المسجد ودوره الريادي في الإسلام وواقع المسلمين


وائل رمضان




للمسجد منزلة عظيمة في الإسلام، وله دوره الريادي في حياة المسلمين، وتربية الشباب إيمانيا وأخلاقيا واجتماعيا، فهو محراب للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد جعل اللـه للمساجد قدراً ومكانة، وكفاها فخراً ما جاء بشأنها في القرآن الكريم قول اللـه -جل وعلا-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن/18)، وقد مدح اللـه -جل وعلا- أولئك الذين يعمرون المساجد بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة:18)، وفي بيوت اللـه ترى المؤمنين خشعاً سجداً يسبحون بحمد اللـه، لا تشغلهم هموم الدنيا وما فيها.



ولم يكن دور المسجد في يوم من الأيام محصورًا عند أداء العبادات فقط، بل كان له كما هو معروف تاريخيًاــ دور سياسي، وثقافي، واجتماعي، وتنظيمي، وقضائي، فالمسجد يربي أبناء الأمة الإسلامية على روح الجماعة والاتحاد، وأنه بمثابة مؤتمر مصغر لطرح مشاكل الأمة، وإيجاد الحلول لها، وغير ذلك من الأدوار الفعالة.

أدوار عدَّة

فكان المسجد في صدر الإسلام وفي القرون التي تلته يقوم بأدوار عدة، فكان يؤدي دور أرقى الجامعات من ناحية تخريج القادة المحنكين والعلماء الأفذاذ، وأصحاب المهن والكفاءات، ويقوم بدور الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات والصدقات للفقراء والمساكين، وكذلك يقوم بدور مراكز الشباب من ناحية التوجيه والتقويم والإرشاد، وبث روح المحبة والألفة، وجمع الكلمة، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك يقوم بتكوين الأسر، وتربية الأطفال والنشء، كما يقوم برعاية الشؤون الاجتماعية من مختلف النواحي، وكان بمثابة ملجأ وملاذ لمن لا مكان له ولا دار، فيجد فيه المسلم المطعم والمشرب، وهكذا أدى المسجد في القرن الأول والذي تلاه خدمات كثيرة، لا يستطيع أن يقوم بها في وقتنا الحاضر إلا جهات متخصصة ومؤسسات عدة، لذلك فلا عجب أن يبدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولاً ــ عند وصوله إلى (بني عمرو بن عوف) عند هجرته إلى المدينة ــ ببناء مسجد قباء، وهو المسجد الذي أشار اللـه إليه -جلت قدرته وتباركت أسماؤه- في قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيه فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ} (التوبة:108).

محضن تربوي أساسي للمجتمع

وقد استطلعت الفرقان آراء بعض العلماء والدعاة عن دور المسجد في المجتمع وكيفية تفعيله.

وظيفة المسجد في المجتمع

في البداية قال رئيس اللجنة العلمية بجمعية إحياء التراث الإسلامي الشيخ محمد الحمود النجدي: من المعلوم أنّ أشرَفَ البقاع على ظهر الأرض هي: المساجد؛ لأنها بيوتُ الله -عز وجلَّ-؛ مصداقًا لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَحَبُّ البلاد إلى الله مساجدُها، وأبغضُ البلاد إلى الله أسواقها». رواه مسلم، وأكد القرآنُ الكريم فضل المساجد؛ بنسبتها إلى الله -عز وجل-، وذلك في قوله -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18).







المسجد في مقدِّمة أسس بناء الدولة

وأضاف الشيخ النجدي، حينَ هاجَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ، وشرَع في وضع أُسُس إقامة الدولة الإسلامية العظيمة، كان بناءُ المسجد في مقدِّمة تلك الأُسُس، وأصبح المسجدُ مِحورَ حياة الدولة الإسلامية، وسرَّ قوتها؛ فهو أولُ مدرسة في الإسلام تَبني الأجيالَ، وتصنع الرجال الأبطال.

التربية في المساجد

والمسجد في المجتمع الإسلامي هو مجمعُ النظافة والصَّفاء، والطُّهر والنقاء، ولا تُكتَسَب هذه الصفات إلا منْ خلال التربية في المساجد، يقول الله -تعالى-: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ} (التوبة: 108)، وهذه الآية الكريمة تشير إلى الطَّهارة الحسيّة والمعنوية؛ فالمسلمَ مطالَبٌ في صلاته بأن يكون طاهرَ الثوب، والبدن، والمكان، وأن يكونَ طاهرًا من الحدَثَيْنِ الأكبرِ والأصغر، وحين يصلي فإنَّ الصلاةَ تُطهِّرُه من الذنوب والآثام، بل تحفظُه منْ ارتكابها؛ كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).

المسجد يُربي الفرد والمجتمع

فالمسجد يُربي الفرد تربية إيمانية، ويربطه بخالقه ورازقه، وربه الذي أوجده من العدم، والمسلم إذا دخل المسجد وصلى فيه، شعر بالطمـأنينة والسكينة، والخشوع والخضوع، والتوجه في صلاته لله، وهذه الروح الإيمانية تحول الفرد إلى شخص كريم الأخلاق، منضبط السلوك، ومهذب في التعامل، قد تربى على الإيمان والتقوى والعمل الصالح، محبًّا للناس، يسعى في الخيرِ لعبادِ الله جميعًا؛ ولهذا أثنى اللهُ -تبارك وتعالى- على روَّادِ المساجد، فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 36 - 38).

حث أبناء المسلمين

وختم الشيخ النجدي تصريحه بقوله: يجبُ أن يُشجَّع أولادُ المسلمين بكلّ الوسائل على ارتياد المساجد، والتردُّد عليها بانتظام؛ حتى يألَفوها، وتتعلَّقَ قلوبهم بها؛ ضمانًا لِحُسن تنشئتهم وتربيتهم على طاعة الله، والبُعد عن معصيته، وتوجيههم إلى أنْ يراقبوا اللهَ في أقوالهم وأفعالهم، ولكي يكونوا ضِمن مَنْ عناهم رسولُ الله بقوله: «سبعةٌ يُظلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظله... وشابٌ نشأَ في طاعةِ الله -تعالى-، ورجُلٌ قلبُه معلَّق بالمساجد...». متفق عليه.

ومن جهته قال رئيس (جمعية الماهر بالقرآن) الشيخ جاسم المسباح: قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} فالمسجد لاشك أنه محور ارتكاز ومحضن تربوي أساسي للمجتمع المسلم، فالمحضن الأول هو الأسرة والبيت الذي ينشأ فيه الطفل، وأما المحضن الثاني فهو بيوت الله العامرة بذكره، وهي أحب البقاع إلي الله -سبحانه وتعالى-؛ إذ ينشأ الشاب فيها علي عباده الله -عز وجل- ومنه ينطلق التوحيد بمعرفه الله -سبحانه وتعالى.









أعظم مؤسسة تربوية

وعن الدور التربوي للمسجد وكيفية تفعيله قال الشيخ المسباح: إن للمسجد في الإسلام مفهومًا شاملًا، وهو ليس مفهومًا ضيقًا ينحصر في المكان المعد للصلاة وقراءة القرآن، فالمساجد في الإسلام كلها مراكز للدعوة والتعليم، ويعد المسجد عاملًا أساسيًّا ومهمًّا لنشر التربية الإسلامية، ويكمن أثر المسجد التربوي في أنه لا تحده مرحلة عمرية معينة، فهو للكبير والصغير على السواء، ويمتد أثره إلى كل مراحل العمر، وتحقق استمرارية التربية، ولم تقتصر رسالة المسجد في أي عصر من العصور على التعليم فقط، بل كانت له أدوار كثيرة، ففيه يتعلم الصغار بالقدوة الحسنة، وفيه يتعلم الكبار والصغار بالموعظة والقصص القرآنية والترغيب والترهيب.

التمسك بالقيم الدينية والأخلاقية

ويضيف المسباح أنه لا يمكن إغفال الدور الذي يقوم به المسجد في المجتمع المسلم، الذي يتمثل في دعوته الدائمة للتمسك بالقيم الدينية والأخلاق الإسلامية، والتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل. والمسجد يكمل بناء المجتمع ويقوِّي أركانه، كما يعمِّق في النفوس الإحساس بالفضائل التي غرستها الأسرة المسلمة في نفوس أبنائها، ويُنميها ويوجِّهها إلى تحقيق الغاية الكبرى للمجتمع المسلم كله، وفي هداية الناس إلى الحق والخير، وإلى ما يصلح لهم دنياهم وأخراهم.

التصدي لظاهرة انحراف الشباب

وأكد الشيخ المسباح أن للمسجد دورا عظيما في التصدي لظاهرة انحراف بعض الشباب في المجتمع، وذلك من خلال الدور الذي يبذله علماء الدين، في خطبهم ومحاضراتهم، وحلق العلم والدروس الدينية والتربوية والأنشطة التي يقيمها المسجد، كما أن للعلماء وأئمة المساجد دورا كبيرا في توجيه الشباب، ودون شك فإن هذا الدور من أكثر الأدوار التي يحتاجها المجتمع؛ حيث يمثل دفة الأمان التي تقود سفينة المجتمع في بحر متلاطم الأمواج، فالعلماء نجوم يُهتدى بنورها، وبهديهم وتوجيههم يسير الناس، والعلماء أعظم الناس أثرا على الناس.

الدور المنوط بالعلماء

وقد شدد المسباح على أن هذا الدور المنوط بالعلماء وأئمة المساجد يحتاج إلى توفر جملة أمور، منها: المؤهلات العلمية، فتقدير دور للعالم يقف على وجود مؤهلات تتقدم بين يديه؛ بحيث يوفر له ما يلزمه لذلك، ومن ذلك القدرة العلمية، فهي اللبنة الأولى في تكوين الرأي حول المسائل العلمية قديمها وحديثها، وهذا بطبيعة الحال يحتاج مزيد بذل واستفراغ وسع، ومن ذلك فهم الواقع فهما جيدا بعيدا عن نطاقات التفكير التي تفرضها الانتماءات الفكرية أو المناطقية أو القبلية، ومن هذا الباب الحذر من الرؤى الناقصة تجاه الأحداث؛ لما لذلك من أثر غير حسن على الواقع، ومن ذلك الإجابة عن سؤال الواقع وهي من المشكلات التي تعرض للشباب في التعامل مع كثير من الأحداث؛ حيث يمثل الفراغ الذي يتركه عزوف العلماء عن الجواب سببا للبحث عن جواب في مكان آخر؛ وتقرر أن هذه الفئة من فئات المجتمع وهي فئة الشباب أكثر الفئات حاجة للتوجيه؛ لما عرف عنهم من شدة الحماسة وسعة الاطلاع والانفتاح، ولا سيما مع انتشار مواقع التواصل.

تفعيل دور المسجد في الواقع المعاصر

من جهته قال رئيس قطاع العلاقات العامة والإعلام سالم الناشي: إذا أردنا أن نفعل دور المسجد في الواقع المعاصر للمسلمين فلابد أن نعمل على أمور عدة:

- أولاً: يجب الاهتمام بالمسجد بوصفه منشأة لها مكانتها ودورها الفاعل في المجتمع، وليست فقط مكانا للصلاة، بل المسجد هو ملتقى المصلين في اليوم والليلة وفي الجمع والأعياد وغيرها من المناسبات؛ لذا ينبغي الاعتناء بتوفير المستلزمات الخاصة في تفعيل دور المسجد الشرعي والمجتمعي، فيجب أن تكون هناك أماكن لحفظ القرآن للفئات العمرية المختلفة، وأماكن للدروس الشرعية العامة والمتخصصة، وأماكن للاعتكاف، وأماكن لعقود النكاح والديوانية الخاصة برواد المسجد والمكتبة الورقية والالكترونية.









إن المسجد هو أساس التنمية الشاملة في المجتمعات المسلمة لإقامة شعائر الله فقد قال تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} بمعنى يوحدون فالمسجد هو منطلق التنمية والتقدم في المجتمعات الإسلامية.

- ثانياً: اختيار المؤذين والأئمة وفق معايير محددة من الفهم والعلم، وأن يكون لديهم القدرة على إدارة مرفق المسجد بمكوناته. وقد يحتاج هذا تنمية مهاراتهم عن طريق التدريب والدراسة المتواصلة، وإحاطتهم بما يدور حولهم في المجتمع من متغيرات عن طريق المراكز البحثية التي تولي اهتمامها بدراسة المجتمع؛ بغية تغيير الواقع إلى ما هو أفضل؛ حتى نصل إلى الواقع المنشود، كما أن توفير الإمكانات اللازمة لهم لهذه المهمة العظيمة تجعلهم يؤدون رسالتهم بفاعلية.

- ثالثاً: تنظيم ممارسة العمل الاجتماعي داخل المساجد لتفعيل هذا الدور وعودة المسجد إلى ما كان عليه، في حث الشباب والأطفال على الصلاة في المسجد، وحضور دروس التحفيظ والمحاضرات والدورات الشرعية، وتفعيل الدروس المنهجية والعلمية واستدعاء العلماء والمشايخ ولا سيما في شهر رمضان.

- رابعاً: تفعيل الدور الاقتصادي للمسجد، ويتمثل هذا الدور في رعاية الفقير، وكفالة اليتيم، والسعي على المسلمين بجهد تطوعي، وما كان الوقف إلا صورة من الصور المضيئة لهذا الدين؛ حيث يقتطع إنسان جزءاً من ماله يدوم نفعه للمسلمين زماناً طويلاً؛ فيؤجر في كل لحظة تمر عليه.

- كل هذا يأتي في إطار الضوابط الأخلاقية والتنظيمية لمؤسسات الدولة، التي تجعل المسجد في صورة مميزة بوصفه مرفقا حيويا في المجتمع.



حل مشكلات المجتمع

- كما أكد الناشي الدور المؤثر لإمام المسجد قائلاً: إن أول سبل عودة دور المسجد هو ضرورة تأهيل الأئمة والدعاة وتدريبهم جيدًا حتى تتوافق رؤاهم مع العلم الشرعي المؤصل على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع الأخذ بواقع المشكلات المعاصرة، ويجب أن يركز الخطباء على دروس نافعة في كيفية حل مشكلات المجتمع ولا سيما مشكلات الشباب.

أسباب تراجع دور المسجد

- كما بين الناشي أنَّ أهم أسباب تراجع دور المسجد، يعود إلى ضعف إمكانات بعض الدعاة من الناحية الشرعية والفكرية، فضلا عن عدم فهم بعض الناس لدور المسجد وأهميته الاجتماعية والثقافية، والنظر إليه على أنه مكان للعبادة وإقامة الشعائر الدينية فقط.

إصلاح أحوال المسلمين

- وختم الناشي تصريحه قائلاً: إنّ الحاجة اليوم ماسّةٌ إلى تفعيل دور المساجد، وتوظيفها في إصلاح أحوال المسلمين، فليس في الإسلام دعوة منعزلة عن المجتمع، وتقطع صلة المسلم عن مجريات الحياة، بل إنّه دينٌ كاملٌ شاملٌ لكل جوانب الواقع، ومن هذا المنطلق فإنّ المسجد الّذي اختُصّ للعبادة في الإسلام، لابدّ أن ينطلق من هذه الشّموليّة، ويستوعب مختلف المجالات، ويهتمّ بعناصر المجتمع الإسلاميّ، ويستخدم طاقات الشّباب ومواهبهم استخداماً نافعاً للإسلام، ويزودهم بزادٍ من التّقوى والإحسان والأخلاق الحسنة والمعرفة الرشيدة، ويغرس فيهم حبّ الإيمان والعمل الصّالح.

امتداد طبيعي لبيت الأسرة

من جانبه قال رئيس الهيئة الإدارية لفرع إحياء التراث بمنطقة خيطان الشيخ جاسم الحجي: إن المسجد في الواقع هو امتداد طبيعي لبيت الأسرة، وهو رأس المؤسسات التربوية والاجتماعية وأقدمها؛ لذلك كان أول ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما دخل المدينة أن بنى المسجد؛ فهو الذي يوحد صفوف المسلمين في إطار أخوي اجتماعي واحد، من هنا فإن المسجد يمكن أن يؤدي دوره الريادي مرة أخرى في حياة المسلمين، وتربية الأبناء روحيا وأخلاقيا واجتماعيا إذا عادت للمسجد أهميته مرة أخرى، ومكانته في قلوب الناس، فلا ننسى دور الحرمين الشريفين في إخراج العلماء الأفذاذ الذين أثروا الحياة الإنسانية بشتى أنواع المعارف، ودور الجامع الأموي، وجامع المنصور ببغداد، وغير ذلك كثير، وعلى هذا فالدور التربوي للمسجد يمكن تقسيمه إلى أقسام عدة: التربية الإيمانية، والتربية الأخلاقية، والتربية النفسية، والتربية العقلية (علمية/ عملية)، والتربية الاجتماعية.







(1) دور المسجد في التربية الإيمانية

هذا هو الدور الأكبر للمسجد، وميدان التطبيق العملي لدور الأب والأم في البناء الإيماني للولد؛ فالمسجد هو مكان أداء الصلوات التي هي أساس الدين وعموده.

(2) دور المسجد في التربية الأخلاقية

إن للمسجد حرمة وصيانة عن كل ما يؤذي الناس والمصلين من اللغو الباطل والمشاحنات؛ فالمسجد قد خصص للعبادة والذكر والتعلم، فلا يصلح لمنازعات الدنيا، ومدافعات الأهواء والأغراض؛ لذلك كانت أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تحض على احترام المسجد وقدسيته.

(3) دور المسجد في التربية النفسية

إن قلب الصبي الصغير جوهرة نقية صافية، وفطرته بيضاء: لا دخل فيها ولا لوث، نفسه على أصل خلقها تتوق للحق وللراحة الوجدانية، وللمسجد تأثير عجيب في قلب المسلم، يدخله وهو مثقل بالهموم والأحزان ومشاغل الدنيا، فما إن يقف بين يدي الله -عز وجل- خاشعًا متذللًا حتى ينسى كل ذلك.

(4) دور المسجد في التربية العقلية (العلمية)

المسجد هو روضة العلم والتعلم بدءًا من كتاب الله -عز وجل- إلى سائر العلوم الشرعية، حتى العلوم الدنيوية، ولقد كان المسجد هو المسؤول عن إعداد الأعلام وتخريجهم في كل المجالات.

(5) دور المسجد في التربية الاجتماعية

وفي هذه النقطة قال الشيخ الحجي: إن المسجد له خاصية فريدة تميزه عن سائر المؤسسات الاجتماعية في جانب التربية الاجتماعية؛ حيث إن له خاصية التجمع اليومي لشتى طبقات المسلمين خمس مرات في اليوم الواحد؛ فالمسجد حقًّا موسوعة اجتماعية من الطراز الأول؛ حيث يتعرف الطفل فيه على جيرانه، ونظرائه في السن من أهل الحي والمناطق المجاورة، ويتعود الطفل فيه على الاختلاط برفقة صالحة طيبة؛ حيث لا يحافظ على الصلاة إلا تقي صالح. فللمسجد دور فعال ومتواصل في تربية النشء على الاجتماع والتواد والتراحم والتلاحم في نسيج واحد.

دور مهم في بناء الأمة

أما عضو مجلس شورى الدعوة السلفية مهندس سامح بسيوني فقال: لا يمكن فصل المسجد عن قضايا المجتمع في الإسلام، فالمسجد كان له دور مهم وواضح عبر التاريخ في بناء الأمة وتنشئة الأجيال الصالحة، وكان قيامه بهذا الدور من أسباب قوة مجتمعاتنا وحمايتها من الانحرافات الفكرية والأخلاقية والسلوكية، والعكس صحيح؛ حيث شهدت عصور الضعف تراجعا لأهمية دور المسجد الذي لا يعد في الإسلام دار عبادة فقط، بل كان دوما مصنعا للرجال وروضة للنساء الصالحات، ومربيا للأطفال الذين نشؤوا على حب الدين، وحرصوا على قيمه منذ نعومة أظفارهم.









استعادة المسجد لدوره الريادي

وأضاف بسيوني، لا شك أن استعادة المسجد لدوره الريادي يكتسب أهمية كبرى؛ حيث يمكنه أن يمارس دورًا توجيهيا مهما في تنشئة الأجيال على أسس وقيم دينية وأخلاقية سليمة، ولا سيما في بعض البلدان التي تُهمش مادة الدين في مناهجها؛ حيث يظهر دور المسجد في سد هذا الفراغ ومعالجة هذا القصور، ولو نجحنا في تقوية دور المسجد فإن المجتمعات المسلمة ستعود قوية متماسكة، تبرز فيها الجوانب الأخلاقية والقيمية والرقي العلمي والحضاري؛ لأن كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي سيحمل في أعماقه روح المبادرة والسبق إلى الخير، وإرضاء الرب -سبحانه وتعالى-، بمد يد العون لأخيه المسلم دون أن يسأله من هو؟ أو من أين؟ أو ما إلى ذلك؛ لأنه يعلم أنه يدين بعقيدة التوحيد مثله سواء بسواء، بل لا أكون مبالغا إن قلت: إن إحسانه حينئذ سيشمل مختلف طوائف المجتمع، ساعيا إلى إعانة أي محتاج وتفريج كربته كونه إنسانا، ومن هنا جاءت عظمة هذا الدور الذي يقوم به المسجد في خدمة المجتمع.


جذب الشباب

وأكد بسيوني أن دور المسجد الفاعل تراجع كثيرًا في الوقت الراهن، وهذا التراجع يعود أساساً إلى المسلمين عموما والشباب منهم خصوصا، فقد نسوا أن بيوت الله في الأرض هي المساجد، وأن الله أمرهم بعمارتها في قوله -تعالى-: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 18)؛ ولهذا فإن أول سبل عودة المساجد لدورها الحضاري، يتطلب منا ضرورة جذب الشباب المسلم إلى المسجد، وهذا يكون بتبني حملة ضخمة تعيد للصلاة في المسجد قدسيتها.

دور المسجد الإصلاحي

فأول سبل استرجاع دور المسجد الإصلاحي في عصر العولمة هو استرجاع رواده، وبذلك تكون البداية الصحيحة لاستعادة دور المسجد الإصلاحي، وبعدها يأتي تحقيق الدور الحقيقي والفعال في المسجد؛ بحيث لا يقتصر هذا الدور على السجود والركوع وقراءة القرآن فقط، ولكن يكون مثل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجوده من أول يوم تأسست فيه الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة بوصفها جامعة للأنشطة والفعاليات العبادية والاجتماعية؛ حيث يساهم المسجد -بدور فاعل- هو وملحقاته في تقويم مجالات الحياة.

دور فاعل للشباب

وعن الأدوار الفاعلة للشباب في المسجد قال بسيوني: يمكن للشباب أن يكون لهم دور فاعل في المسجد، من خلال إشراكهم في أعمال الخير، وأعمال خدمة المجتمع والبيئة، وأن نعلمهم كيف يخالطون الناس؟ ويصبرون على طباعهم المتباينة، وأن يبتغوا الأجر من الله -تعالى-، ولا مانع من أن نقيم في المسجد دورات لتعليم المسلمين مهارات التواصل الفعال والدعوة إلى الله، ومن المهم أيضاً أن تُعمل أنشطة ترفيهية هادفة لهؤلاء الشباب، كالرحلات الخلوية وزيارة المعارض والمكتبات، حتى يروحوا عن أنفسهم من ناحية، ويتعلموا أيضا هذه الأمور من ناحية أخرى، ويجب أيضا أن نوثق الروابط بينهم، وأن نعلمهم معاني الأخوة الإيمانية في الله -عز وجل-، وأن يتفقد بعضهم أحوال الآخرين، وأن يكون كل منهم في حاجة إخوانه وفي خدمتهم ومساعدتهم، يزور مريضهم، ويعين محتاجهم، وهكذا يصبح المسجد متصلا بواقع الحياة، بل يوجه هذه الحياة بمنهج الله -سبحانه وتعالى.

همسةٌ في أذن شبابنا

ثم ختم بسيوني تصريحه برسالة للشباب قائلاً: لِنَعُد إلى بيوت الله يا شباب الإسلام، ولنُعِد لها قدرها، ولنعلّق القلوب بها، وإذا أُغلقت دوننا أبواب الدّنيا وأهلها، فباب الله لا يغلق، وبيته مفتوحٌ لمن قصده، وما خاب من قضى وقته ببيت ربّ الأرباب، وعلّق قلبه بالمساجد مناجياً الإله الوهّاب.

منبع الخير ومشعّ النور

أما الباحث والكاتب الأردني د. لؤي الصمادي فقال: كان المسجد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منبع الخير، ومشعّ النور، والمعتكف ومكان العبادة، وهو مجمع المؤمنين وملتقى الصالحين، والمدرسة والجامعة، والمأوى والمعسكر، وغرفة القيادة والتخطيط، وهو محور الحياة، ولما توسعت الدولة وكثرت المهام، اتخذ الأمراء بيوتًا لكل حاجة، ولكن بقي للمسجد دور كبير، لأن علم الوحي هو مبدأ الصلاح والإصلاح، فلا ينبغي أن يغفل عن المسجد، ولا أن يهمش دوره وينسى أثره.

حاضنة تربوية مصلحة

وعن دور إمام المسجد قال د. الصمادي: بوسع إمام المسجد أن يفعل الكثير في مسجده، ليكون حاضنة تربوية مصلحة، فحِلق القرآن والعلم هي رياض الجنة، التي يقوم فيها أهل العلم بتعليم كتاب الله -تعالى- للمسلمين، وتربيتهم على ما فيه من قيم ومبادئ، وتنشئتهم على محاسن الأخلاق ومعاليها، وعلى الإمام أن يخالط جماعة المسجد وعامة الناس، ويتحسس أحوالهم وإيمانهم، تحسس الطبيب لحال المريض، فينظر فيما يعتريهم مما فيه شر وفتنة من عقائد أو انحرافات، فيحسن علاجها بالعلم النافع، وذلك بالتنبيه العام دون تعيين، على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (ما بال أقوام؟).

ولا ينبغي أن يغفل الإمام حال الأطفال، فعليه أن يجعل لهم نصيبًا من توجيهه، ويشجعهم ويحنو عليهم، لتتعلق قلوبهم بالمساجد ويحبوا العبادة، ولا ينفرهم من دين الله، فيهربوا من مواطن الخير والهدى، وتتخطفهم أيدي الشر وقنوات الضلال.

خطبة الجمعة وتأثيرها

وعن خطبة الجمعة وتأثيرها قال الصمادي: خطبة الجمعة لها دور مهم ومؤثر في تنبيه الناس وإيقاظهم، وتبشيرهم وإنذارهم، ووعظهم وتعليمهم، وتوعيتهم وتصحيح مفاهيمهم، فهم يأتون حريصين على الأجر، راغبين منصتين للذكر، يحرم عليهم الكلام، ويتوجب عليهم الاستماع، فلا ينبغي للخطيب وقد علا على رؤوسهم، ورنت إليه أبصارهم، واستأمنوه على ما يلقيه عليهم، أن يضيع هذه الأمانة، بترك تنبيههم على ما يعنيهم، ويقربهم إلى الخير، وينجيهم من الشر.




الماجد: دور المسجد في تعليم المرأة المسلمة


من جهتها قالت الداعية بمعهد الفقيهة التابع للإدارة العلمية للجنة النسائية بإحياء التراث فوزية الماجد: لما كانت النساء شقائق الرجال، كان كل خطاب موجه للرجال تشترك فيه النساء، مالم يأت الاستثناء الشرعي بذلك، وكم روت لنا أمهات المؤمنين وغيرهن من نساء الصحابة -رضوان الله عليهن أجمعين- أحاديث عدّة مما سمعنه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد النبوي والمجامع العامة، فها هي ذي أم سلمة -رضي الله عنها- تروي ما حضرته من مجلس تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -، كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، ولم أسمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان يومًا من ذلك، والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أيها الناس»، فقلت للجارية: استأخري عنّي، قالت: إنما دعا الرجال، ولم يدعُ النساء، فقلت: إني من الناس، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: «إني لكم فرط على الحوض، فإياي لا يأتين أحدكم، فيُذَبُّ عنِّي كما يُذَبُّ البعير الضال، فأقول: فيمَ هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقًا» (أخرجه مسلم ٢٢٩٥).

النساء مخاطبات بأصول الشريعة وفروعها

وبينت الماجد أنَّ نساء الصحابة -رضي الله عنهن- كنَّ يعلمن أنهن مخاطبات بأصول الشريعة وفروعها، كما كنَّ يتلقين العلم من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو حال الرجال من الصحابة، بل جاء الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها (أخرجه البخاري ٥٢٣٨، مسلم ٤٤٢).


مكان التعلّم للمسلمات

وأضافت، من هنا فالمسجد مكان التعلّم للمسلمات لمعرفة أحكام العبادات ابتداءً، أو الإجابة عن أسئلتهن التي كانت في غالبها عما يًشكل عليهنَّ فهمه من كتاب الله -تعالى-، أو السؤال عن فضائل الأعمال وأبواب الأجور، أو سؤالهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الموقف الشرعي في التعامل مع الفتن والحوادث، وكما قالت عائشة -رضي الله عنها-: «نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يفقهن في الدين».