ابن الأبّار البلنسي..شاعر الأندلس


نورالدين قلالة



ابن الأبّار شاعر وكاتب ومؤرخ من قبيلة قضاعة التي استوطنت أُنْدة في ضواحي بلنسية الإسبانية. واحد من أنبغ العقول الأندلسية، فهو شاعرها وكاتبها وعلّامتها. سطعت شهرة العلمية والأدبية في الشعر وتاريخه وتدوين الأحداث والتواريخ وفي علم الحديث والفقه. وعرف بالطموح والفخر والاعتداد بالنفس والأنفة وسرعة الغضب وحدّة اللسان.
نال ابن الأبّار حظه في القديم لدى المؤرخين والعلماء الذي ترجموا له، كالغبريني والمَقّري وابن العماد وابن خلدون وغيرهم، كما أنه لقي عناية من المستشرقين والكتّاب فاقت عناية الأقدمين، وقد كشف المحدثون في دراساتهم عن أعمال ابن الأبّار وخصائصه وميزاته. وله شعر رقيق، يقوم على تزيين الأسلوب والإكثار من المحسنات البديعية.
بمرور الوقت، وتراكم المعارف، ذاع صيت ابن الأبَّار بالعلم والنُبل وجودة الكتابة في الأندلس، فتولى القضاء في مدينة “دانية” الأندلسية لفترة، ثم أصبح الكاتب الأبرز في بلاط أبي زيد الموحدي، والي بلنسية في دولة الموحدين، ولما ثار على الموحدين في بلنسية أبو جميل بن مردنيش، واستقلَّ بها عن الموحدين، عين ابن الأبَّار كاتبا له.
وفي هذه اللمحة البسيطة سنتعرف إلى شيءٍ من تاريخ وإنتاج هذا الموسوعة البشرية الأندلسية التي كانت تمشي على قدمين.
من هو ابن الأبّار؟

هو محمد بن عبد الله بن أبي بكر القُضاعي، وُلدَ عام 1199م (595هـ) في مدينة بلنسية (فالنسيا المُعاصرة)، حاضرة الشرق الأندلسي، والتي ارتبطت به ارتباطًا وثيقًا، وحمل نسبها في اسمه، فعُرف دائمًا بـ”ابن الأبًّار البلنسي”، وكان مولدُه بعد أربعة أعوامٍ من آخر انتصارٍ كبير للمسلمين في الأندلس على خصومهم القشتاليين الإسبان في موقعة الأرك عام 1195م (591هـ)، في عهد خليفة دولة الموحدين المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، والذي توفي للمفارقة في عام مولد ابن الأبار نفسه، ولم يحكم الأندلس والمغرب بعده أحد بقوتِه نفسها وتمدُّد دولته.
كانت أسرة ابن الأبَّار معروفة بالعلم والمكانة الاجتماعية، وكان أبوه عبد الله من العلماء المعروفين، ودرس على يديْه فترةً من الزمن، ثمَّ سافر في كافة أنحاء الأندلس طلبًا للعلم والمعرفة، وتتلمذ على يد كبار فقهاء وأدباء عصره من القضاة وعلماء الأحاديث، ومنهم الحافظ أبو الربيع بن سالم، كبير علماء الحديث في الأندلس، والذي لازمه ابن الأبار لأكثر من 20 عامًا.
جمع ثقافة عصره ولم يبلغ الثلاثين

جمع ابن الأبّار ثقافة عصره ولمّا يبلغ الثلاثين، واتخذه أمير بلنسية محمد بن أبي حفص كاتباً له، ثم أصبح كاتباً لابنه أبي زيد من بعده، ولما تغلب زيّان بن مردنيش على بلنسية اتخذ ابن الأبّار كاتباً له سنة 626هـ، ولما حاصر ملك أراغون (دون خايم) مدينة بلنسية في رمضان 635هـ/1238م استغاث صاحبها زيّان بن مردنيش بسلطان الدولة الحفصية أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد الحفصي، وأرسل ابن الأبّار مع وفد حملوا إليه البيعة وطلبوا منه المساعدة، وأنشد ابن الأبّار أمام السلطان الحفصي قصيدته السينية التي مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله، أندلسا *** إنّ السبيل إلى منجاتها درسا
فكان لها أثرها في إرساله الأسطول ليساعد مسلمي بلنسية، ولكنه لم يستطع إنقاذ المدينة المحاصرة التي اضطرت إلى التسليم، وحينئذٍ غادر ابن الأبّار بلنسية مع جميع أفراد أسرته، وتوجه إلى تونس سنة 636هـ حيث لقي عند السلطان الحفصي أبي زكريا يحيى المجد والثروة والنجاح، وأسندت إليه الكتابة في ديوان السلطان وكلّف وضع العلامة السلطانية في أعلى الرسائل والمنشورات الصادرة عن القصر. وما لبث السلطان أن أصغى إلى أقوال الوشاة والحاسدين وطلب من ابن الأبّار أن يقتصر على إنشاء الرسائل وأن يدع مكان العلامة للخطّاط الجديد، لكن ابن الأبّار لم يطع ما أمر به، فعوتب في ذلك وروجع، وغضب السلطان عليه فصرفه عن العمل.
وحاول ابن الأبّار أن يتلافى خطأه فألف كتاب “إعتاب الكتّاب” وأهداه إلى السلطان واتصل بنجله وولي عهده أبي يحيى زكريا الذي تشفع له عند أبيه فرضي السلطان عنه وغفر زلّته، وقد توفي ولي العهد زكريا قبل وفاة أبيه بسنة وصار الأمر بعده إلى أخيه أبي عبد الله الذي لُقِّب بالمستنصر، فأبعد هذا ابن الأبّار إلى بجاية سنة 655هـ، ثم رضي عنه وأعاده إلى خدمته واستمع لنصحه، ولكن ابن الأبّار ما لبث أن أغضب المستنصر وحاشيته بسلوكه، فقد كان يزري به في مجالسه، وعُزيت إليه أبيات في هجائه، فأمر به فقتل، ثم أحرق جثمانه ومصنفاته وأشعاره وإجازاته العلمية في محرقة واحدة.
54 كتابا لم يبق منها إلا 6

تلقى ابن الأبّار العلم في بلنسية على أبي عبد الله بن نوح، وأبي جعفر الحصّار، وابن واجب، وأبي الحسن بن خَيْرة، وأبي سليمان بن حَوْط، وغيرهم..واتصل بأبي الربيع بن سالم أكبر محدّث في عصره، ولزمه قرابة عشرين عاماً، وهو الذي علّم ابن الأبّار صناعة الكتابة وحبب إليه إتمام كتاب الصلة لابن بَشكُوال.
لم يتبق من كتب ابن الأبّار الخمسة والأربعين إلا ستة كتب، تنحصر في ثلاثة فنون: الحديث والأدب والتاريخ، وهي:
“التكملة لكتاب الصلة” وهو كتاب في تراجم علماء الأندلس وأعيانها وشعرائها. معجم ضخم مرتب وفق أبجدية الأسماء لمشاهير الأندلس من العلماء والكُتَّاب وغيرهم، وهو استكمال لكتاب ابن بشكوال المعروف باسم “الصلة في تاريخ أئمة الأندلس”، ويعد من أبرز وأكثف المراجع التاريخية عن تاريخ الأندلس ورجالها، وكان الذي أشار عليه بتأليف هذا الكتاب الموسوعي أستاذُه أبو الربيع بن سالم، وظلَّ ابن الأبار يراجعه ويعدل فيه لأكثر من 20 عاما.
“المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي” وفيه ترجمة لطائفة من الأئمة والعلماء الأندلسيين من تلامذة الصدفي ومعاصريه (والصدفي محدّث وفقيه من سرقسطة).
“الحلّة السِّيراء” في تاريخ المغرب وتراجم رجاله، يتحدث فيه عن مشاهير الأعلام في السياسة والحرب من رجال الأندلس وبلاد المغرب من المئة الأولى إلى المئة الرابعة. وهو من أشهر مؤلفاته، أهداه إلى ملك تونس أبي زكريا الحفصي، الذي استقبله بحفاوة بعد خروجه من الأندلس، وكان هذا الملك محبًّا للشعر، فألف ابن الأبَّار هذا الكتاب وجمع فيه أبرز ما سجلَّه التاريخ من أشعار الأمراء والملوك والسلاطين في القرون الهجرية السبعة.
“تحفة القادم” وهو في تراجم الشعراء الأندلسيين وقد وصل إلينا مختصر له. وذكر فيه موجزًا من سيرة ومؤلفات ما يقارب المائة من شعراء وشاعرات الأندلس، لا سيَّما الوافدين إلى الجزيرة الأندلسية من خارجها، وكذلك من انتقلوا إلى شرقي الأندلس، وحاضرتها بلنسية، وطن ابن الأبَّار الذي هام به عشقا.
“درر السِّمط في خبر السِّبط” وهو كتاب في أخبار الحسين بن علي، ويدلّ على شدة تعلق ابن الأبّار بآل البيت.
“إعتاب الكتّاب” وفيه يضرب للسلطان الحفصي أبي زكريا الأمثال عن حلم الملوك وعفوههم عن أخطاء كتابهم، وفي الكتاب تراجم مقتضبة لهؤلاء الكتّاب وأخطائهم وعفو رؤسائهم عنهم، وإقالة العثرة هي مدار البحث في تأليف الكتاب الذي ضمّ خمساً وسبعين ترجمة، وللكتاب قيمة أدبية وتاريخية إضافة إلى قيمته الإنسانية التي تحثّ على الصبر والعفو.
ابن الأبّار.. العالم الموسوعي

سطعت شهرة ابن الأبار العلمية والأدبية، خاصةً في الشعر وتاريخه وتدوين الأحداث والتواريخ، وفي علم الحديث والفقه، وشهد له بالتفوق المشارقةُ في الشام ومصر مع شهادة المغاربة، ووصفه المؤرخ المملوكي صلاح الدين الصفدي بعد قرنٍ من وفاته، في كتابه “الوافي بالوفيات” قائلًا عنه:”وَكَانَ بَصيرًا بِالرِّجَالِ، عَارِفًا بالتاريخ، إِمَامًا فِي الْعَرَبيَّة، فَقِيها مقرئًا، إخباريًّا فصيحًا، لَهُ يَدٌ فِي البلاغة، والإنشاء فِي النّظم والنثر، كَامِل الرياسة، ذَا جلالة وأبهة”.
وقال عنه المؤرخ الأشهر ابن بن خلدون: “كان الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية وكان علامة في الحديث ولسان العرب وبليغًا في الشعر”.
واعتبره مؤرخ الأندلس في العصر الحديث الدكتور محمد عبد الله عنان، صاحب موسوعة “دولة الإسلام في الأندلس”، أبرزَ شعراء ومؤرخي الأندلس في تاريخها المتأخر. فماذا كتب ابن الأبَّار؟
وقال عنه شهاب الدين المقري التلمساني في “نفح الطيب” أنه لو لم يؤلِّفْ غيرَه لكان دليلًا كافيًا على علو مكانته ورتبته في العلم والأدب، ويبدو أن ابن الأبار كان له هوًى كبير في حب آل البيت، فألف أيضا في مناقب الإمام علي كتابا عنوانه “دُرَر السمط في أخبار السَّبط”. ولهُ مُؤلَّفُ في رثاء الحسين بن علي بعنوان: “معادنُ اللُّجَيْن في مراثي الحُسيْن”.
وفاته واختفاء مكتبته

عاش ابن الأبَّار سنواتٍ طويلة في تونس اعتاد خلالَها أن يكون هو الكاتب المُفضّل في بلاط ملك تونس الحفصي، وهنأ لسنوات بأيام من العز في تونس حتى إنه وصفها في إحدى رسائله البديعة بأنها:”بلدةٌ طيبةٌ وربٌّ غفور، ودولةُ مباركةٌ لمحاسنِها سُفورْ”.
وكان ابن الأبَّأر يمتاز خاصةً بالإبداع في الخط المغربي، لكن كان المستنصر الحفصي يميل إلى الخط المشرقي، فرقَّى كاتبًا آخر يجيدُه وعيّنه مكان ابن الأبار، فاستشاط الأخير غضبا، وكان يشتهر بالأنَفة وبعض النرجسية، فلم يُخف نقمته على الملك، فأمر الملك بوضعه فيما يُشبه الإقامة الجبرية في منزله، بعدما وصلته أنباء عن رد فعل ابن الأبار السلبي تجاهه وتجاه قراره.
ما لبث ابن الأبار أن راسل المستنصر معتذرًا، فقبلَ منه، ليعود من جديد إلى مجلس السلطان، ولكن استغلَّ خصوم ابن الأبَّار الحدث الأخير، وضعفَ شخصية المستنصر واستماعه المستمر للوشاة، فجدَّدوا الإشاعات عن ابن الأبَّار لدى الملك، وقالوا له إن ابن الأبار يذمه سرا وجهرة، ويراه غير أهل للحكم، وأنه دائما ما يزدريه، وينتقص من حكام تونس بالمقارنة ويقارنهم بحكام الأندلس السابقين. ومما عزَّز من مصداقية تلك التهم أمام الملك ما كان يراه في مجلسه من اعتداد ابن الأبار برأيه، وصراحته في نقد آراء الآخرين ولو كان رأي الملك نفسه، وسخريته اللاذعة.
ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، عندما وصلت نقمة الملك إلى مرحلة اللاعودة، بعد خلاف كبير في الرأي مع ابن الأبَّار في أحد المجالس، فأمر الملك بعدها باعتقاله وتفتيش منزله، وادَّعوا أنهم عثروا على كتابات مُسيئة عن الملك المستنصر، منها أبيات من الشعر مطلعها يقول:
طغا بتونسَ خلفٌ *** سمُّوهُ ظُلما خليفهْ!
وبعد محاكمة صورية، اتُهم ابن الأبّار بالخروج على السلطان ومحاولة قلب نظام الحكم، وأمر الملك بقتله طعنا بالرماح، ومصادرة كتبه، وإحراقها مع جثته، وأدت تلك النكبة إلى ضياع الكثير مما كتبه ابن الأبار، والعثور على بعضه متفرقًا في كتابات اللاحقين، وفي مخطوطات في كبار المكتبات حول العالم، مثل مكتبة قصر الإسكوريال في إسبانيا.

وكانت وفاة ابن الأبَّار في شهر المحرم من عام 1260م (658هـ)، ولم تخلُ اللحظات الأخيرة من عمره الحافل من لمسة إنسانية لافتة، إذ عندما شعر بخيوط المؤامرة تلتف حول عنقه، وأن نهايته قد حلت، أمر خادمه بالفرار، وأهداه راحلته ليرحل بها إلى حيث شاء، حتى لا يناله مصيره نفسه