هل يجب معرفة دين المفتي؟


أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

السؤال:

الملخص:
شاب مصاب بالوسواس، لديه مشكلة حول معرفة دين المفتي وورعه؛ إذ لا يتيسر في كل الأحوال معرفة دينه، ويسأل: هل هذا شرط في الفتوى؟
تفاصيل السؤال:
السلام عليكم.
أنا مصاب بالوسواس، ولدي مشكلة في مسألة ثقة المستفتي بالمفتي؛ حيث قرأت أنه يجب على المستفتي أن يكون واثقًا بعلم ودين المفتي الذي سيستفتيه، وموضوع الثقة في دين المفتي هو ما يؤرِّقني، فعندما أريد أن أسأل عن فتوى معينة عبر الإنترنت، فإنني أجد جهات معينة لها كثير من الأعضاء العاملين في إصدار هذه الفتوى، فمن ناحية الثقة بمنهجهم في الإفتاء وثقتي في صحة الفتوى؛ أي: من حيث إنه لا كذب فيها ولا تدليس، فإن هذا ممكن، لكن من ناحية الثقة في دينهم ووَرَعِهم، فلا أدري كيف يمكنني هذا؛ لكثرة الأعضاء، وعدم ذكر أسمائهم أو سيرتهم، وهذا الأمر يجعلني أترك فِعْلَ أشياء قرأت أنها حلال فقط؛ لأنني لم أجد إجماعًا، ومن ثَمَّ فأنا أشك في حِلِّ كثيرٍ من الأشياء، فما حكم هذا الأمر؟ فأنا لا أظنه يؤثر في صحة الفتوى؛ لأنه مع افتراض أن هذه الجهات لها أعضاء يرتكبون المعاصي، فلا أرى أن هذا سيُحدِث مشكلة في منهجية الإفتاء، وهل عملي بجواب هذا السؤال جائز؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.

ثانيًا: أحسنت في حرصك على اختيار من تستفتيه في أمر دينك، فحاجة الناس إلى العلماء أولى من حاجتهم للطعام والشراب؛ وقد قال ابن سيرين: "إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم"؛ [مقدمة مسلم: (14)].

ثالثًا: العامي يعرف أهلية المفتي بشهادة العلماء له واستفاضة ذلك وشهرته في الناس، فمن تيقن أو غلب على ظنه أنه من أهل الفتوى جاز له استفتاؤه وتقليده بما يظهر من حاله من الأمارات الدالة على علمه وورعه، كاستفاضة ذلك في الناس وشهادة العلماء له بذلك، ولا يجوز له استفتاء من غلب على ظنه أنه غير أهْلٍ أو من شك في كونه أهلًا للفتوى؛ قال الرازي: "اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن من يفتيه من أهل الاجتهاد ومن أهل الورع، وذلك إنما يكون إذا رآه منتصبًا للفتوى بمشهد الخلق، ويرى اجتماع المسلمين على سؤاله، واتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالم ولا متدين، وإنما وجب عليه ذلك؛ لأنه بمنزلة نظر المجتهد في الأمارات"؛ [المحصول: (6/ 81)].
وقال ابن النجار الحنبلي: "وَاعْتبر الشَّيْخ تَقِيُّ الدِّين، وَابْن الصَّلاح: الاستفاضة بِأَنَّهُ أهل للفتيا، وَهُوَ الرَّاجِح فِي رَوْضَة النَّوَوِيِّ وَنَقله عَن أَصْحَابهم، فَلَا يَكْتَفِي بِوَاحِد وَلَا بِاثْنَيْنِ وَلَا مُجَرَّد اعتزائه إِلَى الْعلم، وَلَو بِمنْصب تدريس أَو غَيره، وَمرَاده فِي زَمَانه، بل هُوَ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة أولَى، لِأَن الدخيل قد دخل على الْفَقِيه والمدرسين"؛ [التحبير شرح التحرير: (4/ 543)]. وقال الشيخ تقي الدين: "ولا يجوز له استفتاء من اعتزى إلى العلم، وإن انتصب في منصب التدريس أو غيره، ويجوز استفتاء من تواتر بين الناس، أو استفاض فيهم كونُهُ أهلًا للفتوى"؛ [المسودة: (ص: 464)].
رابعًا: أما عن أخذ الفتوى من المواقع التي عُرفت بالعلم وشُهِد لها بذلك، وعُرف بعض القائمين عليها ولم يعلم جميعهم - فجائزٌ أخذ الفتوى عنهم باعتبار توثيق من عُرف منهم، وبجواز أخذ الفتوى عن مستور الحال؛ وقال ابن القيم: "وفي جواز استفتاء مستور الحال وجهان، والصواب جواز استفتائه وإفتائه"؛ [إعلام الموقعين: (4/ 220].
والحاصل:
لا تفتح على نفسك باب الوسوسة، فمن اشتُهِر علمه وورعه وديانته، فلك استفتاؤه، ولا حرج عليك، ومن عَلِمَهُ العامي عالمًا بباب من أبواب العلم جاز له استفتاؤه فيه، وجاز للمسؤول أن يُفتيَ فيه وإن لم يكن عالمًا بغيره، وينبغي في هذا الزمن خاصة تحري ذوي الورع والتثبت، فإن الجرأة على الفتوى صارت أمرًا شائعًا منتشرًا، ومن كان ذا ورع ومعرفة بخطر منصب الفتوى لم يقدم على القول في مسألة إلا بعلمٍ، والله أعلم.
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz7DSJVK3NF