تحذير الساهي اللاهي من استدراج الله


بقلم: فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط


في مقامِ البيانِ والتّذكير وإرشاد العبادِ إلى ما تطيب به حياتهم وتستقيمُ به أحوالهُم، يأتي التنبيهُ والتحذير لمن تجافَى عن طريقِ الهداية وسلَك سبيلَ العصيان والمحادّة: أنَّ ما يراه من تتابُع النعم واتِّصال المنن إنما هو نذيرٌ له بحلولِ العقوبة ونزولِ البأس ووقوعِ البلاء.



فقد أخرَج الإمامُ أحمد في مسندِه بإسنادٍ حسَن عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنَّ النبيَ [: «إذا رأيتَ اللهَ يعطِي العبدَ من الدّنيا على معاصيه ما يحِبّ فإنما هو استدراجٌ»، ثم قرأ قولَه تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 44 - 45).

وهو إخبارٌ منه سبحانه أنَّ أولئك العصاةَ لما ترَكوا العمل بما أمرَهم الله به على ألسنةِ رُسُله إعراضاً عنه وتكذيبًا به، بدَّل الله مكانَ بأسائِهم رَخاءً وسعة في العَيش وصحّة وسلامة في الأبدان استدراجًا لهم، حتى إذا فرِحوا بما فتح الله عَليهم من أبوابِ النعَم فبطِروا وأشِروا وأُعجِبوا بما عِندهم، وظنّوا أنَّ ذلك لا يفنى، وأنه دليل بيِّنٌ على كمال رِضا الله عنهم وجميلِ برِّه بهم - أتاهم سبحانه عِندها بالعذاب فجأة وهم غارّون لا يشعرون أنَّ ذلك كائنٌ حالٌّ بهم، وأنكى شيءٍ هو ما يَفجَأ المرءَ منَ البغتة؛ فكان التذكيرُ الذي ترَكوه إعراضًا وتكذيبًا وإصرارًا بمنزلةِ الآيةِ والعلامة على الاستدراجِ والإمهال، كما قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 183)، فأصبحوا آيسين من كلّ خير، منقطعةً حجَجُهم، لا يُحِيرون جوابًا لشدَّة ما نزل بهم من سوءِ الحال.

قال الحسن رحمه الله: «مَنْ وسَّعَ الله عليه فلَم يرَ أنه يُمكَر به فلا رأيَ له»، وقال قتادةُ رحمه الله: «بغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سَكرتهم وغِرَّتِهم؛ فلا تغترّوا بالله؛ فإنه لا يغترّ بالله إلا القوم الفاسقون».

وفي الآية -كما قال أهل العلم- أنَّ البأساءَ والضراءَ وما يقابِلهما من السراءِ والنعماءِ هو مما يتربى ويتهذَّب به الموفَّقون من الناس، وإلا كانت النعمُ أشدَّ وبالاً عليهم من النقَم، وهذا ثابت بالاختيار؛ إذِ الشدائدُ مصلِحةٌ للفساد، وأجدرُ الناس بالاستفادة من الحوادث المؤمِن، كما جاء في حديث صهيبٍ رضي الله عنه عن رسولِ الهدى [ أنّه قال: «عجبًا لأمرِ المؤمن، إنَّ أمرَهُ كلَّه له خير؛ إنْ أصابتهُ سرَّاءُ شكَر فكان خيرًا له، وإنْ أصابتْهُ ضرَّاءُ صبَر فكانَ خيرًا له» أخرجه مسلم في (صحيحه).

وأمّا الثناء الحسَنُ في ذلك الذي جرَى مِن نصرِ الله تعالى لرُسُله بإظهارِ حجَجِهم وتصديقِ نُذُرهم وإهلاكِ المشركين الظالمين بالعذاب المستأصِل الذي لم يغادِر منهم أحدًا وإراحةِ الخلق من شِركِهم وظُلمهم، فهو ثابتٌ حقٌّ لله ربِّ العالمين المدبِّر لأمورهم المقيم لأمرِ اجتماعهم بحكمتِه البالغة وسنَنِه العادلة؛ ففي هذا بيانٌ للواقِعِ من استحقاقِ الحمد والثناءِ لله تعالى، وفيه إرشادٌ للمؤمنين بما يتعين عليهم من حمدِه سبحانه على نصرِ عبادِه المرسَلين المصلحين وقطع دابرِ الظالمين المفسدين، وعلى حمدِه عزّ اسمه في كلِّ أمر وفي خاتمةِ كلّ عمل؛ كما قال سبحانه في حقِّ عباده المتقين: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (يونس: 10)، {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف: 99).

إنَّ فيما أوضحَه رسول الهدى [ مما يعطيه الله تعالى للعُصاةِ مِن سابِغ النعَم مع إقامتهم على العصيان واجتراحِهم السيئات إنما هو استدراج وإملاءٌ فيه تحذيرٌ وإرشاد للأمّة قاطبةً في أعقابِ الزمن يبعَث على اجتناب أسبابِ سخَط الله والسلامَة من عقوبته؛ فإنَّ أخذَه أليمٌ شديدٌ كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102)، وكما جاء في الحديثِ أنَّ النبي [ قال: «إنَّ الله عزّ وجلّ يُملِي للظالمِ -أي: يمهله، فإذا أخذَهُ لم يُفلتْه»، ثم قرأ هذه الآية. أخرجه مسلم في (صحيحه).. فاللّهمّ جنِّبنا أسبابَ غضَبك، واسلُك بنا سبيلَ مرضاتك، ووفِّقنا للاعتبارِ بعِظاتك.