التصفية.. حقيقتها ومسوغاتها ومجالاتها


د. محمد احمد لوح





هل بلغ من فقهنا أن نعلم أن الدين الإسلامي هو المقبول عند الله؟ {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)، وهل بلغ من فقهنا أن نعلم أن الدين هو ما جاءنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وحي الكتاب والسنة؟ وهل نحن مستعدون لمراجعة عقائدنا وعباداتنا وسلوكياتنا وعاداتنا وتقاليدنا وعرضها على الكتاب والسنة لمعرفة حكمها من حيث الأخذ والرد؟ هل نحن مستعدون لقبول كل ما يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تعاليم؟ هل بلغ من إيماننا أن نقلع عن كل ما هو ملصق بهذا الدين؟ حتى وإن كان من ألصقه به من أقرب الناس إلينا كآبائنا وأجدادنا ومن نحبهم؟ بعد ذلك كله هل نحن مستعدون للتغيير؟ لتغيير ما ينبذه الكتاب والسنة، ويتنافى مع مقتضيات الاقتداء بسيد المرسلین - صلى الله عليه وسلم - وإن صعب التغيير؟.

إن وفقنا في الجواب عن هذه الأسئلة استطعنا أن ندرك ونقبل هذا الموضوع (موضوع التصفية). وحتى نتصور حقيقة التصفية فلنبدأ بتعريفها فنقول:

التصفية في اللغة: التنقية والتطهیر.

وفي الاصطلاح: تنقية الدين الإسلامي- عقيدة وشريعة وسلوكا- مما هو غريب عنه أو بعيد منه، والعمدة في ذلك قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة:2)؛ فالعبادات كلها اعتقادية كانت أو بدنية أو مالية - ما هي إلا عمليات ووسائل تزكية وتصفية تزيل ما على القلب من الرين، وتخلص العبادة من الشرك والبدعة.

مسوغات التصفية

لقد أطبق العلماء والباحثون المسلمون على أن كل ما وقع فيه المسلمون اليوم من تفرق وضعف وخور وتخاذل وغير ذلك من وجوه الانحطاط إنما هو لبعدهم عن حقيقة الإسلام، ويبدو لي أن ذلك يرجع إلى أمور منها:

(1) التباس ما ليس من الدين بما هو منه.

(2) ضعف اليقين بما هو من الدين.

(3) التقصير العملي بأحكام الدين.

ومن هنا نقرر أن معالجة هذا الواقع المرير يأتي في مقدمة أولويات المهام المناطة بعاتق أهل الدعوة والإصلاح، وعليه نستطيع أن نقول: إن مسوغات التصفية التي هي أهدافها يمكن تصنيفها على مرحلتين:

المرحلة الأولى: مسوغ وهدف عام وبعيد

وهو تحقيق العبودية الكاملة لله -تعالى- في الحياة على مستوى الفرد والجماعة على حد قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، وقوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة:33).

المرحلة الثانية: الأهداف التفصيلية

ما يمكن أن يصنف هدفا تفصيليا خاصا وقريبا يلزم البدء به الآن وهو أقسام:

(1) تصحيح ما طرأ على الحياة الإسلامية من الشرك والبدعة والانحراف.

(2) تجديد أمر الدين في واقع هذه الأمة وإرجاعها إلى حقيقة الإسلام الصافية.

(3) بناء الحياة الاجتماعية والأخلاق والمعاملات على الأصول التي قام عليها مجتمع السلف الصالح.

(4) إعداد قاعدة من الجيل الصاعد تحمل أمانة الدعوة والإصلاح.

مجالات التصفية

تتعدد مجالات التصفية بحسب تعدد ما دخل على أصول الدين وفروعه من محدثات وعوائد وتحريفات، وأهم هذه المجالات ما يلي:

(1) مجال العقيدة

وصلت العقيدة الإسلامية المستقاة من الوحيين نقية من الخرافات، خالصة من الشوائب، بعيدة عن أباطيل الشرك، سالمة من متاهات التأويل الفاسد. لكن عندما ابتعد كثير من الناس عن سبيل أهل الحديث من السلف الصالح في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة وقعوا في المحظور من الشرك في تحريف نصوص الصفات الإلهية، وتأويلها وصرفها عن حقائقها اللغوية والشرعية اللائقة بذات الباري -عز وجل-، فصار من مسلمات هؤلاء لزوم تأويل الصفات الخبرية بعد تقديم العقول المريضة على النصوص الشرعية، ووضعوا في ذلك قواعد للتأويل كقول اللقاني في جوهرة التوحيد:

وكل نص أوهم التشبيها

أوله أو فوض ورم تنزيها

والحق في هذا الباب ألا يتجاوز القرآن والحديث، بل نصف الله بما وصف به نفسه في قرانه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، ونعرف معاني هذه الصفات ونثبتها.

باب الألوهية والربوبية

وفي باب الألوهية نصب كثير من الناس آلهة أخرى يتوجهون إليها بأنواع القربات من الدعاء، والذبح، والنذر، ومن رأى ما يحدث عند القبور المشيدة والمشاهد المقببة لا يعتريه أدنى شك في مصداقية هذا الواقع المؤسف، وفي باب الربوبية جعل هؤلاء لآلهتهم الأخرى من القدرة على التصرف في الكون والحياة ما هو حق محض الله العلي القدير، فجعلوا للإنسان الضعيف المسكين المربوب ما لا يستحقه إلا الله، واسمع جواب المصطفى المختار الذي أرسل برسالة التوحيد حين قال له رجل: «ما شاء الله وشئت» فقال له: «أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده».

مخالفة شريعة سيد المرسلین

يقول الشيخ الألباني -رحمه الله- في كتابه القيم (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد): «وإن مما يأسف له كل مسلم طاهر القلب أن يجد كثيرًا من المسلمين قد وقعوا في مخالفة شريعة سيد المرسلین - صلى الله عليه وسلم - التي جاءت بالابتعاد عن كل ما يخدج بالتوحيد ثم يزداد أسفا حين يرى قليلا أو كثيرا من المشايخ يقرونهم على تلك المخالفة بدعوى أن نياتهم طيبة ويشهد الله أن كثيرًا منهم قد فسدت نياتهم وران عليها الشرك بسبب سكوت أمثال هؤلاء المشايخ بل تسويغهم كل ما يرونه من مظاهر الشرك بتلك الدعوى الباطله، أين النية الطيبة يا قوم من أناس كلما وقعوا في ضيق جاءوا إلى ميت يرونه صالحا فيدعونه من دون الله ويستغيثون به ويطلبون منه العافية والشفاء وغير ذلك مما لا يطلب من دون الله وما لا يقدر عليه إلا الله؟ بل إذا زلت قدم دابتهم نادوا: يا لله يا فلان.

بينما هؤلاء المشايخ قد يعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع يوما بعض الصحابة يقول له: ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله ندا؟ فإذا كان هذا إنكار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من آمن به - صلى الله عليه وسلم - فرارا من الشرك فلماذا لا ينكر هؤلاء المشايخ على الناس قولهم: يا الله يا فلان مع أنه في الدلالة على الشرك أوضح وأظهر من كلمة ما شاء الله وشئت؟ ولماذا نرى العامة يقولون دون أي تحرج: «توكلنا على الله وعليك» و«مالنا غير الله وأنت «؟ ذلك لأن هؤلاء المشايخ إما أنهم مثلهم في الضلال وفاقد الشئ لا يعطيه وإما أنهم يدارونهم بل يداهنوهم كي لا يوصموا ببعض الوصمات التي تقضي على وظائفهم ومعاشاتهم غير مبالين بقول الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة:159)».

التعليمات النبوية

أين هذه التعليمات النبوية من قول صاحب الهمزية مخاطبا النبي - صلى الله عليه وسلم -:

هذه علتي وأنت طبيبي ليس

يخفى عليك في القلب داء

ومن ذلك أن يجعل الحكم في الدماء والأعراض والأنفس والأموال لغير الله، والله -تعالى- إنما أنزل كتابه ليكون مصدر سعادة للناس في الدنيا والآخرة ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إليه عند التنازع والاختلاف، قال -تعالى-: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (النساء:105)، وقال -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء:60)، وقال -تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)، وقال -تعالى-: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44).

الحكم بغير ما أنزل الله

وقال الإمام ابن أبي العز -رحمه الله-: «وهنا أمر يجب أن يتفطن له وهو أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرا إما مجازيا وإما كفرا أصغر على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص ويسمی كفرا مجازيا أو كفرا أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعة في معرفة الحكم وأخطأه، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور.

لابد من تصفية العقيدة

والمقصود: أنه لابد من تصفية العقيدة مما علق بها من الشوائب، وليس هذا خاصا بباب من أبواب العقيدة بل هو شامل لكل أبوابها، وأية دعوة لا تبدأ بتصفية العقيدة سوف لن تثمر ولن تؤتي أكلها، لذلك لم يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته بالفروع، ولم يطالب الناس أول ما طالبهم بالقتال ولا بالزكاة، ولا بالصوم، ولا بترك الخمر والميسر، وإنما طالبهم بالإيمان بالله وحده، وقلع ما يعبدون من دونه: جاء في الصحيحين أن الله -تعالى- لما أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإظهار دينه صعد الصفا ونادى: يا معشر قريش، قالت قریش: محمد على الصفا يهتف، فأقبلوا عليه يسألونه ما الأمر؟ فكان مما قال: «يا بني عبد المطلب، یا بني عبد مناف، يا بني زهرة، يا بني تيم، يا بني مخزوم، یا بني أسد، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة، ولا من الآخرة نصيبًا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله.