بسم الله الرحمن الرحيم
هل صحيح : لا يوجد نصّ يحرّم الاختلاط بين الجنسين ؟
[ بقلم : عبد الحليم توميات / إمام خطيب مسجد عمر بن الخطاب - الجزائر العاصمة ]
الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله ، أمّا بعد :
فاعلم أيّها - القارئ الكريم - أنّ منهجنا في الردّ على ما يقال أو يكتب هنا أو هناك ، قائم على الردّ على الأقوال بغضّ النّظر عن الأشخاص ، ذلك لأنّ الشّخص لا ندري هل صحّ عنه ذلك فعلا ؟ أو قاله بشروط ما ذكرها ، أو لم تُنقل عنه .. إلى غير ذلك من الموانع الّتي تمنعنا من الحكم على الشّخص .
وهذا المقال يتضمّن بيانا لضعف القول بإباحة الاختلاط بين الجنسين في أماكن العمل وغيره .
وقد حاول بعضهم النّقل عن بعض الفضلاء بأنّه يقول إنّه ليس هناك دليل شرعيّ يمنع من ذلك !! ولو فرضنا أنّه قال ذلك :
فإنّه يقال له حينها : وهل هناك قائل بجوازه من العلماء السّابقين من الصّحابة والتّابعين، والفقهاء المجتهدين ، والأئمة المتَّبَعين ؟!
فإن قال : لا ، فيقال له : فهم إمّا جهلوا ما ذكرت ، أو كتموا ما أعلنت ، أو لم يفهموا ما فهمت !! وفي كلّ هذه الأحوال نكون قد حكمنا أنّ الأمّة عاشت طوال هذه القرون في غيبوبة تامّة عن هذا الحكم الشّرعي الّذي تتوفّر الهمم والدّواعي إلى نقله ، لأنّ الدّواعي إلى الاختلاط أمور يوميّة ، ما يكون للفقهاء أن يُغفلوها أو يكتموها .
ولو قال قائل بهذه المقولة في ذلك الزّمان الّذي عرف بالنّور والهدى ، والعلم والتّقى لساغ الأمر ، أمّا أن يُثار هذا الموضوع في واقع مرّ مثل الّذي نعيشه ، فهذا فيه نظر بيّن .. وما كان أحدٌ يظنّ أنّه سيصل الاختلاط إلى هذا الحدّ الّذي وصل إليه في بلاد المسلمين ، وصاروا يتبجّحون ويجهرون وعلى اللاّفتات يكتبون : " المدرسة المختلطة " ..
حين نادى بنو علمان ( العلمانيّون ) بالاختلاط بين الجنسين قلنا : لا ينتظر منهم غير ذلك ، فبعد أن كنّا نبكي على ذهاب دين هؤلاء ازددنا بُكاءً على ذهاب عقولهم ، لأنّ عقولهم أصابها مخدّر الجنس ، وهذا مصداق لما يذهب إليه الدّكتور ألكسيس كاريل إذ يقول : " عندما تتحرّك الغريزة الجنسيّة لدى الإنسان تُفرِز نوعا من المادّة الّتي تتسرّب في الدم إلى دماغه، وتخدّره، فلا يعود قادرا على التّفكير الصّافي " . وما أحسن قول المولى - تبارك وتعالى - : ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) [ الحجّ : 46 ] .
فأولئك لا تسوقهم عقولهم ، وإنّما تسوقهم شهواتهم ، وهم يبتعدون عن الاعتبار بمصارع الأمم الّتي ينادي مفكّروها ورجالها وكتّابها وأدباؤها بضرورة الفصل بين الرّجال والنّساء .
تقول إحدى الباحثات من الصحفيّات المشهورات الأميريكيّات واسمها " هيليسون ستانسبري " بعد ما زارت البلدان الإسلاميّة :
" إنّ المجتمع العربيّ مجتمع كامل وسليم ، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسّك بتقاليده الّتي تُقيِّد الفتاة والشّباب في حدود المعقول . فعندكم تقاليد تحتّم عدم الإباحيّة الغربيّة الّتي تهدّد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأميريكا . لهذا أنصح بأن تتمسّكوا بتقاليدكم وأخلاقكم ، وامنعوا الاختلاط ، وقيّدوا حرّية الفتاة ، وارجعوا إلى عصر الحجاب . لقد أصبح المجتمع الأميريكيّ مجتمعا معقَّدا ، مليئا بكلّ صور الإباحيّة والخلاعة ، وإنّ ضحايا الاختلاط والحرّية قبل سنّ العشرين تملأ السّجون والأرصفة والحانات والبيوت السرّية ! " .
الأدلّة على تحريم الاختلاط بين الجنسين :
روى عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ » فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ ؟ قَالَ : « الْحَمْوُ الْمَوْتُ » . والحمو : هو قريب الزّوج كأخيه وعمّه وابن عمّه الخ ..
فالشّريعة الإسلاميّة أغلقت منافذ الشّيطان حتّى لا يتسلّل إلى قلب المسلم فيثير فيه الشّهوة ، فحرّم الله إطلاق البصر والدّخول على النّساء ولمسَهنّ ، فكيف بالاختلاط !؟ ومن كان يريد الأدلّة المؤيّدة لذلك فما عليه إلاّ أن يُلْقِي نظرة سريعة خاطفة على أحكام المرأة عند الخروج من بيتها عموما ، ثمّ أحكامها في أشرف البقاع ، وهي المساجد خصوصا .
أوّلا : أحكام المرأة عند خروجها من بيتها :
الأصل الّذي اتّفق عليه العلماء هو أنّ المرأة مبناها على القرار في البيوت ، قال - تعالى - : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ ) [ الأحزاب : 33 ] . حتّى إنّ الله - تعالى - جعل صلاة المرأة في بيتها أفضلَ من صلاتها في مسجد قومها ، وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها في مسجد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وأنّه ما تقرّبت المرأة إلى الله بشيء كما تقرّبت بقرارها في بيتها .
فإن اضطرّت أو احتاجت إلى الخروج من بيتها لأيّ سبب ولو إلى المسجد فعليها أن تُراعِي الشّروط الّتي ذكرت في الكتاب والسنّة وأقوال علماء الأمّة . كلّ ذلك استجابة لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه التّرمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ » .
فأوّل الشّروط : تستّرها وألاّ تخرج متعطّرة ، وإن وضعت في بيتها عطرا وطرأ عليها ما يوجب خروجها فعليها أن تُزيله ، وإلاّ دخلت تحت الوعيد الشّديد الّذي جاء على لسان أشرف العبيد !
روى أبو داود والتّرمذي والنّسائي وأحمد عَنْ عبدِ الله بْنِ قَيس أبي موسى الْأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ » .
ألاّ تخضع بالقول ، قال - تعالى - : ( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) [ الأحزاب : 32 ] ، هذا الخطاب وُجِّه لأمّهات المؤمنين أطهر النّساء سيرة ، وأصفاهنّ سريرة ، والخضوع بالقول نوعان :
الأوّل : هو الكلام اللّيّن الّذي فيه تغنّج وتغنّ ، فلا يحلّ للمرأة أن تخاطب الأجانب على الطّريقة الّتي تخاطب بها زوجها .
الثّاني : هو الكلام الزّائد عن الحاجة ، وللأسف فإنّك ترى المرأة تحدّث البائع في المحلاّت وكأنّه محرما لها .
المشي بالسّكينة والوقار ، وهذا أمر عامّ للرّجال والنّساء ، قال - تعالى - : ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ) [ لقمان : 19 ] ، وهذا الأمر في حقّ المرأة آكد ، فلا يحلّ لها أن تمشي وتتحدّث كما لو أنّها في بيت أهلها ، ولتتذكّر قول قتادة - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى - : ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ) [ الأحزاب : 33 ] قال : كانت لهنّ مِشية تخنّث وتغنّج .
أمن الفتنة : وهو الاعتداء عليها بالقول والفعل .
ترك الاختلاط بالرّجال ، في الأسواق ، والحافلات ، وفي الطّريق ، وفي الدّراسة ، بل وفي المسجد .
ثانيا : وأحكامها عند الخروج إلى المسجد :
فعليها أن تُراعي الشّروط الّتي سبق ذكرها ، روى مسلم عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ كَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ » . وروى مسلم أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ » .
ثمّ نلاحظ أنّ :
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - جعل بابا خاصّا للنّساء بالمسجد لا يدخل منه الرّجال ، روى أبو داود عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : « لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ » . قَالَ نَافِعٌ : فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ - رضي الله عنه - حَتَّى مَاتَ . هذا في المسجد فلا تتحدّث عن غيره !؟
أنّه جعل خير صفوف النّساء آخرها ، مع أنّ هناك فاصلا بين الرّجال والنّساء ليجد المسبوق من الرّجال مكانا يُصلّي فيه . روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : « خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا ، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا » .
إذا ناب الإمامَ شيء فعليها التّصفيق ، والتّسبيح للرّجال ، ففي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ » .
على النّساء أن يخرجن قبل الرّجال ، وعلى الرّجال أن يمكثوا قليلا بعد كلّ صلاة حتّى ينصرف النّساء لئلاّ يحدُث اختلاط بينهم ، روى البخاري وأبو داود - واللّفظ له - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَلَّمَ ، مَكَثَ قَلِيلًا ، وَذَلِكَ كَيْمَا يَنْفُذُ النِّسَاءُ قَبْلَ الرِّجَالِ » .
كلّ هذا في المسجد ، أطهر البقاع ، وأفضل الأماكن ، فما القول في الأسواق ؟ وما الحكم في المدرسة ؟ وما الرّأي في الحافلة والطّريق ؟
شبهة والردّ عليها ؟
وفي الحقيقة هذه ليست شبهة على من يجلس على مائدة العلم والفقه ، وإنّما هي شبهة ترد على من يجلس إلى المستغرِبِين ، فإنّهم أذاعوا في النّاس وأشاعوا دسيسة مفادها أنّ الاختلاط بين الجنسين يُهذّب الطّباع ، ويصبح نظر كلّ منهما إلى الآخر عادةً ، فيقلّل من التّفكير في قضايا الجنس !!
وهذا محض افتراء على الشّريعة الغرّاء ، وقد ردّها علماء النّفس أنفسهم وعدّوها من الضّلالات الفكريّة ، ويكذّبه الواقع من وجهين :
الأوّل : الاختلاط التّام بين الزّوجين لم يكن قط سببا لرغبة كلّ منهما عن الآخر ، بل إنّ صاحب الفطرة السّليمة والشِّرعة القويمة يعلم جيّدا أنّ حبّ الزّوجين كليهما للآخر يكبر مع الأيّام ويزداد مع الأعوام .
الثّاني : إنّنا نرى الاختلاط على أشدّه في دول الغرب ، ومع ذلك فإنّنا نرى الرّجال والنّساء يتسافدون كتسافد الحمير ، ويعيشون عيشة القردة والخنازير ، فيزدادون شبقا حتّى أضحت الأسرة إلى زوال .
وما عليك إلاّ أن تقرأ الإحصاءات الرّهيبة - وهي في ازدياد - ، ففي إحدى المدارس الثّانويّة بأمريكا بلغت نسبة الفتيات الحُبالى 48 % !!
وما أحسن قول أحد الكُتّاب- وهو الأستاذ فتحي يكن - : " لا بدّ من الاعتراف بأنّ الغرائز - كلّ الغرائز - عُرضةٌ للانطلاق والانكماش والمدّ والجزر تَبَعًا للمثيرات أو المهدّئات .. فالّذي يجلس على مائدة تزدحم بأنواع التّوابل يكون إقباله على الطّعام أشدّ ممّن حُرِم منها ، وهذا من شأنه أن يعمل يوما بعد يوم على مضاعفة حاجته الغذائيّة تَبَعًا لامتداد أمعائه ، وصدق .. حيث قال :
فلا ترُم بالمعاصـي كسر شهوتـها * إنّ الطعـام يقـوّي شهـوة النّهِـمِ
والنّفس كالطّفل إن تهمله شبّ على * حبّ الرّضـاع، وإن تفطمه ينفطـم
فاصرف هـواها وحاذر أن تولّيـه * إنّ الهـوى ما تولّـى يُصمّ أو يصِمِ
والّذين يعيشون في أحضان المغريات والمفاتن يكونون عُرضةً للإرهاق والكبت الجنسيّ أكثر من غيرهم ، لأنّ توابل الشّهوة ومقبّلاتها ستثِير غرائزهم الجنسيّة ، وتدفعهم إلى تصريفها بمختلف الوسائل والطّرق دونما تفكير أو تقدير .. وهنا تدقّ إشارة الخطر " .
والله أعلم وأعزّ وأكرم .
المصدر : موقع " منار الجزائر "
http://www.manareldjazair.com/index....d=362&Itemid=6