بين قيادة العلماء وقيادة الإعلاميين
د. ليلى حمدان
ينتابنا الشوق والحنين، وشعور بالغربة مرير، حين نطالع صفحات مجدنا التليد. ولعل ما يعمق هذه المشاعر ذلك الفارق الشاسع بين الأمس واليوم، تأبى ضمائرنا أن تتقبل الضعف والمهانة التي قبعنا في قاعها نتخبط، مع ما تحمله أمتنا من ميراث ثقيل وتاريخ زاخر بالقوة والمكانة.
وحين نحاول تشخيص أهم أسباب هذا المآل، علينا أن نستذكر - بتوقير - مكانة العلماء عند كل موقف نصر أو مشهد عزة أو رقي حضارة أو ازدهار لفكرنا الإسلامي.
حينها كان العلماء قادة الأمة بلا منازع، مرشديها بلا مجادل، يقومون بشؤونها السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لم ينحسر دورهم في الإفتاء وتحصيل العلم، بل كان دأبهم العمل وسياسة الجماهير لما فيه الخير، فكان نتاجهم باهراً.
على عكس الحال اليوم، حيث تصدر الإعلاميون في الواجهة بدل العلماء، وأضحى الإعلامي بما يحمله من بضاعة مزجاة، يمارس دور «العالم الملم»، فيقود الجماهير تارة هنا وتارة هناك، بما يوفي التزاماته لأربابه، ومن وظفه ليقتات.
وإنه لمؤسف بحق، أن نشاهد عدد المتابعين لمنابر العلماء لا يصل لعدد المتابعين لقنوات الإعلاميين في أغلب الأحوال، برغم ضآلة النفع الذي يحصله المرء منها وكثرة التشويش والاستهتار. وكذلك الاستشهاد بقول الإعلامي الذي تتجاذبه التصريحات في النوازل والمدلهمات بدل البحث عن قول عالم عامل رباني يستند إلى معالم الحق!
ولا شك أن هذه الظاهرة لهي من مخلفات الغزو الفكري الغربي، الذي تخلص من قيود الكنيسة لما اعتراها من تناقضات وارتمى في أحضان المادية بكل اغترار، فأخذ يبرز الآلة الإعلامية لصالح أهدافه في الهيمنة والعلو في الأرض، وبالتفاني في العرض والاجتذاب ظهر الاهتمام بالإعلاميين والتأثر والانقياد.
وبهذا أصبحنا نشاهد الإعلامي ينتقد ويصحح ويقيّم ويوجه الحكومات والعلماء والشعوب بانتقائية، وكأنه مؤهل لمثل هذا القضاء! مع العلم أن الآلات الإعلامية بكامل أدواتها توظفها حكومات وأنظمة وتيارات متصارعة في حلبة النظام العالمي تقودها السياسة والمصالح وغريزة حب البقاء.
وبالإضافة لهذا التأثر الفكري بنهج الغرب في التعامل مع الجماهير يساعد هذه الظاهرة في البروز تراجع دور العلماء بل غيابهم أحياناً كثيرة حينما يتعلق الأمر بالقيادة والتوجيه.
على عكس تلك العصور الذهبية التي كان فيها للعالم هيبة وسلطان يفوق ما لدى الملوك والأمراء، نجد اليوم الساحة فارغة يسرح فيها ويمرح كل رويبضة ومتعالم ومتنطع وربما خصم للإسلام لدود.
فمن لم يحرك وجدانه سيرتا الهروي وابن الخشاب رحمهما الله في أواخر القرن الخامس الهجري، عندما هدد أمن الأمة المسلمة حملة صليبية أولى كبرى على بلاد المشرق، وأخذت جيوش الغرب الجرارة تتوغل بعمق، وتسلب المسلمين الأرض وتهين الكرامة وتنهب الخيرات والثروات، في مساحة تمتد من الأناضول إلى أرض بيت المقدس.
تماماً كما نعيشه اليوم، كانت حالة الضعف والعجز والانقسام تبدد صلابة دولة السلاجقة، المظلة الأولى للأمة الإسلامية في ذلك الوقت، وخنجر الغدر يغرز في خاصرتها من الفاطميين العبيدين مماثلاً لما نراه اليوم. فسقطت الشام ورفرفت رايات الصليب على تلالها.
ومع ذلك ومع درجة الضعف تلك والتهديد القاهر، وقف قاضي دمشق زين الدين الهروي، وفقيه حلب ابن الخشاب ومن رافقهما من علماء وقفة ثبات وقادوا الجماهير قيادة العلم والبصيرة.
فكانت ثمرات وقوفهم على ثغرهم وسهرهم على أداء الأمانة بكل تفانٍ واجتهاد، خروج جيوش المسلمين لمواجهة عدوان الصليبيين الغاشم. وكانت بركات حرصهم واجتهادهم، علو شأن عماد الدين ونور الدين الزنكي، أول من سعى في توحيد الجبهة الإسلامية كقادة وأول من دق مسمار الجهاد في نعش الصليبيين كمجاهدين. وأتم حصادهم فاتح بيت المقدس صلاح الدين الأيوبي بتحرير فلسطين، وعلى دربه طهر بلاد المسلمين المماليك من فلول الغزاة المحتلين في النصف الثاني من القرن السابع الهجري.
ثم جاءت نوبة العدوان التتاري، وبرزت خلالها قيمة العلماء في حفظ بنيان الأمة وتوجيه الجماهير لساحات النصر المبين، ومن منا لم يتأثر بمشهد العز بن عبد السلام سلطان العلماء وهو يقود الجموع للتضحية بالنفس والنفيس في معركة عين جالوت الفاصلة سنة 658هـ، ويلقي بالأوامر على سلطان مصر سيف الدين قطز ويسمع الجميع له ويطيع!
من منا لم يتأثر بسيرة كفاح ابن تميمة، الذي تصدر الصفوف الأولى بنفسه في معركة شقحب الشهيرة، فمنّ الله على المسلمين بنصر عظيم على المغول عام 702هـ. دون الحديث عن سيفه المسلول على المبتدعة وأعداء الدين، فكانت كتاباته كالمنجنيق تهدم حصونهم وتحفظ بنيان هذه الأمة.
ثم في عصر غير بعيد عنا، قاد الجهاد الفلسطيني لأكثر من نصف قرن الشيخ الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، وكذلك فعل الشيخ عز الدين القسام العالم السوري الذي انتقل لأرض فلسطين وقاد الكتائب ليتصدى للإنجليز واليهود وفي الوقت ذاته كان ينشر الدعوة والعلم بين الجموع.
فالعالم من أمثالهم كان وقود أمة برمتها، ترجم علومه إلى أعمال برغم التكاليف المكلفة، فأتقن السياسة بمعنيين اثنين، سياسة الجماهير لما فيه صلاحهم، وسياسة الحكم بالحرص على رعاية مصالح المسلمين وانتظام أحوالهم وثباتهم عند المحن والمواجهات، على عكس السياسة في عصرنا اليوم التي لا تتعدى الخداع والكذب والتذبذب تماماً كما لقنها لنا الغرب. لا يحكمها ضمير حي ولا قيم ولا مبادئ! فكان من مستلزمات هذا المكر، إقصاء تام للعلماء وتجريد كامل لحقوقهم في الوقوف على شؤون الأمة وما يحكم مصيرها، واقتصر على توظيفهم فقط في ما يتيح للحكومات ترويض الشعوب المسلمة.
ويقول ابن باديس رحمه الله في هذا الأمر: «الإسلام لا يحجر على العلماء التدخل في أي شأن من شؤون العامة - كما يزعم البعض في هذه البلاد - بل هم أولى من غيرهم بذلك، وهم رعاة الأمة المسؤولون، وليس لغيرهم أن يستهجن فعلهم أو يلومهم إذا هم قاموا بما يجب عليهم نحو أمتهم، وليست مهمة العالِم في الإسلام قاصرة على التدريس والإرشاد فقط - وبعد فهل كان العلماء في كل أمة وفي كل عصر إلا قادة الفكر والسياسة والدين؟»[1]، لنعلم أن القيادة يوجه دفتها عادة العلماء ممن عرف أسرارها وأعطاها حقها من الدراية والبذل والحكمة.
وحتى نقرب الصورة نضرب المثل، ولننظر كيف يتم عرض خبر يمس الإسلام للجماهير كي تتقبله، كخبر منع النقاب في بعض المجتمعات المسلمة، فيتناوله الإعلامي بسرعة وخفة ويبرره بجهل وتلبيس مهوناً من وقعه، في حين لا يستشهد بقول العالم إلا على سبيل النقد والتهميش.
ولو أن الجماهير أنصتوا لصوت العالم لما تجرأ حاكم على منع النقاب! ولكن الإعلام حاول جاداً أن يخلق الفجوة بين العلماء والجماهير، وعلى هذه نقيس في كل نظم الحياة اليومية، من قوانين تُفرض ترفضها الشريعة، ومعاملات تسري تتعدى حدود الشريعة. ومع ذلك يلعب الإعلاميون دوراً مهماً في تهوين المصاب وتعويد الجماهير على الصدمات والتعبير على المواقف ووسائل الإلهاء بما يوافق سياسات أرباب مؤسساتهم الإعلامية التي تقودها أنظمة وتيارات لا تخدم الإسلام بل كثيراً ما تحاربه.
ولعل من أبرز ما يفسده الانقياد لغير العالم، هو ما يتأثر به المتلقي من أسلوب في الطرح أو كلمات في النقد، كقلة في الأدب والتطاول والجدال، وما حط من خصال، على عكس العالم الذي يضخ معاني الأدب والأخلاق وتقوى الله في الأجيال.
وبدل أن ترتبط الجماهير بدينها وأصالتها وتعيد الثقة بنفسها وطاقاتها، فيتجدد لها أمر دينها وتنطلق الهمم بامتداد، نشاهد التقهقر في مساحات ضيقة فقط لطرح المشاكل والشكاوى والتنديد دون توجيه الطاقات للعمل، فالناس ألفت المشاهدة، اعتادت على مقاعد المتفرجين ولا تتحرك لمواقع التأثير في الأمة، ولا مواطن العمل والعطاء، تقضي الساعات وهي تقرأ التحاليل الموجهة بعناية، ثم يشوشها تحليل آخر معاكس ويحبطها تحليل ثالث مفلس! وهكذا تتراوح النفسيات بين التحليلات والتكهنات وتنفصل العروة التي تربط العبد بربه ودينه ومعالم الحق! وبدل أن يتبع النهج الرباني يغرق في جدالات الشاشات. وبدل أن يحكم على الأمر بمفهوم الإسلام يحكم عليه بمفاهيم الغرب القاصرة! وبدل أن يتعلق باليقين يتعلق بالتصريحات البائسة.
وما يزيد الطين بلة أن أغلب العلماء الذين يبرزون في الساحة - بغض النظر عن الأسباب - تنحسر خطاباتهم في نشر العلم الشرعي وتقويم السلوكيات، فجاءت خطاباتهم انعزالية أو أصولية، في وقت ينبض فيه الشارع ويتلمس كل من يداوي جراحاته ويلبي حاجاته ويتفاعل مع قضايا أمته، فكانت الهوة.
وهي الهوة ذاتها التي يزيد من تعميقها الركون لدعاوى ما يسمى الديمقراطية، والعلمانية التي تفصل الدين عن واقع حياة المسلم وتقطع الجيد المتصل بالسماء ليضيع المرء في متاهات التخبط والشرك. ويا ليت شعري حين تصبح هذه الأدوات مطلباً ملحاً لدى المسلمين بجهل وغفلة. يستجدون الحل في مسالك الغرب بعقيدته الفاسدة ويتركون الحلول التي يقدمها لهم الإسلام بالمحجة البيضاء!
بأيمانهم نوران ذكر وسنـة فما بالهم في حالك الظلمات؟!
فمن لهذه الجماهير حين يغيب العالم، من لهذه العقول المشردة حين يخذلها العارف؟!
وقد يتساءل أحدهم كيف نحيي المهابة للعلماء ونعيد زمام القيادة لأيديهم، أقول الأمر معقد ويتحمل مسؤوليته الحلقات الثلاثة التي تمثل تركيبة كل أمة، الطبقة الحاكمة، وطبقة الجماهير، وطبقة العلماء، فإن أقصت الأولى حق العلماء، فعلى الجماهير أن تفرضه فرضاً، وتعيد لهم مكانتهم الحق، وعلى العلماء في الوقت ذاته أن يكونوا قدر المسئولية وأن يثبتوا استقلاليتهم وعدم تبعيتهم أو أنهم مجرد أدوات في يد حاكم أو نظام، بل لا بد أن يفوزوا بثقة الجماهير حين تصدق أفعالهم أقوالهم، وحين تبصر فيهم الثبات على الحق ولو عند سلطان جائر.
للأسف لقد أمعنت الآلة الإعلامية في تقزيم مكانة العلماء، وذلك بمهمتين اثنتين، الأولى بتهميش دورهم والتقليل من أهميتهم وإبعادهم عن ذاكرة الجماهير أو حصر دورهم في فقه العبادات بدل معالجة قضايا الأمة، وهو ما أسميه الإقصاء من دائرة التأثير الإعلامي في الجماهير، ثم الثانية، بسد الفراغ الذي يتركونه، بعلماء السلطان أو الرويبضات أو حتى برامج اللهو، فأضحت البرامج الدعوية والدينية - على أهميتها - يلقيها لاعب رياضي، أو ممثلة راقصة أو جاهل لا يعرف حجم ظلمه لنفسه ويا لهول المصاب!
وتتتبعها الجماهير بسبب بعض التأثيرات والزخرفات للترويج والتضليل، ويمكث العالم الذي غزا رأسه المشيب يدخر علمه لأجل غير مسمى.
وأستحضر هنا موقفاً مثيراً في عصر عماد الدين زنكي، حين تزاحمت الجماهير على أعتاب المساجد كما جرى في بغداد سنة 505هـ، فكسر الصاخبون الباكون المنبر واستجاروا بنخوة الخليفة والسلطان السلجوقي، وبنفس الطريقة استجاب المسلمون في بلاد الشام وخرج أهل حلب نساء ورجالاً وصبياناً سنة 532هـ، ودخلوا المساجد ومنعوا الناس من الصلاة، مطالبين بالجهاد حتى كسروا المنابر![2] لمواجهة الحملة الصليبية، ولنشاهد كيف يكون دور الجماهير قيادياً مؤثراً في بعض المواقف!
وحين يكتمل تواصل الحلقات الثلاثة (دفة الحكم والعلماء والجماهير) وتتفق على تطبيق شريعة الإسلام، فلا تحدثني بعدها عن عظمة العطاء ودرجات النجاح المبهرة التي تبلغها الأمة المسلمة، ولكن إلى الآن حلقاتنا متفرقة وبينها وبين بعض مسافات، بل بعضها مفقودة تماماً!
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، وأولو الأمر الذين تجب طاعتهم هم العلماء العاملون، وهو تفسير جمهور السلف رضي الله عنهم.
بل المتبصر في أحوال الحكام في ذاك الزمان الذي مضى، يجد الحاكم بنفسه عالماً، سواء في عصر الخلفاء الراشدين الذين كانوا أئمة وعلماء للمسلمين، أو فترات قيام الدولة الإسلامية مترامية الأطراف، وحتى إن لم يكن الحاكم عالماً، كان يستعين بالعلماء، ويستشيرهم في كل أمور سياسة الأمة، وكان يحسب للعلماء ألف حساب! كما قالت أم ولد للرشيد منبهرة في وصف عبد الله بن المبارك وهي ترى الناس تنجفل إليه: هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة[3].
فحين تترسخ قيمة العالم في مجتمعه، وتدين له الناس بالاتباع تخضع السلطة مهما كانت متجبرة وظالمة، ثم لولا ثبات العلماء أمام جبروت الظلم لما انتعشت الجماهير بمفاهيم العزة والثبات والكرامة والوحدة والمحبة والتفاني في خدمة الإسلام.
ولذلك استهدف أعداء الدين مراكز قوة المسلمين في علمائهم وتمت محاربتهم وملاحقتهم وتحديد مساحة تأثيرهم، وكلما بزغ نجم عالم وبدأت الجماهير تتهافت عليه، غيّب في زنازين السجون وناله من الحقد ما ناله، تماماً كما أفرغ الصليبيون الفرنسيون بالأمس حقدهم على الأزهر حين هاجموه بالمدافع وهدموا المنازل من حوله، وهدموا بعض جدرانه، ثم اقتحموه راكبين الخيل.. ولكن مكر أولئك يبور، فكان أن نصر الله المسلمين بأن قتل كليبر خليفة نابليون طالب أزهري هو سليمان الحلبي.
لن أواصل وصف مشهد الاستغفال الذي تعيشه الشعوب المسلمة حين تراجع العلماء وتصدر الإعلاميون، ولكننا على الأقل أصبحنا ندرك مكمن الخلل، فإما التدارك لتفعيلٍ ملحٍ لدور العلماء بإعادتهم للواجهة وتوحيد جبهتهم وتحصينها، ثم الحذر من تيارات الإعلام الجارفة وإعادة تقييم دور الإعلامي ليناسب حجمه ويخضع لتوجيه العالم لما هو نافع، وإما ستستمر حقبة التيه والظلام وتشتت الطاقات، إلى أن يشاء رب عادل.
---------------------------------
[1] ابن باديس، البصائر ، العدد 43، 28 شعبان 1355هـ/ 13 نوفمبر 1936م.
[2] كتاب صلاح الدين الفارس المجاهد والملك الزاهد المفترى عليه، لكاتبه شاكر مصطفى.
[3] البداية والنهاية الجزء العاشر - عبد الله بن المبارك.