الشيخ البدر: الإيمان بالقضاء والقدر طمأنينة للقلب وراحة للنفس


الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر



بين الشيخ: عبدالرزاق عبد المحسن البدر في محاضرة له أن الله عزوجل لا يقضي لعبده المؤمن إلا خيرًا، والمؤمن في كل تقلباته وجميع أحواله يتقلب من نعمة إلى نعمة؛ ولهذا فإن ما يحصِّله العبد أو يقع له في هذه الحياة من أمرٍ مفرح يحبه أو محزنٍ يؤلمه، كل ذلك داخل في باب النعم إذا أحسن المؤمن التأمل.

وعنون الشيخ محاضرته بـ(وقفات ومسائل عقدية مع الجوائح) استعرض فيها أهم الجوانب الإيمانية التي يجب على المسلم مراعاتها في هذه النازلة ولأهمية هذه المحاضرة نعرضها فيمايلي.


ثبت في صحيح مسلم من حديث صهيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»؛ وهذا يوضح لنا أن كل تقلبات العبد المؤمن من خير إلى خير ومن نعمة إلى نعمة -سواء فيما يحبه العبد أم فيما يكرهه- إذا أحسن التعامل مع ذلك في ضوء هدايات الإيمان وضوء العقيدة الصحيحة المستمدة من كتاب الله وسنة نبيه -صلوات الله وسلامه عليه-، ولهذا قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ» مبيِّنًا بذلك - صلى الله عليه وسلم - أثر العقيدة الصحيحة والإيمان القويم على المؤمن في كل حياته وجميع تقلباته، وأنه بفضل الله -سبحانه وتعالى- ومنِّه من خير إلى خير. «إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»، إن أصابته سراء: أي أمرٌ مفرح يحبه يسر به يشكر الله، لأنه يعلم أن الفضل بيد الله، وأن الفضل فضل الله -سبحانه وتعالى-، وأن ما به من نعمة فهي من الله؛ فيشكر الله فيكون حينئذ فائزًا بثواب الشاكرين، «وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ»: أي أصابه أمر محزن أمر مؤلم فإنه يتلقى ذلك بالصبر فيكون صبره خيرًا له، لأنه يفوز في ضرائه بثواب الصابرين. فهو فائز في كلتا الحالين؛ في السراء والضراء، في الشدة والرخاء، في الصحة والمرض، في الغنى والفقر، في القوة والضعف، في الرخاء والشدة، في جميع أحواله هو على خير ومن خير وإلى خير، وهذا فضل الله -سبحانه وتعالى- على عبده المؤمن ومنَّته عليه -جل في علاه.


وتلك الوقفات تتناول جوانب عديدة من أمر الاعتقاد وأمر الإيمان التي ينبغي أن يحرص المؤمن على تجديدها وتمتينها في قلبه وتقويتها في نفسه؛ حتى يكون لذلك الأثر المبارك عليه في تعامله مع هذه النازلة أو غيرها مما يصيبه أو يحل به.

الإيمان مفزع للمؤمن

ينبغي أن نعلم أن الإيمان مفزع للمؤمن في كل الأمور: في الفرح والحزن، في الطاعة والمعصية، في الرخاء والشدة، في كل الأحوال المؤمن يفزع إلى الإيمان وإلى هدايات الإيمان، وهذا هو حقيقة الإيمان، وهو أن يهتدي المرء بهدايات الإيمان كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}( يونس:9). الإيمان هداية عظيمة للمؤمن في كل الأحوال، وهو مفزعٌ له في جميع أحواله، والمقصد أن المؤمن في كل نازلة تحِل به أو في كل أمر يحصل له يفزع إلى الإيمان، ينظر ما هدايات الإيمان في هذا المقام ؟ إلام يهديه إيمانه؟ المؤمن في تقلباته وأحواله لا ينطلق من هواه، ولا من نزغات الشيطان، ولا من الآراء والتخرصات، ولا غير ذلك، وإنما ينطلق من الإيمان من هدايات الإيمان نفسه إلام يهدي؟


فإذا تأملنا مثلا في باب المصائب والنعم؛ إذا فزع المؤمن إلى الإيمان في هذا الباب (باب المصائب والنعم) يجد أن الإيمان يهديه إلى كل خير؛ ففي المصيبة يهديه إيمانه إلى الإيمان بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن كل مصيبة فهي بإذن الله، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}(التغاب ن:11) فيهديه إيمانه إلى ذلك، ويهديه كذلك أن هذه المصائب كفارات يكفِّر الله -سبحانه وتعالى- بها من خطاياه، يهديه إيمانه إلى الاحتساب، إلى الدعاء، إلى التوكل، إلى صدق اللجوء إلى الله -سبحانه وتعالى-، إلى التوبة أيضا من الذنوب، إلى الصبر، هذه كلها هدايات يجدها المرء في إيمانه فيما يصيبه من مصيبة. أما إذا كان المقام مقام نعمة وفضل فإن إيمانه يهديه إلى أن هذه النعمة فضل الله عليه، ليست راجعة إلى حذق العبد ولا إلى جدارته ولا إلى غير ذلك، وإنما محض فضل الله عليه ومنِّه -سبحانه وتعالى-، فوحده -جل وعلا- المانّ المتفضل {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(الحد يد:29) {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}(النحل:53) ، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(النح ل:18)؛ فيهديه إيمانه إلى هذه المعرفة واعتراف القلب بأن هذه نعمة الله -سبحانه وتعالى- عليه؛ فيلهج لسانه حمدًا وثناءً على الله، ويُعمر قلبه بالتعظيم لله والثناء عليه -سبحانه وتعالى.


باب الطاعات والمعاصي


كذلك في باب الطاعات والمعاصي؛ العبد إذا حصلت منه الطاعة ووُفق للقيام بها يهديه إيمانه إلى أنَّ الذي وفقه إلى الطاعة هو الله وهو الذي هداه إليها {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}(النور:21) ، يقول -جل وعلا-: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(الحجرات :7-8)، فيحمد الله الذي هداه ومنَّ عليه وجعله مسلمًا مطيعًا مستقيمًا على طاعة الله، ويسأل ربه الثبات على الحق والهدى. وفي حال المعصية؛ يعلم أنَّ هذا الذي حصل منه هو ذنبٌ يسخِط الله ويوجِب العقوبة؛ فيبادر إلى التوبة، يهديه الإيمان إلى التوبة والإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى-.


الحاصل أن هذا موضوع غاية في الأهمية في بابنا هذا؛ أن يكون فزع المؤمن في كل أحواله من شدة أو رخاء، مرض أو صحة، غنى أو فقر، إلى غير ذلك يفزع إلى الإيمان وينظر إلى هدايات الإيمان العظيمة { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}( يونس:9).


الإيمان بالقدر

من مسائل الاعتقاد المهمة في بابنا هذا: الإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر كما يقول ابن عباس - رضي الله عنه -، يقول: «القدر نظام التوحيد، فمن وحَّد الله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده»، الله -جل وعلا- يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر:4 9)، ويقول -جل وعلا-: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}(الأح زاب:38)، وقال -جل وعلا-: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى}(طه:40) ويقول -جل وعلا-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}(الأعلى:1-3)، ويقول -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(البقرة:2 0)، ويقول -جل وعلا-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(ا لتكوير:29)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.


باب طمأنينة وسكون للقلب

وباب القدر والإيمان به هو باب طمأنينة وسكون للقلب وراحة للنفس ودفع للقلق والضجر إلى غير ذلك؛ لأن المؤمن يعلم بإيمانه بالقدر أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن قضاء الله -سبحانه وتعالى- نافذ، وأن ما شاء الله كان كما شاء في الوقت الذي شاء على الصفة التي شاء -سبحانه وتعالى-، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه. وهذا الإيمان بالقدر فيه تسلية عظيمة للمؤمن وراحة عظيمة لنفسه وطرد لباب الهم والغم والحسرة والندم وليتني الخ، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» في رواية «وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ». انظر «قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ»، «قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» هذه راحة للمؤمن، طمأنينة لقلبه، وطرد للقلق والجزع والحزن والآلام وقول: ليتني؛ كل هذه تذهب بإيمانه بالقدر، ولهذا الإيمان بالقدر طمأنينة راحة عظيمة جدا للمؤمن.


فيه عوض الخير للعبد


ثم هذا الإيمان والرضا بقضاء الله -سبحانه وتعالى- فيه عوض الخير للعبد في دنياه وأخراه، وفضل الله -سبحانه وتعالى- واسع، وكم عند الله -سبحانه وتعالى- من العوَض !كم عنده من الخير ! كم عنده من الفضل ! فلا يبقى المرء مع حسرات لا تجدي وآلام لا تنفع، بل يعلق قلبه بالله، ويفوِّض أمره إلى الله، ويحسن إيمانه بالله وبأقداره -سبحانه وتعالى-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}(الحديد :22-23)؛ انظر الراحة والطمأنينة التي يكسوها الإيمان بالقدر قلب العبد المؤمن.