مدح العلماء أو ذمهم.. حكم شرعي


الشيخ: فَتْحي بِن عَبدِ الله المَوْصِليِّ


بين أيدينا ثلاث قضايا مهمة في مسألة مدح العلماء وذمهم، القضية الأولى توضح أن لمدح العلماء والدعاة أسبابًا، كما أن لذمهم أسبابًا، وقد تجتمع في الرجل الواحد أسباب المدح الذم، فيمدح بشيء ويذم بآخر، وقد تتقابل أسباب المدح والذم وتتعارض؛ فيقدم الغالب الراجح منها، والترجيح لا يكون إلا بعلم، وحقيقته تكون في تجريد النفس عن الهوى والتجرد للحق؛ فمن كانت طرائقه في الترجيح علمية، ومقاصده في التصحيح دينية، واختياراته في التقديم مصلحية، واعتباراته في الانتقاد شرعية، فهو الموفق في باب الاعتذار والانتقاد بلا إفراط ولا تفريط، ويكون من أهل الاجتهاد المشكور أو السعي المأجور.

القضية الثانية

الرد على المخالف بالعلم والعدل، وبالأدلة النقلية والاستدلالات العقلية، والآداب الشرعية، ضرورةٌ دينيةٌ، ومصلحةٌ شرعيةٌ، ووسيلةٌ دعويةٌ، وطريقةٌ سلفيةٌ، ومنهجيةٌ علميةٌ، موضوعة لحفظ الدين، وبيان خطأ من أخطأ على الشريعة، ولاستنقاذ العامة من تشويش المشككين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين.

الرد على المخالف

وهذا الردّ على المخالف يتخرج على ثلاثة أبواب من أبواب الشريعة:

- الأول: في باب المناصحة في الدين.

- والثاني: باب واجب الوقت.

- والباب الثالث: مراعاة المصلحة عند الرد أو السكوت والموازنة بينهما.

لهذا كل ردٍّ على المخالف لا يخرج مخرج النصيحة، ولا يراعى فيه واجب الوقت، ولا ينظر فيه إلى المصلحة، يكون ذريعة إلى فُرقة أو طريقاً إلى فتنة أو قد يفتح بابا إلى البدعة، فالمخالفة داء، والرد على المخالف من جنس الدواء، ولابد أن يناسب الدواء الداء زمنا ومكانا وحالا ومقدارا.

نكتة دقيقة

وهنا نكتة دقيقة، وهي ضرورة التفريق في باب الرد والنقد، بين أمرين:

هل الأصلح الرد على المخالف بعينه وشخصه، أو إدراج مخالفته وخطئه في باب بحث مسائل العلم؛ فيكون بحثها في باب (مسائل العلم وشرحها) لا في (باب الردود والمناظرات وتوابعها)؟

والجواب عن هذا السؤال يكون من وجه مجمل ومن وجه مفصل.

أما الجواب المجمل: فيقال: إن اختيار أحد الطريقين في الردّ متوقف على اعتبار المصلحة الراجحة.

الأصل في الرد على المخالفين

- أما الجواب المفصل: فيقال: إن الأصل في الرد على المخالفين يكون على العموم، على قاعدة (ما بالُ أقوام)، وتكون على الخصوص بالرد على المخالف بشخصه عند الحاجة ورجحان المصلحة.

القضية الثالثة

ليس من شرط العالم الذي تكون أصوله صحيحة واعتقاداته واضحة سليمة أن يكون محرراً محققاً لجميع المسائل التي يتكلم فيها؛ نعم واجب عليه أن لا يتكلم في المسائل التي تعمّ بها البلوى والتي تكون مظنة الخلاف والفتنة إلا بعد النظر الدقيق والبحث السديد؛ لكن فرق بين شرط الوجوب وشرط الصحة وبين الواجب والواقع.

لهذا غاية ما يقال عن العالم المعروف بالاتباع وصحة الاعتقاد في المسائل التي لم يوفق فيها ولم يهتدِ إلى تحرير محل الخلاف فيها: إن كلامه فيها مردود، وقوله فيها محجوج، واختياره لها مرجوح من غير تبديع ولا تصنيف، ولا تهويل ولا تطويل إلا التركيز على الارشاد والتوجيه، والاعتناء ببيان جهة الخطأ في الكلام والتأصيل، مع الإبقاء على المناصحة وحفظ المكانة والمنزلة، وعدم تضييع الجهود الماضية والآثار النافعة، ولا التفتيش عن النيات الكامنة والمقاصد الباطنة بدعوى وجود القرائن الظاهرة.


نصيحتي إلى الدعاة

ونصيحتي إلى الدعاة من أهل العلم والدعوة إلى ضرورة المرابطة على ثغور الوسطية، والالتزام بالعلم والعدل في الردود العلمية، وعدم الخروج عن الضوابط الشرعية عند القيام بواجب حراسة السنة النبوية، والابتعاد عن ردود الأفعال وتصفية الحسابات وتتبع الأخطاء والزلات في المناظرات العلمية والمساجلات الفقهية، والحرص على الموازنة العادلة بين الأخذ بموجبات الاعتذار والنهوض بواجب الانتقاد، وبين الدفع والطلب، وبين دفع مفسدة المخالف والطمع بهدايته، وبين حفظ الشريعة وحفظ حق المخالف، وبين البلاد التي السنة فيها ظاهرة والبلاد التي فيها البدعة حاكمة، فأنتم يا دعاة القرآن والسنة العدول الشهداء الذين يرحمون الخلق ويتحروّن الحق.