العِزَّة والإيمان صِنْوَان لا يفترقان، فمتى وَقَرَ الإيمان في قلب الرَّجل، وتشبَّع به كيَانُه، واختلط بشِغَاف قلبه،
تشرَّب العِزَّة مباشرةً، فانبثقت منه أقوال وأفعال صادرة عن شعور عظيم بالفَخْر والاستعْلاء،
لا فخرًا واستعلاءً على المؤمنين،
بل هو على الكافرين ،
بل يَنْتُج - أيضًا - عن هذا الخُلُق الكريم، صِدْقُ الانتماء لهذا الدِّين،
وقُوَّةُ الرَّابط مع أهله
، والتَّواضُع لهم، والرَّحمة بهم .
قال الله تعالى :
" وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ " [المنافقون: 8]
(فجعل العِزَّة صِنْو الإيمان في القلب المؤمن؛ العِزَّة المستمدَّة من عِزَّته تعالى،
العِزَّة التي لا تَهُون ولا تَهُن،
ولا تنحني ولا تلين،
ولا تُــزَايل القلب المؤمن في أحرج اللَّحظات،
إلَّا أن يتضَعْضَع فيه الإيمان،
فإذا استقرَّ الإيمان ورسخ، فالعِزَّة معه مستقِرَّة راسخة "
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ " وكيف يعلمون وهم لا يتذوَّقون هذه العِزَّة،
ولا يتَّصِلون بمصدرها الأصيل؟!)
والعِزَّة تَنْتُج عن معرفة الإنسان لنفسه، وتقديره لها،
وترفُّعه بها عن أن تصيب الدَّنايا، أو تُصَاب بها،
أو أن تَخْنَع لغير الله عزَّ وجلَّ أو أن تركع لسواه، أو أن تُدَاهن، وتحابي في دين الله عزَّ وجلَّ ،
أو أن ترضى بالدَّنيَّة فيه،
فهي نتيجة طبيعيَّة لهذه المعرفة،
كما أنَّ الكِبْر نتيجة طبيعيَّة للجهل بقيمة هذه النَّفس وبمقدارها،
يقول الراغب الأصفهاني : (العِزَّة : منزلة شريفة، وهي نتيجة معرفة الإنسان بقدر نفسه، وإكرامها عن الضَّراعة للأعراض الدُّنيويَّة، كما أنَّ الكِبْر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه، وإنزالها فوق منزلتها) [الذريعة إلى مكارم الشريعة،للراغب الأصفهانى] .

لم يفتأ كتاب الله عزَّ وجلَّ يبثُّ في قلب المؤمن وروحه هذا الشُّعور العظيم، الشُّعور بالعِزَّة المستمدَّة من عِزَّة هذا الدِّين وقُـوَّته، والمسْتَلْهَمة من آيات كتابه وتعاليمه، عِزَّةٌ تجعله يترفَّع عن كلِّ ما من شأنه أن يَحُطَّ من قدره، أو يُرْغِمه على إعطاء الدَّنيَّة في دينه
ففي العديد من آيات الكتاب الكريم، ينبِّه المولى -تبارك وتعالى- على هذه القضيَّة، والتي ينبغي على المؤمن أن يجعلها نُصْب عينيه، فلا يغفل عنها، ولا يتساهل بها؛ لأنَّ الإسلام إنَّما جاء بالعِزَّة لأتباعه والرِّفعة لأوليائه .
وقبل أن نشْرَع في ذكر الآيات التي تحثُّ على صفة العزة وتدعو إليها
نذكر قول ابن الجوزي وهو يتحدَّث عن العِزَّة في القرآن،
فيقول :
(ذكر بعض المفسِّرين أنَّ العِزَّة في القرآن على ثلاثة أوجه :
أحدها : العَظَمَة، ومنه قوله تعالى في سورة الشُّعراء : " وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ " [الشُّعراء:44] وفي سورة ص : " قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ " [ص: 82] .
والثَّاني : المنْعَة، ومنه قوله تعالى في سورة النِّساء : " أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا " [النِّساء: 139] .
والثَّالث : الحَمِيَّة، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة : " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ " [البقرة: 206] وفي سورة ص : " بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ " [ص: 2]) ( [نزهة الأعين النواظر فى علم الوجوه والنظائر،لابن الجوزى] .
- قال الله تبارك وتعالى : " مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا " [فاطر: 10] .
(أي : من كان يَوَدُّ أن يكون عزيزًا في الدُّنْيا والآخرة، فليلزم طاعة الله تعالى، فإنَّ بها تُنَال العِزَّة؛ إذْ لله العِزَّة فيهما جميعًا) [تفسير المراغى ، لأحمد مصطفى المراغى] .
ويقول الشِّنقيطي :
(بيَّن -جلَّ وعلا- في هذه الآية الكريمة : أنَّ من كان يريد العِزَّة، فإنَّها جميعها لله وحده، فليطلبها منه، وليتسبَّب لنيلها بطاعته -جلَّ وعلا- فإنَّ مَنْ أطاعه، أعطاه العِزَّة في الدُّنْيا والآخرة)
[أضواء البيان ،للشنقيطى]
و(هذه الحقيقة كفيلة -حين تستقرُّ في القلوب- أن تبدِّل المعايير كلَّها، وتبدِّل الوسائل والخطط أيضًا! إنَّ العِزَّة كلَّها لله، وليس شيء منها عند أحد سواه، فمن كان يريد العِزَّة، فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره، ليطلبها عند الله، فهو واجدها هناك، وليس بواجدها عند أحد، ولا في أي كَنَف، ولا بأي سبب فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)
[أضواء البيان ،للشنقيطى] .
- وقال الله تبارك وتعالى :
" وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ " [المنافقون: 8]، وهنا ( يضمُّ الله -سبحانه- رسوله والمؤمنين إلى جانبه، ويُضْفِي عليهم من عِزَّته، وهو تكريم هائل، لا يكرِّمه إلا الله ! وأي تكريم بعد أن يُوقِف الله - سبحانه- رسوله والمؤمنين معه إلى جواره، ويقول : ها نحن أُولاء ! هذا لواء الأعزَّاء)
وفي السُّنَّة النَّبَويَّة :
((أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عُيينة بن حصن بن حذيفة، والحارث بن عوف بن أبى حارثة، رئيسي غَطَفَان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة، وجرت المراوَضةَ في ذلك، ولم يتمَّ الأمر، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا : يا رسول الله، أشيء أمرك الله به فلا بدَّ لنا منه ؟ أم شيء تحبُّه فنصنعه، أم شيء تصنعه لنا ؟ قال : بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا أنِّى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله، قد كنَّا نحن وهؤلاء القوم على الشِّرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطيقون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرَى أو بَيْعًا، فحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام، وهدانا له، وأعزَّنا بك وبه- نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلَّا السَّيف، فصوَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، وتمادوا على حالهم)) [ذكره ابن حزم فى جوامع السيرة] .
اقوال السَّلف والعلماء في العِزَّة :
- قال عبد الله بن عمرو :
(إيَّاك وعزَّة الغضب، فيضيرك إلى ذُلِّ الاعتذار. وإذا ما عَرَتك في الغضب العِزَّة فاذكر مَذَلَّة الاعتذار) [الشكوى والعتاب،للثعالب ى] .
- وقيل للحسن بن علي رضي الله عنهما : فيك عَظَمَة، قال : لا، بل فيَّ عِزَّة الله تعالى، قال الله تعالى : " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ " [المنافقون: 8] [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار] .
- وقال ابن أبي لبابة : (من طلب عِزًّا بباطل أورثه الله ذُلًّا بحقٍّ) [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار،للزمخشر ى] .
- قال رجل للحسن : (إنِّي أريد السِّند فأوصني، قال : أَعِزَّ أَمْرَ الله حيث ما كنت، يُعِزَّك الله ، قال : فلقد كنت بالسِّند، وما بها أحدٌ أعزَّ منِّي) [الشكوى والعتاب،للثعالب ى] .
- وقال ابن عطاء : (العِزُّ في التَّواضع، فمن طلبه في الكِبْر، فهو كتطلُّب الماء من النَّار) .
- وقال بعض السَّلف : (النَّاس يطلبون العِزَّ بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلَّا في طاعة الله)
[إغاثة اللهفان لابن القيم] .
- وقال إبراهيم بن شيبان : (الشَّرَف في التَّواضع. والعِزُّ في التَّقوى. والحرِّية في القناعة) .

أقسام العِزَّة :
العِزَّة الشَّرعيَّة :
إنَّها العِزَّة الحقيقيَّة.. العِزَّة في الحقِّ، وبالحقِّ، والتي يكون صاحبها عزيزًا ولو كان ضعيفًا مَظْلومًا، شامخًا ولو كان طريدًا مُستضَامًا، فتجده لا يركع إلا لله، ولا يتنازل عن شيء ممَّا أَمَره به، فهو يَعْتَزُّ بعِزَّة الله - تبارك وتعالى - الذي يُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، فهذه هي العِزَّة بالحقِّ؛ لأنَّها اعْتِزَاز بمن يملكها، وإذعان له، وانتساب لشرعه وهديه .
وهي التي ترتبط بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، يقول تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8]، ووجه ذلك: أنَّ العِزَّة - التي لله ولرسوله وللمؤمنين - هي الدَّائمة الباقية، التي هي العِزَّة الحقيقيَّة، والعِزَّة التي هي للكافرين : هي التَّعزُّز، وهو -في الحقيقة- ذُلٌّ .
إنَّ (العِزَّة والإِباء والكرامة من أبرز الخِلَال التي نادى بها الإسلام، وغرسها في أنحاء المجتمع، وتعهَّد نماءها بما شرع من عقائد، وسنَّ من تعاليم، وإليها يشير عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه بقوله : أُحِبُّ الرَّجل -إذا سِيمَ خطَّة خَسْف - أن يقول - بملء فيه - : لا)

صور العِزَّة الشَّرعيَّة :
1- الاعْتِزَاز بالله تبارك وتعالى :
فهو يعرف أنَّ الله عزيز، يَهَب العِزَّة من يشاء، كما أنَّه ينزعها ممَّن يشاء، كما أنَّه يوقن أنَّ الاعْتِزَاز بالعزيز عزَّة ، والاعتماد عليه قوَّة، والالتزام بنَهْجِه شموخ فتراه قويًّا بإيمانه به عزيزًا بتوكُّله عليه شامخًا بيقينه به .
وهو يعلم أنَّ الاعْتِزَاز بغيره ذلٌّ وهَوَان، والاستقواء بغيره ضعف، مُعْتَبِرًا بحال كلِّ من اعتزَّ بغير الله تعالى كيف هَوَى إلى مدارك الذِّلة، وهبط إلى حضيض المهَانة، وكيف تخلَّى عنه من اعتزَّ بهم، ليتَدَحْرج من ذُرَى العلياء والمجد - المزعوم الكاذب - إلى أسفل دركات الذُّلِّ؛ قال عبيدة بن أبي لبابة : (من طلب عزًّا بباطل وجور، أورثه الله ذُلًّا بإنصاف وعدل) [غرر الخصائص الواضحة،للوطواط] .
2- الاعْتِزَاز بالانتساب للإسلام، والاعْتِزَاز بهديه وشرائعه :
فهو يعلم أنَّ هذا الدِّين دين العِزَّة والقوَّة، الذي يستمدُّ المسلمون عزَّهم من عِزِّه، وقوَّتهم من قوَّته، ومتى طلبوا العِزَّة في سواه -من مناهج الأرض الشَّرقيَّة أو الغربيَّة- أذلَّهم الله .
كما أنَّه لا يعتزُّ بقبيلة أو قوميَّة أو نسب أو عِرْق ممَّا ينتسب إليه أهل الجاهليَّة في القديم والحديث، بل عزَّته بدينه فقط، وعلى هذا ربَّى نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أصحابه، فلمَّا سمعهم -بأبي هو وأمي، صلَّى الله عليه وسلَّم- ينادي بعضهم : يا للأنصار، وآخرون ينادون : يا للمهاجرين، قال صلى الله عليه وسلم : ((أبِدَعْوَى الجاهليَّة وأنا بين أظهركم)) [ذكرها ابن هشام فى السيرة]وقال: ((دعوها فإنَّها منتنة)) [رواه البخارى ومسلم] .
حال المسلم - في اعْتِزَازه بدينه - كحال أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه حين قال : (نحن أمَّة أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العِزَّة بغيره، أذلَّنا الله) [صححه الألبانى فى سلسلة الأحاديث الصحيحة على شرط الشيخين] .
فلا اعْتِزَاز إلَّا بالإسلام، ولا انتماء إلَّا إلى الإسلام .

أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
3- الاعْتِزَاز برسول الله صلى الله عليه وسلم :
فهو يعتَــزُّ بكونه فَرْدًا في أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ينتسب إليه إذا انتسبت الأمم، ويُفَاخر به إذا ذُكِر القادة والمصلحون العظماء، يرجو شفاعته، ويتمنَّى لقائه، ويسأل الله أن يوفِّقه للسِّير على نهجه وإحياء سنَّته، والقيام بحقوقه .

العِزَّة غير الشَّرعيَّة :
كاعْتِزَاز الكفَّار بكفرهم، وهو -في الحقيقة- ذُلٌّ، يقول -سبحانه- : " بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ " [ص: 2] أو الاعْتِزَاز بالنَّسب على جهة الفَخْر، أو الاعْتِزَاز بالوطن والمال ونحوها، كلُّ هذه مذمومة .
من صور العِزَّة غير الشَّرعيَّة :
1- الاعْتِزَاز بالكفَّار من يهود ونصارى ومنافقين وغيرهم :
قال تعالى : " بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا " [النِّساء: 138-139] .
(واللهُ - جلَّ جلاله - يسأل في استنكار : لِمَ يتَّخذون الكافرين أولياء، وهم يزعمون الإيمان ؟ لِمَ يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتَّخذون لأنفسهم هذا الموقف ؟ أهم يطلبون العِزَّة والقوَّة عند الكافرين ؟ لقد استأثر الله عزَّ وجلَّ بالعِزَّة، فلا يجدها إلَّا من يتولَّاه، ويطلبها عنده، ويَرْتَكِن إلى حِمَاه)

2- الاعْتِزَاز بالآباء والأجداد :
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ((لينتهينَّ أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنَّما هم فَحْم جهنَّم، أو ليكوننَّ أهْوَن على الله من الجُعَلِ الذي يُدَهْدِهُ الخِرَاءَ بأنفه، إنَّ الله أذهب عنكم عُبِّـيَّةَ الجاهليَّة وفخرها بالآباء، إنَّما هو مؤمن تقيٌّ، وفاجر شقيٌّ، النَّاس كلُّهم بنو آدم، وآدم خُلِق من تراب)) [حسنه الألبانى ،صحيح سنن الترمذى] .

3- الاعْتِزَاز بالكثرة، سواءً كان بالمال أو العدد :
قال تعالى في قصَّة صاحب الجنَّة، في سورة الكهف : " وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا " [الكهف: 34] .
قال ابن كثير : " أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا " (أي : أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا) .
قال قتادة : تلك -والله- أمنيَّة الفاجر : كثرة المال وعزَّة النَّفر [تفسير ابن كثير] .


أسباب العِزَّة الشَّرعيَّة :
1- الاعتقاد الجازم والإيمان اليقينيُّ بأنَّ الله تعالى هو العزيز الذي لا يَغْلِبه شيء، وأنَّه هو مصدر العِزَّة وواهبها، قال تعالى : " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " [آل عمران: 26] فلا نصر إلَّا به، ولا استئناس إلَّا معه، ولا نجاح إلَّا بتوفيقه .
قال ابن القيِّم : (العِزَّة والعُلُوُّ إنَّما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو عِلمٌ وعملٌ وحالٌ، قال تعالى : " وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " [آل عمران: 139] فللعبد من العُلُوِّ بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى : " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ " [المنافقون: 8] فله من العِزَّة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظٌّ من العُلُوِّ والعِزَّة، ففي مُقَابَلة ما فاته من حقائق الإيمان، علمًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا) [إغاثة اللهفان ،لابن القيم] .
وهنا يُقْبِل مُريد العِزَّة على طاعة الله -تبارك وتعالى- فبمقدار طاعته له، تكون العِزَّة والشَّرَف والسُّؤدد، والعكس.. قال تعالى : " مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا " [فاطر: 10] قال طنطاوي : (والمعنى : من كان من النَّاس يريد العِزَّة التي لا ذِلَّة معها. فليطع الله، وليعتمد عليه وحده، فللَّه - تعالى - العِزَّة كلُّها في الدُّنْيا والآخرة، وليس لغيره منها شيء... قال القرطبي ما ملخَّصه : يريد -سبحانه- في هذه الآية، أن ينبِّه ذوي الأقدار والهمم، من أين تُنَال العِزَّة، ومن أين تُسْتَحق، فمَنْ طلب العِزَّة من الله- تعالى- وجدها عنده - إن شاء الله-، غير ممنوعة ولا محجوبة عنه.. ومن طلبها من غيره، وَكَلَه إلى من طلبها عنده... ولقد أحسن القائل .

وإذا تذلَّــلَتِ الــرِّقاب تواضعًا منَّا إليك فعزُّها في ذلِّها [التفسير الوسيط للطنطاوى] .
وقال قتادة : (من كان يريد العِزَّة، فليتعزَّز بطاعة الله تعالى) [السراج المنير ، للخطيب الشربينى] .
وكما أنَّ الطَّاعة تكسو الإنسان ثوب العِزَّة، وتَخْلَع عليه ثياب الكرامة، فإنَّ المعصية تكسوه ثياب الذُّلِّ، وتَخْلَع عليه المهَانة والانكسار، (والمعاصي تَسْلُب صاحبها أسماء المدح والشَّرَف والعِزَّة، وتكسوه أسماء الذُّل والذَّمِّ والصَّغار، وشتَّان ما بين الأمرينر: " أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ " [السجدة: 18] [موسوعة فقه القلوب، للتويجرى] .

2- متابعة الرَّسول صلى الله عليه وسلم في هديه، وطاعته في أمره، ولزوم سنَّته، فإنَّه بقدر ذلك تكون عِزَّة العبد في الدُّنْيا، وفلاحه في الآخرة، ودليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله ابن عمرو أنَّه قال : ((بُعِثْت بالسَّيف بين يدي السَّاعة، وجُعِل رزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعل الذُّل والصَّغار على من خالف أمري)) [صححه الألبانى فى صحيح الجامع] .

يقول ابن القيِّم
(والمقصود أن بحسب متابعة الرَّسول تكون العِزَّة والكِفَاية والنُّصْرَة، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنَّجاة، فالله - سبحانه - علَّق سعادة الدَّارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدَّارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعِزَّة والكِفَاية والنُّصْرَة والولاية والتَّأييد وطيب العيش في الدُّنْيا والآخرة، ولمخالفيه الذِّلَّة والصَّغار والخوف والضَّلال والخذلان والشَّقاء في الدُّنْيا والآخرة) [زاد المعاد] .


3 - اليقين بأنَّ دين الله قد كُتِب له العُلُوُّ والتَّمكين في الأرض، وأنَّ دولة الكافرين وعزَّتهم سائرة إلى زوال؛ لأنَّها بُنيت على باطل وسراب، فبهذا الاعتقاد يتولَّد عند المؤمن شعور بالعِزَّة، وإحساس بالشَّرَف والعُلُوِّ .
نماذج في العِزَّة عند الصَّحابة رضي الله عنهم :
عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه :
- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال : (ما زلنا أعزَّة منذ أسلم عمر) [أخرجه البخارى] .
- عن طارق بن شهاب، قال : خرج عمر بن الخطَّاب إلى الشَّام، ومعنا أبو عبيدة بن الجرَّاح، فأتوا على مَخَاضَة، وعمر على ناقة له، فنزل عنها، وخلع خُفَّيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخَاضَة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا، تخلع خُفَّيك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخَاضَة؟ ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك. فقال عمر : (أَوَّه ، لم يقل ذا غيرك -أبا عبيدة- جعلته نكالًا لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العِزَّة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله) [صحح الألبانى فى سلسلة الحاديث الصحيحة على شرط الشيخين] ..

قالوا عن العِزَّة :
- قيل في الحِكَم : (إذا أردت أن يكون لك عزٌّ لا يفنى، فلا تستعزَّ بعزٍّ يفنى، العطاء من الخَلْق حرمان، والمنع من الله إحسان، جلَّ ربُّنا أن يعامل العبد نقدًا فيجازيه نسيئة، إنَّ الله حَكَم بحكم قبل خَلْق السَّماوات والأرض : أن لا يطيعه أحد إلَّا أعزَّه، ولا يعصيه أحد إلَّا أذلَّه، فرَبَط مع الطَّاعة العزَّ، ومع المعصية الذُّلَّ، كما رَبَط مع الإحراق النَّار، فمن لا طاعة له لا عزَّ له) [فيض القدير ، للمناوى] .
- وقال الحكيم :
(الاعْتِزَاز بالعبيد منشؤه من حبِّ العزِّ وطلبه له، فإذا طلب العزَّ للدُّنْيا، وطلبه من العبيد، تَرَك العمل بالحقِّ والقولَ به، لينال ذلك العزَّ، فيعزُّوه ويعظِّموه، وعاقبة أمره الذِّلَّة، وأنَّه سبحانه يُمْهِل المخْذول، وينتهي به إلى أن يستخفَّ لباس الذُّلِّ، فعندها يَلْبسه، إمَّا في الدُّنْيا، أو يوم خروجه فيها، فيخرجه من أذلِّ ذلَّة وأعنف عُنْف) [فيض القدير ، للمناوى] .