الحبشة والعالم الإسلامي .. عداوة قديمة
شريف عبد العزيز - المفكرة


الحبشة أو أثيوبيا تمثل تجسيدًا حقيقيًّا وتاريخًا كبيرًا ومتجذرًا في عداوة العالم الإسلامي، على الرغم من كونها المركز الثاني في الأرض الذي وصلت إليه دعوة الإسلام، عندما هاجر إليها عدد من الصحابة الهجرتين الأولى والثانية، في شهر رجب من العام الخامس للنبوة، حيث هبطوا في مدينة "مصوع"، وأحسن النجاشي استقبالهم وصدقهم، ثم آمن النجاشي بالإسلام واختلف مع بطارقته وقساوسته الذين أضمروا الحقد والحسد على المسلمين والإسلام، وأصبح هذا الحقد والبغضاء ميراث الكنيسة الحبشية التي يحرص القساوسة والرهبان الأحباش على نقله وتوريثه من جيل إلى آخر، ويتضخم عبر العصور ويزداد مع الزمان، وتشحنه الأحداث، فكلما حقق المسلمون انتصارًا وفتحوا بلدًا، ازدادت عداوة الأحباش وتأججت نار أحقادهم ضد المسلمين.
فعندما تقدم المسلمون في أرض الروم وانتصروا عليهم في مواطن كثيرة، تحركت الأحقاد الحبشية وتربصوا بالمسلمين الدوائر وانتهزوا فرصة ثورة ابن الأشعث بأرض العراق سنة 83هـ، وشجعت الكنيسة الحبشية بعض القراصنة الأحباش على الإغارة على جدة؛ فقاموا بالسطو عليها وتدمير السفن الراسية بالميناء، وقتلوا كل من استطاعوا قتله، ولاذوا بالفرار تحت جنح الظلام، فرد الخليفة عبد الملك بن مروان بإرسال حملة استولت على جزر "دهلك" في البحر الأحمر وجعلتها قاعدة لها وأقامت فيها حامية لرد أي عدوان حبشي، فارتدع الأحباش ولم يقفوا في وجه التجارة الإسلامية في القرن الإفريقي.
ولم ينتهِ القرن الهجري الأول حتى بنى المسلمون مدينة "هرر"، والتي غدت مركزًا إسلاميًّا مستقلاًّ تمامًا عن الحبشة، وظلت "هرر" مستقلة عن سلطان الأمهرية الحبشية حتى سنة 1314هـ (1896م)، وقامت "هرر" بدور بارز في نشر الإسلام في القرن الإفريقي خاصة في إريتريا التي أصبحت إسلامية بالكامل في بداية الخلافة العباسية، وخضعت إريتريا للخلافة العباسية وعُرفت باسم إقليم "باضع"، وهاجر إليها الكثير من المسلمين العرب. وتأسست مملكة إسلامية صغيرة في شرق إقليم "شوا" عرفت باسم السلطنة المخزومية، وذلك سنة 283هـ؛ فانتشر الإسلام في أقاليم الحبشة.
ورد الأحباش على هذا المد الإسلامي الجارف في بلادهم بالاضطهاد والتنكيل والتقتيل لمسلمي الحبشة، ومن شدة الاضطهاد استنجد مسلمو الحبشة بالسلطان أحمد بن طولون في القرن الثالث الهجري، وطلب بطريرك مصر من بطريرك الحبشة الكف عن أذى المسلمين، غير أن إمبراطور الحبشة ازداد في حربه على المسلمين وهدَّد بقطع مياه نهر النيل إنْ فكر ابن طولون في نجدة مسلمي الحبشة. أي أن فكرة قطع مياه النيل ليست وليدة اليوم، إنما هي إرث الكنيسة الحبشية، و"كارت" الإرهاب الذي ترفعه أثيوبيا في وجه مصر منذ أكثر من ألف سنة.
أثيوبيا ومحور الشر
وفي القرن العاشر ظهرت القوة البرتغالية البحرية ونجح البرتغاليون في الدوران حول إفريقيا، وهددوا جنوب الجزيرة العربية وهاجموا الموانئ في الخليج العربي والبحر الأحمر وانتصروا على المماليك، واستولوا على مدينة زيلع الإسلامية وأحرقوها، فأرسلت ملكة الحبشة "إلينى" برسالة تهنئة وتناصر لملك البرتغال "عمانوئيل"، وهي رسالة تفيض بالحقد والكراهية على الإسلام والمسلمين، وفيها تعرض "إلينى" خدماتها على عمانوئيل، ولأهمية هذه الرسالة أذكرها بنصها:
"السلام على عمانوئيل سيد البحر وقاهر المسلمين القساة الكفرة، تحياتي إليكم ودعواتي لكم، لقد وصل إلى مسامعنا أن سلطان مصر جهز جيشًا ضخمًا ليضرب قواتكم ويثأر من الهزائم التي ألحقها به قوادكم في الهند، ونحن على استعداد لمقاومة هجمات الكفرة بإرسال أكبر عدد من جنودنا إلى البحر الأحمر وإلى مكة أو جزيرة باب المندب، وإذا أردتم نسيرها إلى جدة أو الطور؛ وذلك لنقضي قضاءً تامًّا على جرثومة الكفر. ولعله قد آن الوقت لتحقيق النبوءة القائلة بظهور ملك نصراني يستطيع في وقت قصير أن يبيد الأمم الإسلامية المتبربرة، ولما كانت ممتلكاتنا متوغلة في الداخل، وبعيدة عن البحر الذي ليس لنا فيه قوة أو سلطان، فإن الاتفاق معكم ضروري؛ إذ إنكم أهل بأس شديد في الحروب البحرية".
وبالفعل احتلت الحبشة مملكة "عدل" سنة 927هـ، وشعر العثمانيون وقتها بخطورة التهديدات الحبشية وخطورة الحلف الصليبي بين البرتغال والحبشة، فأسس العثمانيون قاعدة عسكرية بحرية كبيرة في مدينة "زيلع"، فقويت عزائم المسلمين واستعادوا مملكة "عدل"، واستعادت الممالك الإسلامية مجدها واتسعت مملكة "عدل" حتى شملت الصومال والدناقل وهرر، وأوشكت الهضبة على السقوط، فاستغاثت الكنيسة الحبشية ببابا روما وعرضت عليه التبعية والخضوع لسلطانه، ولكن مع الاحتفاظ بالمذهب الأرثوذكسي وذلك سنة 942هـ، فأرسل البابا جيشًا صليبيًّا بقيادة كريستوفر دي جاما (ابن فاسكو دي جاما الملاح الصليبي الشهير).
غير أن هذا الجيش الصليبي هُزم شر هزيمة أمام جيش سلطنة "عدل" وقُتل قائده، واستطاع الإمام أحمد بن إبراهيم سلطان "عدل" أن يفتح إقليم تجرة سنة 945هـ، وأوشكت مملكة الحبشة على السقوط، فأرسلت البرتغال قوات ضخمة لنجدة الأحباش، وجرت معركة رهيبة بين الطرفين عند بحيرة "تانا" في قلب الحبشة سنة 952هـ، استشهد فيها أحمد بن إبراهيم وهُزم جيشه، فرد مسلمو هرر بالهجوم على الحبشة سنة 967هـ وقتلوا ملك الحبشة.
أثيوبيا اليوم .. محاربة الإسلام والمسلمين
هذا عن محور الشر القديم، أما في الحديث فقد كان لأثيوبيا محور آخر التحقت به، ففي مطلع الثمانينيات من القرن الماضي وقف وزير الدفاع الأمريكي "روبرت ماكنمارا" في مجلس النواب الأمريكي ليعرض تقريرًا خطيرًا أمام لجنة القوات المسلحة التابعة لمجلس النواب، كانت أهم فقرة فيه ما يلي: "إن مصالح أمتنا في القارة الإفريقية مركزها أثيوبيا". وكانت أمريكا تعمل دائمًا لإبراز أهمية أثيوبيا في القارة الإفريقية؛ كي تستطيع تنفيذ سياستها الاستعمارية من وراء ذلك، وقد سعت كثيرًا وضغطت أكثر وأنفقت أموالاً ضخمة؛ حتى تكون أديس أبابا مركز منظمة الوحدة الإفريقية.
وعلى امتداد التعاون الوثيق بين أمريكا وأثيوبيا، تعاون الكيان اليهودي الغاصب مع الأحباش تعاونًا قويًّا متينًا, واعتبرت أثيوبيا نفسها دولة اليهود في إفريقيا، وقامت بتهجير يهود الحبشة المعروفين بالفلاشا بأعداد ضخمة إلى دولة الكيان الصهيوني؛ لإحداث توازن ديموغرافي بين اليهود والفلسطينيين. وفي المقابل انهالت المعونات المالية والعسكرية والتقنية اليهودية على الحبشة، وتدفق الخبراء العسكريون اليهود على الحبشة، وأقاموا معسكرات تدريب للأحباش على حرب العصابات للعمل ضد المقاومة الإسلامية في إريتريا والأوجادين، حتى بلغ عدد العسكريين اليهود في الحبشة ثلاثة آلاف خبير عسكري يعملون في مختلف القطاعات، وباشروا القتال الفعلي ضد مسلمي إريتريا والأوجادين وهرر.
ولكي نفهم الرابط الذي يجمع كل هؤلاء الأعداء الرئيسيين للعالم الإسلامي، لا بُدَّ من فهم الأيدلوجية التي تسيطر على عقولهم؛ فالأحباش والأمريكان واليهود تجمعهم أيدلوجية واحدة، تسيطر على عقولهم، وتحكم قراراتهم وتوجهاتهم، هذه الأيدلوجية تقوم على فكرة مزج عقائد الصليبية الأرثوذكسية والبروتستانتية الأصولية مع الصهيونية المتطرفة؛ لتمثل في النهاية أسوأ العقائد والأيدلوجيات الدينية، والتي تنتهج مبدأ عداوة الإسلام والمسلمين ومحاربتهم، وهذا المبدأ هو ركيزة هذه الأيدلوجية والمحرك الرئيسي، وبالتالي الموجِّه العام لسياسات هذه الدول الثلاث التي تمثل محور الشر في القرن الإفريقي.