إذا لـم تضمـن الإصــلاح فلا تعف عمن ظلمك!


هيام الجاسم




منذ أن كنا صغارا وعندما صرنا على مشارف التدين دوما يربينا الكبار فيمن يحيطون بنا: أن سامح واعف واصفح عن كل من أخطأ في حقك!! ويجعلون السيادة الكبرى والحل الأمثل لحل مشكلتي ومشكلتك، في مسامحة من اعتدى وظلم وبغى، ولو رفضت مسامحته وعزمت على رد الإساءة بمثلها بل ورفعت يدك بالدعاء عليه اتهموك بأنك مبالغ ومفرط في خصومتك، ولربما وصموك بالقسوة بل أقلها أحوالا أنهم حتما يلومونك ويتحاملون عليك أنك لست من العافين عن الناس !!

لذا فهاجس كثير من المحافظين أن لو عزمت نفوسهم على رد الإساءة بمثلها فإنهم يسرون ذلك في أنفسهم ولا يبدونها لصحبهم؛ لأنهم حتما سيلامون ويعاتبون!!

عزيزي القارئ، نحن قد تغافلنا وسهونا عن فقه عجيب في ديننا، وعندما جهلناه وتعامينا عنه شددنا على أنفسنا وضيقنا على غيرنا من عباد الله، كثير من المحافظين ممن ينشد المثالية لا الواقعية في التعامل مع مستجدات معتركهم مع الآخرين ظنوا أن الأصل في التعاطي مع ظلم الظالمين وخطأ المخطئين هو العفو والتجاوز والصفح، بينما في ديننا فقه عجيب أصّله لنا شرع ربنا في الآيات والأحاديث، بل إن لعلمائنا وقفات معه يكيلون فقه العفو بمكياله الشرعي الواقعي الذي يتلاءم وينسجم مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها دونما حموضة زائدة ولا تشدد في امتثال ضروب الكمال فوق طاقة العباد؛ فربنا عز وجل في محكم كتابه يقول في موضع المدح:{ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} وفي آية أخرى: { وأن تعفو أقرب للتقوى}وقال أيضا: {وليعفوا وليصفحوا}، بلا شك نحن نوقن بهذا بل وأكثر منه حينما حثنا ربنا على أن ندفع بالتي هي أحسن: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}، نعم عزيزي القارئ كل ذلك حق من عند ربنا ولكن أريدك أن تهضم فقه المسألة كما هضمها وفقهها علماؤنا وأسلافنا الأفاضل، يقول الشيخ محمد بن العثيمين رحمه الله تعالى في كتابه «مكارم الأخلاق» بعد أن ذكر بعض آيات في العفو: «هل نفهم من هذا أن العفو عن الجاني محمود مطلقا ومأمور فيه ؟ قد يفهم البعض من الآية هذا الكلام، ولكن ليكن معلوما أن العفو إنما يحمد إذا كان العفو أحمد؛ فإن كان الأخذ أحمد فالأخذ أحمد؛ ولهذا قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين} فجعل العفو مقرونا بالإصلاح.

فالعفو قد يمكن أن يكون غير إصلاح، فقد يكون هذا الذي جنى عليك واجترأ عليك رجلا شريرا معروفا بالشر والفساد، فلو عفوت عنه لتمادى في شره وفساده، فالأفضل في هذا المقام أن تأخذ هذا الرجل بجريمته؛ لأن في ذلك إصلاحا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : الإصلاح واجب، والعفو مندوب، فإذا كان في العفو فوات الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوبا على واجب، وهذا لا تأتي به الشريعة، وصدق رحمه الله» انتهى النقل لكلام شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى وجزاه عنا خير الجزاء، فقه عجيب وقول سديد، وهذا هو منطق قوة المؤمن في دينه، يعرف متى يصفح ومتى يمتنع عن الصفح، لا انتقاما لنفسه وإنما حماية لها من جور الجائرين، ويقول شيخنا أيضا في كتابه: «فالعفو عند المقدرة من مكارم الأخلاق لكن بشرط أن يكون العفو إصلاحا؛ فإن تضمن العفو إساءة، فإنه لا يندب إلى ذلك؛ لأن الله اشترط فقال: {فمن عفا وأصلح} أي كان عفوه إصلاحا، أما من كان عفوه هذا سببا للإساءة فهنا نقول: لا تعف ! مثل أن يعفو عن مجرم، ويكون عفوه هذا سببا لاستمرار هذا المجرم في إجرامه، فترك العفو هنا أفضل وربما يجب ترك العفو حينئذ» وأيضا انتهى النقل لكلامه الذهبي رحمه الله تعالى.

أعتقد عزيزي القارئ أنك أدركت الآن مقصودي من عنوان مقالتي أن لا تصفح وتعفو إلا بعد التأكد من أن عفوك يدفع المخطئ دفعا لإصلاح حاله وألا يكرر خطأه تباعا معك أو مع غيرك، فيلزمك الحد واللجم من آذاه، ألم تدرك في حياتك أناسا يخافون وما يستحون؟! اللجم يؤدبهم أيّما تأديب ويحسبون لك حسابا أن لست بعاجز عندما سكت عنهم مرات سابقة وأنك قادر على أذاهم ولكن بإرادتك عفوت عنهم، كل هذه الرسائل وأقوى منها ستصل حتما للمؤذين لك لو أنك قررت ألا تعفو عنهم؛ لأنهم لا يستحق العفو إن كان الظالم لا يريد إصلاحا بل متعته في التمادي في أذاك وأذى غيرك.


عزيزي القارئ، هذا الذي نكتب عنه ينطبق على الكل والجميع في مناحي حياتنا داخل البيوت والأسر وفي الوظائف وعلاقات التناسب مع العوائل وحتى مع الأصدقاء والجيران.