{قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إن كنتم صادقين}


د. أمير الحداد


بهذه العبارة أمر الله -تعالى- رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الحجة على من زعم أن مع الله إلها آخر، ومن زعم من اليهود أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، ومن زعم من النصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، فما كان من الجميع إلا أن كُبتوا عندما طلبت منهم الحجة؛ فتبين أن كل ما ادعوه باطل وما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم - هو الحق.

- ما الآيات التي وردت فيها هذه الآية {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ}؟

كنت وصاحبي في صالة الاستقبال للرحلات القادمة بانتظار أحد المشايخ قادما من مصر، وكانت زيارتي الأولى للمطار منذ أكثر من عامين نتيجة الجائحة التي أصابت العالم كله!

- أربع آيات من كتاب الله أمر الله بها رسوله أن يلجأ إلى هذه الحجة: {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (البقرة:11). و{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} (الأنبياء:24). و{أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} (النمل:64). و{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (القصص:75). ولو تدبرنا تفسير هذه الآيات أيقنا أنها حقا كتبت وتحدت ووبخت الجميع، ولم يجدوا جوابا إلا السكوت، والاستمرار في العناد. {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111). {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنبياء:24). {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (النمل:64). {أم اتخذوا من دونه آلهة} استفهام إنكار وتوبيخ ، {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أي: حجتكم على ذلك ، ثم قال مستأنفا ، {هذا} يعني القرآن. {ذكر من معي} فيه خبر من معي على ديني ومن يتبعني إلى يوم القيامة.

{وذكر} خبر ، {من قبلي} من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة. وعن ابن عباس في رواية عطاء: ذكر من معي: القرآن ، وذكر من قبلي: التوراة والإنجيل ، ومعناه: راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدا؟ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ}. والاستفهام في {أفلا تعقلون} للتوبيخ والتقريع، أي: أفلا تعقلون أن الأمر كذلك؟ أو لا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكر؟ ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة، فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}. قيل لهم {هاتُوا بُرْهانَكُمْ} بأن رسولا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل في ذكر من معي وذكر من قبل إلا توحيد الله؟ وقيل: معنى الكلام والوعيد والتهديد، أي: افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إن كنتم صادقين}، أي: حجتكم على أن لله -سبحانه- شريكا، أو هاتوا حجتكم أن ثم صانعا يصنع كصنعه، وفي هذا تبكيت لهم، وتهكم بهم، فعند ذلك اعترفوا، وخرسوا عن إقامة البرهان، ولذا قال: {فعلموا أن الحق لله} في الإلهية وأنه وحده لا شريك له {وضل عنهم ما كانوا يفترون}، أي: غاب عنهم وبطل، وذهب ما كانوا يختلقونه من الكذب في الدنيا بأن لله شركاء يستحقون العبادة.

وقوله: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أمر بأن يجابوا بهذا؛ ولذلك فصله لأنه في سياق المحاورة كما تقدم عند قوله: {قالوا أتجعل فيها} الآية وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم حتى يعلموا أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان؛ لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده فهو اعتقاد كاذب؛ لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه، ومن باب أولى لا يكون صادقا عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده.

وفي تفسير الطاهر بن عاشور: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ} هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم {لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ}.

لقن الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن يقول: {هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أي: هاتوا دليلا على أن لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل. والبرهان: الحجة الواضحة، وتقدم في قو ه -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} {النساء:174}.

لما أظهر لرسوله أن المعاندين لا يعلمون الحق لإعراضهم عن تلقيه أقبل على رسوله -صلى الله عليه وسلم - بتأييد مقاله الذي لقنه أن يجيبهم به وهو قوله -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} (الأنبياء: ٢٤)، فأفاد تعميمه في شرائع سائر الرسل، سواء من أنزل عليه كتاب ومن لم ينزل عليه كتاب، وسواء من كان كتابه باقيا مثل موسى وعيسى وداود ومن لم يبق كتابه مثل إبراهيم. وفيها إظهار لعناية الله -تعالى- بإزالة الشرك من نفوس البشر، وقطع دابره إصلاحا لعقولهم بأن يزال منها أفظع خطل وأسخف رأي، ولم تقطع دابر الشرك شريعة كما قطعه الإسلام؛ بحيث لم يحدث الإشراك في هذه الأمة.

وفي قوله -سبحانه-: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (النمل:64).

انتقال إلى الاستدلال بتصرف الله -تعالى- بالحياة الأولى والثانية وبإعطاء المدد لدوام الحياة الأولى مدة مقدرة. وفيه تذكير بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد. والاستفهام تقريري؛ لأنهم لا ينكرون أنه يبدأ الخلق وأنه يرزقهم.


وأدمج في خلال الاستفهام قوله {ثم يعيده} لأن تسليم بدئه الخلق يلجئهم إلى فهم إمكان إعادة الخلق التي أحالوها. ولما كان إعادة الخلق محل جدل وكان إدماجها إيقاظا وتذكيرا أعيد الاستفهام في الجملة التي عطفت عليه بقوله: {ومن يرزقكم من السماء والأرض} ولأن الرزق مقارن لبدء الخلق فلو عطف على إعادة الخلق لتوهم أنه يرزق الخلق بعد الإعادة فيحسبوا أن رزقهم في الدنيا من نعم آلهتهم. وإذ قد كانوا منكرين للبعث ذيلت الآية بأمر التعجيز بالإتيان ببرهان على عدم البعث.

والأمر مستعمل في التعجيز، فهو يقتضي أنهم على الباطل فيما زعموه من الشركاء، ولما علموا عجزهم من إظهار برهان لهم في جعل الشركاء لله أيقنوا أن الحق مستحق لله -تعالى-، أي علموا علم اليقين أنهم لا حق لهم في إثبات الشركاء، وأن الحق لله؛ إذ كان ينهاهم عن الشرك على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، وأن الحق لله؛ إذ ناداهم بأمر التعجيز في قوله: {هاتُوا بُرْهانَكُمْ}.