خطبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - مَنْ سَـتَــرَ مُسْــلِمًـــا سَــتَرَهُ اللـــهُ


مجلة الفرقان

جاءت خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لهذا الأسبوع 13 من جمادى الأولى 1443هـ - الموافق 17 / 12 /2021م، متحدثة عن صفة مِنَ الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ الْكَرِيمَةِ وهي صِفَةَ السَّتْرِ وأنها من الصفات الحميدة التي تعد من حسن الخلق؛ حيث أكدت الخطبة أنَّ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْجَلِيلَةِ السَّنِيَّةِ، وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ الْعَلِيَّةِ: سُمُوَّ الْإِنْسَانِ بِخُلُقِهِ، وَعُلُوَّ قَدْرِهِ بِنُبْلِهِ ؛ فَكَرِيمُ الْخَلِيقَةِ جَمِيلُ الذِّكْرِ، مَحْمُودُ الْخِصَالِ، يَبْلُغُ بِخُلُقِهِ مَا لَا يَبْلُغُهُ بِعَمَلِهِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ).

وبينت الخطبة أن السِّمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الصَّائِمِ وَالْقَائِمِ وَحَسَنِ الْأَخْلَاقِ: مُخَالَفَةُ حَظِّ النَّفْسِ؛ فَالصَّائِمُ خَالَفَ نَفْسَهُ بِتَرْكِ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ؛ وَالْقَائِمُ خَالَفَ نَفْسَهُ بِتَرْكِ الدَّعَةِ وَالْمَنَامِ؛ وَحَسَنُ الْخُلُقِ خَالَفَ نَفْسَهُ بِتَرْكِ الِانْتِقَامِ وَالْخِصَامِ، فَهُوَ قَدْ تَحَمَّلَ ثِقَلَ مُخَالَفَةِ نَفْسِهِ، وَتَحَمَّلَ عِبْءَ غَيْرِهِ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، وَلِهَذَا ثَقُلَ مِيزَانُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ». وَقَدِ امْتَدَحَ اللهُ نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ بِحُسْنِ خُلُقِهِ؛ فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4). فَحَازَ رَسُولُ اللهِ مِنَ الْمَنَاقِبِ أَعْلَاهَا، وَمِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَحَامِدِ أَزْكَاهَا، فَبَهَرَ الْعَرَبَ بِصِدْقِهِ وَتَوَاضُعِهِ وَإِيثَارِهِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمُعْجِزَاتِهِ وَآيَاتِهِ وَبَـيِّـنَاتِه ِ.

الستر صفة من صفات الله -تعالى

وعن حقيقة هذه الصفة قالت الخطبة: إِنَّ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ الْكَرِيمَةِ: صِفَةَ السَّتْرِ الَّتِي اتَّصَفَ الْمَوْلَى -سُبْحَانَهُ- بِهَا وَتَسَمَّى بِاسْمِهَا؛ فَهُوَ سَتِـيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَهَى عَنِ الْقَبَائِحِ؛ وَهُوَ سَاتِرٌ لِلْعُيُوبِ وَالْفَضَائِحِ؛ فَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ - أَيْ بِالْفَضَاءِ الوَاسِعِ - بِلَا إِزَارٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سَتِـيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ).

الله يحب الستر والعفاف

فَالرَّبُّ- سُبْحَانَهُ - يُحِبُّ السَّتْرَ وَالْعَفَافَ، فَيَسْتُرُ عَلَى عِبَادِهِ كَثِيرًا، مَعَ جُرْأَةِ الْعِبَادِ عَلَى اجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ وَارْتِكَابِ الْخَطِيئَاتِ، وَهُمْ - مَعَ ذَلِكَ- مُسْتَتِرُونَ بِسِتْرِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ كَمَالِ غِنَاهُ يُكْرِمُ عَبْدَهُ بِالسَّتْرِ بَلْ يُوَفِّقُهُ لِلتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ، حَتَّى يُسْبِغَ عَلَيْهِ عَفْوَهُ، وَيَمْحُوَ عَنْهُ ذَنْـبَـهُ.

وَهُوَ الحَيِيُّ فَلَيْسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ

عِنْــدَ التَّجَاهُـرِ مِـنْـهُ بِالْعِصْيَانِ

لَــكِــنَّـــه ُ يُلْقِي عَـلَـيْـهِ سِـتْــرَهُ

فَهُوَ السَّتِـيرُ وَصَاحِبُ الْغُفْرَانِ

أنواع الستر

وعن أنواع السَّتْرِ ذكرت الخطبة أن من تلك الأنواع ما يلي:

أن يستر المسلم نفسه

من صور الستر أن يَسْتُرَ الْمُسْلِمُ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَالْمُسْلِمُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لَرُبَّمَا وَقَعَ فِي حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ وَمَكَايِدِهِ، فَاقْتَرَفَ مَا اقْتَرَفَ مِنَ الْخَطَايَا وَالْآثَامِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُحَدِّثَ بِعَثْرَتِهِ أَحَدًا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا, ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ , عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ, وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

مَظِنَّةُ مَغْفِرَةِ اللهِ

وَلِأَنَّ سَتْرَ الْمُسْلِمِ عَلَى نَفْسِهِ مَظِنَّةُ مَغْفِرَةِ اللهِ لَهُ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهمَا- قَالَ: سَمِعَتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ: فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

الستر على المسلمين

وَمِنْ أنواع السَّتْرِ: أَنْ يَسْتُرَ الْمُسْلِمُ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا أَبْصَرَ مِنْهُمْ هَفْوَةً أَوْ رَأَى مِنْهُمْ زَلَّةً، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ » (رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -). فَالْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيَفْضَحُ.

السَّتْر أَمَارَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ

إِنَّ السَّتْرَ أَمَارَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى الْإِحْسَانِ؛ فَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُ)، فَمَا سَلَكَ عَبْدٌ سَبِيلَ السَّتْرِ إِلَّا كَانَ التَّوْفِيقُ أَلْصَقَ بِهِ مِنْ ظِلِّهِ، وَأَعْلَقَ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ.

مِنْ أَجَلَى صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ

إِنَّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِ اللهِ مِنْ أَجَلَى صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَخْشَى اللهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَزْمَانِ الَّتِي تَيَسَّرَتْ فِيهَا سُبُلُ الذُّيُوعِ وَالِانْتِشَارِ ؛ فَبِضَغْطَةِ زِرٍّ يَسْتَفِيضُ الْخَبَرُ فِي الْآفَاقِ، وَيَسْتَطِيرُ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ؛ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور:19)، فَإِذَا كَانَ الْوَعِيدُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِمَنْ أَحَبَّ انْتِشَارَ الْفَاحِشَةِ، دُونَ عَمَلٍ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَذَاعَ وَأَشَاعَ وَاعْتَدَى عَلَى عِبَادِ اللهِ بِهَتْكِ عَوْرَاتِهِمْ، وَفَضْحِ مَعَايِبِهِمْ؟!.


السَّتْر لَا يَعْنِي تَرْكَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ

وأكدت الخطبة على أنَّ السَّتْرَ لَا يَعْنِي تَرْكَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، بَلْ مَحَلُّ السَّتْرِ فِي مَعْصِيَةٍ قَدِ انْقَضَتْ وَانْصَرَمَتْ بِلَا مُجَاهَرَةٍ وَإعْلَانٍ، فَيَجِبُ السَّتْرُ مَعَ وَاجِبِ النَّصِيحَةِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ). أَمَّا مَنْ جَاهَرَ بِمَعْصِيَتِهِ، وَأَعْلَنَ فِسْقَهُ، فَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَرْتَدِعْ عَنْ غَيِّهِ، وَتَرَدَّى فِي جَهَالَتِهِ، وُكِّلَ الْأَمْرُ إِلَى الْجِهَاتِ الْمَسْؤُولَةِ حَتَّى تَحْسِمَ الدَّاءَ، وَتَصُونَ الْمُجْتَمَعَ.