من أسباب عدم قبول الحق والانصراف عنه - اتباع الظن والهوى

د. محمد احمد لوح



إن الناظر إلى دور العلماء في تقديم المنهج الحق، وتقدير واقع الأمة، وإقامة بنائها الفكري والاجتماعي، يجد أن البون شاسع بين ما نحن فيه وما يجب أن نكون عليه؛ ذلك لأن المنهج العلمي الذي استنبطه علماؤنا من الوحي السماوي قُسِّمت على أساسه قضاياه إلى قسمين، الأول: خاص بمسائل العلم الجلية المعلومة من الدين بالضرورة، فمن لم يقبلها بعد البلوغ وصف بأنه رافض للحق، والثاني: خاص بالمسائل الدقيقة التي قد يعذر المكلف بجهله فيها، وهذا المنهج الذي تعاملت به طبقات الأمة، كان رحمةً وهدىً وخيرًا للبشرية؛ حيث لم يحكموا على المخطئين بحكم واحد، ولم يزجوا بهم في هوة الضلال، بل حكموا على كلٍّ بما يستحق، فمن وقع في الخطأ لجهله وعدم قيام الحجة عليه فهو معذور، وحكم عليه بحسب ذلك، ومن أبى وعاند بعد قيام الحجة وصف بالضلال ورفض الحق.

ورفض الحق يكون بأسباب كثيرة نذكر منها:

أولا: اتباع الهوى

أصل الضلال اتباع الظن والهوى، كما قال -تعالى- فيمن ذمهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم:23)، وهذا وصف للكفار، فكل من له نصيب من هذا الوصف فله نصيب من متابعة الكفار بقدر ذلك النصيب، وقال -تعالى- في حق نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (سورة النجم 1-4)، فنزهه عن الضلال والغواية، اللذين هما: الجهل والظلم، فالضال لا يقبل الحق، والغاوي يتبع هواه، وأخبر أنه لا ينطق عن هوى النفس، بل هو وحي أوحاه الله إليه؛ فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوى، ومتبع الهوى لابد أن يضل، سواء عن علم أم عن جهل، فإنه كثيرا ما يترك العلم اتباعا لهواه، ولابد أن يظلم إما بالقول أو بالفعل؛ لأن هواه قد أعماه، قال -تعالى-: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة:87)، وقال -تعالى-: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} (المائدة:70)، فاتباع الهوى أصل الضلال والكفر، ومعلوم أن ذلك يتفاوت تفاوتًا عظيمًا، فمنه ما يوصل إلى ما ذكر، ومنه ما هو أقل من ذلك، وكل من خالف الحق لا يخرج عن اتباعه للهوى أو الاعتماد على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، كما قال -تعالى-: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} (النجم:24)، فإن كان يعتقد أن قوله صحيح وله فيه حجة يتمسك بها فغايته اتباع الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، وتكون حجته شبهة فاسدة مركبة من ألفاظ مجملة ومعان متشابهة لم يميز بين حقها وباطلها، فإذا ميز الحق فيها عن الباطل زال الاشتباه.

مما يجب أن يعلم

ومما يجب أن يعلم أن الله -تعالى- لم يقص علينا في القرآن الكريم قصص السابقين إلا لنعتبر بها؛ لما فينا من الحاجة إلى ذلك، ولما فيه من المصلحة، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا ما يقع لنا وما يكون فينا على ما وقع من السابقين وحصل لهم من جراء ذلك، ولولا أن في نفوس كثير من الناس أو أكثرهم ما كان في نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه بقول أو فعل أو سجية كامنة في النفس تنتظر الخروج، ولكن الواقع مثل ما قال الله -تعالى-: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} (البقرة:118)، وقوله -تعالى-: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات:52)، وقال -تعالى-: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} (فصلت:43)، وقوله -تعالى-: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ}، (التوبة:30)، أي قولهم يماثل قول من سبقهم بالكفر ويشابهه، والعاقل إذا تعرف على أحوال النفس كان حذرا من الشهوة الخفية، قال شداد بن أوس: «يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية، قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة، فهي خفية تخفى على الناس وقد تخفى على صاحبها».

علامات الشهوة الخفية

ومن علامات من ابتلي بالشهوة الخفية وحب الرياسة محبة من يعظمه بقبول قوله أو الاستماع له أكثر من غيره، وإن كان غيره أطوع لله وأتقى، وهذا يوجد كثيرا حتى في المنتسبين للعلم! فتجد بعضهم يحب من يعظمه ويطيعه دون أن يحب من هو نظيره في العلم أو أفضل منه، وإن كانا على منهج واحد، ثم قد يحصل من هذا وصفه بالظلم والعدوان لمن خالفه في هواه، أو ربما لمن قام ببعض ما يجب عليه الله من نشر علم أو دعوة إلى الله -تعالى-، فيقف في وجهه صادا عن الحق أو ملبسا الحق بالباطل كفعل علماء اليهود، كما قال -تعالى- عنهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران:71)، ثم تجده يرمي من خالفه بالألقاب المكروهة المنفرة التي تخالف أمر الله ورسوله ابتغاء التفرقة وابتغاء الفتنة، وهو في ذلك يزعم أنه مصلح ودافع للفساد، كما قال الله عن فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر:26)، فهو يزعم أنه هو المصلح والمحافظ على الدين الحارس له من التغيير والتبديل، وأما موسى فإنه ممن يسعى لتغيير الدين والفساد في الأرض! وهكذا تقلب الحقائق لدى أهل الأهواء ومبتغي العلو في الأرض فيصبح المفسد مصلحا والمصلح حقا لديهم مفسدا.

الإخلاص لله والتجرد للحق

والواجب على كل من يتكلم في أمر من أمور الدين أن يكون مخلصا لله متجردا للحق، وغالبا على نفسه بالمجاهدة عن اتباع الهوى وما تميل إليه من حظوظها الدنيوية، كحب الثناء والظهور وكثرة الأتباع، أو ما هو أسوأ من هذا كله، وهو الحصول على شيء من حطام الدنيا، ومن هذه صفته فهو المعني بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من طلب علما مما يُبتغى به وجه الله -تعالى- لا يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة»، ونظيره ما قاله أبو عثمان النيسابوري: «من أمَّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة»؛ لأن الله يقول: {وإن تطيعوه تهتدوا} فاتباع الهوى نوع من الشرك كما قال بعض السلف: «شر إله عبد في الأرض الهوى» ؛ فهو يضل الإنسان عن الحق وإن كان يعرف ذلك، فإذا صار الهوى هو القائد والدافع صار أصحابه شيعا، يتعصب كل واحد لرأيه ويعادي من خالفه، ولو كان الحق أمامه واضحا، لأن الحق ليس مطلوبه، وبذلك يذلون وتذهب ريحهم، ويفشلون أمام كل عمل أرادوه، لأنهم صاروا متفرقين تتحكم فيهم الأهواء، ولذلك تجد هؤلاء كلما علم أحدهم أن من يخالفه قد تكلم في مسألة أو موضوع تجده يبادر إلى الرد عليه دون تأمل في قوله وتلمس لوجه الصواب، بل يعمي عن هذا المقصد، ويبذل جهده في تضليل مخالفة، وتفنيد رأيه بكل ما يستطيع، ولو برأي تافه وتعسف بغيض، مع أن الذي يوجبه الإسلام هو محاورة المخالف والاطلاع على دلائله، ووزنها بميزان الكتاب والسنة، ثم يكون ذلك هو القاضي في النزاع، كما قال -تعالى-: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء:59).

رد كل خلاف إلى الله ورسوله

فأوجب رد كل ما حصل فيه نزاع إلى الله والرسول؛ لأن قوله: {في شيء} نكرة تعم كل ما أحدث من نزاع وإن قل، وبين أن الرد إليهما هو مقتضى الإيمان، فإذا لم يرد النزاع إلى الله والرسول فمفهوم ذلك انتفاء الإيمان أو انتفاء كماله عمن فعل ذلك، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد وفاته، وذلك بإجماع العلماء، وكل هذا المقصود منه حسم النزاع وإنهاؤه ليحصل الوئام والاتفاق، فإن هذا من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية، وبذلك يتم القضاء على جزء كبير من العوائق المانعة من قبول الحق.

اختلاف أهل العلم

وأهل العلم يختلفون في بعض مسائل العلم وهم متحابون مجتمعون على الحق، معتصمون بحبل الله، كما كان صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - يختلفون في بعض أحكام الشرع ولا يدعوهم ذلك إلى أن يكونوا شيعا كل فريق يعادي الآخر، - كما يحصل اليوم لكثير ممن يزعم أنه من أهل العلم - مثل اختلافهم في إرث الجد مع الإخوة، وفي جواز بيع أمهات الأولاد، وفي المشركة، وفي الطلاق قبل النكاح، وفي بعض مسائل البيوع، وغير ذلك كثير كل واحد يخالف الآخر، ومع ذلك كانوا متوادین متناصحين، رابطة الأخوة الإسلامية قوية بينهم؛ لأن اختلافهم لم يكن في الأصول والمناهج، بل كان في المسائل.


نتائج الخلاف


قال الشاطبي -رحمه الله -: «كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء، ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفسير الآية، وهي قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام:159)، فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله -تعالى-: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران:103)، فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين.