خطبة الحرم المكي - الإنصاف من مكارم الأخلاق


مجلة الفرقان

جاءت خطبة الجمعة في الحرم المكي بتاريخ 10من صفر 1443هـ - الموافق 17/9/2021م للشيخ بندر بليلة عن أن الإنصاف من مكارم الأخلاق وأن الإنصاف يعني العدل ووضع الشيء في موضعه، وكان مما جاء في هذه الخطبة:

الإسلام دين الأخلاق النبيلة

دين الإسلام دين الأخلاق النبيلة، والآداب الجميلة، دين يقرر ثبات الأخلاق الكريمة ويوجبها ويُنشئ بنيه عليها. أخلاق تزكو الأمم بشذاها.. وسجايا تُبل النفوس بنداها. إنها أصل أصيل في الاعتقاد الحق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بيان منهج السلف: ويدعونا إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا». ومما يُنبئ عن منزلتها ومكانتها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حصر بعثته في تتميم مكارم الأخلاق فقال: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق» أخرجه الإمام أحمد وصححه الحاكم.

كان خلقه القرآن - صلى الله عليه وسلم

وكان -عليه الصلاة والسلام- بالمحل الأرفع من جمال الخلق وحسنه، قال -سبحانه ممتدحا إياه-: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. وسُئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن.

الإنصاف هو العدل

ويأتي في طليعة الأخلاق الكريمة والخلال العظيمة خلة حميدة، وخُلُق جليل يورث النبل والخير، ويصيب صاحبه من ورائه الصواب، إنه الإنصاف، والإنصاف يعني العدل ووضع الشيء في موضعه، وإعطاء المرء غيره من الحق مثل الذي يُحب أن يأخذه منه. ولقد أتت النصوص الشرعية حاضّة عليه، آمرة به، قال الحق -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}. وأمر -سبحانه- نبيه -عليه الصلاة والسلام- أن يقول: {وأمرت لأعدل بينكم}.

أقوال السلف في الإنصاف

قال عمار بن ياسر - رضي الله عنه -: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان، الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار. وقال أبو الزناد -رحمه الله-: إن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقا إلا أدّاه، ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه وذلك يجمع أركان الإيمان. وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: ما أحسن الإنصاف في كل شيء! إنه برهان على سمو النفس، والتجرد من الأثرة والهوى، وعاقبته علو الهمة، وبراءة الذمة وهو سبب في جو المحبة بين الناس، وعامل مهم في هنائهم وسعادتهم.

وتحلَّ بالإنصاف أفخر حلة

زينت بها الأعطاف والكتفان

الإنصاف مع الله

إن للإنصاف مراتب عدة، فأولها وأولاها الإنصاف مع الله -جل جلاله- بعبادته وحده لا شريك له، فالشرك به -سبحانه- يضاد الإنصاف، وهو أقبح الظلم وأسوؤه، قال -تعالى-: {إن الشرك لظلم عظيم}. وسأل ابن مسعود - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أي الذنب أعظم؟! قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» أخرجه البخاري ومسلم.

الإنصاف مع النبي - صلى الله عليه وسلم

وثانيها الإنصاف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقيام بحقوقه كافة، إيمانا به ومحبة له وإجلالا وطاعة وتوقيرا، وتقديما لأمره وقوله على أمر غيره وقوله.

الإنصاف من النفس

وثالث المراتب إنصاف المرء نفسه من نفسه، وتلك مرتبة سامية، فمن لا يستطيع إنصاف نفسه لا يستطيع إنصاف غيره؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، ويُنصف المرء نفسه بألا يدعي لها ما ليس لها، ولا يدنسها بارتكاب الرذائل والمعاصي، وأن يرفعها بطاعة الله -عز وجل- وحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه، وإيثار مرضاته على مرضاة غيره.

إنصاف الناس

ورابع مراتب الإنصاف، إنصاف الناس بأن ينصف المسلم غيره من نفسه بالتجرد في الحكم عليه، والبحث عن قصده في الكلام الذي يسمعه منه أو يبلغه عنه مع التبين والتثبت قبل الحكم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}. يُنصف المسلم غيره بإحسان الظن به، وحمل كلامه على أحسن الوجوه. قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبه، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا.

قلة الإنصاف

إن قلة الإنصاف تُبعد ما بين الأقارب والخلان، وكم من خلاف نشأ بين أخوين أو صاحبين بسبب جحود أحدهما بعض ما يتحلى به الآخر من فضل، أو رد عليه رأيًا أو رواية وهو يعلم صوابه فيما رأى وصدقه فيما روى. ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم.

رقي الأمم بطيب أخلاقها

إن الأمم التي تنشد الرقي والتقدم تحتاج أرواح بنيها إلى زاد طيب هنيء من الأخلاق المجيدة والشمائل الحميدة، كما تحتاج أجسامهم إلى الغذاء الجيد من الطعام؛ لتقوى به على طلب المعايش، والإنصاف غذاء لا غنى عنه.


الحسد والغلو في حب الذات

ومن أراد أن يتحلى بخلق الإنصاف فليبحث في نفسه عن عِلّتَيْ الحسد والغلو في حب الذات، فإن وجد لهما أثرا، راض نفسه وقهرها حتى ترجع إلى فطرتها، وخير ما يُنفى به الحسد أن يعلم المرء أن حكمة الله اقتضت جعل هذا الفضل في هذا الإنسان، فلا يُعترض ولا يُكره ما اقتضت الحكمة الإلهية لئلا يقع في المأثم، وأما الغلو في حب الذات فدواؤه التهذيب لتكون عاطفة معتدلة تجلب له الخير، وتأبى أن ينال غيره بمكروه. قال ابن حزم -رحمه الله-: من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه فإنه يلوح له وجه تعسفه.