البدعة فساد للدين وهدم لبنيانه


مجلة الفرقان



لقد أَحدَثَ كثيرٌ مِن المسلمين في دينِهم مِن البدَع والخرافاتِ ما لا يَرضاه مسلمٌ عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر، حتى إنك ترى -في كثير مِن الأحيان- أنَّ البدَع تروج كأنها سُنَّة، ويكُون قصْدُ مُرَوِّجيها حَسَنًا، لكنهم يضرُّون أنفسَهم، ويضرُّون غيرهم، قال -تعالى-: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف:103- 104).

ولا شيءَ أَفسَدُ للدين، وأشدُّ تقويضًا لِبُنيانِه مِن البدَع؛ فهي تَفْتِكُ به فَتْكَ الذئبِ بالغنم، وتَسْري في كيانه سريانَ السرطانِ في الدم، والنارِ في الهشيم؛ لهذا جاءت النصوصُ الكثيرة تُبالغ في التحذير منها، وتكشِف عن سوء عواقبها الوخيمة.

وفي كلِّ عامٍ تخرُج علينا بعضُ الاجتهاداتِ حتى تصِل إلى حدِّ البدْعة، وهذا مِن جهْل الناس، وانطلاقِهم مِن العواطف والحماس غير المنضبط، فهناك مَن يَنْشُر أقوالًا وأفعالًا يَظُنُّ أن فيها مصلحة وخيرًا للناس، لكنه في واقع الحال هي معدودة مِن البدَع؛ ولذا ينبغي على الإنسان ألا يُقْدِم على شيء ليس له مستندٌ شرعي؛ حتى يسأل عنه أهلَ العِلم، قال -تعالى-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43). ومعلوم أن مِن أصول الدين الواجب اعتقادُها، ولا يصحُّ إيمانُ المرءِ دُونها - أن الإسلام دينٌ أَتْقَنَ اللهُ بناءه وأكمله، فمجال الناس التطبيق والتنفيذ، وهذا أمرٌ أدلَّته ظاهرة.

ولقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم - بإبلاغ رسالة ربِّه أتمَّ بلاغ وأكمله، فما انتقل إلى جوار ربِّه إلا والدينُ كاملٌ لا يحتاج إلى زيادة؛ لذلك نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الزيادة في الدين فقال: «إذا حَدَّثْتُكم حديثًا فلا تزيدُنَّ عليَّ»، وروي عن بعض الصحابة منهم ابنُ مسعود - رضي الله عنه -، قال: «اتبِعوا ولا تبتدِعوا فقد كُفيتُم»، وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: «كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وإنْ رآها الناسُ حسنةً».

وقال الإمام مالك (إمام دار الهجرة) -رحمه الله-: «مَن ابتَدَع في الإسلام بدْعةً يراها حسنةً، فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: «مَن استحسَن فقد شرَّع»، وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: «أصولُ السُّنَّة عندنا: التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء بهم، وترْك البدَع، وكل بدْعة ضلالة».

ولن يسلم قلب المرء حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، والأعمال لا تقبل إلا ما كان لله خالصاً صواباً، وموافقاً لسنة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، (أخرجه أبو داود والترمذي).

ولقد زين الشيطان -لجهل كثير من المسلمين وميلهم لهوى أنفسهم- البدع، فزين لهم ما ليس بمشروع وحسَّن لهم ما ليس بمحمود، وقد يدافعون عن الباطل ويتمسكون به لهوى في النفس، أو عصبية لمذهب، أو لجهل في الفهم وعدم الرجوع لأهل العلم الراسخين، وليس هناك أشد ضررًا على الأمة وعلى الفرد بعد الشرك من البدع المحدثة في دين الله؛ إذ هي أصل الانحراف وتفكك الأمة وهوانها.

ولقد جاءت النصوص والأدلة الكثيرة على وجوب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم الميل عنها، قال -تعالى-: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (آل عمران: 106)، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: «تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدع» قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159)، قالت عائشة: «هم أصحاب الأهواء والبِدَع والضلالة من هذه الأمة».


ولقد حذر النبي أمته من الابتِداع أشدَّ التحذير، وأوصاهم باتّباع سنّته وسنّة خلفائه الراشدين، ففي الصحيحين «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».

ولقد سار على نهجه واستمسك بهديه سلف هذه الأمة، فهذا خليفته وصاحبه أبوبكر يقول: «إنما أنا متّبِع وليس بمبتدع؛ فإن استقمتُ فتابِعوني، وإن زغتُ فقوِّموني»، وفي سنن أبي داود عن حذيفة «كلُّ عبادة لا يتعبَّدُها أصحابُ رسول الله فلا تعبَّدُوها؛ فإنَّ الأوّل لم يدَع للآخرِ مقالاً»، ويقول الجنيد: «الطرُقُ كلُّها مسدودةٌ على الخَلق إلا على من اقتفَى أثرَ الرسول، ولا مقامَ أشرف من مقام متابعةِ الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه».

فكلّ مَن أحدث شيئًا ونسبَه إلى الدين ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجِع إليه فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواء ذلك في مسائِلِ الاعتقادات أم الأعمال أم الأقوال الظاهرة والباطنة».