الحرص على الدنيا ينافي تمني الموت

د. أمير الحداد


بعث الله -عز وجل- روسوله - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة، الكفار واليهود والمجوس والنصارى، وآتاه من الآيات ما يقيم عليهم الحجة جميعا، ولكل فئة من هذه الفئات آيات خاصةبهم مع الآيات والحجج العامة، فلا حجة لأحد بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ألاَّ يؤمن به ويتبعه. كنا أربعة نفر نقلب كتابا اختص بتفسير الآيات التي نزلت في اليهود بين العشائين، في مكتبة المسجد.

والله ما يملك يهودي ولا نصراني -صادق في معرفة الحق واتباعه- إلا أن يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» مسلم. وعيد شديد لكل يهودي ونصراني، نسأل الله العافية. وانظر إلى الآيات التي أقام الله بها الحجة على اليهود خاصة، وذلك أنهم زعموا، أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، يقول الله -عز وجل-: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة).

قل لهم يا محمد: {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} يعني الجنة. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في أقوالكم؛ لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا، لما يصير إليه من نعيم الجنة، ويزول عنه من أذى الدنيا، فأحجموا عن تمني ذلك فرقا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكفرهم في قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه}، وحرصهم على الدنيا؛ ولهذا قال -تعالى- مخبرا عنهم بقوله الحق: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }، تحقيقا لكذبهم.

وأيضا لو تمنوا الموت لماتوا، كما في مسند الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند الكعبة لآتيَّنُه حتى أطأ على عنقه، قال: فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عيانا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا. (صححه شاكر).

والمراد بالتمني هنا: هو التلفظ بما يدل عليه، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة، ومواطن الخصومة، ومواقف التحدي، وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف والتجرؤ على الله وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة في غير ما موطن قد حكاه عنهم التنزيل، فلم يتركوا عادتهم هنا إلا لما قد تقرر عندهم من أنهم إذا فعلوا ذلك التمنى نزل بهم الموت.

وهذا التحدي إبطال لدعوى قارةٍ في نفوسهم اقتضاها قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} (البقرة:91)، الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها، وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم، وتكون الآخرة لهم، فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم، والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله -تعالى- بعبادة العجل، عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة، وأن من خالفهم لا يكون له حظ في الآخرة، وسلك في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك، فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم، ويسقط في أيديهم؛ لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين؛ فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم.

وقد قيل: إن هذه الآية رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} (المائدة:18)، وقولهم {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا} (البقرة:111)، وأيا ما كان فهذه الآية تحدت اليهود وأبكمتهم وأقامت عليهم الحجة.

وقوله: فتمنوا الموت جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط -وهو أن الدار الآخرة لهم- والوسيلة للوصول إليه- هو تمني الموت، فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال عمير بن الحمام - رضي الله عنه :

جــــــريا إلى اللــه بغــير زاد إلا التقى وعمل المعاد

وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله:

يا حبذا الجنة واقترابها طيبـــــة وبارد شرابهــــا

وجملة {ولن يتمنوه أبدا} معترضة بين جملة {قل إن كانت لكم الدار الآخرة} وبين جملة {قل من كان عدوا لجبريل} (البقرة:97)، والكلام موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إعلاما لهم ليزدادوا يقينا، وليحصل منه تحد لليهود، إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم. والمراد {بما قدمت أيديهم} ما أتوه من المعاصي، سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازا كما في قوله -تعالى-: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة:195)؛ لأن اليد أهم آلات العمل. وقد عُدت هذه الآية في دلائل نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية.


وهي أيضا من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت، وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه؛ لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية، ويفيد بذلك إعجازا عاما على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز، وأنه من عند الله، على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد يهود عصر النزول؛ إذ لا يعرف أن يهوديا تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة.

وجملة والله عليم بالظالمين في موضوع الحال من ضمير الرفع في يتمنوه، أي: علم الله ما في نفوسهم، فأخبر رسوله بأن يتحداهم، وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت.