فتح الكريم الواسع فى مسألة اختلاف المطالع
ان الحمد لله .. نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وأشهد ان لا اله الا الله
وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى أل محمد آما صليت على
ابراهيم وعلى أل ابراهيم انك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى أل محمد آما بارآت على
ابراهيم وعلى أل ابراهيم انك حميد مجيد.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))آل عمران : 102
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كثِيراً
وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ آَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا))ً النساء : 1
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) الأحزاب : 71
أما بعد فان أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وأله وسلم، وشر
الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار
وبعد.. فان مسألة اختلاف المطالع هى من المسائل التى دار الجدال حولها فى كل أعصار تلك الأمة
وأمصارها ولا يزال ولا يتوقف..
والحق أن فى هذه المسألة خلاف معتبر عند أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين لا ينكره الا
مكابر..
ففريق يقر باختلاف المطالع، ولا يجد فيه حرجا.. وفريق ينكره ويتمسك بتوحيد الرؤية فى الصيام
كما فى الحج سواءا بسواء..
وهذا أمر مطرد بين أهل العلم.. ولا ينكر بعضهم على بعض فيه.. فقد جعل الله فيه سعة للمسلمين
بفصله ورحمته.. والحمد لله رب العالمين
غير أن من الطلبة والمتعلمين ونحوهم من لا يعترف بذلك الخلاف أصلا.. ربما لجهل بوجوده، أو
لتحيز لرأى دون رأى، فلا يتعامل معه وفقا لفقه الخلاف فى القضايا الفرعية.. فيندفع وراء مشاعر
الغربة بالدين، ومشاعر النقمة على ولاة الأمور، ومشاعر الحرص على توحيد صفوف المسلمين،
يدفعه ذلك كله الى التعصب الشديد للقول بتوحيد الرؤية فى الصوم والفطر، حتى انه لتثور الشجور
والجدالات والخلافات والمشاحنات والفتن فى كل عام فى مطلع رمضان فى كل بلاد المسلمين،
وعلى أيدى أناس هم من أشد المسلمين التزاما، الدعاة منهم وطلبة العلم سواءا بسواء.. ولا حول
ولا قوة الا بالله!
وبداية وقبل أن أكتب فى تلك القضية الشائكة، لابد أولا من أن نؤصل أصلا فى غاية الأهمية.. ألا
وهو أصل الولاء والبراء عند الخلاف. فالأصل أن الولاء والبراء انما يكون فى المسائل الأصلية،
المعلومة من الدين بالضرورة والتى عليها اجماع المسلمين.. أما القضايا الفرعية ففيها تفصيل،
فالمسائل التى اختلف أئمة الفقه الأعلام فى مذاهبهم الفقهية فى استنباط الحكم من الأدلة فيها،
فالأمر فيها ولله الحمد واسع.. فان عمل المسلم بقول مرجوح عندنا أو في مذهبنا، فاننا لا نبرأ منه ولا نبغضه أبدا.. وان شئنا فلنناقشه، فلعله على فقه واجتهاد فى تلك المسألة، ولعله يتبع فيها اماما مجتهدا.. فما دام الأمر لم يخالف اجماعا (وهو ثالث مصدر للتلقى عندنا)، فالأمر واسع والخلاف سائغ ولا ينكر صاحب قول على الذاهب الى القول المخالف.
وان المرأ ليجزع والله ويؤلمه أن يرى تفرقا بين الاخوة الملتزمين وطلبة العلم يقع بسبب أمثال
تلك المسائل التي لا يسوغ التخطيء والتبديع والاتهام للمخالف فيها ما دام قائلا بما له فيه دليل وسلف.. وليس أدل على تلك الظاهرة المرضية الخطيرة بين شباب الصحوة، مما يقع في كل عام
فى أخر بضعة أيام من شعبان.. والله المستعان.
وأقول ان هذه الأمور وان دلت على شئ فانما تدل على قلة فقه بقضايا هى من الأصول كقضية
الولاء والبراء، مع حماسة وحمية عمياء، تسبب فيها الشعور المتزايد بالنقص والانهزام والشتات
والغربة فى ديار المسلمين. وكثير من مبتدئة طلبة العلم – وكاتب هذا الكلام من أدناهم علما ومنزلة - فيهم ما فيهم من آثار الجاهلية ورواسبها، مع ما أوتوا من الورع والديانة وتلمس سبل الطلب.. نسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية.. فلربما رأيتهم يتحيزون لما يوافق هواهم من الاجتهادات العلمية من حيث لا يشعرون، مع قصورهم عن الترجيح العلمي المنضبط.. ويسعون الى إلزام المخالفين بمواقفهم من المسائل على أنها حقائق ثابتة يقينية! مع أنهم فيما يذهبون اليه أكثرهم يقلدون في الحقيقة ويختارون من بين الأقوال لا بقوة الاستدلال وانما بشهادة الحال فيمن يفتي بهذا ومن يفتي بذاك.. ومع ذلك تراهم يتهمون الآخذين بقول من الأقوال المخالفة لهم اتهاما مسبقا، ربما لموافقة ذلك القول لهوى بعض أولياء الأمور أو ما الى ذلك، فاذا بهم ينتصرون للقول لا لشيء الا لكونه مخالفا لما قبله أتباع الهوى المشهورين بذلك، وعليه بعض مشايخهم الذين يقلدونهم!! فلا تراهم الا يفرون من اتباع الهوى الى اتباع الهوى المخالف من حيث لا يشعرون!
والقضايا العلمية لا يحكم فيها بالهوى أو العواطف أو الانفعالات..أو ردود الأفعال.. وانما يحكم فيها بالأدلة والاستنباط والنظر المنضبط.. وما خرجت بدعة فى تاريخ الدين الا وكان وراءها عاطفة جوفاء تخلو من العلم القويم ولا تقوم الا على فهم عليل سقيم.. وسواءا كان صاحب البدعة يريد الحق ويتوهمه فيما يتأول من الدين وفيما يبتدع، أو كان مبطلا ماكرا متآمرا على المسلمين يتعمد اضلالهم، ففى جميع الأحوال فان بدعته لا تصير فرقة يلتف من حولها الناس ينسلون وينخلعون من جماعة المسلمين اليها، الا بسبب العاطفة الجوفاء ونواقص النفوس والجهل المبين..
وعلى الرغم من أننا لسنا بصدد الكلام فى هذه الرسالة الموجزة عن بدعة فى الدين، أو مناظرة
المبتدعين، وانما نحن بصدد مناقشة ما فقهه بعض اخواننا فى مسألة شرعية فرعية خلافية، الا أننى آثرت أن أضرب المثل في هذه المقدمة بانشقاق أصحاب البدع عن جمهور المسلمين ومشايعتهم لأهل بدعتهم، على ما يقع بين شباب الملتزمين فى تلك القضية وغيرها من القضايا الخلافية، لما لمسته من تشابه بين الأمرين عند كثير من الأخوة الملتزمين.. فهذا ناقوس الخطر أبدأ هذه الرسالة بدقه ليفيق هؤلاء.
ومن هنا فانى أبدأ والله المستعان باعلان أنى أرى رجحان القول باعتبار اختلاف المطالع.. والله
تعالى أعلى وأعلم بالصواب..
وأقول أنى قد تعضد عندى ذلك الظن بموجب ما اطلعت عليه من أدلة فى المسألة ومن اجتهادات
علمية فيها.
وللبيان أقول أن الأمر عند كثير من القائلين بوحدة الرؤية، أنهم لا يقولون بذلك فحسب وانما
يحددونه ويربطونه ربطا عجيبا بمكة بالذات.. فلا اعتبار عند كثير منهم بأى رؤية تقع فى أى مكان
على البسيطة الا رؤية أهل مكة دون غيرها! ولهم مع الأدلة أقوال واستنباطات نعرض لها فيما بعد ان شاء الله..
وقبل أن أتناول الأدلة وما ذهب القوم اليه فى فهمها، أقول أن القائلين بوحدة الرؤية والمدافعين
عنها، ومع ما أحسبه فيهم من صدق فى ارادة الوحدة للمسلمين، الا أنهم فى الحقيقة لا يزيدون
الناس الا فرقة وشتاتا من حيث لا يشعرون!
ذلك أنك بدلا من أن ترى أمة فيها دول كاملة بكل قراها ومدنها وبيوتها، تصوم كل دولة منها على
رؤية غير رؤية أختها، وتنحصر تلك الفرقة التى يكرهونها فى اطار دول وبلاد كاملة داخل حيز
الأمة الكبير، فانك بما يذهب اليه هؤلاء، ترى الفرقة –قد وصلت الى حد أن البيت الواحد فى المدينة الواحدة فى البلد الواحد قد تجد فيه رجلين يتبع أحدهما رؤية البلد ويتبع الأخر رؤية مكة وربما يتبع ثالث فى نفس البيت، رؤية أخرى نما الى علمه أنها كانت سابقة عليهما! وأنبه الى أن هذه الحال وحتى مع وقوعها، فاني لا أسميها فرقة الا ان قام عليها ما يفرق بين المسلمين من الأقوال والأفعال، - وهو ما يكون من كثير من اخواننا بحسن نية وبكل أسف - أما مجرد الاختلاف في المذهب الفقهي فليس بفرقة!!
فالسؤال هنا هو:
كيف ساغ لهم التصور بأن مذهبهم فى تلك المسألة يعالج الفرقة التي يتصورونها ويقضى عليها والحال هكذا؟ ان أهل البلد الواحد فى صيامهم على رؤية ثابتة عندهم، انما هم متوحدون مجتمعون فى الحقيقة على تلك الرؤية وان خالف اجتماعهم هذا اجتماع أهل بلد أخرى بعدت أو قربت.. وهم بذلك يوافقون قوله صلى الله عليه وأله وسلم "صومكم يوم تصومون وفطرآم يوم تفطرون" أى مع
الجماعة كما فهمه أهل العلم.. أما ذهاب الذاهبين الى الائتمام برؤية مكة دون غيرها أو برؤية بلد
أخر وان خالفوا بذلك صوم كافة المسلمين الذين يعيشون في وسطهم، ثم اصرارهم على ذلك،
واخفاؤهم له وكأنهم يخفون دينا غير الدين،وما يجري فوق ذلك من مواقف عجيبة من كثيرين منهم، وابطالهم لصوم وفطر أهليهم في بيوتهم وتشديدهم في ذلك على جهالتهم، انما هو ما يرزع الفتنة ويغرس الفرقة والتخبط بين الناس، وليس السبب هو أخذ كل بلد برؤيتها المستقلة كما يظنون!
وبئس الفتنة تلك أن يرى بعض العامة واحدا من الاخوة الملتزمين أو من الدعاة أو طلبة العلم
الموثوقين، مفطرا مثلا فى نهار رمضان، لأنه ليس رمضان عنده أو عند شيخه! أو أن يروه قد
تخلف عن التراويح أو امتنع عن الصلاة بالناس كما كان عهدهم به لذات السبب، وهو بينهم الداعية المفوه الحكيم، الداعى الى فضائل الأعمال والحاث عليها!
فان سألته قال لك "اتبع الحق لا تضيرك قلة السالكين ولا تغتر بكثرة الهالكين"!!.. وتسمع كلاما
من نحو ذلك فاذا به يكاد يهلك أمة كاملة بلسانه من حيث لا يشعر، وفى قضية هى أصلا محل
خلاف ونزاع علمى معتبر بين العلماء!!
اننا لا ننكر ما قد نبتلى به من الفتن من جراء اتباع الحق ونبذ الهوى وصد الناس عن سبل
الشيطان والمخالفات وانكار المنكر عليهم.. هذا أمر لا نمارى فيه ونسأل الله أن يثبتنا عليه.. ولكن
هل هذه القضية التى بين أيدينا هى قضية حكم قطعى يقينى وولاء وبراء وكذا؟ هل هى من قضايا الحق والباطل الذي اما أن ينجو به صاحبه موافقا للاجماع واما أن يهلك، والتى تستلزم المخالفة فيها الصبر على الأذى وعلى آل ما قد يقع من الفتن من جراء ذلك؟!
وان ناقشت أحدهم قال لك، هذه مسألة صيام وفطر فى فريضة هى من أركان الاسلام.. فلا يعقل أن
يكون فيها خلاف! قلت ومن الذى قال أنه لا يعقل أن يكون فيها خلاف؟ أليست الصلاة والتى هى
عمود الدين، قد ساغ الخلاف بين أهل العلم فى بعض المسائل الفرعية فيها، حتى في فاتحة الكتاب التي يعدها من يعدها من أركان الصلاة، ولا يراها غيره كذلك؟ هل ينكر بعضنا على بعض فى هذا؟ ان الخلاف فى هذه المسألة انما هو من جنس ذلك الخلاف.. ليس فى أصول الفريضة وانما فى فرع منها.. لسنا نختلف فى وجوب صوم رمضان مثلا، أو فى أنه يصام لرؤية الهلال دون غيرها، أو أن مدة الصوم هى من وقت الفجر الى الغروب..
وكما أن النازل على يديه والنازل على ركبتيهفي الصلاة كل منهما نرجو أن تكون صلاته صحيحة، فان الصائم على رؤية بلده أو على رؤية أول بلد تثبت فيه الرؤية، فكلاهما صام لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته أيضا ونرجو من الله أن يكون كلاهما صومه صحيحا أيضا.. فلم يقع من أى من الفريقين مخالفة لنص أو لاجماع.. فسواءا أعتبرت باختلاف المطالع أو لم تعتبر فالأمر قد وسع الله فيه علينا ولله الحمد، كما وسع فى كثير من الأمور..
مسألة مسافة القصر
يعترض أصحاب القول بوحدة الرؤية على مسألة اعتبار اختلاف المطالع بقضية خلافية أخرى
نشأت فى المسألة وهى قضية المسافة التى ينفصل بها بلد عن البلد الأخر وعلاقتها "بمسافة
القصر" وغير ذلك.. وهى مسألة لا يلزم من الخلاف فيها الطعن فى رجحان القول باعتبار اختلاف
المطالع.
فان القائل منهم يقول أن القول باختلاف المطالع بين البلاد انما يلزم منه وقوع اضطراب عند الحد
الفاصل بين تلك البلاد.. فلا يعلم الناس أين تنتهى بلد وتبدأ الأخرى وما هى حقيقة الحدود
الجغرافية وما علاقتها بتعيين الحكم الشرعى، ومن وقف عند ذلك الحد، وخلا شهر شعبان، فبأى
رؤية لهلال رمضان يعمل؟ ومعلوم أن الحدود بين البلدان لا ترتسم على الأرض رسما بخطوط
فاصلة، وأن ذلك انما هو من مصائب الاستعمار وما أحدثه فى بلاد المسلمين من تقسيم وتشتيت..
ويجاب عن هذا والله أعلم بأن البلد فى العادة انما تتميز بقرية أم، وقرى تابعة لها متصلة بها..
والناس يعرفون نهاية القرية بانتهاء أخر مسكن من مساكنها، وبداية الأخرى ببداية ظهور
مساكنها.. أو بغير ذلك مما يتعارفون عليه، وكل منهم يعد نفسه واحدا من أهل قرية يعلم حدها واهلها.. ولم تكن تتميز القرى فى القديم بالحدود المرسومة على الأرض ونحو ذلك.. ونحن نميز
أننا دخلنا فى قرية من القرى بعد مسافة من السفر غالبا، اذا ما بدأت مساكنها تظهر أمامنا، ودخلنا فى وسط بيوت أهلها ومبانيهم.. ولو كان لهم سور وباب وولجنا من ذلك الباب فنحن حينئذ فى المدينة أو داخل القرية.. والمسألة على كل حال انما مدارها العرف.. فما تعارف الناس على أنه نهاية المدينة أو البلد فهو نهاية البلد.. فلا داعى للتكلف فى ذلك الأمر فوق ما يحتمله، سيما وأنه لن
يحدث أن يقف رجل فوق خط من تلك الحدود المرسومة المحدثة فى زماننا، يضع أحد قدميه فى بلد
والقدم الأخر فى بلد أخرى ثم يتساءل عن أى الرؤيتين يصوم ويفطر!!
وقضية الحدود هذه لا اعتبار بها لمن هو فى داخل مساكن البلد وبين أهلها.. ويعتبر حالا فيها.. ولا
فرق بالنسبة له بين بعد البلد المجاورة أو قربها فى تمييز ذلك الأمر.. والأمر مرده الى ولى الأمر
الشرعى فى كل الأحوال، وأهل كل بلدة يعلمون من هو ولى الأمر الشرعى فيهم.. فلا يخرجون
عليه ولا يسوغ لهم ذلك.. والمسألة خلافية من الأصل، والمسائل الخلافية يتبع فيها حكم القاضى
الشرعى أو ولى الأمر الشرعى ولا يلتفت معه الى غيره..
فالأمر كما يظهر وان كان فيه خلاف، فان الخلاف فيه لا يلزم منه ترجيح أو رد قول القائلين
باعتبار اختلاف المطالع بين البلاد.. والله أعلم بالصواب.
علة الحكم باقرار الفريقين على عملهما فى حديث كريب
وقد ذهب البعض من المتأخرين والمعاصرين الى أنه فيما مضى انما كان يصعب ابلاغ الناس
بالرؤية حال ظهورها فى بلد من البلدان لأهل البلاد الأخرى.. أما اليوم فبوجود أجهزة الاتصال
صار الأمر سهلا ميسورا للغاية، ولا حاجة للاعتبار باختلاف المطالع ولا للكلام فى قضية المسافة
ولا غيرها.. ونجيب بأن ذلك مداره النظر فى علة القائلين بالاعتبار باختلاف المطالع..
والحديث الحجة عند أصحاب القول باعتبار اختلاف المطالع انما هو حديث كريب فى صحيح مسلم
وغيره والذى جاء فيه، عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته الى معاوية بالشام، قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة فى أخر الشهر..
فسألنى عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما عن ذكر الهلال، قال: متى رأيتم الهلال، فقلت: رأيناه
يوم الجمعة.. فقال أأنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكننا رأيناه
ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه.. فقلت: أولا تكتفى برؤية معاوية وصيامه؟
قال: لا.. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم" أهـ.
ولا يظهر من حديث كريب للمتأمل (وهو حجة القول باعتبار اختلاف المطالع) أن العلة فى اختلاف
ما ذهب اليه كل من كريب فى قومه وابن عباس فى قومه هى تعذر بلوغ خبر رؤية أى من
الفريقين الى الفريق الأخر.. وليس فى أدلة هذا الباب ما يشير الى ذلك المعنى أو الى غيره من
العلل التى اجتهد بعض أهل العلم فى استنباطها..
فلا يسوغ قول القائل بأنه بما أننا صار عندنا تليفونات وصارت تبلغنا أخبار الرؤية من أقصى
الأرض الى أدناها من فور ثبوتها، فاننا ما عاد لنا اليوم حاجة فى أن يكتفى أهل كل بلد من بلادنا برؤيته! ذلك أنه لم يقم دليل صحيح على أن تعذر بلوغ الخبر بالرؤية هو العلة فى الأمر.. والعجيب أن كثيرا من اخواننا القائلين بهذا الكلام، والمعولين على المحمول والاتصالات في ذلك والقائلين بأن العلة كانت تعذر ذلك، تراهم ومع ذلك يتمسكون برفض الحساب الفلكي جملة وتفصيلا. مع أن هذا القائل بلعة تعذر نقل الخبر يلزمه أن يقبل كلام القائلين بأن اختراع الأقمار الصناعية صار اليوم يمكننا من التأكد بكل دقة من يوم الميلاد الفعلى للهلال ويمكننا من رؤية صورته بمنتهى الوضوح والجلاء، فيغنينا عن رؤيته بالعين المجردة! وهذا كلام لا نقبله لأن النص صريح فى أن الرؤية الملزمة بالصوم والفطر انما هى الرؤية العينية الطبيعية ولا دليل على جواز استبدال الحسابات الفلكية أو الأقمار الصناعية بها.. بل ان النبى صلى الله عليه وأله وسلم ثبت عنه أنه قال "انا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، والشهر عندنا هكذا وهكذا.." فكيف ينكرون على هؤلاء كلامهم في طرح الرؤية الى الحساب، مع كون هذا هو مذهبهم فى علة الاعتبار باختلاف المطالع؟ انهم يريدون تعطيل الاعتبار باختلاف المطالع لوجود اختراع التليفونات، وهؤلاء يريدون
تعطيله وتعطيل الرؤية العينية معه لوجود اختراع القمر الصناعى! فهذه العلة كتلك مع زيادة عند أصحاب الحساب!
وابن عباس فى الحديث قد بلغه أن معاوية وأهل الشام رأوا الهلال فى ليلة الجمعة، فى حين أن ابن
عباس وأهل المدينة رأوه فى ليلة السبت.. فلو كان الحكم المستقر عند ابن عباس مؤداه أن الرؤية
الأسبق هى الأولى أينما كانت، كما يذهب عامة أنصار مذهب توحيد الرؤية، لأقر ابن عباس كريبا
على رؤيته (لأنها كانت أسبق ومن ثقات عدول) ولأوجب على أهل المدينة جميعا أن يقضوا ليلة الجمعة التى أفطروا فيها.. ولكنه لم يفعل، ولما سأله كريب "أولا تكتفى برؤية معاوية وصيامه" قال "لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم" ويكون وجه قوله "هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم" هو الاقرار لفعل كل من أهل الشام وأهل المدينة سواءا بسواء، وأن كلاهما يجزئ أهله وأنه سائغ مقبول..
فالعلة ليست المشقة أو بعد المسافة أو تعذر بلوغ الخبر وانما العلة الظاهرة هى أن النبى أمر بذلك
ولم يأمر بخلافه.. ولو جاءنا تفصيل أمر النبى بنص مرفوع اليه صلى الله عليه وأله وسلم لعلمنا
العلة وأجريناها بلا خلاف، ولكن قضت حكمة الله ألا يصلنا فى ذلك الأمر لفظ عن النبى صلى الله
عليه وأله وسلم.. فلا تظهر لنا علة بعينها لثبوت كل منهما على ما ذهب اليه أهل البلد الذى كان
فيه سوى أن ذاك هو موجب أمر النبى.. ولو كان الحق خلاف ذلك لألزم ابن عباس كريبا بالرجوع
الى معاوية وابلاغه بأنه قد صام يوما زائدا لأن الرؤية ما كانت قد ظهرت فى المدينة بعد، أو للزم
ابن عباس الاكتفاء برؤية معاوية والعمل بها وهو ما يوجب عليه وعلى أهل المدينة حينئذ قضاء
يوم فاتهم من رمضان.. ولكن لم يحدث هذا ولا ذاك.. ولم ينكر أى منهما على الأخر.. ويلزم أي منهما الآخر بما كان من رؤية بلده، مع أن الأمر خطير للغاية، فهو يتعلق فى الحقيقة بصوم أهل بلد كامل وثبوت صحته من فساده.. فلا يمكن أن يسكت ابن عباس عن أمر كهذا لو علم فيه مخالفة لأمر النبى صلى الله عليه وأله وسلم.. والحاصل أنه رضى الله عنه انما بين أن استقرار وبقاء كل منهما على رؤية بلده انما هو عين ما أمر به النبى صلى الله عليه وأله وسلم..
ولا أرى اعتبارا بقول الذين ذهبوا الى أن قوله "هكذا أمرنا" أراد به ابن عباس الاشارة الى قوله
السابق "لا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه" لأن تلك المسألة بعينها ليست هى مدار الحديث
أصلا وليست هى ما استعلم عنه كريب بالسؤال من البداية.. بل هى زيادة أضافها ابن عباس
تفصيلا منه ومزيد بيان.. أما القول بأن مراده رضى الله عنه كان قصر أمر النبى على ذلك المعنى
فهو تكلف لأمر ينتفى بالبداهة..
فلو أنك قلت لى مثلا: الى أين أنت ذاهب الليلة، فقلت لك الى بيت زيد، فقلت لى وأين هو بيت زيد،
فقلت لك هو فى طريق كذا، فسألتنى عن الطريق فبينت لك أن لى فيه حاجة، ثم قلت لى ألا تذهب
من طريق كذا بدلا منه؟ فقلت لك، لا، انما هكذا أريد.. أتفهم من هذا الكلام أن مرادى بقولى "هكذا
أريد" هو الذهاب الى بيت زيد؟ أم أنه ارادتى لقضاء حاجة فى الطريق المعين الذى وقع عليه
اختيارى؟ الصحيح لا هذا فحسب ولا ذاك فحسب.. وانما الصحيح أنى أريد أولا معارضة اقتراحك
الأخير على بأن أخذ طريقا أخر، لأنى انما أريد طريقا بعينه لحاجة لى فيه، ليكون سبيلى لزيارة
بيت زيد، فلا يصلح لى العمل باقتراحك بسلوك طريق آخر اليه. هكذا يتوجه فهم كلامى..
فالحاصل أن الكلام واضح فى أنه لما سأله "أولا تكتفى برؤية معاوية"، قال له لا، أى أنه لا
يكتفى، وأشار بأن موقفه هذا، مع ما فصله فيه من قبل، انما هو ما أمر به النبى صلى الله عليه
وأله وسلم، فليس يسوغ صرف هذا الكلام الأخير على تلك الجزئية الدقيقة بعينها دون غيرها بلا قرينة ظاهرة، وليست تلك الجزئية هى مادة النزاع في الكلام أصلا، وانما هى مشتمل عليها ضمنا.. فالظاهر المفهوم هو أن الرسول صلى الله عليه وأله وسلم أمر ابن عباس – أولا – بألا يكتفى برؤية تأتيه من بلد غير البلد التى هو فيها، وانما يعمل بما رأى أهل بلده، فيصوم معهم يوم يصومون حتى يروا هلال شوال والا أتموا ثلاثين يوما.. والله أعلى وأعلم
ولا أرى أيضا الاعتبار بقول بعضهم أن ابن عباس رضى الله عنه كان فى تلك المسألة مجتهدا،
فهو لم يقل "هكذا أرى" أو "هكذا أظن" مثلا وانما قال "هكذا أمرنا" وهى كلمة تعنى بكل
وضوح أن ما عمل به ابن عباس وما حكم به فى الأمر لم يكن من باب الاجتهاد الخاص به وانما
هو من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولا أحسب أن صحابيا حبرا عظيما كابن عباس رضى الله عنهما ما كان يحسن فى كلامه بيان الفرق بين ما هو ظن منه واجتهاد وما هو أمر صريح من النبى صلى الله عليه وأله وسلم، أو أنه قد يطلق معنى الأمر الملزم على ما هو اجتهاد منه فى الحقيقة.. كما أنه لا عبرة بقول من قالوا أنه رضى الله عنه كان يفهم – مستقلا بذلك الفهم - كلام النبى صلى الله عليه وأله وسلم فى قوله "صوموا لرؤيته" على أنه خطاب لأهل المحل دون غيرهم، وأن هذا هو سبب ذلك الحكم منه، وأنه كان بذلك مخالفا لمراد النبى صلى الله عليه وأله وسلم.. فكلامه كان في بيان أن الأمر ليس لازما فيه أن يأخذ أهل بلدة برؤية غيرهم.. ولا أظن ابن عباس رضى الله عنه يتهاون فى تحمل تبعة افطار أهل بلد كامل فى يوم من أيام رمضان، على
أساس من اجتهاده هو، اذ يجعله فى محل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. هذا أمر بعيد
للغاية..
وقد ذهب بعض العلماء الى الكلام فى لفظة الاستفهام "أولا" وأنه لو كان هذا هو مراد ابن عباس
لكان من الأحرى أن يرد بقوله "لا.. ما هكذا أمرنا رسول الله" بدلا من "لا.. هكذا أمرنا..". وسواءا
كان الحديث ب"ما" أو بغيرها فان المعنى لا يخرج عن القول بأن النبى لم يأمرنا بالاكتفاء برؤية
بلد أخرى.. لأن ابن عباس رد ردا صريحا بقوله "لا".. غير أنه يكون فى تلك الحالة (يعنى لو قال
ما هكذا أمرنا) أقل بلاغة من قوله "هكذا أمرنا".. لأن قوله "هكذا أمرنا" انما يغطى بعمومه ما بينه قبل السؤال الأخير أيضا من أنه يلزمهم ان لم يروا الهلال أن يكملوا العدة ثلاثين يوما.. فهى بيان جامع لأن أمر النبى يشمل حقيقة أنه لا يكتفى برؤية بلد أخر، بالاضافة الى حقيقة أنه عليهم أن يصوموا حتى رؤية الهلال الجديد أو يكملوا صيامهم ثلاثين يوما ان غم عليهم ولم يروه.. كلتا الحقيقتين معا.. فكأنه يقول "كل ما بينت لك من قبل فهو أمر النبى صلى الله عليه وسلم".. أما لو قال "ما هكذا" لكان الأقرب الى الذهن أنه يجيب بالنفى على السؤال الأخير فقط فينفى أن يكون النبى قد أمر بالاكتفاء برؤية بلد غير بلد المحل، ولكنه لا يدخل حينئذ فى ذلك المعنى ما كان من التفصيل الذى ذكره قبل ذلك.. ولا يبين دخول ذلك القول فى أمر النبى صلى الله عليه وأله وسلم.. فالمعنى الذى اختاره ابن عباس رضى الله عنه، أشمل وأوضح لمن أراد استخراج أمر النبى صلى الله عليه وأله وسلم المشار اليه من جملة ما قاله ابن عباس فى الحديث من الأقوال.. والله تعالى أعلى وأعلم..
والخلاصة أنه قد التزم ابن عباس رضى الله عنه برؤية أهل المدينة ولم يلزم كريبا وأهل الشام
بها، ولم يخضع ابن عباس لما عمل به كريب فى الشام مع معاوية ولم يلزم أهل المدينة به أيضا..
ولم ينكر أحدهما على الأخر.. بل صرح ابن عباس بأن هذا هو أمر رسول الله صلى الله عليه وأله
وسلم.. وهو دليل واضح لكل ذى نظر، على أن النبى صلى الله عليه وأله وسلم كان يقر باختلاف
المطالع فى رؤية الهلال ولم يكن يلزم بلدا برؤية بلد أخر..
حديث الأعرابى
ويذهب أصحاب القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع الى الاستدلال بحديث الأعرابى:
قال سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما، تمارى الناس فى رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم اليوم وقال بعضهم غدا..
فجاء أعرابى الى النبى صلى الله عليه وأله وسلم فذكر أنه رآه.. فقال النبى صلى الله عليه وأله
وسلم: "أتشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله؟" قال: نعم.. فأمر النبى بلالا فنادى فى
الناس: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا ولا تصوموا
قبله يوما."
وهذا الحديث قد استدل به القائلون بأن رؤية الفرد الواحد المسلم تلزم الناس بالصوم.. وهم
جمهور أهل العلم. وخلافنا هنا ليس فى هذا المعنى وانما هو في دائرة الشمول التى يدخل فيها
المخاطبون فى كل حالة.. فكل الناس مأمورون بالصوم لرؤيته، ولكن الخلاف هو فيما اذا كانت
الرؤية الواحدة فى مكان بعينه تلزم الأمة كلها من أولها الى أخرها أو غير ذلك.. ولا دليل في
الحديث على تقوية مذهب الذين لا يعتبرون باختلاف المطالع، لأن الذين يعتبرون به لا يخالفون
ذلك الأمر النبوي، وكل من الفريقين قد صام لرؤيته وأفطر لرؤيته، وبهذا جرى عمل الأمة في سائر الأمصار والأعصار من لدن القرون الأولى الى يوم الناس هذا، ولم يخرج من يحرج عليهم امر صومهم بسبب اختلاف الرؤى فيما بينهم.. ولعله مما يلفت النظر أن راوي هذا الحديث هو ابن عباس نفسه، رضي الله عنهما، ومذهبه معلوم في هذا من حديث كريب آنف الذكر، فكيف يكون مذهبه بخلاف ما يروي؟ هذا أمر بعيد!
حديث صومكم يوم تصومون
عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم قال: صومكم يوم تصومون وأضحاكم يوم
تضحون
قال أصحاب القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع أن الخطاب فى تلك الرواية موجه الى جماعة
المسلمين العامة، أى الأمة كلها.. وقال الأخرون أنه موجه الى من سمع الخبر بالرؤية وبلغه أمرها
بلا اعتبار لمسافة أو غيره، وقال أخرون أنه فى حق كل جماعة من المسلمين فى البلد التى هم
حالون فيها، فالفرق حينئذ انما هو فى مفهوم الجماعة التى تخاطب فى ذلك الحديث.. والحديث
بظاهره يمكن أن يصح معه أى من تلك المعانى.. وليس فيه ما يمنع حمله على أى منها.. فالحديث
دليل على وجوب أن يلزم المسلم الجماعة التى هو فيها بالصوم، وأن تكون الجماعة متوافقة على
موعد صومها، يصومون معا ويفطرون معا . ذلك أنهم جميعا قد صاموا لرؤيته.. فهذا المعنى
مستقر بالحديث.. أما التفصيل فى كون الجماعة المخاطبة بالحديث فى عدة بلدان متفرقة، كل بلد
برؤيته التى يلتزم بها الناس فيها، أو كونها الجماعة العامة للمسلمين جميعا بحيث يلزم جميع
البلدان رؤية واحدة، فهذا لا يقوم بالحديث فرق فيه ولا بيان.. والله أعلم
بل ان الحديث يظهر منه حجة على الذين يتفرقون في البلد الواحد بل وفى البيت الواحد ليصوم
بعضهم مع مكة أو مع غيرها ويصوم بعضهم مع بلدهم.. فهذا انما هو مسلك مخالف لما يوصى به
هذا الحديث الشريف، وهو أن يلزم الناس الجماعة ولا يخالفوها.. فالواقع المتحقق فى زماننا اليوم
أن المسلمين فى دول بل ودويلات متفرقة لا يحكمهم ولي امر واحد واحد، ولا حول ولا قوة الا بالله.. ولكل من تلك الدول رؤية يصوم الناس عليها..(وهذا أمر بعمومه لا جديد فيه في الأمة!) فان كانت الأولى نكرههاونذمها (أعنى حقيقة الفرقة فى دويلات متفرقة بدون خليفة وامام تجتمع عليه الأمة كلها) فان الثانية مسألة قد وسع الشارع فيها (أعنى مسألة أن يصوم كل من تلك
القرى والبلدان على حسب رؤيته).. وقد وقع العمل بها فى الأمة بطول تاريخها وعرضه.. بل وقعت حتى فى ظل الخليفة الواحد الذى كان له الحق فى أن يلزم جميع أقطار الأمة برؤية واحدة.. فكيف تكون الاستجابة لأمر النبى صلى الله عليه وسلم والحال هكذا، الا بأن يلزم كل أهل جماعة "بلد" جماعتهم يصومون معها ويفطرون معها؟
ان المتأمل بهدوء وروية وتجرد من الهوى والهوى المضاد سيرى أنه من مصلحة المسلمين فى تلك الظروف التى نعيشها أن يلزموا أدنى وأخف الضررين "ان فرضنا تنزلا كون الاعتبار باختلاف المطالع ضررا وسببا للفرقة كما يدعون، وقد جعلوه كذلك حقا، هداهم الله" فيجعلوا الأمة فى صومها دولاوشعوبا كبيرة تختلف فيما بينها فى صومها وليس بيوتا بل وأفراد لأسرة واحدة
يختلفون فى صومهم فيما بينهم! فبالله أيهما أشد فرقة واختلافا يا أولى الألباب؟
قد وسع الله عليكم من أمركم فلماذا تحتظرون واسعا؟؟
الذين يوجبون الصيام مع أهل مكة
هذه طائفة من العلماء زادت على القول بتوحيد الرؤية قولهم بلزوم أن تكون تلك الرؤية الموحدة
هى رؤية مكة دون غيرها من البلدان. وهذا فى الحقيقة انما هو قول ضعيف لا تقوم لهم عليه حجة
كما نبين فيما يلى ان شاء الله تعالى..
فقد استدلوا بجملة من الأدلة لعل أشهرها هو قوله تعالى:
((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) البقرة : 189
قالوا، ان الله تعالى أشار بقوله ((والحج)) بعد قوله ((مواقيت للناس)) تخصيصا بعد العموم لا لشئ الا لبيان أن مكان الحج هو المكان المتصل بالتوقيت الزمانى أو أو أن التوقيت الزمانى – بالأهلة –
مرتبط بمكان واحد وهو مكان الحج لذلك فقد وجب على جميع البلاد موافقتها فيما تعمل به من
المواقيت!
والحق أن هذا التأويل يخرج بالنص عن ظاهره ويحمله من المعانى فوق ما يتحمل.. ولا يمكن أن
يؤخذ حكم خطير كحكم قصر الرؤية باطلاقها على ديار الحج "مكة" دون غيرها، من مجرد تأويل
بعيد كهذا!
فلو أراد الله عز وجل هذا المعنى لبينه بلفظه، أو لأوحى به الى نبيه صلى الله عليه وأله
وسلم بلفظ واضح صريح.. ولكن لا يوجد فى القرءان ولا فى السنة شئ بهذا المعنى.
وقوله سبحانه مواقيت للناس والحج انما هو من باب عطف الخاص على العام لتفرد الخاص بشئ
يميزه. فالحج يزيد كميقات زمانى على سائر مواقيت الناس بخاصية أنه مرتبط مكانيا بأرض الحج
أرض المناسك.. فكل من أراد الحج فيلزمه الأخذ بمواقيت بلاد الحج المكانية والزمانية على حد
سواء.. وهذا فرق جوهرى بين ميقات الحج وسائر المواقيت الأخرى التى خلق الله الأهلة من
أجلها كما تبين الأية الكريمة، لذلك والله أعلم جاء التخصيص بعد العموم.
أما ذهابهم الى أن هذا التخصيص هو للاشارة الى أن مواقيت بلاد الحج هى مواقيت ملزمة لكل
الناس فى كل شئ، ولا يصح لهم صوم الا بمواقيتها، فهذا حكم شرعى لا يصح الا بدليل ظاهر، ولا نرى ذلك الدليل فى هذه الأية الكريمة..
والدليل الثانى الذى يذهب اليه أصحاب ذلك القول، هو فى قوله صلى الله عليه وأله وسلم "الصوم
يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون"
قال بعضهم أن ذلك الحديث انما كان فى حجة الوداع.. والله أعلم بصحة هذا الكلام.. وعلى أي حال
فانه حتى وان صح قولهم بذلك فهو لا يثبت ما بنوه عليه من استنباط. فقد بنوا على ذلك قولهم
بأنه ما دام الحديث كان خطابا من الرسول صلى الله عليه وأله وسلم الى الناس فى حجة الوداع،
فانه لما قال "يوم تصومون" و"يوم تفطرون" انما كان يخاطب بذلك أهل مكة على أرض الحج
تخصيصا، يأمر سائر الناس أن يأتموا بهم فى ذلك، بمعنى أن ينبنى الحكم فى كافة الأمة بالصوم
والفطر بناءا على صوم أهل مكة وفطرهم على وجه التخصيص. وهذا القول انما يزيد على مادة
الخلاف فى المسألة وجها أخر أشد بعدا وأشد غرابة. فالخلاف أصلا انما كان فى الخطاب بتلك
الأحاديث هل هو موجه لكل جماعة من الناس يعيشون فى بلد من البلدان يرون فيها الهلال، أم هو
موجه للأمة كلها مجتمعة فى أول رؤية تقع فى أى مكان. أما الذهاب بذلك الخطاب الى مثل هذا
التخصيص والقول بأن المراد منه انما هو حمل الأمة كلها على الائتمام برؤية أهل مكة دون غيرها
فهذه رمية بعيدة للغاية..
وان سلمنا بأن الحديث كان فى حجة الوداع حقا، فأين الصارف الذى يصرف لفظ الحديث الى
التخصيص دون العموم؟ ما القرينة التى تخبر بأن المراد هو أن يقول للناس جميعا بأن صوم أهل
مكة هو الصوم للناس جميعا وفطرهم هو الفطر للناس جميعا في كل مكان؟ لابد من وجود قرائن تبين للمتلقى كون الخطاب موجها لجماعة دون جماعة أو موجها لعموم الناس، والا انهارت كثير من أحكام الدين. فقوله صلى الله عليه وأله وسلم مثلا "أصحابى أصحابى" فى حديث الحوض لا يمكن حمله على تخصيص صحابته، فالذين ذهبوا الى ذلك التأويل قد تجاهلوا روايات لذلك الحديث يفهم منها أن المراد هو عامة المسلمين من الأمة، والذين يدخلون كلهم فى معنى "انك لا تدرى ما أحدثوا من بعدك".. كما أن القرءان والسنة تملؤهما الأدلة على عدالة الصحابة وعلى رضى الله عنهم ووعدهم بالجنة، فكل تلك القرائن انما دلت على استحالة أن ينصرف المراد بذلك اللفظ الى أن
يكون هو صحابة النبى صلى الله عليه وأله وسلم كما يزعم الرافضة ومن شايعهم.
وفى حالتنا هذه، فان هذه الرواية وان كانت لا تظهر فيها قرينة تخصيص أو تعميم، فان حديث
كريب كما سنبين، يقوم دليلا على خلاف ما يذهبون اليه فى تأويل المخاطب هنا.. وقد جاءت
روايات أخرى لهذا الحديث منها ما جاء بلفظ "صوموا يوم يصوم الناس وأفطروا يوم يفطر
الناس".. ولفظ "صومكم يوم تصومون.." ونحوه، فأين الدليل فى أى من تلك الألفاظ على أن المراد
هو الزام كافة الناس جميعا بصوم أهل مكة وفطرهم دون غيرهم؟
بل انه يظهر للمتأمل الفرق بين رواية أبى هريرة بلفظ "صومكم" والرواية عنه أيضا بلفظ"الصوم"
فى أن الأخيرة والتى استند اليها القوم فى مذهبهم وان كانت قد توحى بالاطلاق فى معنى الصوم،
أى أن كل الصوم على كل الناس انما هو يوم تصومون أنتم يا أهل مكة (كما فهموا منها) فان
الرواية الأولى الصحيحة عن أبى هريرة أيضا انما يظهر منها ما قد يحمل على خلاف ذلك المعنى
الذى توهموه، اذ أنها توحى بالتخصيص فى الخطاب وليس بالتعميم والاطلاق.. فلعله كان يريد
تخصيص أهل مكة برؤية مكة دون أن يلزم بها غيرهم.. وكذا تقرير معنى اجتماع كل جماعة
من المسلمين على رؤية واحدة يصومون لها فيكون صومهم جميعا باجتماعهم عليها..
وسواء كانت هذه الرواية أو تلك، فانه لا يقوم بأى منها دليل على تخصيص أو تعميم!
ثم ان سلمنا لكم القول بأن المخاطب هو أهل مكة بالذات وأن ذلك الحديث كان فى حجة الوداع،
فكيف نميز فى بقية أحاديث حجة الوداع، بل وفى غيرها من الأحاديث، بين ما كان المخاطبون به
هم أهل مكة تحديدا وما كان موجها لعموم المسلمين فى كل مكان وزمان، بغير قرينة ظاهرة على
ذلك؟ ذلك أنه لو قلتم أن هذا اللفظ "الصوم يوم تصومون" موجه لأهل مكة بالذات، فما جوابكم على
من يذهب بكل الأحاديث التى جاءت فى حجة الوداع بما فيها من أوامر ونواهى ومواعظ الى
تخصيص أهل مكة بها دون غيرهم، كقوله مثلا "ألا ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام
كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا"؟؟ ألم يكن المخاطب هنا هو أهل مكة أيضا؟ فان
قلتم أن الخطاب فى حديث الباب كان موجها الى أهل مكة خصوصا قلنا لكم فاثبتوا لنا اذا أن هذا
الحديث من أحاديث حجة الوداع لم يكن موجها الى أهل مكة خصوصا فى يوم عرفة خصوصا أيضا وانما كان موجها لعموم الأمة جمعاء.
لعل هذا هو غاية ما يستند اليه القوم من أدلة فى هذا الحكم.. والحق أن أمرا خطيرا كهذا، يرتبط به
صحة صيام المسلمين فى سائر أقطار الأمة، ما كان الشارع ليتركه عرضة للوهم والترجيح البعيد الشاذ بهذه الصورة.. وما كان ليدعه غامضا ملتبسا يوؤخذ الحكم فيه بالتوهم والظن.. فما كان أسهل من أن يصرح صلى الله عليه وأله وسلم بقوله "الصوم يوم يصوم أهل مكة" مثلا أو "صوموا لرؤيته بمكة" أو نحو ذلك.. ولكنه لم يكن منه شئ من ذلك صلى الله عليه وأله وسلم. بل انه قد دل حديث كريب على أن صوم أهل الشام مع معاوية كان صحيحا، وكذلك صوم أهل المدينة مع
ابن عباس كان صحيحا أيضا، كل منهم يعمل برؤيته ولا ينكر أى منهم على الأخر.. ولو كان الصوم لا يصح الا مع مكة كما يقولون، لانهار حديث كريب ولكان دليلا على كذب ابن عباس أو على جهله بمسألة على هذا القدر من العظم والخطورة! فسواءا كان يقصد بقوله "لا، هكذا أمرنا" أن يقر أهل المدينة على رؤيتهم دون رؤية أهل الشام أو كان يقصد أن يقر كلا من البلدتين على رؤيتهما، فذلك كله مخالف لزعمهم هنا بأن الصوم لا يكون الا مع أهل مكة! لأنه لو كان كذلك، لكان كلام ابن عباس فاسدا على كل الأحوال، ولكان زعمه أن هذا هو أمر رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم رجما بالغيب وكذبا عليه! تنزه رضى الله عنه عن الوقوع فى مثل هذا.
ثم اننا نقول لأصحاب هذا القول، لنفرض أننا أخذنا بالقول بعدم اعتبار اختلاف المطالع، وكان
المسلمون جميعا فى كل البلدان تحت امام وخليفة واحد.. ثم جاءت سنة من السنوات ثبتت فيها
الرؤية عند جماعة من المسلمين فى اندونيسيا مثلا، قبل ثبوتها فى مكة.. فهل يحكم الامام حينئذ
عليهم بأن يهملوا تلك الرؤية، وأن يمكثوا لا يصومون حتى تثبت الرؤية فى مكة ليصوموا معها؟
هذا القول انما يلزم منه أن يهمل رؤية صادقة قد وقعت وثبتت بشهادة العدول عند جماعة من المسلمين. فهو بذلك انما يأمرهم بمخالفة قول النبى صلى الله عليه وأله وسلم "صوموا لرؤيته".. فهم قد رأوه يقينا ودخلوا بذلك فى حكم الحديث. فان قلتم أنه لا اعتبار برؤيتهم على الاطلاق، والرؤية هنا انما كان المراد بها الرؤية فى مكة دون غيرها، وكل ما سوى ذلك فى أى مكان فليس برؤية، قلنا لكم قدموا لنا الدليل الظاهر على ذلك.. بل الأدلة تهدم كلامكم.. وان قلتم أنه لا يعقل أن يظهر الهلال فى بلد غير مكة فى يوم ولا يظهر فيها فى نفس اليوم، قلنا لكم بل هو واقع حسا وبالمشاهدة، وقد يغم على قوم فلا يرونه فى يوم ثم يرونه فى اليوم الذى يليه.. والأمر مبناه فى الحكم انما هو وقوع الرؤية العينية للهلال بالعين المجردة (أو بالمنظار)، وليس الميلاد الفعلى الفلكى للهلال.. فيدخل فى تلك الرؤية بذلك عوامل كثيرة منها كروية الأرض ومنها حالة الجو من سحاب وغيم وغيره.. فمن رأى ذلك كله وتأمله تبينت له حكمة المولى عز وجل فى التوسعة على المسلمين فى ذلك الأمر..
وختاما..
فان الحاصل من كل ما تقدم أن مسألة اعتبار اختلاف المطالع فى الرؤية من عدمه انما هى مسألة
خلافية، الخلاف فيها سائغ معتبر ولله الحمد، ولا حجة لمن يقول بغير ذلك. والقول المختار هنا انما
هو القول باعتبار اختلاف المطالع، والله أعلم بالصواب. ولا حجة كما بينا لمن ذهب الى الزام
المسلمين جميعا برؤية مكة دون غيرها.. فنحن ان أخذنا بعدم اعتبار اختلاف المطالع، فانه يلزمنا
حينئذ أن نعمل بأول رؤية صادقة تثبت عند أى جماعة من المسلمين فى أى مكان فى الأرض، وأن
نلزم بها سائر المسلمين فى كل مكان من فورهم،- مع ما في ذلك من عنت وفتنة حتى مع توافر الأقمار الصناعية وسبل الاتصال - ما دامت قد تحققت فيها شروط الرؤية الصحيحة، ولا نلتفت لأية رؤية أخرى تقع فى أى مكان بعد ذلك سواءا فى ذلك مكة أو غيرها!!
أما قول الذين يتكلمون فى قضية الوحدة والفرقة ونحو ذلك، فانى أريد أن أجترئ فى هذا المقام
طلبا للحق وبيانا له وأتساءل وأقول، ما الضرر الشرعى أو الدنيوى الذى يلحق بالمسلمين فى حال
تفرق كل دولة من دولهم على اختلاف فى يوم أو يومين فى أول رمضان أو فى أخره، لاختلاف
الرؤية بينهم (وهو الحال في طول التاريخ وعرضه)؟ ما العلة وما الاشكال في ذلك، وما الذي يحول دون كون هؤلاء المختلفين جميعا مصيبين للعبادة المفروضة عليهم بلا شبهة فساد؟
ان البعض قد يتصور أنه لا يعقل الا أن يكون أول يوم فى رمضان يوما واحدا فى كل بلاد
المسلمين.، بسبب مسألة مولد القمر وكونه يوما واحدا بحسابات الفلك لا يعقل أن يتعدد! ونقول نعم هو يوم واحد، ولكن تاملوا كيف أن الشرع علق الصوم على رؤيته وليس على ميلاده! وهذه مسألة دقيقة تسبب ضيق الفهم فيها في تخبط كبير بين كثير من الفقهاء وأهل الفلك، في ضوابط قبول كلام الفلكيين من عدمه وكذا.. ونقول قد أغنانا الله عن هذا كله يا عباد الله! فالمناط في التكليف هو ((لرؤيته)) وليس "لمولده" أو "لاستقامته مع الشمس في الفضاء" مثلا!!! والأدلة متوافرة على أن الأمر يسير، أيسر بكثير من هذا الذي عقده اخواننا من حسابات ومن جعل الحسابات قرينة على الصدق والكذب، وغير ذلك.. وان كان مجرد جعلها قرينة تكذيب فيه نظر، وقد وقع فيه خلاف معتبر، الا أنه أيضا أمر زائد على مناط التشريع!! فالنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الأعرابي، لم يلجئ الصحابة لسؤال الفلكيين وأهل الحساب، عما اذا كان يثبت عندهم بالحساب أن الهلال قد ولد بالفعل أم لا!! بل أنكر مسألة الحساب وقال نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب! ولو أن اخواننا حملوا هذا القول على أنه مراده منه أن العلة كانت الجهل وعدم العلم وقد ارتفعت تلك العلة، قلنا لهم بل الحساب الفلكي كان موجودا من زمان الصحابة رضي الله عنهم، ومع ذلك لم نجدهم يوقفون الشاهد ويتوقفون في قبول شهادته حتى يسألوا أهل الحساب أولا!! هذا تعنت وتكلف ما أنزل الله به من سلطان!!
فالذين يقولون كيف نختلف في الصيام مع أن القمر يولد فلكيا في يوم واحد صرنا نعلمه بدقة ونراه بالقمر الصناعي وكذا.. قلنا لهم القمر الصناعي ليس رؤية عين، وليس مدار التكليف على مولده الحقيقي القطعي، وانما على النظر العيني وغلبة الظن به.. فيا اخوان.. الله يسر عليكم فلماذا تريدون التعنت والتعسير؟؟
فالحاصل أن هذا التصور غير صحيح، فالأهلة انما وكل الله العمل بها – من لدن القرون الأولى - لرؤية الناس بأعينهم.. وليس لحساباتهم أو لأقمارهم الصناعية أو لغيرها!
فما دام الأمر قد حمل على الرؤية واختلف العلماء خلافا معتبرا فى حكم الاعتبار باختلاف المطالع
من بلد الى أخرى، فلا ضرر شرعى يقع من وجود بلدتين تصوم كل منهما لرؤية غير التى تصوم
الأخرى لها..
والبعض قد يقول بأنه ما دام يوم عرفة واحدا فلابد أن يكون أول رمضان واحدا أيضا.. قلنا لا، لا
يلزم ذلك ولا تلازم أصلا!.. لا يلزم عقلا من كون بلاد المسلمين تجتمع بالضرورة على رؤية ذى الحجة فى مكة وتتوحد وجوبا على يوم عرفة هناك، أن يقاس على ذلك كل الأهلة وكل المواقيت! فكما قدمنا ليس الحج كغيره من المواقيت.. وهذا هو تأويل تخصيص الله له فى أية الأهلة كما بينا.. فما الضير فى أن يكون هناك توحد فى رؤية الحج بين البلدان واختلاف بينها فى رؤية رمضان وشوال؟ أم أن التصور الفلكى الكونى هو الذى يدفعهم الى ذلك؟ الشهر فى الشريعة انما يبدأ برؤية الهلال لا بميلاد الهلال، وهذا فرق جوهرىأكرر التأكيد عليه وأقول أنه لابد أن نستصحبه فى دراسة ذلك الأمر حتى لا نقع في تصور علة باطلة نعلق عليها الحكم!
وقد يقول قائلهم أن ليلة القدر والتى تتنزل الملائكة والروح فيها انما هى ليلة واحدة فى الكون كله،
فكيف يختلف الناس فى الرؤية وهى ليلة واحدة يقينا؟ قلنا وما المشكلة فى ذلك؟ أليس الذى أخبرنا
بتلك الليلة وما يكون فيها فى الغيب، وما فيها من فضل لمن أصابها من المسلمين، هو سبحانه
الذى أوحى لنبيه بما أوحى اليه فى أمر الرؤية والأهلة؟
لقد اقتضت حكمة المولى عز وجل اخفاء تلك الليلة عن المسلمين لحكم شتى لا يعلمها الا الله..
فلعل من تلك الحكم أن يتسع الأمر لهم فى مسألة اختلاف المطالع كما هو الحال، وكما كان عليه
عمل المسلمين منذ الصدر الأول الى اليوم. فلو جزم النبى بأن ليلة القدر هى ليلة السابع والعشرين
مثلا، للزم لاصابتها ألا يكون هناك نزاع فى مسألة اعتبار اختلاف المطالع فى رؤية الهلال بين العلماء، ولكان لزاما على الأمة كلها أن تعمل برؤية واحدة فى كل سنة تكون هى الحق الكونى الذى يوافق العد الذى يجعل ليلة القدر تصيب يوم السابع والعشرين تحديدا عند كل المسلمين فى كل مكان..
.. فلو أن دولتين من بلاد المسليمن رأت احداهما الهلال فى يوم، والأخرى فى اليوم الذى
يليه، وكان راسخا عندنا بالدليل أن ليلة القدر هى ليلة السابع والعشرين تحديدا مثلا، فعلى قول أى
منهما تكون ليلة القدر حقيقة، وليلة السابع والعشرين أصلا ليست واحدة عند الجميع، مع كونهم جميعا هؤلاء وهؤلاء قد صاموا لرؤيته وتحروا ذلك؟
والحمد لله فقد أخفى الله تعيينها عنا، وقد تكاثرت النصوص الدالة على تحريها فى الليالى العشر
الأخارى. من تلك النصوص ما جاء فى الليالى الوترية تحديدا ومنها ما صح فى تحريها فى ليالى
بعينها، ومنها ما جاء يعد الليالى الوترية من أخر الشهر، وهو ما يجعلها ان عدت من أول الشهر
تكون فى الليالى الشفعية وليست الوترية.. والأمر فى ذلك واسع كما هو معلوم، وحاصله أنها قد
تكون فى أى ليلة من ليالى العشر الأواخر من رمضان.. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في الأيام العشر كلها ولا يفرق.. فمن اجتهد فى الليالى العشر جميعا
يتحراها ويطلب من الله بصدق أن يصيبه أجرها، فانه يصيبها باذن الله تعالى.
ولن يحرم الله عبدا بذل كل ما فى وسعه لتحريها في تلك العشر، صادقا مخلصا لله عز وجل، من
أن يصيبه الأجر بذلك، سواءا كانت الليلة بحسب رؤيته ليلة وترية أو شفعية.. فهى ليلة واحدة عند
الله ولكنها عند المسلمين قد تختلف بينهمفي عدها بحسب عدهم لليالى وفقا للرؤية التى يعملون بها.. وليس فى ذلك من بأس.. ولا فيه ما يوحي ببطلان القول باختلاف الرؤى.. والله أعلم
وقد نص جماعة من السلف على أن ليلة القدر تتنقل، بمعنى أنه لا يلزم أن تكون كل سنة فى نفس
الليلة، وهو أمر يتناسب مع حكمة الله تعالى فى جعل مطالع الرؤية تختلف بين بلدان المسلمين،
وجعل الامر واسعا فى ذلك كما تقرر.
فلا تقوم ولله الحمد أية شبهة عقلية كما بينا، تتعارض مع العمل باختلاف المطالع فى رؤية الأهلة..
فضلا عن الشبهات الشرعية..
فما الذى يثير حفيظة وحمية أنصار توحيد الرؤية الى هذا الحد العجيب بسبب ذلك الأمر، حتى يصل بهم الغلو الى تسفيه أصحاب القول الأخر، ووصمهم بالجهالة أحيانا والعمالة والخيانة أحيانا
أخرى؟! ألم يصم كل منهم ثلاثين يوما؟ ألم يصم كل منهم لرؤية الهلال كما أمر رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم ويفطر لرؤيته؟ ألم يصم كل منهم يوم صام القوم من حوله (الجماعة التى هو حال فيها)، وأفطر يوم أفطروا كما أمر صلى الله عليه وأله وسلم؟ ألم يلتزم كل منهم برؤية رجل مسلم أو اثنين أو أكثر صام الناس عليها كما فعل عليه السلام وصحابته؟ ألم يعتكف كل منهم العشر الأخارى من الشهر وتحرى ليلة القدر التى لا يعلم تعيينها الا الله؟ فما المشكلة وما الضرر الشرعى فى ذلك؟ ام ان الكلام لا تدفعه الا المشاعر المجردة من الفقه الصحيح؟
ثم ما النفع – الشرعى أيضا - الذى يتحقق للمسلمين لو صامت كل بلدان المسلمين من أقصى
الأرض الى أدناها فى نفس اليوم؟ للمسألة أحكام منضبطة فى كل الأحوال، فما النفع الذى قد يزيد
وما الضرر الذى قد يقع؟
يصل الأمر الى أن يقول البعض من اخوتنا سامحهم الله أن البيت الأبيض فى أمريكا انما يتصل بحكام بعض بلاد المسلمين ليملى عليهم متى تكون رؤية هؤلاء ومتى تكون رؤية هؤلاء حتى تتأصل "الفرقة" بين البلاد! اي والله الى هذا الحد!! فانا لله وانا اليه راجعون! هذا كلام مهزومين جهلاء، ولا يقوم الجزم به الا بدليل قطعى، ولا يؤخذ في مثله برواج الاشاعات والأحاديث منزوعة
السند والبرهان! ليس من مذهبنا معاشر أهل السنة اتباع الاشاعات بغير دليل!
ثم يا معاشر العقلاء، ما حاجة الأمريكان وغيرهم من أعدائنا فى أن يصوم كل بلد من بلاد
المسلمين فى يوم غير الذى يصوم فيه أهل البلد الأخر؟ وهل كانت أمريكا هى السبب فى وقوع ذلك
الأمر أيضا فى زمن معاوية يوم صام أهل الشام على غير الرؤية التى صام عليها أهل المدينة؟
ما دام القائمون على أمر الرؤية فى بلاد المسلمين هم من المسلمين، ويقررون أن الأمر مداره ثبوت الرؤية، والبلد بلد مسلم يتولى ذلك فيها دار افتاء مسلمة، فلا حاجة لنا فى مثل هذه الاشاعات والادعاءات التى تقض من مضاجع المسلمين وتشككهم فى صيامهم وفى عبادتهم! فمجرد خروج تلك الاشاعات ورواجها بين الناس انما هو عين الضرر والله! وما وجدتها تروج وبكل أسف الا بين البعض من اخوتنا الذين يلتزمون برؤية مكة ولا يعنيهم غيرها.. فتراهم يتبادلون الاتصالات والرسائل فيما بينهم ينتظرون قرار دار الافتاء بمكة، وكأنه لا عبرة بشيء آخر في سائر الأرض، ثم ينصحون اخوانهم بموافقتهم على ذلك وكأنه الحق الذي لا محيص عنه.. فلا حول ولا قوة الا بالله.
ان الضرر الحقيقى كما اسلفنا انما يقع يوم يجد الرجل فى بيته ومن بين أبنائه من لا يأكل معه على
مائدته لأنه صائم وهو أول يوم من رمضان عنده! هذا هو ما تخترق به جماعة المسلمين عندي على التحقيق! فان كنت ولابد آخذا بقول يجعلك تصوم على غير صيام أهلك وجماعتك – ولا أرى صحة ذلك كما قدمت – فاعمل يا عبد الله على كتمان هذا بكل الطرق حتى لا تكون فتنة.. وستكون – مع ذلك – فتنة مهما حاولت ولا حول ولا قوة الا بالله!
ان الضرر يقع يوم يشك الناس فى صحة صومهم ويتضاربون بذلك وما يكون ذلك الا من تشدد بعض اخواننا قليلي العلم والفقه في هذه المسألة. ويوم يجد المسلمون بينهم
من هو مفطر وهم صائمون، أو من هو صائم وهم مفطرون، فينظرون اليه فيرونه ممن يثقون في علمهم ودينهم – كان أهلا لذلك أو لم يكن – فيقع الشك في نفوسهم فيما هم عليه!!..
فختاما أسأل الله أن يرفع الفتنة عن المسلمين، وأرجو بالله صادقا من الاخوة الأحباء أصحاب القول بتوحيد الرؤية فضلا عن القائلين بجعلها مع مكة بالتحديد، أن يراجعوا فقههم فى تلك المسألة وأن يتجردوا فيه طلبا للحق، وأن يمعنوا النظر بروية.. وان استقر مذهبهم بعد ذلك كله على ما يذبهون اليه فأنشدهم الله ألا ينكروا على العاملين بخلاف مذهبهم وألا يأخذوا الأمر قضية ولاء وبراء، وأن يتحلوا بفقه الخلاف ويتقوا الله فى أهلهم وذويهم ولا يوقعوا الفتنة والريبة والاضطراب فى قلوبهم.. عسى الله أن يوفقنا للحق وأن يرزقنا الاخلاص فى القول والعمل، انه ولى ذلك والقادر عليه
والحمد لله رب العالمين
كتبه أخوكم الظالم لنفسه الطامع فى عفو ربه
أبو الفداء
تحريرا فى السابع من شوال 1427_