الجمال!


انطلقتُ بين الزرقاوين، يتهادى بي قارب صغير وتحدوني روح منطلقة تستشرف بديع صنع الله من حولها، فيندهش قلبي الشغوف بما جمّل الله به هذا الكون من زينة، وعلى شواطئ جزيرة مأنوسة جلسنا نرصد بأعيننا اللامعة ما أبدع الإنسان من إضاءات ومبان فخمة ترسم مع الطبيعة لوحة مبهجة، فالشفق يلون بحمرته الأشجار الشماء، وزهور الربا تملأ بالأريج الفضاء، والأبراج متوجة بعمائم النور تشمخ في بهاء، ثم يقترب الغروب على استحياء يحمل على راحتيه قبسا من السكينة يدثر به الكون فيلطّف صخب النهار...

وعيني ترقب الأرض وزخرفها والسماء وسلطانها والبحر وهيبته فأخشع لرب الجمال، وتشرق السعادة بين جوانحي، وأسلم نفسي للطبيعة -كتاب ربي المنظور- أتأملها فيشعّ معنى الجمال في نفسي ويسري الشعور به في أحنائي، وتشرق معانيه في روحي، وتتجلى هيبته لعيني... فيخف بدني، ويبشّ وجهي، ويملأ الفرح صدري... فأطيل التأمل في مكامن الجمال وبواعثه...


ثم وصلتْ فاطمة وسألتني: فيمَ استغرق تفكيرك فلم تشعري بوجودي!

رددت عليها بقول الشاعر:
شَيْءٍ بِهِ فُتِن الوري غَيْر الذي‏‏ ♦♦♦ يُدْعَى الْجَمَال وَلَسْت أَدْرِي مَا هُوَ

قالت: إذن فُزنا بجلسة جميلة، لن أفلتكِ حتى تنقلي لي ما في عقلك!

• عقلي!، عقلي يبحث عن معنى الجمال، انظري لتلك الصبيّة الغضة جميلة المبنى والمعنى، تختزل الحياة كلها في قفزاتها اللاهية وضحكاتها العالية، وتحرك التفاتتها فيك معاني الأمل، فشَعرُها المنسدل يلهمك الرضا، ووجهها الصبوح منارة هدى، وثغرها الباسم يذكي فيك حب الحياة، وتورد خديها وإطراقها خجلا يعيد لعقلك صورة الجنة حيث نقاء الفطرة وبريق القلب، أما دلها ورنة صوتها ونحافة خصرها فتنقلك لعالم آخر ليس كعالمنا، وكأنّ الله خلقها لتمتزج بالحياة فيذهب مرها، ويخبو حرها، ويستنير ظلامها وتصبح حياة!

ثم يتمرد عقلي على هذا المعنى ويقول: الجمال أوسع من هذا الذي يطوف بخيالك، إنْ هذه إلا عين الأمومة تَريْن بها صغارك... ، فالجمال معنى لا يصل لجوهره أحد، فقد حيّر الفلاسفة وصاروا فيه مذاهب..

فاطمة: وبماذا رددت عليه؟
• صدّقت على قوله، فالجمال انعكاس نفس نقية كما خلقها الجميل سبحانه وتعالى، وبقدر ما في النفس من عظمة منبثقة من عظمة من سوّاها بيديه _ سبحانه ـ بقدر ما كان شعور الجمال فيها عظيمًا يعكس طبيعتها...، فسبحان من أودع النفس الشعور بالجمال ثم قدّر في الكون ما يغذوه ويُربيه تقديرًا... حتى غدا طُعما للروح تتفيأ ظلاله فتسمو، وتلذ بأنواعه فتزكو.

هنا في غربة النفس المؤقتة (الدنيا) نحتاج لكأس دهاق من ذكرى الجنان التي سكنتها النفس ابتداء! فكأن ذلك الكأس هو الجمال...

قالت فاطمة: وما أجمل الأشياء في نظرك؟
قلت: هناك مشهد يرسمه عقلي لم أستشعر جمالا أقوى أثرًا منه في نفسي، ارسمي بريشة قلبك معي هذا المشهد: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]، تخيلي: انقضى الحساب، ودخل المؤمنون الجنة زمرا، ودلف الكافرون للنار زمرا، وقُضي بينهم بالحق، وهدأ الصخب، وانبلج النور، وفرح كلٌ بما أوتي من رحمة الرحمن، ورؤية الجنان، فاطمأنت القلوب الواجفة، وقرت العيون الشاخصة، وهدأت العقول الطائشة، وسكن كل حبيب لحبيبه في دار لا موت فيها ولا فقد، وفي أجواء معبقة بالأطياب والبسمات، زينتها الحبور وفألها الرحمات...

فجأة ترفع عينك فتجد الملائكة بمكان يليق بها، تحف العرش، تسبّح بحمد ربها، وكأنني بترانيم تسبيحها تمنح الروح الخلود... تُرى بأي تسبيح تسبح الملائكة، وبأي ثناء تثني على رب الجمال؟

لا شك أنه الجمال! جمال رحمته وعفوه، وجمال ستره وعدله، وجمال رضاه وبره، وجمال ودّه وعطاياه... أرأيت؟ إنه ربي سبحانه الجميل صانع الجمال!

تسعد فاطمة بحديثي وكأنها تستفزني للإطالة فتقول: ـ يبدو أن لوثة الفلاسفة أصابتك، حدثيني عن الجمال الذي حرّك قلبك وأشرق معناه في نفسك، وعجزتْ عن احتوائه كلماتك؟ فكل ما ذكرتيه غيب!

• كما قلتِ إنه أعجزني، لكني أتنسم عبيره عند طلة البدر الهادئة باعثة سكينة الليل وهيبتة، وعند إشراقة الشمس الهانئة وكأنها توقظنا بلطف لتهيئ الإنسان لمعاشه، أرى الجمال في ألوان الجبال وعبير الربا، وخرير الأنهار وهدير البحار، أتنسم الجمال في فرحة الطير الغرد، ورنة الحداء المتوكل على ربه بنفس رضيّة ساعية لرزقها.... ثم تتوج سعيها بقبلة على يد والديها لتنعم منهما بدعاء يشعل فيها الاستمرار ويبعث فيها حسن الظن بالله، وبقبلة أخرى على جبين زوجه تنسيها وحشة بُعده، وتنسيه همّ غده... الجمال كل الجمال في تدبر حكمة الرحمن مدبر أمر الخلق فاطر الأكوان سبحانه....

تنهدت فاطمة معجبة ثم قالت: زيدي... فقلت لها: كل الجمال أن جعلك الله في طريقي صديقة صدوق عربية الأخلاق والجمال!


أطرقت وابتسمت ثم نظرنا معا للزرقاوين نسبح بحمد باريهما ونحمده على ما أحصينا من نعمه علينا وما لم نحص!
______________________________ _________
الكاتب: أ. منى مصطفى