خطبة الحرم المكي - الفسـاد داء عضـــال يعصـف بالقيـم الأخلاقية للمجـتـمـــع


مجلة الفرقان

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 13 من جمادى الأولى 1443هـ - الموافق 17 / 12 /2021م، لإمام الحرم الشيخ ماهر المعيقلي مبينة أنَّ من مقاصد الشريعة الكبرى، بل من الضروريات العظمى، المحافظة على الأموال التي تقوم بها مصالح العباد، ولأهمية المال شُرِعت الملكية الخاصة والعامة، وشُرِع للمرء أن يدافع عن ماله، فمن قُتِل دون ماله فهو شهيد، وأطول آية في كتاب الله جاءت في شأن المال والتصرف فيه وتوثيقه وحفظه؛ فالمال قرين العرض والدم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» رواه مسلم.

وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا»، فبنو آدم مجبولون على حب المال والسعي في طلبه، فيشيب ابن آدم وقلبه لا يزال شابا على حب المال، إلا من رحمه ربه وجعل غناه في قلبه، فالمال فتنة يبتلي الله به من شاء من عباده، فمَن أجمل في طلبه وأنفقه في حقه، فقد فاز وربح، وأفلح وأنجح، وكان بركة عليه وأجرا، ولورثته ذخرا ومغنما.

من جعل المال أكبر همه

وبين الشيخ المعيقلي أنَّ المال فتنة عظيمة، ولا يثبت أمام هذه الفتنة إلا الصادق النزيه؛ فالنزاهة هي دليل الديانة، والصدق والأمانة؛ فمن نزّه نفسه فقد أبعدها عن المطامع الدنية، وحفظ كرامتها وعزتها، وبذل أسباب غناها، ورضا الرحمن عنها.

خلق النزاهة

وأكد الشيخ المعيقلي أنَّ المسلم كلما تحلى بخلق النزاهة أثمر في قلبه الورع والقناعة، واتصف بالصدق والأمانة فنال محبة ربه، وفاز بمرضاته. قال الماوردي -رحمه الله-: والنفس الشريفة تطلب الصيانة وتراعي النزاهة، وتحتمل من الضُّر ما احتملت، ومن الشدة ما طاقت، فيبقى تحملها، ويدوم تصوّنها، وإذا تخلى الناس عن خلق النزاهة حلّ الفساد في المجتمعات، وضُيّعت الأمانات، ونُهبت الخيرات. فالفساد يعصف بالقيم الأخلاقية القائمة على الصدق والأمانة، وينشر الكذب والخيانة. الفساد يجعل المصالح الشخصية هي التي تتحكم في القرارات، فتتعثر المشاريع، ويضعف الإنتاج، ويتدنى مستوى الخدمات العامة. الفساد يعزز العصبية المقيتة، مذهبية كانت أو قبلية أو حزبية.

الفساد داء عضال

وأشار إمام الحرم إلى أنَّ الفساد داء عضال، إذا استشرى بأمة أطاح بأركان نهضتها، وكان سببا كبيرًا في فشل تنميتها، وضياع مقدراتها وإهدار مواردها؛ بسبب اختلال ميزان العدل فيها؛ فالنزاهة والعدل أصل كل خير، والفساد والظلم أصل كل شر، وللفساد المالي صور كثيرة ومتعددة: اختلاس ورشوة، وتزوير وخيانة، فمن انعقد قلبه على الخيانة، تلطخ بالصور الباقية، فالرشوة من أعظم أبواب الفساد، وهي من كبائر الذنوب والخطايا، سواء سُمّيت إكراميةً أم هدايا، والراشي والمرتشي والرائش ملعونون عند الله، مطرودون من رحمته على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. أغضبوا ربهم، وخانوا أماناتهم، وغشوا أمتهم فخسروا دينهم ودنياهم.

أبواب الفساد المالي

لقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبواب الفساد المالي، فمنع من تولى عملا للمسلمين أن يستغل وظيفته لمصالحه الشخصية، ووضع - صلى الله عليه وسلم - قواعد وضمانات لحماية المال العام، ففي صحيح البخاري عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا على الصدقة، فلما قَدِم قال: هذا لكم، وهذا أُهدي لي؛ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك، وهذا لي، فهلّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغام، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه وقال: ألا هل بلّغت! ألا هل بلغت!.ثلاثا. بلى لقد بلّغ - صلى الله عليه وسلم -، فوالله لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟

جريمة الغلول

وعن خطورة المال العام قال فضيلته: إن الأخذ من المال العام بغير حق ظلم عظيم، يهوي بالمجتمع إلى فساد عريض، وهو جريمة في الشرع المطهّر، وهو خيانة لولي الأمر، وكذلك من استرعاه ولي الأمر على عمل فلا يحل له أن يأخذ فوق حقه، فما أخذ فوق حقه فهو غلول، يَغُل يد صاحبه يوم القيامة ولو كان شيئا يسيرا، ففي صحيح مسلم عن عدي بن عميرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه، كان غلولا يأتي به يوم القيامة» قال: فقام إليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك، قال: وما لك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال: وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نُهي عنه انتهى». وفي التنزيل العزيز {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.

حرمة مال الدولة

ثم أكد الشيخ أن مال الدولة الأصل فيه الحرمة، وهو بمنزلة مال اليتيم في المحافظة عليه، وتحريم الأخذ منه والحرص الشديد على صرفه بما تقتضيه المصلحة. ففي صحيح البخاري قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» قال ابن حجر -رحمه الله-: أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل، فاختلاس الأموال العامة قليلها وكثيرها كبيرة من الكبائر، من عِظَم جُرمها وحرمتها تُبطل ثواب الجهاد في سبيل الله، وتُذهب أجر الشهادة، فهذا رجل خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر، فرُمي بسهم فكان فيه حتفه، فقال الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-: هنيئا له الشهادة! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارا، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم» قال: ففزع الناس، فجاء رجل بِشِراك أو شِراكين فقال: يا رسول الله، أصبت يوم خيبر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «شراك من نار أو شراكان من نار». رواه البخاري ومسلم.

السحت حرام لا يحل كسبه

ولقد خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبه كعب بن عجرة - رضي الله عنه -، فقال له: «يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به». رواه الترمذي. والسحت هو الحرام الذي لا يحل كسبه، قال شيخ الإسلام: وذلك لأن الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه، ويصير مادة وعنصرا له، فإذا كان خبيثا، صار البدن خبيثا فيستوجب النار؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به» والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب.

أداء الحقوق

ثم بين إمام الحرم أن من ضعفت نفسه واتبع هواه فأخذ شيئًا من المال العام بغير حله، وجبت عليه التوبة ورد المال إلى خزينة الدولة، فعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه؛ فالمال العام حمايته واجبة، وحرمته عظيمة لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة له؛ فلنتق الله، ولنراقبه في كل صغيرة وكبيرة؛ فحقوق العباد مبنية على المشاحة، وحقوق الله -تعالى- مبنية على المسامحة، والله -جل جلاله- يعفو ويصفح، ويتجاوز فيما يكون بينه وبين عبده، وأما حقوق العباد فموقوفة على التحلل والاستباحة.

تقوى الله

فالعاقل يتقي الله -تعالى- فيما يأخذ ويذر، ويتذكر تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفضيحة يوم المحشر، وطوبى لمن حفظ أمانته، وأطاب مطعمه، وأحسن في تعامله، وصدق في حديثه، وأَمِنَ الناس بوائقه. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب}. { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد}.

الأمانة من صفات الأنبياء والمرسلين

ثم أكد الشيخ المعيقلي أن الأمانة صلاح وشرف وكرامة، أمر -سبحانه- بحفظها ورعايتها وأدائها والقيام بحقها، وهي من صفات الأنبياء والمرسلين، يبلغون بها رسالة ربهم، ويقيمون الحجة على أقوامهم؛ فما من نبي إلا قال لقومه: {إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون}. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - خير الأمناء بشهادة الأعداء، فهو الصادق الأمين. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق، والعفاف والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي، فالأمانة من علامات الإيمان، وخيانتها نفاق وعصيان، وسبب للسقوط في النيران، فإذا ضُرب الصراط على متن جهنم، كانت دعوة الأنبياء هناك: اللهم سلّم سلّم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا» رواه مسلم.

الفساد المالي من خيانة الأمانة

لا ريب أن الفساد المالي على اختلاف أشكاله وصوره من خيانة الأمانة، وأكل أموال الناس بالباطل ظلما وعدوانا، وزورا وبهتانا، ولا يقف أمام هذا الفساد إلا الحارس الأمين، والمخلص لدينه، والمخلص لوطنه، الصالح في نفسه والمصلح لغيره، فيأمر بالصلاح، وينهى عن الفساد، ويحافظ على مكتسبات البلاد، ويجعل من نفسه مرآة لجهات الرقابة والنزاهة؛ فمن لم يرهبه وعيد القرآن، ردعته درة السلطان، والله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن، وشريعتنا المباركة قد جعلت من الرقابة مسؤولية يتحملها الفرد كما تتحملها الجماعة، {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}.