من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق فيه


الكـاتب : دبيان محمد الدبيان
يدخل في المضمضة والاستنشاق سنن كثيرة من سنن الوضوء، وقبل أن نأتي على أكثرها، نذكر أولاً خلاف العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء.
المبحث الأول: حكم المضمضة والاستنشاق:
اختلف العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل إلى أقوال:
فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء وفي الغسل، وهو مذهب المالكية[1]، والشافعية[2].
وقيل: واجبان في الوضوء والغسل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة[3].
هذان قولان متقابلان.
وفيه قولان آخران متقابلان أيضًا:
فقيل: المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء، واجبان في الغسل، وهذا مذهب الحنفية[4].
وقيل: واجبان في الوضوء دون الغسل[5].
وقيل: المضمضة سنة، والاستنشاق واجب فيهما[6].
والراجح: أن المضمضة سنة في الوضوء وفي الغسل، وأما الاستنشاق فواجب في الوضوء، سنة في الغسل، والله أعلم.
وسبب اختلاف العلماء اختلافهم في الأدلة الواردة في الباب، فآية المائدة في الوضوء ليس فيها ذكر للمضمضة والاستنشاق، قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)[7].
(825-54) وروى مسلم أن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتم الوضوء كما أمره الله - تعالى -، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن))[8].
وليس في كتاب الله ذكر المضمضمة والاستنشاق، فدلَّ على أنهما غير واجبين.
هذا في الحدث الأصغر، وأما في الأكبر فقد روى البخاري من حديث طويل، في قصة الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((خُذ هذا فأفرغه عليك))[9].
(826-55) وروى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين))[10].
فعبر بـ ((إنما)) الدالة على الحصر، واكتفى بالإفاضة ولم يذكر المضمضة والاستنشاق.
فأخذ بعض أهل العلم من هذه الأدلة أن المضمضة والاستنشاق ليسا واجبين، لا في حدث أصغر، ولا في حدث أكبر.
وذهب آخرون إلى أن الاستنشاق قد جاء الأمر به في السنة الصحيحة:
(827-56) فقد روى البخاري، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر)).
ولفظ مسلم: ((إذا توضأ أحدكم، فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر))[11].
وأحاديث الأمر بالاستنشاق، هي دليل على وجوب الاستنشاق صراحة، والمضمضة ضمنًا؛ لأنهما كالعضو الواحد، فإيجاب أحدهما إيجاب للآخر، ألا ترى أنه لا يفصل بين المضمضة والاستنشاق؟ ومن عادة الأعضاء المستقلة في الوضوء ألا ينتقل إلى عضو حتى يفرغ من العضو الذي قبله، بخلاف المضمضة والاستنشاق فإنه يمضمض ثم يستنشق، ثم يرجع إلى المضمضة فالاستنشاق وهكذا، فهذا يدل على أنهما في حكم العضو الواحد، فالأمر بأحدهما أمر بالآخر.
(828-57) كما استدلوا بحديث رواه أبو داود[12]، عن لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق - أو في وفد بني المنتفق - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكر حديثًا طويلاً، وفيه: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء. قال: ((أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)).
الشاهد من هذا الحديث قوله: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)).
وفي رواية لأبي داود، وزاد فيه: ((إذا توضأت فمضمض))[13].
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الاستنشاق واجب دون المضمضة.
قال ابن المنذر: "والذي به نقول: إيجاب الاستنشاق خاصة دون المضمضة؛ لثبوت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالاستنشاق، ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر بالمضمضة"[14].
وقال ابن عبدالبر: "وحجة من فرَّق بين المضمضة والاستنشاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها، ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنثار وأمر به، وأمره على الوجوب أبدًا، إلا أن يتبين غير ذلك من مراده" ا. هـ[15].
وقد بسط الكلام في المسألة، وجمعت الأدلة الواردة في الباب وتم تخريجها، والكلام عليها من حيث الصحة والضعف، في كتابي أحكام الحيض والنفاس، وقد ترجح هناك قول ابن عبدالبر وابن المنذر، وأن الواجب هو الاستنشاق خاصة، فأغنى عن إعادته هنا، فارجع إليه غير مأمور.
المبحث الثاني: يستحب تقديم المضمضة على الاستنشاق:
اختلف العلماء في حكم تقديم المضمضة على الاستنشاق:
فقيل: سنة، وهو مذهب الجمهور[16].
وقيل: تقديم المضمضة على الاستنشاق شرط، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية[17]، وقول في مذهب الحنابلة[18].
دليل القائلين بأنه سنة:
الدليل الأول: الإجماع على مشروعية تقديم المضمضة على الاستنشاق.
قال ابن نجيم: المضمضة والاستنشاق سنتان مشتملتان على سنن، منها: تقديم المضمضة على الاستنشاق بالإجماع[19]. ا. هـ
الدليل الثاني: القياس على تقديم اليمين على الشمال في الوضوء، فإذا كان تقديم اليمين سنة، فكذلك هنا.
دليل من قال: التقديم شرط: قالوا: لأن الفم والأنف عضوان مختلفان، فيشترط الترتيب بينهما قياسًا على الترتيب بين الوجه واليد.
وأجيب: بأن الفم والأنف من الوجه، فهما في حكم العضو الواحد، ثم إن تقديم المضمضة على الاستنشاق جاء من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
الراجح بين القولين:
الراجح هو القول الأول؛ لقوة دليله، والشرطية تحتاج إلى دليل صحيح صريح، ولم يقم دليل يكفي على ذلك، والله أعلم.
المبحث الثالث: في حكم المبالغة في المضمضة والاستنشاق:
تعريف المبالغة في المضمضة:
قال ابن الهمام: والسنة المبالغة فيهما - يعني: المضمضة والاستنشاق - وهو في المضمضة إلى الغرغرة، وفي الاستنشاق إلى ما اشتد من الأنف[20].
وقال الخرشي: ويستحب المبالغة، وهي إدارة الماء في أقاصي الحلق في المضمضة، وفي الاستنشاق: جذبه لأقصى الأنف[21].
وقال النووي: قال أصحابنا: المبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء أقصى الحلق ويديره فيه[22].
وقال في مطالب أولي النهى: أن يبلغ بالماء أقصى الحنك، ووجهي الأسنان واللثة[23].
وقيل: المبالغة: إدارة الماء في الفم كله أو أكثره.
والمبالغة في الاستنشاق: جذب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف كله أو أكثره.
وكل هذه التعريفات قريبة من بعض، فالمضمضة مكانها الفم، فيحرص الإنسان على إدارة الماء في جميع الفم من مقدم أسنانه واللثة إلى أقصى حلقه، وحكم الأكثر حكم الكل، فإذا أدار الماء في أكثر فمه، واستنشق الماء إلى أكثر أنفه فقد حصلت له سنة المبالغة، والله أعلم.
وإذا عرفنا معنى المبالغة في المضمضة والاستنشاق، فما حكمهما؟
فقيل: المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة، وهو قول الأئمة الأربعة[24].
وقيل: المبالغة فيهما واجبة، ذكرها من الحنابلة ابن عقيل في فنونه[25].
وقيل: المبالغة في الاستنشاق وحده سنة دون المضمضة، وهو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة[26].
وقيل: المبالغة واجبة في الاستنشاق وحده، وهو قول في مذهب الحنابلة[27].
الدليل على مشروعية المبالغة في الاستنشاق:
(829-58) ما رواه أبو داود[28]، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين، قالوا: ثنا يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق - أو في وفد بني المنتفق - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث طويل، وفيه:
فقلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء. قال: ((أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)).
الشاهد من هذا الحديث الطويل، قوله: ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا))[29] [الحديث صحيح][30].
والدليل على مشروعية المبالغة في المضمضة ما يلي:
الدليل الأول: الإجماع على مشروعية المبالغة في المضمضة لغير صائم:
قال النووي: "المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة بلا خلاف"[31].
وقد نقلنا في الأقوال أن هناك قولاً يرى أن المبالغة في الاستنشاق وحده دون المضمضة، وهو قول غير مشهور؛ ولذلك لم يره النووي خارقًا للإجماع، أو كان نقله ذلك بحسب علمه، ولم يطلع عليه.
الدليل الثاني: القياس على المبالغة في الاستنشاق، فإذا كانت المبالغة في الاستنشاق مشروعة، فكذلك المبالغة في المضمضة، بجامع أن كلاًّ من الفم والأنف له تجويف يتفاوت مرور الماء في داخله، فالمبالغة فيهما يحصل منها كمال الطهارة في جميع باطنهما.
الدليل الثالث: أن المبالغة في المضمضة والاستنشاق من إسباغ الوضوء المأمور به شرعًا.
الدليل الرابع: (830-59) ما رواه أبو بشر الدولابي، قال: ثنا محمد بن بشار، ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه لقيط بن صبرة بلفظ: ((إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائمًا))[32]. فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة.
وذكره الزيلعي في نصب الراية[33]. [وزيادة المضمضة غير محفوظة][34].
دليل من قال: لا تشرع المبالغة في المضمضة:
لعله يرى أن الأمر بالمبالغة ورد في الاستنشاق خاصة، ولم يصح دليل في الأمر بالمبالغة في المضمضة، والأصل عدم المشروعية حتى يثبت دليل خاص، ولم يثبت.
دليل من قال بوجوب المبالغة فيهما:
الدليل الأول: ثبت الأمر بالمبالغة في الاستنشاق، والأصل في الأمر الوجوب.
الدليل الثاني: (831-60) الأمر بالمبالغة في الاستنشاق من إسباغ الوضوء، وقد روى مسلم في صحيحه من طريق عبدالله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سالم مولى شداد، قال: دخلت على عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبدالرحمن بن أبي بكر، فتوضأ عندها فقالت: يا عبدالرحمن، أسبغ الوضوء؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ويل للأعقاب من النار)).
الراجح: لم أقف على حديث في الأمر بالمبالغة في المضمضة إلا إلحاقها بالاستنشاق، مع أن الأنف أحوج إلى التنظيف والمبالغة فيه من الفم؛ لأن الأنف أكثر عرضة للأتربة والغبار، وقد يعلق بشعيراته أجزاء من الأتربة والغبار، فتتأكد المبالغة في حقه؛ لكمال النظافة، بخلاف الفم والذي يكون اللعاب فيه أكثر، فهو يتنظف باستمرار، وأما القول بأن المبالغة في المضمضة من إسباغ الوضوء، فهذا لا يصح؛ لأن الحديث فرق بينهما، فقال: ((أسبغ الوضوء، وبالغ في الاستنشاق))، فلو كانت المبالغة من إسباغ الوضوء لكان في ذلك تكرار، إلا أن يقال: إن هذا مثل قوله - تعالى -: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)[35]، والله أعلم.
_______________
[1] الخرشي (1/133-170)، منح الجليل (1/128)، مواهب الجليل (1/313)، القوانين الفقهية (ص: 22)، مقدمات ابن رشد (1/82)، بداية المجتهد مع الهداية (2/12)، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 23، 24)، حاشية الدسوقي (1/136)، الشرح الصغير (1/118-170).
[2] الأم (1/41)، المجموع (1/396)، روضة الطالبين (1/88، 58)، مغني المحتاج (1/73-57).
[3] الفروع (1/144)، الإنصاف (1/152، 153)، المحرر (1/11، 20)، كشاف القناع (1/154)، مطالب أولي النهى شرح المنتهى (1/403)، المبدع (1/122)، الكافي (1/26)، الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني (1/59).
[4] شرح فتح القدير (1/25، 56)، البناية (1/250)، تبيين الحقائق (1/4، 13)، البحر الرائق (1/47)، حاشية ابن عابدين (1/156)، مراقي الفلاح (ص: 42)، بدائع الصنائع (1/34)، رؤوس المسائل (ص: 101).
[5] انظر الفروع (1/144 - 145)، المبدع (1/122)، الإنصاف (1/152-
153).
[6] انظر المصادر السابقة.
[7] المائدة: 6.
[8] صحيح مسلم (231).
[9] صحيح البخاري (337).
[10] صحيح مسلم (330).
[11] البخاري (162) ومسلم (237).
[12] سنن أبي داود (142).
[13] السنن (144)، وزيادة ((إذا توضأت مضمض)) زيادة شاذة، انظر كلامي عليها في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية (129)، وانظر أيضًا رقم (830) من هذا الكتاب.
[14] الأوسط (1/379).
[15] التمهيد كما في فتح البر (3/208).
[16] قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 21): ومنها - أي: من سنن الوضوء الذي في أثنائه - الترتيب في المضمضة والاستنشاق، وهو تقديم المضمضة على الاستنشاق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على التقديم. اهـ وانظر الفتاوى الهندية (1/8).
وانظر في مذهب المالكية: الخرشي (1/138)، إلا أنه جعل التقديم من الفضائل، ولم يجعله من السنن على أصل بعض الفقهاء في التفريق بين الفضيلة والسنة.
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/84)، والإنصاف (1/132).
[17] قال النووي في المجموع (1/400): "اتفق أصحابنا على أن المضمضة مقدمة على الاستنشاق، سواء جمع أو فصل بغرفة أو بغرفات، وفي هذا التقديم وجهان، حكاهما الماوردي والشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين وآخرون، أصحهما أنه شرط، فلا يحسب الاستنشاق إلا بعد المضمضة؛ لأنهما عضوان مختلفان، فاشترط فيهما الترتيب كالوجه واليد.
والثاني: أنه مستحب ويحصل الاستنشاق وإن قدمه كتقديم اليسار على اليمين. والله أعلم. اهـ، وقال النووي نحوه في شرح صحيح مسلم (3/104).
[18] المغني (1/84).
[19] البحر الرائق (1/22).
[20] شرح فتح القدير (1/23).
[21] الخرشي (1/134).
[22] المجموع (1/396).
[23] مطالب أولي النهى (1/95).
[24] انظر في مذهب الحنفية: شرح فتح القدير (1/23)، البحر الرائق (1/22)، الفتاوى الهندية (1/8).
وانظر في مذهب المالكية: الخرشي (1/134)، مواهب الجليل (1/246)، الفواكه الدواني (1/137).
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/396)، أسنى المطالب (1/39).
وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/133)، كشاف القناع (1/94).
[25] الإنصاف (1/133).
[26] المرجع السابق.
[27] المرجع السابق.
[28] سنن أبي داود (142).
[29] السنن (144).
[30] انظر تخريج الحديث بتمام ألفاظه، والكلام على ما ورد فيه من زيادات في المتن، وبيان المحفوظ منها والشاذ في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (129) فلا داعي لتكراره.
[31] المجموع (1/396).
[32] الوهم والإيهام (5/593).
[33] (1/16).
[34] الحديث اختلف فيه على الثوري:
فرواه وكيع ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان موافقًا في لفظه رواية يحيى بن سليم، وابن جريج، وداود بن عبدالرحمن العطار، والحسن بن علي في روايتهم عن إسماعيل بن كثير في عدم ذكر المبالغة في المضمضة في الحديث، وقد ذكرنا تخريج رواياتهم والكلام على ما ورد في الحديث من زيادات في المتن، وبيان المحفوظ منها والشاذ في تخريج الحديث بتمامه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (129)، وهو جزء من هذه السلسلة، فانظره غير مأمور.
ورواه أبو بشر الدولابي، كما في كتاب "الوهم والإيهام" (5/593) فخالف فيه، قال: ثنا محمد بن بشار، ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن إسماعيل به، بلفظ: ((إذا توضأت فأبلغ المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائمًا))، فزاد الأمر بالمبالغة بالمضمضة.
وصححه ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (5/193) وقال: ابن مهدي أحفظ من وكيع وأجل قدرًا.
وهذا الكلام من ابن القطان فيه نظر كبير:
أولا: لأن وكيعًا تابعه يحيى بن آدم، ومحمد بن كثير، ولم يتابع ابن مهدي.
ثانيًا: أن رواية وكيع، ويحيى بن آدم، ومحمد بن كثير عن سفيان، عن إسماعيل بن كثير موافقة لرواية يحيى بن سليم، وابن جريج، وداود بن عبدالرحمن العطار، والحسن بن علي في روايتهم عن إسماعيل بن كثير.
ثالثًا: أن المخالفة ليست من ابن مهدي، حتى تكون المقارنة بينه وبين غيره، وإنما المخالفة من أبي بشر الدولابي؛ بدليل أن أحمد رواه في المسند (4/33) عن ابن مهدي موافقًا لرواية وكيع بعدم ذكر المضمضة، فخرج ابن مهدي من عهدته، وعلى هذا فيكون ابن مهدي قد اختلف عليه في الحديث، فرواه أحمد عن ابن مهدي، عن سفيان، موافقًا لرواية وكيع عن سفيان، وخالف أبو بشر الدولابي الإمامَ أحمدَ، فرواه عن ابن مهدي بزيادة (المبالغة في المضمضة)، فتبين أن الخطأ من أبي بشر الدولابي، وليس من ابن مهدي.
وأبو بشر الدولابي قد قال الدارقطني: تكلموا فيه.
وقال أبو سعيد بن يونس: إنه من أهل الصنعة، وكان يضعف.
وقال ابن عدي: متهم. انظر شذرات الذهب (2/260).
[تخريج الحديث من طريق الثوري]:
أخرجه عبدالرزاق (79) عن الثوري به، بلفظ: "أنه أتى النبي- صلى الله عليه وسلم -فذكر أشياء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وإذا استنثرت فأبلغ، إلا أن تكون صائمًا)).
وقوله: ((إذا استنثرت)) المقصود به الاستنشاق؛ لأن المبالغة في الاستنثار لا تؤثر في الصائم، فالذي يؤثر هو الاستنشاق، وهو جذب الماء بقوة إلى داخل الأنف.
وأخرجه أحمد (4/33) حدثنا وكيع، ثنا سفيان به، بلفظ: ((إذا توضأت فخلل الأصابع)).
ومن طريق وكيع أخرجه الترمذي (38) والنسائي (87).
وأخرجه النسائي (114) من طريق يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان به، مختصرًا.

وأخرجه البيهقي (1/50) من طريق محمد بن كثير، حدثنا سفيان به.
سفيان بهذا اللفظ.
وقد سبق له طرق كثيرة، تم الكلام عليها، وتخريجها، والمقارنة بين متونها في كتاب الحيض والنفاس رواية ودراية رقم (129).
[35] البقرة: 238.