خطبة الحرم المكي - صلاح الدين والدنيا والآخرة منتهى أمل الأبرار


مجلة الفرقان

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 28 ربيع الآخر 1443ه، الموافق 3 ديسمبر 2021، لإمام الحرم المكي الشيخ أسامة الخياط، مبينةً أنَّ صلاح الدين والدنيا والآخرة منتهى أمل الأبرار، ومطمح أنفس الأخيار، ومحط رجائهم، وغاية دعائهم؛ إذ به تُستكمل للعبد أسباب السعادة، وتُستجمع عوامل الفلاح، ولذا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في دعاء واحد له، ففي صحيح مسلم -رحمه الله- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمت أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر»، وهو من جوامع الدعاء النبوي، الذي اشتمل على كل خير يرجوه المرء في حياته الدنيا وفي الآخرة.

مدار صلاح الدين

ثم بين الشيخ الخياط أنَّ صلاح الدين الذي يستعصم به من الزلل، ويَسْلَم به من الزيغ، وينجو به من الضلال، مداره على صلاح المعتقد بإخلاص التوحيد لله -تعالى-، وقوة الإقبال عليه -سبحانه-، والإعراض عما سواه، وتحقيق العبودية له بصرف أنواع العبادة له -عز شأنه-، والنَّأي عن الإشراك به حَذَرَ أن يضل سعيه ويحبط عمله، ثم التحلي بالفضائل، والتجافي عن الرذائل، فقد أفلح من زكى نفسه بإصلاح دينه وطاعة ربه، وقد خاب وخسر من أخمل نفسه ووضع منها وخذلها باجتراح السيئات واقتراف الآثام، كما قال -تعالى ذكره-: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.

عوامل صلاح الدين

ومن عوامل صلاح الدين قال الشيخ الخياط: اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمل بسنته، واقتفاء أثره وسيرته، وترك الابتداع في دينه، والحذر من مخالفة هديه وشريعته، عملا بالأمر الرباني الوارد في قوله -سبحانه-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. وفي قوله -تعالى-: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. وفي قوله -عز اسمه-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

صلاح الدنيا

وعن صلاح الدنيا قال إمام الحرم: عماد صلاح الدنيا البسطة في الرزق، ومنه نعمة الأهل والولد، ورفعة القَدْر، وانشراح الصدر، والبركة في العمر، والصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه بإسناد حسن عن عبيد الله بن محصن الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافا في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا»، وفي صحيح مسلم -رحمه الله- عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح من أسلم ورُزِق كفافا وقنّعه الله بما آتاه»، ومعنى كفافا أي رُزِق الكفاية التي تَكُفُّه عن الحاجة إلى غيره. وهو الحلال من الرزق والطيب من الكسب؛ إذ لا فلاح مع الكسب الخبيث والحرام من الأموال المكتسبة من الغش والتدليس والرشوة والربا وأكل مال اليتيم، وغيرها من ألوان أكل أموال الناس بالباطل.

صلاح الآخرة

ثم بين فضيلته بأن صلاح الآخرة، أن يمُن الله على المرء فيحشره في زمرة السعداء، ومنازل الأتقياء، ويحاسب حسابا يسيرا، ويمضي على الصراط إلى جنات عدن، فيها نعيم مقيم. {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، وهم الذين أوتوا كتبهم بأيمانهم، وقال الله في وصف حالهم: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}.

حقيقة الحياة الدنيا

ولما كانت هذه الحياة الدنيا مؤذنة بزوال، محدودة بآجال، لا يستأخر أصحابها عنها ساعة ولا يستقدمون، فقد جاء ختام هذا الدعاء النبوي العظيم بسؤال الله -تعالى- أن يجعل هذه الحياة مضمارا لاستباق الخيرات، وميدانا للتنافس في الباقيات الصالحات، وهو دليل على أن الأخيار من عباد الله إنما يزدادون من الخير كلما طال بهم العمر، وامتدت بهم الحياة، ومصداق ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا» أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.

الاستزادة من صالح القول والعمل

إذًا فالحياة التي يقطع المؤمن أشواطها في الاستزادة من صالح القول والعمل، خيرٌ يُرغب فيه، ويُحرص عليه، والموت راحة له من الفتن والشرور والآثام بالسلامة من غوائلها، والتردي في وهدتها، ولا سيما مع استحكام العلة، وغلبة الضعف، ونُدرة المُعين؛ ولهذا جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا «وإذا أردت في قوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون...» الحديث.

أسوة حسنة

وليكن لكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُسن التأسي والاتباع، وكمال الاقتداء به في دوام التضرع إلى الله -تعالى- بصلاح الدين والدنيا والآخرة؛ فهو منتهى الأمل، وغاية الرجاء، لكل من عاش على الغبراء من عباد الله البررة الأتقياء.

مقام الدعاء النبوي

لقد جاء في بيان عِظَم مقام هذا الدعاء النبوي وعلو قدره، وشرف منزلته، وبالغ أثره، قول أبي العباس القرطبي -رحمه الله-: ومعنى الدعاء بصلاح الدين، أن الدين إن فسد لم يصلح للإنسان دنيا ولا آخرة، وهذا دعاء عظيم جمع خير الدنيا والآخرة، فحقٌ على كل سامعٍ له أن يحفظه ويدعو به آناء الليل وآناء النهار، لعل الإنسان أن يوافق ساعة إجابة فيحصل على خير الدنيا والآخرة، وهذا شأن جميع الأدعية النبوية الشريفة الثابتة عنه -صلوات الله وسلامه عليه- في شتى الأوقات ومختلف المناسبات؛ فإنها جامعة لكل ما يجلب به الخير، ويُدفع الشر، ويُبلغ به المراد. فاحرصوا -رحمكم الله- على الأخذ بها والاستزادة منها، والاستدامة عليها؛ إذ هي وسيلة صالحة وسبب موصل إلى كل خير عاجل وآجل.