عليه أعيدت له هذه المبالغ، وإن أساء أو أتلف شيئًا من المرافق اقتصَّت المؤسسة حقَّها منها، ثم أعادت إليه ما تبقَّى، أو طالبته بما زاد عن التَّأمين، ومن ذلك خدمة الكهرباء، أو الماء، أو الهاتف، أو نَحوها، فبعض النَّاس يستهْلِكُها ولا يدفع القيمة الشهريَّة لاستهلاكه، وقد يسافر أو يموت وعليه هذا الاستهلاك، فمن أين تَحصل المؤسسة على حقها، وهو ضروري حتى تستمرَّ في تقديم الخدمات وتطويرها؟
ولو لم يكن لديها ذلك التَّأمين النَّقدي لضاعَتْ عليها مبالغُ كثيرة تؤدِّي إلى توقُّفها أو سوء خدمتها، من هنا قامَتْ مؤسَّسات الخدمات بفرض هذه المبالغ لتأمين حقها، فإذا استوفت حقها؛ ردَّت هذه المبالغ، أو ما يبقى منها بعد استيفاء الحق، أو المُطالبة بما يكمل حقها، ومن ذلك أيضًا: تأمين استئجار البيت بحيث لو لم يدفع المستأجر ما عليه كان لدى المالك ما يعوضه، أو يحفظ له حقَّه، وهكذا فهل على هذا التَّأمين زكاة أم لا؟ هذا ما سنجيب عنه - إن شاء الله.
بهذا نكون قد استعرضنا معظم صور الأموال المجمَّدة، وبيَّنَّا معانيها، وللمزيد من البحث والتَّحرِّي نحتاج إلى بيان تكييفها الشَّرعي، حتَّى إذا انتقلنا إلى بيان حكم الزَّكاة يكون الحكم صحيحًا - إن شاء الله، وهذا التَّكييف الشَّرعي هو محور المبحث الثالث.
المبحث الثالث
التَّكييف الفقهي لصور الأموال المجمَّدة السَّابقة
اختلفت أنظار القانونيين والفقهاء المعاصرين في التَّكييف القانوني والفقهي لهذه الصور للأموال المجمَّدة، ولهم الحق في ذلك لأنَّها معاملات حديثة قابلة لاختلاف وجهات النَّظر باختلاف الأهداف والمقاصد التي شُرعتْ لها، باختلاف الضَّوابط واللَّوائح التي تنظم هذه المكافآت أو الأموال، والأسباب التي تؤدِّي لاستحقاقها، والاشتراكات التي تمَّت فيها.. إلى غير ذلك.
فمِن ذلك مثلاً: مكافأة نهاية الخدمة، فقد ذهب فريق منَ القانونيين إلى أنَّ هذه المكافأة تكملة للأجر الذي يتقاضاه العامل، وتعتبر بمثابة جزء منه مؤجَّل إلى نهاية الخدمة.
وذهب فريق آخر إلى اعتبارها تعويضًا عنِ الضَّرر المادي والأدبي الذي يلحق العامل بسبب انتهاء عمله، وانقطاع مورد رزقه.
واستحسن فريق ثالث اعتبارها نوعًا منَ التَّأمين ضد مخاطر انتهاء العقد.
وذهب فريق رابع إلى: اعتبارها حقًّا من نوع خاصٍّ ألزم القانون به صاحب العمل رعايةً للصالح العام، وهذا أقرب الآراء إلى القبول؛ لأنَّ هذه المكافأة ليست أجرًا ولا تأمينًا ولا تعويضًا؛ ولكنَّها أقرب إلى التَّبرع والإعانة منها إلى غيرها، وهذا الرَّأي هو الأقرب أيضًا إلى مقاصد الشَّريعة وغاياتها يدخل في حق الإمام - رئيس الدَّولة - أن يفرض في أموال الأغنياء ومنهم أرباب الأعمال ما يسع حاجات الفقراء - ومنهم العمال بِمَنْحِ المُكافأة عونًا لهم على استمرار الحياة؛ لأن ذلك داخل في الصَّالح العام.
وينطَبِقُ ذلك أيضًا على مكافأة التَّقاعد وعلى الرَّاتب التَّقاعدي، فمع أنَّ العامل قد اشترك بجزءٍ مِنْ أجره في هذه المكافأة، أو الرَّاتب إلاَّ أن ما دفعته المؤسسة أو الدَّولة أضعاف ذلك مما يجعلها أقرب إلى التَّبرع للصَّالح العام؛ كراتب البطالة، ومساعدات الإسكان والزواج، ومشاريع الشباب؛ لأنَّ من أهم مبادئ السياسة الشَّرعية رعاية الضعفاء، والذين تكون حمايتهم على ولي الأمر، والعامل من هؤلاء الضعفاء، كما يُمْكِن اعتبار مكافأة التَّقاعد والرَّاتب التقاعدي نوعًا من التأمين التكافلي على مستوى الدولة أو المؤسسة.
وكذلك ينطبق هذا التكييفُ على مكافأة الادخار؛ حيثُ يتنازل العامل عن جزءٍ من راتبه بصورة اختياريَّة ويضيف عليه رب العمل مثله أو ضعفه، ويستَثْمِرُه أيضًا، وفي نِهاية الخدمة يأخذ العامل كل ما تجمع، فإذا قلنا: إنَّ ما يتنازل عنه من مرتَّب يعادل الثلث، فإنَّ ما أضافه رب العمل أكثر من الثُّلُثينِ على سبيل التَّبرع والمكافأة؛ بل إنَّ هذه المكافأة بحكم الاختيار فيها أقرب إلى التَّبرع منها مِمَّا سبقها، يُمكن أن تعتبر نوعًا من التأمين التَّكافلي، يدفع العامل قسطًا ويدفع رب العمل قسطًا آخر، ويستحق الجميع بانتهاء الخدمة أو الوفاة لمواجهة الخطر والعجز، أو إعانة الأسرة عليهما.
أمَّا عن تأمين الخدمات: فهو بمثابة الرهن إذا أدَّى صاحبه ما عليه من استهلاك الخدمات استحقَّه، وإلاَّ فالرَّهن ضامن لذلك الحق، وبالتَّالي فهو لم يخرج عن ملك صاحبه، ولم يتبرَّع أحد بشيء منه، وفي الحديث: ((لا يغلق الرَّهن، لصاحبه غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ))[24].
وأمَّا عنِ الودائع الاستثماريَّة طويلة الأجل: فهي أيضًا ملك لمودعها له أصلها وله عوائدها، ولا يتنازعه في ذلك أحد فهي جزء من ملكه لم يخرج عنه بالإيداع طويلاً كان أو قصيرًا؛ فضلاً عن أنه مالٌ نامٍ يحقق أرباحًا متوالية.
وأمَّا عن صداق المرأة المؤجَّل: فهو حق لها في ذمَّة الزَّوج؛ ولكنَّه غير مستحق إلاَّ حين أجله، أو أقرب الأجلين، فهو ملك لها غير تام؛ لأنَّها لا تستطيع المطالبة به ولا التَّصرف فيه إلاَّ بحلول أجله.
وأمَّا عن التَّأمين التَّكافلي وأقساطه واحتياطيه: فهو ملك ناقص أيضًا؛ لما فيه من الشيوع لجميع المشتركين وتوقع نفاده وإنفاقه لأي خطر أو إصابة تحدث لأي عضو.
ومما سبق يتبيَّن أنَّ الأموال المجمَّدة في الصور السابقة تتردَّد بين التَّبرع والملك النَّاقص، والملك التَّام، فمكافآت نهاية الخدمة والادِّخار والتَّقاعد والرَّاتب التَّقاعدي أقرب إلى التَّبرع، والصَّداق المؤجَّل والتَّأمين التَّكافلي أقرب إلى الملك الناقص، أمَّا تأمين الخدمات والودائع الاستثماريَّة فهي ملك تام.
وبعد هذا التَّقريب يمكن أن نصل إلى بيان الحكم الشَّرعي في زكاتها، أو عدم زكاتها في المبحث التالي.
المبحث الرابع
حكم الزَّكاة في الأموال المجمَّدة
ينبغي قبل الحكم على الصور السَّابقة من صور الأموال المجمَّدة بوجوب الزَّكاة، أو عدم وجوبها أن نتعرَّف على شروط وجوب الزَّكاة؛ لننظر بعد معرفتها هل تتوفَّر في هذه الأموال أم لا؟ ونبدأ ببيان حكم الزكاة العام: فالزَّكاة أحد أركان الإسلام الخمس، وهي واجبةٌ بكتاب الله - تعالى -وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة.
أمَّا الكتاب: فقول الله - تعالى -: (وَآتُوا الزَّكَاةَ)[25]، وأمَّا السُّنَّة: فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا إلى اليمن فقال: ((أعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم))؛ متَّفق عليه، في آي وأخبار سوى هذين كثيرة، وأجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوبها، واتَّفق الصَّحابة - رضي الله عنهم - على قتال مانعيها[26]، فمَن أنكر وجوبها جهلاً به، وكان ممن يجهل ذلك إمَّا لحداثة عهده بالإسلام، أو لأنَّه نشأ ببادية نائية عن الأمصار عرف وجوبها ولا يُحكم بكفره لأنَّه معذورٌ، وإن كان مسلمًا ناشئًا ببلاد الإسلام بين أهل العلم فهو مُرْتَد تجري عليه أحكام المرتدين، ويستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلاَّ قتل، وإن منعها معتقدًا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزَّره، ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم[27].
وقد اتَّفق الفقهاء على أنَّ الزَّكاة تجب على المسلم البالغ العاقل الحر العالم، بكون الزكاة فريضة رجلاً كان أو امرأة بلغ ماله النصاب، وكان متمكِّنًا من أداء الزكاة؛ وتمَّت الشروط في المال، واختلفوا فيما عدا ذلك من الصَّغير والمجنون المالكين للنِّصاب، وكذلك من لم يعلم بفريضة الزَّكاة، ومن لم يتمكَّن من الأداء، وكذلك المال العام أو أموال بيت المال[28].
وأمَّا عن شروط المال الذي تجب فيه الزَّكاة، فهي:
1- كونه مملوكًا لشخص معيَّن.
2- كون ملكيته مطلقة؛ أي رقبة ويدًا.
3- كونه ناميًا.
4- أن يكون زائدًا على الحاجات الأصليَّة.
5- حولان الحول فيما عدا الزروع.
6- بلوغه نصابًا، والنصاب في كل نوع بحسبه.
7- أن يسلم من وجود المانع، والمانع أن يكون على المالك دين ينقص النصاب.
وهناك اختلافٌ بين الفقهاء في بعض الصور لهذه الشروط، إلاَّ أنَّ أغلب صورها محل اتفاق.
والمراد بالملك المطلق التام: وهو ما كان في يد مالكه ينتفع به ويتصرَّف فيه، والملك الناقص يكون في أنواع من المال معينة منها:
مال الضمار: وهو كل مال مالكه غير قادر على الانتفاع به؛ لكون يده ليست عليه، فمذهب أبي حنيفة وصاحبيه، وهو مقابل الأظهر عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة: أنَّه لا زكاة عليه فيه، كالبعير الضَّال، والمال المفقود، والمال الساقط في البحر، والمال الذي أخذه السلطان مصادرة، والدين المجحود إذا لم يكن للمالك بينة، والمال المغصوب الذي لا يقدر صاحبه على أخذه، والمسروق الذي لا يُدْرَى من سرقه، والمال المدفون في الصَّحراء إذا خفي على المالك مكانه، وذهب مالك إلى أنه يزكى لعام واحد إذا وجده صاحبه ولو بقي غائبًا عنه سنين، وذهب الشَّافعيَّة في الأظهر إلى وجوبها على جميع السنوات إذا عاد المال، وإذا لم يعد فلا زكاة[29].
والدين مملوك للدَّائن؛ ولكنَّه لكونه ليس تحت يد صاحبه فقدِ اختلف فيه أقوال الفقهاء، فقيل: لا زكاةَ فيه؛ لأنَّهُ غيْرُ نامٍ، وذَهَب جُمهور العلماء إلى تقسيم الحال إلى مرجو الأداء فتجب فيه الزكاة على صاحبه عند قبضه، وغير مرجوّ الأداء فلا تَجِبُ، وهناك أقوال أخرى[30].
أمَّا النَّماء فوجه اشتراطه على ما قاله ابن الهمام أنَّ المقصود من شرعيَّة الزكاة بالإضافة إلى الابتلاء مواساة الفقراء على وجه لا يصير به المزكي فقيرًا، بأن يعطيَ مِن فضل ماله قليلاً من كثير، والإيجاب في المال الذي لا نماء له يؤدي إلى خلاف ذلك مع تكرار السنين [31]، ولا يشترط تحقق النَّماء بالفعل؛ بل تكفي القدرة على الاستنماء بكون المال في يده أو في يد نائبه.. والذهب والفضة لا يشترط فيهما النَّماء بالفعل؛ لأنهما للنماء خلقة[32]، فتجب الزكاة فيها إذا نوى التجارة أو لم ينو أصلاً أو نوى النفقة، قالوا: وفقد النماء سبب آخر في عدم وجوب الزكاة في أموال الضمار بأنواعها المتقدمة؛ لأنَّه لا نماء إلاَّ بالقدرة على التَّصرف، ومال الضمار لا قدرة عليه[33].
والآن وبعد هذا البيان، ومعرفة الشروط ننظر في الصور السَّابقة للأموال المجمَّدة؛ لنتعرف حكم الزَّكاة فيها.
وفي البداية أحب أن أبين أنَّ معظم الأمور الفقهيَّة وبخاصَّة القضايا المعاصرة محل خلاف، ففيها الرَّأي والرأي الآخر، ودورنا هنا هو الاختيار والتَّرجيح بينها لما تبدَّى لنا من المصلحة في ترجيحه، فحيثما كانت المصلحة فثمَّ شرع الله، وبيان ذلك فيما يلي:
أ- مكافأة نهاية الخدمة:
بالنسبة للعامل: لا يتوفر فيها شرط الملك التام قبل تسلمها، فإذا تسلمها تملكها، وبدأ الحول من تسلمها فإن حال الحول عليها، وهي نصاب زائد عن الحاجات الأصليَّة، وليس عليه ديون وجبت الزكاة فيها بنسبة 2.5% كما هو معلوم، أمَّا إن أنفقها، أو كانت أقل من النصاب، أو كان مدينًا فلا زكاة عليه.
وبالنسبة لرب العمل أو الشَّركة التي تتحمَّل هذه المكافأة: هي جزء من ميزانيتها تدخل وعاء زكاتها إلى أن يتسلمها العامل، فما دامت في ذمَّتِها فهي مسؤولة عن زكاتها ضمن سائر أموالها، فإذا أعطتها العامل فقد خرجت من عهدتها وميزانيَّتها.
وإنَّما رجَّحنا القول بذلك؛ لأنَّ الملك التَّام الذي هو شرط في المال الذي تجب زكاته لا يتحقَّق عند العامل إلاَّ بانتهاء خدمته، وتسلم مكافأته، وعند ذلك يبدأ الحول وينظر في النصاب، أمَّا عند رب العمل والشَّركة فالملك التَّام متحقق والنصاب مستوفى، والحول قائم فيجب عليها الزَّكاة في الميزانيَّة كلها التي هي وعاء الزَّكاة، والَّتي يدخل فيها مكافأة العامل قبل أن يتسلمها، وقد اتَّفق الفقهاء على أنَّ الملك لا يكون تامًّا إذا كان غير مستقر بأن يكون محتملاً للذهاب بعد ثبوته، أو يكون مترددًا بين الثبوت وعدمه، وأضاف جمهور الفقهاء معنى آخر يعتبر في تمام الملك، وهو كون المالك متمكنًا بنفسه أو بنيابة من التَّصرف بالمال بوجوه التَّصرف التي يستطيع بها تنميته أو استثماره، وقد عبَّر بعضهم عن هذا الشَّرط بملك اليد المجتمع مع ملك الرقبة، فإذا كان المالك قادرًا من الناحية الواقعيَّة على ممارسته التَّصرفات التي يأذن بها الشارع للمالك على مثل المال المملوك ولا يحول دون ذلك حائل يمنعه منها، لكان الملك تامًّا ووجبت فيه الزَّكاة إذا توفرت الشروط الأخرى، وإلاَّ بأن كان المالك عاجزًا من النَّاحية الواقعية عن التَّصرف بماله، كان ملكه ناقصًا، ولم تجب فيه الزَّكاة، وإن توفر أصل الملك وغيره من الشروط، وذهب إلى هذا الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافعيَّة في مقابل الأظهر، والحنابلة في رواية وغيرهم[34]، واستدلوا بأنَّ المال إذا لم يكن مقدورًا على الانتفاع به في حق المالك لا يكون المالك به غنيًّا ولا زكاة على غير الغني، وبأنَّ الزَّكاة إنَّما أوجبها الشَّارع في أنواع الأموال التي يتحقَّق فيها معنى النَّماء، والمال الذي لا يتمكَّن صاحبه من التَّصرف فيه قد انسدت عليه طرق تنميته، فهو في حقه غير نام فلا تجب فيه الزَّكاة.. [35]، ومكافأة نهاية الخدمة بالنسبة للعامل قبل تسلمها ملك غير تام، وبالنسبة لرب العمل أو الشَّركة ملك تام كما رأينا؛ فوجبت الزَّكاة على رب العمل أو الشَّركة، ولم تجب على العامل حتى يتسلمها وتقضي عنده حولاً مع الشروط الأخرى السابقة.
ب- مكافأة التَّقاعُد:
وهي كما سبق مبلغ يدفع للعامل الذي لا تنطبق عليه شروط الرَّاتب التَّقاعدي، وهذا المبلغ حصيلة ما يستقطع شهريًّا من راتب العامل، وما تضيفه عليه المؤسسة أو الدَّولة، وهذا المبلغ لا زكاة عليه من الجهتين: جهة العامل: لأنَّه لم يملكه، ولا يستطيع التَّصرف فيه إلاَّ عند تسلمه بانتهاء خدمته، والجهة الأخرى: جهة عامَّة حكوميَّة تتَّصل ببيت مال المسلمين، وأموال بيت المال لا زكاة فيها، فقد نصَّ الحنابلة على أنَّ مال الفيء وخمس الغنيمة، وكل ما هو تحت يد الإمام مما يرجع إلى الصَّرف في مصالح المسلمين لا زكاة فيه[36]، ولم نجد لدى غيرهم تعرضًا لهذه المسألة مع مراعاتها في التَّطبيق إذ لم يعهد علمًا ولا عملاً أخذ الزَّكاة من الأموال العامَّة[37].
وينبغي التَّنبيه إلى أن نصيب العامل المستقطع من راتبه إن بلغت جملته نصابًا، وحال عليه الحول أنَّه بمنزلة المال أو الدين المرجو، فعليه زكاته، وإن لم يقبضه اعتمادًا على أنَّه مضمون ومملوك عند الشَّافعيَّة، أمَّا الحنفيَّة فلا يرون الزَّكاة عليه إلاَّ بعد قبضه[38] وهو الأرجح عندنا.
جـ- مكافأة الادخار:
وهي كما علمنا مبلغٌ متجمع من جزء مستقطع من راتب العامل باختياره، وجزء يضيفه رب العمل أو الشَّركة، ويتم استثماره ويضاف إليه ريعه، ثم تصرف جملة ذلك للعامل عند انتهاء خدمته، والذي نراه في ذلك أن مدخرات العامل عند الشركة، أو جهة الاستثمار مال من راتبه وتبرع من غيره؛ بناءً على عقد وأرباح لهذا المال تضاف إليه، ونظرًا لأنَّه مضمون فتجب زكاته عند قبضه عن السَّنوات السَّابقة منذ بلوغه النصاب، أو يقوم العامل بزكاة ادخاره ويقوم رب العمل أو الشَّركة بزكاة نصيبها في الادخار باحتساب ذلك في الميزانيَّة ووعاء الزكاة إلى أن تنتهي خدمة العامل ويقبض مكافأته.
د - الرَّاتب التَّقاعدي:
وهو لا يستحق إلاَّ ببلوغ سن التَّقاعد، أو انتهاء خدمة العامل أو الموظف، وتنظم الدولة أو مؤسسة التَّأمينات الاجتماعيَّة صرفه شهريًّا، ومثل ذلك المبلغ لا تستحق عليه الزَّكاة منذ صرفه إلاَّ إذا بلغ النصاب، وحال عليه الحول، وكان زائدًا عن حاجات العامل المتقاعد الأصليَّة، أما ما دام ينفق في حاجاته فلا زكاة عليه بالغًا ما بلغ هذا من العامل، أمَّا الدَّولة أو المؤسسة فهي بيت المال العام، وقد علمت في الفقرة السَّابقة أنَّه لا زكاة عليها في هذا المجال وغيره، والرَّاتب التَّقاعدي أشبه بالعطايا والأرزاق، وكان الفقهاء يعتبرون هذه العطايا والأرزاق من بيت المال العام، ولا زكاة عليها.
ز- الاستثمارات طويلة الأجل:
وهذه تجب الزَّكاة فيها على صاحبها؛ لأنَّ ملكيَّته لها ملكيَّة تامَّة إذا توفَّرت فيها شروط النصاب والحول، وعدم التَّصرف فيها إنَّما جاء نتيجة عقد بين المالك والجهة المستثمرة باختياره ورغبته، وهي تعتبر قائمة على التَّوكيل والإنابة في التَّصرف والاستثمار، فالتصرف لم ينتف فيها ولكنَّه انتقل إلى جهة أخرى برغبة المالك، وهي أموال نامية تحقق أرباحًا سنويَّة قد يصرفها المالك، وقد يتركها تتراكم مع رأس المال.
لذا فإنَّ هذه الاستثمارات قد استجمعت شروط المال الواجب زكاته، فزكاته واجبة على صاحبها، أمَّا الشَّركة المستثمرة فإن كان لها مال آخر فعليها زكاة أموالها، وإن كانت كلها أموال أفراد، فزكاتها على الأفراد المالكين، والشَّركة حينئذ عامل في المال كالمضارب.
تأمينات الحصول على الخدمات:
وهي أموال مدَّخَرة يستطيع صاحبها أن يستردَّها إذا دفع مقابل الخدمات بانتظام، وهي كما سبق أن ذكرنا شبيهة بالرهن، والرهن لا يغلق على صاحبه غنمه وعليه غرمه، وعلى هذا فزكاتها واجبة إلاَّ إذا تركها لسداد ما عليه من خدمات، فحينئذٍ تسقط زكاتها؛ لأنَّها تحوَّلت عن ملكه إلى الوفاء بثمن الخدمات.
بهذا نكون قد انتهينا من بيان المطلوب بيانه في حكم الزَّكاة في الأموال المجمَّدة؛ هل هي واجبة، أو غير واجبة؟ أو تجب في بعضها دون الآخر، وقد ظهر لنا من البيان السابق أنَّ الرَّاجح في أموال مكافآت نهاية الخدمة، والادخار والتَّقاعد، والرَّاتب التَّقاعدي، والصَّداق المؤجَّل: أنَّها لا تجب على الأفراد إلاَّ بعد قبضها واستئناف حول بها مع استيفاء الشروط الأخرى الواجبة. ولكن الزَّكاة واجبة على أرباب الأعمال والشَّركات الخاصَّة؛ حيث يجب اعتبار هذه المكافآت جزء من ميزانيتها ووعاء زكاتها؛ حتى يتم إقباضها لأصحابها فتسقط من الميزانيَّة، وأمَّا الدَّولة أو المؤسَّسة الحكوميَّة فلا زكاة عليها لأنها بيت المال.
والله ولي التوفيق.
ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
المراجـع
1- القرآن الكريم.
2- أبحاث وأعمال النَّدوة الخامسة لقضايا الزكاة المعاصرة - بيروت - لبنان 1415هـ / 1995م.
3- الأشباه والنظائر - السيوطي - دار الكتب العلمية - بيروت 1983م.
4- بدائع الصنائع - الكاساني - دار الكتاب العربي - بيروت 982م.
5- التلخيص الحبير - ابن حجر - شركة الطباعة - القاهرة.
6- الضَّمان الاجتماعي - علي عيسى - عمان 1989م.
7- الفتاوى الهنديَّة - الشيخ نظام - دار إحياء التراث العربي ط4 - بيروت.
8- فتح الباري - ابن حجر - المطبعة البهية المصرية 1348 هـ.
9- فتح القدير - الكمال بن الهمام.
10- قانون العمل الليبي - د/ محمد عبدالخالق عمر - المكتب المصري الحديث ط 1970م.
11- قضاء العمال والتأمينات الاجتماعية - أنور العمروسي - الإسكندرية 1964م.
12- المبسوط - السَّرَخسي - دار المعرفة - بيروت 1986م.
13- المرجع في شرح قوانين التَّأمين والمعاشات - مختار سلامة وآخرون - دار الكتاب العربي المصري.
14- المعجم الوسيط - مَجْمع اللغة العربية بالقاهرة ط2 - 1972م.
15- المُغْني لابن قدامة - دار الكتاب العربي - بيروت 1983م.
16- الموسوعة الفقهيَّة - وزارة الأوقاف - الكويت.
17- المنتقى شرح الموطأ - الباجي - مطبعة السعادة - مصر - 1331 هـ.
18- الموافقات - الشَّاطبي - دار المعرفة - بيروت.
19- الهداية - الميرغناني - الحلبي 1937م.
20- القوانين الفقهية لابن جزي - دار الكتاب العربي - بيروت 989م.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــ
[1] "المعجم الوسيط": مجمع اللغة العربية بالقاهرة ج1 ص 396 ط2.
[2] "المغني" لابن قُدامة ج2 ص 572.
[3] الكهف 81.
[4] "الموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة" ج 23 ص 226.
[5] "المغني" 2/ 572.
[6] "الموسوعة الفقهيَّة" ج 23 ص 226.
[7] "فتح الباري" ج 3 ص 62.
[8] "المعجم الوسيط" ج2 ص 892.
[9] "رد المحتار" ص 3، ص4.
[10] "الموافقات" ج2 ص10.
[11] "أحكام القرآن" ج2 ص 607.
[12] "الأشباه والنظائر" للسيوطي ص 327.
[13] "شرح منتهى الإرادات" ج2 ص 142.
[14] "الموسوعة الفقهيَّة" ج 36 ص 31 - 33.
[15] السابق ص 34 - 39 باختصار وتصرف، وكذلك النَّدوة السَّابعة لقضايا الزَّكاة المعاصرة ص 32 - 33.
[16] "المعجم الوسيط" ج1 ص 133.
[17] "المعجم الوسيط" ج1، ص 133.
[18] "زكاة نهاية الخدمة"، د. محمد نعيم ياسين، بحث من أبحاث الندوة الخامسة لقضايا الزكاة المعاصرة - بيروت 1415 هـ، 1995م، ص39.
[19] انظر: "قضاء العمال والتأمينات الاجتماعية"، أنور العمروسي، ص 206، و"قانون العمل الليبي"، د. محمد عبدالخالق عمر، ص453.
[20] "أبحاث وأعمال الندوة الخامسة لقضايا الزكاة المعاصرة"، ص42، بحث الدكتور/ محمد نعيم ياسين، بتصرف واختصار.
[21] انظر في ذلك: "المرجع في شرح قوانين التأمين والمعاشات والادخار"، مختار سلامة، ومحمد مختار، ومحمد محمود، ص 74، وما بعدها، "الضمان الاجتماعي"، علي عيسى، ص 41 - 101.
[22] انظر: المراجع السابقة بتصرف واختصار.
[23] انظر: "أعمال وأبحاث الندوة الخامسة لقضايا الزكاة المعاصرة"، بحث د. محمد نعيم ياسين، ص 55 بتصرف.
[24] أخرجه البيهقي 6/39، طبع دائرة المعارف العثمانيَّة ورجح إرساله، وكذلك نقل ابن حجر في "التلخيص" 3/36، ط شركة الطباعة الفنية عن أبي داود والبزار والدارقطني وغيرهم أنهم رجحوا إرساله.
[25] البقرة 43.
[26] "المغني" لابن قدامة، ج 2، ص 572.
[27] السابق 2/ 573.
[28] انظر في تفصيل ذلك: "الموسوعة الفقهيَّة"، ج23، ص231 - 235.
[29] انظر: "بدائع الصنائع" 2/9، و"المغني" 3/48، و"الشرح الكبير"، و"حاشية الدسوقي" 1/47، و"شرح المنهاج" و"حاشية القليوبي" 2/39 / 40.
[30] ينظر في تفصيلها: "الموسوعة الفقهيَّة" ج23 ص 238 - 240.
[31] "فتح القدير" 1/482، "العناية" 1/ 478.
[32] "العناية" 1/ 487.
[33] انظر: "الهداية" 2/490، "القوانين الفقهية" 107، "كشاف القناع" 2/ 167.
[34] انظر: "الفتاوى الهندية" ج1 ص 172، "البدائع" ج2 ص9، "المبسوط" ج11 ص 171، "المنتقى" ج2 ص 113، وأعمال وأبحاث الندوة الخامسة لقضايا الزَّكاة المعاصرة، بحث د. محمد نعيم ياسين ص62.
[35] انظر: "الفتاوى الهندية" ج1 ص 172، "البدائع" ج2 ص9، "المبسوط" ج11 ص 171، "المنتقى" ج2 ص 113، وأعمال وأبحاث الندوة الخامسة لقضايا الزَّكاة المعاصرة، بحث د. محمد نعيم ياسين ص62.

[36] "مطالب أولي النهى" 2/ 16، و"شرح المنتهى" 1/ 368.
[37] "الموسوعة الفقهيَّة" ج23 ص 235.
[38] السابق ص 238.