تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 6 من 8 الأولىالأولى 12345678 الأخيرةالأخيرة
النتائج 101 إلى 120 من 149

الموضوع: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد

  1. #101
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد




    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة هود

    من صــ 617 الى صـ 629
    الحلقة (100)

    سورة هود
    103 - قال الله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)

    * سَبَبُ النُّزُولِ:
    أخرج البخاري عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عبَّاسٍ قرأ: (ألا إنهم تثنوني صدورهم) قلت: يا أبا العباس ما تثنوني صدورهم؟ قال: كان الرجل يجامع امرأته فيستحيي، أو يتخلى فيستحي فنزلت: (ألا إنهم تثنوني صدورهم).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة عند ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث مع غيره عند نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي، وابن عاشور.
    وهذا السبب المروي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا ينسجم مع سياق الآيات فالآية تتحدث عن هؤلاء حديث ذم وقدح، بينما المذكورون في الحديث ليسوا أهلاً للذم بل أهلٌ للثناء والمدح.
    وقد قال القرطبي: (وقيل إن قوماً من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فبين الله تعالى أن التنسك ما اشتملت عليه قلوبهم من معتقد، وأظهروه من قول وعمل) اهـ.
    وقال ابن عاشور بعد ذكر السبب: (وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر. فلعل مراد ابن عبَّاسٍ أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها) اهـ.
    وما تقدم حق فإن الآية لم تنزل بسبب فعل هؤلاء المسلمين لأن السياق في غيرهم وهذا هو القول الأول.
    القول الثاني: ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الآية نزلت بسبب فعل المنافقين ولهذا قال الطبري: (قال بعضهم: ذلك كان من فعل بعض المنافقين، كان إذا مر برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غطى وجهه وثنى ظهره) اهـ.
    وقال القرطبي: (وقيل: قال المنافقون إذا أغلقنا أبوابنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فنزلت الآية) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثنى صدره وظهره، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا يراه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيدعوه إلى الإيمان. حكي معناه عن عبد الله بن شداد) اهـ.
    وهذا القول يعكر عليه أمران:
    الأول: أن السورة مكية، والنفاق إنما كان بالمدينة، وليس معهوداً الحديث عن المنافقين في العهد المكي، ثم إن النفاق لم يظهر إلا بعد الهجرة، والسورة نزلت قبلها، فكيف تكون أحداث المدينة سبباً لنزول الآيات المكية؟
    الثاني: أن الضمير في قوله: (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) يعود على اللَّه وليس على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكره عامة المفسرين.
    قال الطبري: (إن الهاء في قوله: (منه) عائدة على اسم اللَّه، ولم يجر لمحمد ذكر قبلُ، فيجعل من ذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي في سياق الخبر عن اللَّه فإذا كان ذلك كذلك كانت بأن تكون من ذكر اللَّه أولى) اهـ.
    وقال ابن عطية: (فمعنى الآية: ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون) اهـ.
    وقال ابن كثير: (وعود الضمير إلى الله أولى لقوله: (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) اهـ.
    وقال السعدي: (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي من اللَّه، فتقع صدورهم حاجبةً لعلم اللَّه بأحوالهم، وبصره لهيئاتهم) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (والضمير في قوله: (منه) عائد إلى اللَّه تعالى في أظهر القولين) اهـ.
    فإن قال قائل: ألا يمكن أن يكون مشركو مكة هم الذين كانوا يفعلون هذا؟
    فالجواب: لا يمكن (لأن المشركين يومئذٍ لم يكونوا مصانعين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ ..
    ثم يبقى الإشكال الآخر وهو أن الضمير يعود على اللَّه وليس على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحينئذٍ ينتهي القول الثاني أيضًا، وهو نزولها في المنافقين لأن الآية مكية، ولأن الضمير يعود على اللَّه وليس على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
    القول الثالث: أنها تتحدث عن المشركين، ومحاولة استتارهم عن اللَّه جل وعلا.
    قال القرطبي: (قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أخبر عن معاداة المشركين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين، ويظنون أنه تخفى على الله أحوالهم) اهـ.
    وقال السعدي: (يخبر تعالى عن حهل المشركين وشدة ضلالهم أنهم يثنون صدورهم أي يميلونها (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي: من اللَّه فتقع صدورهم حاجبة لعلم الله بأحوالهم وبصره لهيئاتهم.
    قال تعالى - مبينًا خطأهم في هذا الظن - (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) أي يتغطون بها، يعلمهم في تلك الحال، التي هي من أخفى الأشياء، بل (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ) من الأقوال والأفعال (وَمَا يُعْلِنُونَ) منها، بل ما هو أبلغ من ذلك وهو (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: بما فيها من الإرادات، والوساوس، والأفكار، التي لم ينطقوا بها سراً ولا جهراً، فكيف تخفى عليه حالكم، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (قال بعض العلماء معنى (يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) يغطون رؤوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله كقوله تعالى عن نوح: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ).
    وقيل: كانوا إذا عملوا سوءاً ثنوا صدورهم، وغطوا رؤوسهم يظنون أنهم إن فعلوا ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (حُوِّل أسلوب الكلام عن مخاطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أُمر بتبليغه إلى إعلامه بحال من أحوال الذين أمر بالتبليغ إليهم في جهلهم بإحاطة علم الله تعالى بكل حال من الكائنات من الذوات والأعمال ظاهرها وخفيها، فقدم لذلك إبطال وهم من أوهام الشرك أنهم في مكنة من إخفاء بعض أحوالهم عن الله تعالى.
    ثم ذكر كلامًا ... إلى أن قال: وضمائر الجماعة الغائبين عائدة إلى المشركين الذين أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإبلاع إليهم في قوله: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) ثم ذكر كلامًا إلى أن قال: وهذا الكلام يحتمل الإجراء على حقيقة ألفاظه من الثني والصدور ويحتمل أن يكون تمثيلاً لهيئة نفسية بهيئة حسية.
    فعلى الاحتمال الأول يكون ذلك تعجيباً من جهالة أهل الشرك إذ كانوا يقيسون صفات الله تعالى على صفات الناس فيحسبون أن الله لا يطلع على ما يحجبونه عنه. وقد روي أن الآية أشارت إلى ما يفعله المشركون أن أحدهم يدخل بيته ويرخي الستر عليه، ويستغشي ثوبه، ويحني ظهره ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي؟ وذلك من جهلهم بعظمة اللَّه) اهـ.
    وبعد ذكر أقوال العلماء أود أن أبين الحقائق التالية:
    أولاً: أن الآية مكية، وبناءً على هذا فلا صلة لها بالمنافقين مطلقاً.
    ثانياً: أن المعني بها قوم مشركون كما يدل عليه سياق الآيات السابق واللاحق وأسلوب خطابها، وبناء على هذا فلا صلة لها بالمسلمين الذين يستحيون عند الجماع وقضاء الحاجة من التكشف كما ذكره ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
    ثالثاً: أن استتار المشركين واستخفاءهم كان عن اللَّه ولم يكن عن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
    وقد اختلفت دوافع هذا الفعل عند العلماء:
    فقال بعضهم: أن الدافع هو إخفاء أعمالهم السيئة.
    وقيل: لئلا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره.
    وقيل: ليكتموا ما في قلوبهم.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا ليس سبب نزول الآية الكريمة لمخالفته سياق الآيات التي تتحدث عن المشركين في مكة واللَّه أعلم.
    * * * * *

    104 - قال اللَّه تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فاتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فأنزل الله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟ قال: الجميع أمتي كلِّهم).
    وأخرجه مسلم والترمذي بلفظ آخر عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها. فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك. فلم يرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة؟ قال: (بل للناس كافة).
    2 - وأخرج الترمذي والنَّسَائِي نحوه عن أبي اليَسَر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرًا فقلت: إن في البيت تمرًا أطيبَ منه، فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له، قال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدًا، فلم أصبر فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدًا فلم أصبر فأتيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال: (أخلفت غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا) حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار، قال: وأطرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طويلاً حتى أوحى اللَّه إليه: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ... ) إلى قوله (ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) قال أبو اليسر فأتيته فقرأها عليَّ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أصحابه: يا رسول اللَّه ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال: (بل للناس عامة).
    وأخرج أحمد نحوه من حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
    وأخرج الترمذي نحوه من حديث معاذ - رضي الله عنه -.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذه الأحاديث أو بعضها على تفاوت بينهم منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب رجل نال من غير زوجته ولا ملك يمينه بعض ما يحرم عليه فتاب من ذنبه ذلك) اهـ.
    وقال ابن عطية: (وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار قيل هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل اسمه عباد خلا بامرأة فقبلها ... فذكر الحديث) اهـ.
    وقال القرطبي: (سبب النزول يعضد قول الجمهور نزلت في رجل من الأنصار) اهـ.
    والناظر في سورة هود يجد أنها مكية، وأما القصة فإنها مدنية فهل تكون سبباً لنزول الآية الكريمة؟
    ابن العربي في شرح الترمذي: (قال: السابعة: اتفقوا على قوله: فأنزل الله أقم الصلاة) اهـ.
    ولا أدري ما يعني بهذا الاتفاق.
    وقال ابن عطية: (وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك الرجل) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (والظاهر أن المروي في هذه الآية هو الذي حمل ابن عباس وقتادة على القول بأن هذه الآية مدنية دون بقية هذه السورة لأنه وقع عند البخاري والترمذي قوله: (فأنزلت عليه) فإن كان كذلك كما ذكره الراوي فهذه الآية أُلحقت بهذه السورة في هذا المكان لمناسبة وقوع قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) قبلها وقوله: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بعدها.
    وأما الذين رجحوا أن السورة كلها مكية فقالوا: إن الآية نزلت في الأمر بإقامة الصلوات، وإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بها الذي سأله عن القبلة الحرام وقد جاء تائباً ليعلمه بقوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فيؤوّل قول الراوي: فأنزلت عليه، أنه أُنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضية السائل، ولجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب غير الفواحش.
    ويؤيد ذلك ما في رواية الترمذي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قوله: فتلا عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) ولم يقولا: فأنزل عليه) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أنه ليس الإشكال في السورة هل هي مدنية أو مكية لأنه من الممكن أن تكون السورة مكية في أكثرها وبعضها مدني، والعكس صحيح لكن الإشكال في قوله: (فَأَنزَلَ اللَّهُ) أو قوله: (فتلا عليه) وما ذكره ابن عاشور هنا يحتمل الأمرين.
    أما قول ابن عطية: (وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك) فإني لا أدري ما يعني بقوله هذا. هل يريد أن الآية مكية؟ أو يريد أنها نزلت في غير هذا الرجل، فاستعملها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه؟ الله أعلم.
    والظاهر لي - والله أعلم - أن قصة الرجل هي سبب نزول الآية لما يلي:
    1 - أن أكثر الروايات تصرح بذكر النزول، فالبخاري، وأحمد، والنَّسَائِي، وابن ماجه لا يذكرون إلا النزول فقط.
    وأما مسلم والترمذي ففي أكثر رواياتهم أيضاً لا يذكرون إلا النزول، وفي روايات قليلة ذكروا التلاوة (فتلا عليه)، ومعلوم أن كثرة هؤلاء قرينة من قرائن الترجيح وكيف لا يكون ذلك، والبخاري معهم.
    2 - قول ابن العربي: اتفقوا على قوله: (فأنزل الله أقم الصلاة) ولا أدري من يعني بالمتفقين هل يعني بهم المحدثين وشراح الحديث لأنه قاله في عارضته على الترمذي، أو يعني بهم المفسرين لأنه منهم أيضاً، لا أدري لكن ليس غريباً أن يعني به الطرفين، وإنما المقصود هنا الاتفاق على نزول الآية الكريمة.
    3 - احتجاج المفسرين بالقصة على النزول، وجعلها سبباً لها، ولا ريب أن احتجاجهم هذا يقوي القلب ويجرئُ على الإقدام.
    وربما يؤيد النزول: أنه جاء في لفظ مسلم وتلا عليه هذه الآية (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ... ) فقال رجل من القوم: يا نبي اللَّه هذا له خاصة؟ قال: (بل للناس كافة).
    وجه الدلالة على النزول: أن الآية لو كانت قد نزلت قبل القصة لكان معلوماً أنها ليست له خاصة لأن مبرر التخصيص لم يوجد بعدُ وهو قصة الرجل مع المرأة، وستكون عامة بدون سؤال، فالسؤال عند القصة يدل على أن الآية حديثٌ نزولُها، والله الموفق للصواب.
    فإن قال قائل: ألفاظ الأحاديث التي ذكرتها ليست متطابقة لكنها متشابهة، فهل التشابه يدل على التغاير؟
    فالجواب: لو كانت متطابقةً لما ذكرتها لأنها حينئذٍ ستكون حديثاً واحداً، أما التشابه فيدل على التغاير في التفاصيل وسرد القصة، أما أصلها فليس فيه تغاير لأنه منصب على رجل أصاب من امرأة لا تحل له فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فأنزل اللَّه الآية. وهذا القدر تتفق عليه جميع الألفاظ.
    * النتيجة:
    أن قصة الرجل مع المرأة سبب نزول الآية الكريمة لصحة السند، واحتجاج المفسرين به، مع عدم مخالفة ذلك لسياق القرآن واللَّه أعلم.
    * * * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #102
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الرعد

    من صــ 630 الى صـ 640
    الحلقة (101)


    سورة الرعد
    105 - قال اللَّه تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج النَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرةً رجلاً إلى رجل من فراعنة العرب أن (ادعه لي) قال: يا رسول الله، إنه أعتى من ذلك قال: (اذهب إليه فادعه) قال: فأتاه فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعوك. قال: أرسول اللَّه؟ وما اللَّه؟ أمن ذهب هو؟ أم من فضة هو؟ أم من نحاس هو؟ فرجع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك، وأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما قال. قال: (ارجع إليه فادعه) فرجع فأعاد عليه المقالة الأولى، فرد عليه مثل الجواب، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره، فقال: (ارجع إليه فادعه) فرجع إليه، فبينما يتراجعان الكلام بينهما إذ بعث الله سحابة حيال رأسه فرعدت ووقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه وأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة، وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وغيره عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كئير وابن عاشور.
    قال الطبري: (وقد اختلف فيمن أُنزلت هذه الآية، فقال بعضهم: نزلت في كافر من الكفار ذكر الله تعالى وتقدس بغير ما ينبغي ذكره فأرسل عليه صاعقة أهلكته) اهـ.
    وقد روي في نزول الآية الكريمة أسباب غير الذي معنا، فقد نقل ابن كثير عن مجاهد: (أنها نزلت في رجل يهودي قال: يا محمد أخبرني عن ربك من أيِّ شيء هو من نحاس هو أم من لؤلؤ أو ياقوت قال: فجاءت صاعقة فأخذته وأنزل اللَّه: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ).
    ثم قال ابن كثير: وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة لما قدما على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له عامر بن الطفيل - لعنه الله - أما واللَّه لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يأبى الله عليك ذلك وأبناء قَيْلَة) يعني الأنصار، ثم إنهما هَمَّا بالفتك برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه - عليه الصلاة والسلام - فأرسل اللَّه على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأما عامر بن الطفيل فأرسل اللَّه عليه الطاعون فخرجت فيه غدة عظيمة فجعل يقول يا آل عامر غدة كغدة البَكر، وموت في بيت سلولية حتى ماتا لعنهما الله وأنزل اللَّه في مثل ذلك: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ). اهـ.
    فأما الحديث الذي معنا فإسناده ضعيف لا يصح أن يكون سبباً لنزول الآية الكريمة.
    وأما الأحاديث التي سيقت في قصة اليهودي، أو عامر بن الطفيل فليست أسانيدها مما يعول عليه أو يحتج به، ولعل هذا هو سبب إعراض أصحاب الكتب التسعة عنها.
    وقد قال ابن عطية كلامًا يوحي بالشك في السببية: فقال: (قيل إنه أدخلها في التنبيه على القدرة بغير سبب ساق ذلك). اهـ يعني قوله (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ).
    وقال في موضع آخر: (ويجوز - إن كانت الآية على غير سبب - أن يكون قوله: (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ) إشارة إلى جميع الكفرة من العرب وغيرهم الذين جلبت لهم هذه التنبيهات). اهـ.
    وقال ابن عاشور: (ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة، وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بأن السورة مدنية أو أن هذه الآيات منها مدنية، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها، ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية) اهـ.
    فانظر قوله: وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول وقوله: ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح.
    قلت: قد ثبت في البخاري شيء من خبر عامر بن الطفيل فعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خاله، أخاً لأم سُليم في سبعين راكباً، وكان رئيس المشركين عامرُ بن الطفيل، خيَّر بين ثلاث خصال فقال: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألفٍ وألفٍ؟ فطعن عامر في بيت أم فلان، فقال: غدةٌ كغدة البَكر، في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه ... الحديث.
    فهذا حديث عامر ليس فيه ذكر لنزول الآية الكريمة.
    وقد ساق ابن القيم - رحمه الله - حديث عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس، وذكر أن عامراً أُصيب بالطاعون وأن أربد قد أصابته صاعقة فأحرقته، لكن لم يذكر أن هذا سبب نزول الآية الكريمة.
    وإذا كان الأمر كذلك وأنه لم يثبت بذلك خبر صحيح وصريح، فالظاهر - والله أعلم - أن القصة ليست سبباً لنزول الآية الكريمة لعدم الدليل على ذلك.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً للنزول لضعف سنده، ومعارضته المشهور من نزول السورة بمكة مع أن القصة بالمدينة مع ما صاحب هذا من إعراض بعض المفسرين عنه وتشكيكهم فيه. والله أعلم.
    * * * * *

    106 - قال الله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي عن ابن أخي عبد اللَّه بن سلام قال: لما أُريد عثمان جاء عبد اللَّه بن سلام، فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك، قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فمانك خارجٌ خير لي منك داخلٌ، فخرج عبد اللَّه إلى الناس فقال: أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلان فسماني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله، ونزلت فيَّ آيات من كتاب الله، نزلت فيَّ: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ونزلت فيَّ: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) إن لله سيفاً مغمودًا عنكم، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيكم فالله اللَّه في هذا الرجل أن تقتلوه، فوالله إن قتلتموه لتطرُدُن جيرانكم الملائكة ولتسُلُّن سيف الله المغمود عنكم، فلا يُغمد إلى يوم القيامة قال: فقالوا: اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في تفسير هذه الآية، وقد أورد ابن العربي والقرطبي الحديث بنصه، أما سائر جمهور المفسرين فلم يسوقوا الحديث، لكنهم ذكروا عبد اللَّه بن سلام وأنه المراد بالآية، وبعضهم صوّب هذا وبعضهم تعقّبه.
    فأما من ذكر ذلك ولم يتعقبه فالطبري.
    وأما من ساقه وصوبه فابن العربي فقال بعد ذكر الحديث: (وليس يمتنع أن تنزل في عبد الله سبباً، وتتناول جميع المؤمنين لفظاً، ويعضده من النظام أن قوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) - يعني به قريشًا، فالذي عنده علم الكتاب هم المؤمنون من اليهود والنصارى الذين هم إلى معرفة النبوة والكتاب أقربُ من عبدة الأوثان) اهـ.
    أما من ذكر ذلك وتعقبه فهم الأكثرون، قال البغوي: (قال قتادة: هو عبد الله بن سلام، وأنكر الشعبي هذا وقال: السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) أهو عبد الله بن سلام؟
    فقال: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية؟) اهـ.
    وقال ابن عطية لما ذكر قولي قتادة ومجاهد في عبد الله بن سلام: (وهذان القولان الأخيران لا يستقيمان إلا أن تكون الآية مدنية والجمهور على أنها مكية قاله سعيد بن جبير) اهـ.
    وقال القرطبي: (وكيف يكون عبد اللَّه بن سلام وهذه السورة مكية وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة؟ ذكره الثعلبي).
    وقال ابن كثير: (قيل: نزلت في عبد الله بن سلام. قاله مجاهد وهذا القول غريب لأن هذه الآية مكية، وعبد اللَّه بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وقيل أُريد به عبد الله بن سلام الذي آمن بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول مقدمه المدينة، ويبعده أن السورة مكية كما تقدم) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الآية لم تنزل بسبب عبد اللَّه بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للأسباب التالية:
    1 - أن الحديث لا يصح الاحتجاج به على السببية للعلة التي في سنده.
    2 - أن الآية مكية، وقصة ابن سلام إنما كانت بعد الهجرة فكيف يكون هذا سبباً لنزول هذه الآية.
    3 - أنه على فرض صحة الحديث فإن هذا من قبيل التفسير وليس من باب سبب النزول فأين الحدث الذي ادُّعي أنه سبب نزولها؟ هذا لا يوجد.
    فالآية تتحدث عن المشركين، وابن سلام من أهل الكتاب.
    وأما قوله: (نزلت فيَّ) فلو صح الحديث لكان المراد أن الآية بعمومها تتناوله لأنه من أهل الكتاب، وأهل الكتاب الصادقون يشهدون أنه رسول من عند الله.
    4 - أن أكثر المفسرين أبوا أن يكون ابن سلام هو المقصود، والكثرة قرينة من قرائن الترجيح إذا احتفت بغيرها.
    فإن قال قائل: ما المراد بقوله: (ومن عنده علم الكتاب)؟
    فالجواب: قال ابن كثير: (والصحيح في هذا أن (وَمَن عِندَهُ) اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به كما قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، وأمثال ذلك مما فيه من الأخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة). اهـ.
    وقال السعدي: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) هذا شامل لكل علماء أهل الكتابين) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (الظاهر أن قوله: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) عطف على لفظ الجلالة وأن المراد به أهل العلم بالتوراة والإنجيل. ويدل لذلك قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ)، وقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)، وقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) إلى غير ذلك من الآيات) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور معنا ليس سبباً لنزول الآية، لعدم الدليل على السببية وضعف سنده، وكون السورة مكية، وأن هذا من قبيل التفسير الذي يحتمل الصواب والخطأ والله أعلم.
    * * * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #103
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة إبراهيم

    من صــ 640 الى صـ 650
    الحلقة (102)


    سورة إبراهيم
    107 - قال اللَّه تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج مسلم والبخاري وابن ماجه عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) قال: نزلت في عذاب القبر. فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيِّ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذلك قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في تفسير الآية عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد أورد القرطبي الحديث بنصه أما الطبري والبغوي وابن كثير وابن عاشور فأوردوه بألفاظ مقاربة.
    ولم أرَ من صرح بأن للآية سبب نزول، وأن هذا هو سببها، بل حديث البراء من قبيل التفسير فقط.
    أما قوله: (نزلت في عذاب القبر)، فالمعنى أن من صور التثبيت التي تناولتها الآية تثبيت المؤمنين في قبورهم عند سؤال الملكين.
    قال السعدي: (يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم اللَّه في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح إذا قيل للميت: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن: اللَّه ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبى) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة لعدم وجود الدليل على ذلك وأن قول البراء: نزلت في عذاب القبر، هو من باب التفسير فقط، ويؤكد هذا ترك العلماء القول بالسببية والله تعالى أعلم.
    * * * * *
    سورة الحجر
    108 - قال اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ (24)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت امرأة حسناءُ تصلي خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تهحت إبطيه فأنزل الله في شأنها: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية، وقد أورد الحديث جمهور أهل التفسير منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري بعد سياق الأحاديث في ذلك: (وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعدُ لدلالة ما قبله من الكلام وهو قوله: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ)، وما بعده وهو قوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) على أن ذلك كذلك إذ كان بين هذين الخبرين، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدل على خلافه، ولا جاء بعدُ، وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصف لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك، ثم يكون الله - عَزَّ وَجَلَّ - عم بالمعنى المراد منه جميع الخلق). اهـ.
    وساق ابن العربي الحديث وذكر معه أربعة أقوال ثم قال: (وكل هذا معلوم لله سبحانه فإنه عالم بكل موجود ومعدوم، وبما كان وبما يكون وبما لا يكون أن لو كان كيف يكون) اهـ. ولم يتعقب الحديث بشيء.
    وقال ابن عطية بعد سياق الأقوال ومنها هذا الحديث: (وما تقدم الآيةَ من قوله: (وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) وما تأخر من قوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) يضعف هذه التأويلات لأنها تذهب اتصال المعنى وقد ذكر ذلك محمد بن كعب القرظي لعون بن عبد اللَّه) اهـ.
    وقال القرطبي بعد سياق الأقوال: (إلا أن القول الثامن هو سبب نزول الآية ثم ساق الحديث وقال بعده، وروي عن أبي الجوزاء ولم يذكر ابن عبَّاسٍ وهو أصح) اهـ.
    وقال ابن كثير بعد سياق الحديث: (وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ... إلى أن قال: فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عبَّاسٍ ذكر) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وقد تقدم في طالع تفسير هذه السورة الخبر الذي أخرجه الترمذي في جامعه من طريق نوح بن قيس ومن طريق جعفر بن سليمان في سبب نزول هذه الآية وهو خبر واهٍ لا يلاقي انتظام هذه الآيات، ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة) اهـ.
    وبهذه النصوص المتقدمة يتبين لك أن العلماء حيال هذا السبب طائفتان: طائفة قد أنكرته وضعفته، وطائفة قد رأته ممكنًا، وهذا - واللَّه - لا يمكن أن يصح إذ كيف يُظن ببعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الظن السيء مع ما لهم من المنزلة والإحسان والرفعة والإيمان والسابقة التي لا يلحقهم بها أحد أن يفعلوا هذا الفعل وهم قائمون بين يدي اللَّه وراكعون وساجدون.
    إن رجلاً من أهل هذا الزمان لو قيل لك: إنه يفعل ذلك في صلاته لاقشعر جلدك ولم تكد تصدق حتى ترى هذا منه بأم عينيك، فكيف يصدق مثله في أشرف صحب وأطهر قوم، والحجة فيه كلام عجيب منتهاه أبو الجوزاء.
    وبناءً على ما تقدم فإني أقول: إن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية الكريمة لما يلي:
    1 - ضعف إسناده فمداره على عمرو بن مالك النكري، لم يوثقه أحد من ذوي الشأن باستثناء ابن حبان، ومع تساهله في التوثيق فقد قال عنه: يخطئ ويغرب.
    2 - سياق الآيات ليس بينه وبين الحديث صلة وقد أشار الطبري في بداية حديثه إلى المقصود بالآية ومثله ابن عطية وابن عاشور.
    وقد قال السعدي: (فإنه تعالى يعلم المستقدمين من الخلق، والمستأخرين منهم، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، وما تفرق من أجزائهم، وهو الذي قدرته لا يعجزها معجز فيعيد عباده خلقاً جديداً ويحشرهم إليه) اهـ.
    فسياق الآيات قبلها في الإحياء والإماتة، وبعدها في الحشر إلى اللَّه، فأين صفوف المصلين من السياقين السابق واللاحق؟
    وإذا أردت أن تعرف أن الآية تدور على هذا فانظر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رضي الله عنها - (قولي: السلام عدى أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللَّه المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون).
    3 - النيل من بعض الصحابة والقدح فيهم دليل الخطأ والزلل، فوقوع هذا الفعل من الصحابة. من أبعد البعيد، فكيف إذا كانوا يصلون؟
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً للنزول، لضعف سنده، ومخالفته للسياق، وطعنه في بعض أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم.
    * * * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #104
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة النحل

    من صــ 650 الى صـ 661
    الحلقة (103)


    سورة النحل
    109 - قال الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي والنَّسَائِي عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم أحد أُصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثَّلوا بهم، فقالت الأنصار لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنُربينَّ عليهم، قال: فلما كان يوم فتح مكة، فأنزل اللَّه تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) فقال رجل: لا قريش بعد اليوم فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كفوا عن القوم إلا أربعة).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة، وقد أورد ابن العربي الحديث بنصه، وجمهور المفسرين بألفاظ مقاربة.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره للمؤمنين: وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة، ولئن صبرتم عن عقوبته، واحتسبتم عند اللَّه ما نالكم به من الظلم ووكلتم أمره إليه حتى يكون هو المتولي عقوبته لهو خير للصابرين. وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية فقال بعضهم: نزلت من أجل أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أقسموا حين فعل المشركون يوم أُحد ما فعلوا بقتلى المسلمين من التمثيل بهم أن يجاوزوا فعلهم في المُثلة بهم إن رزقوا الظفر عليهم يومًا فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية، وأمرهم أن يقتصروا في التمثيل بهم إن هم ظفروا على مثل الذي كان منهم) اهـ بتصرف يسير.
    وقال البغوي: (هذه الآيات نزلت بالمدينة في شهداء أحد) اهـ ثم ساق الحديث.
    وقال ابن عطية: (أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد ... ثم ذكر الحديث) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (نزلت هذه الآية الكريمة من سورة النحل بالمدينة في تمثيل المشركين بحمزة ومن قتل معه يوم أحد، فقال المسلمون: لئن أظفرنا الله بهم لنمثلن بهم فنزلت الآية الكريمة فصبروا لقوله تعالى: (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) مع أن سورة النحل مكية إلا هذه الآيات الثلاث من آخرها) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (ويجوز أن تكون نزلت في قصة التمثيل بحمزة يوم أحد وهو مروي بحديث ضعيف للطبراني، ولعله اشتبه على الرواة تذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآية حين توعد المشركين بأن يمثل بسبعين منهم إن أظفره الله بهم) اهـ.
    هذه أقوال المفسرين في سبب نزول الآية الكريمة وإن الناظر في سياق الآيات يجد المطابقة تامة بينه وبين الحديث، إلا أن المفسرين ذكروا أن الآية نزلت في المدينة، وحديث أُبي أنها نزلت في فتح مكة: ولا ريب أن هذا خطأٌ؛ إذ كيف تكون المثلة في أحد ويقول المسلمون مقالتهم. ولا تنزل الآية إلا في يوم فتح مكة.
    والحق أني متردد فإذا نظرت إلى المطابقة بين سياق الآية ولفظ الحديث مع احتجاج كثير من المفسرين بالحديث على السببية أجد نفسي تميل إلى القول بالسببية.
    وإذا نظرت إلى إسناد الحديث وما فيه من الكلام، مع ما في متنه من عدم الضبط أجد الكفة تميل بي عن القول بالسببية.
    ولقائل أن يقول: إن وجود أحاديث في هذا الشأن مع عدد من الآثار عن السلف يدل على أن للحديث أصلاً، وإن كان الذي بين يديك فيه من الضعف ما فيه، والحديث إذا كان ضعيفًا واقترنت به بعض المرجحات يرقى إلى مرتبة القبول والاحتجاج وبهذا يجتمع القولان ويرتفع الإشكال.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور وإن كان فيه ضعف فإنه صالح للسببية بسبب الآثار التي تعضده، مع موافقة السياق القرآني، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
    * * * * *
    سورة الإسراء
    110 - قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

    * سَبَبُ النُّزُولِ:
    أخرج مسلم والبخاري والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجنيُّون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون فنزلت: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة، وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي قال الطبري: (وأولى الأقوال بتأويل الآية قول عبد اللَّه بن مسعود الذي رويناه عن أبي معمر عنه، وذلك أن اللَّه تعالى ذكره أخبر عن الذين يدعوهم المشركون آلهةً أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعلوم أن عزيراً لم يكن موجوداً على عهد نبينا - عليه الصلاة والسلام -، فيبتغي إلى ربه الوسيلة، وأن عيسى قد كان رفع وإِنَّمَا يبتغي إلى ربه الوسيلة من كان موجوداً حياً يعمل بطاعة الله، ويتقرب إليه بالصالح من الأعمال) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (لم أرَ لهذه الآية تفسيراً ينثلج له الصدر، والحيرة بادية على أقوال المفسرين في معناها وانتظام موقعها مع سابقها) اهـ.
    قال ابن حجر: (أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة، إلى أن قال: وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية) اهـ.
    وعندي - واللَّه أعلم - أن حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس سبباً لنزول الآية الكريمة وبيان ذلك من وجوه:
    الأول أن البخاري قد روى الحديث ومع ذلك فقد خلا لفظه من التصريح بنزول الآية، وفعله هذا يوجب التردد بالقول في السببية لا سيما إذا انضم إلى ذلك غيره.
    الثاني: أنه لا يوجد حدث وقع بعينه، أو سؤال عن شيءٍ ما لتنزل الآية بسببه.
    الثالث: أن الحديث وسياق الآيات ليس بينهما ائتلاف وموافقة يوجب أن يكون الحديث سبباً لنزول الآية.
    فإن قال قائل: ما تقول في قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نزلت في نفر من العرب؟
    فالجواب: أن قول ابن مسعود لا يدل ضرورة على السببية، وإنما المراد أن الآية نزلت متحدثة عن أمر مذموم كان موجوداً بين العرب والجن كما تحدث القرآن كثيراً عن أحوال العرب في الجاهلية، ومن ذلك ما حكاه اللَّه في سورة الأنعام وسورة الجن وغيرهما من الأحوال الجاهلية التي كانت بين الإنس والجن.
    وأما القول: بأن الآية نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه أو عزيراً أو الملائكة فليس في ذلك حديث يعتمد عليه ويحتج به.
    * النتيجة:
    أن الآية لم تنزل على السبب المذكور، بل حديثها منصب على حال المشركين في عبادتهم غير اللَّه، إذ بلغ من جهلهم في كفرهم، أنهم يعبدون من يعبد اللَّه، والذي دعاني لقول هذا، عدم دلالة الحديث على السببية، مع عدم ارتباطه بسياق الآيات. واللَّه أعلم.
    * * * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #105
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الإسراء

    من صــ 662 الى صـ 666
    الحلقة (104)


    111 - قال اللَّه تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج أحمد والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سأل أهل مكة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يُنحِّي الجبال عنهم، فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أُهلكوا كما أهلكتُ من قبلهمِ. قال: لا، بل أستأني بهم، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث ومثله معه عند ذكر نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك إلا أن كان قبلهم من الأمم المكذبة، سألوا ذلك مثل سؤالهم، فلما أتاهم ما سألوا منه كذبوا رسلهم، فلم يصدقوا مع مجيء الآيات فعوجلوا، فلم نرسل إلى قومك بالآيات لأنا لو أرسلنا بها إليهم فكذبوا بها سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلهم وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) اهـ ثم ساق الحديث.
    وقال ابن عطية: (وسبب هذه الآية أن قريشاً اقترحوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل لهم الصفا ذهباً، واقترح بعضهم أن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا الأرض فأوحى اللَّه إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عن الإيمان عاجلتهم العقوبة، وإن شئت استأنيت بهم، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل تستأني بهم يا رب) اهـ.
    وقال القرطبي: (إنهم طلبوا أن يحوّل اللَّه لهم الصفا ذهباً، وتتنحى الجبال عنهم فنزل جبريل وقال: إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا، وإن شئت استأنيت بهم فقال: لا بل استأن بهم) اهـ.
    وقال السعدي: (يذكر تعالى رحمته، بعدم إنزاله الآيات التي اقترحها المكذبون وأنه ما منعه أن يرسلها إلا خوفًا من تكذيبهم لها، فإذا كذبوا بها عاجلهم العقاب، وحل بهم من غير تأخير كما فعل بالأولين الذين كذبوا بها) اهـ.
    وبهذا يتبين أن سبب نزول الآية سؤال قريش لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتيهم بما شاؤوا من الآيات، فلم يجابوا إلى طلبهم لأنهم لو أُجيبوا ولم يؤمنوا نزل بهم العذاب كما نزل بمن قبلهم من الأمم، وذكّرهم اللَّه بمثال قريب وهم ثمود قوم صالح، حيث كفروا بعد مجيء الآيات فأُهلكوا.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به وتصريحه بالنزول. واللَّه أعلم.
    *******

    112 - قال الله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي وأحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة ثم أُمر بالهجرة فنزلت عليه: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة، وقد أورد بعض المفسرين هذا الحديث، وذكروا معه غيره من الأقوال كالطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير.
    قال الطبري بعد سياق الأقوال: (وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معنى ذلك: وأدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق.
    وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن ذلك عقيب قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّون َكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا)، وقد دللنا فيما مضى على أنه عنى بذلك أهل مكة) اهـ.
    وقال البغوي: (المراد من المدخل والمخرج الإدخال والإخراج، واختلف أهل التفسير فيه فقال ابن عبَّاسٍ والحسن وقتادة: أدخلني مدخل صدق المدينة، وأخرجني مخرج صدق من مكة نزلت حين أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهجرة) اهـ ثم ذكر بقية الأقوال.
    وقال القرطبي: (وقيل: علّمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله موضع الأمن فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة) اهـ ثم ساق الحديث.
    وقال ابن كثير عن هذا القول: (هو أشهر الأقوال، وقال عنه: والأول أصح وهو اختيار ابن جرير) اهـ.
    وقال ابن عطية: (ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن اللَّه حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصريف المقادير في الموت والحياة، فهي على أتم عموم، معناه رب أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص ثم اختلفوا في تعيينه) اهـ ثم ساق الأقوال.
    فهذه أقوال المفسرين في معنى الآية وليس فيها ذكرٌ لسبب النزول، وإنما هي من باب التفسير وكشف المعنى.
    * والخلاصة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة من وجوه:
    أولاً: أن الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به على السببية.
    ثانياً: أن سبب النزول ليس له ذكر عند العلماء، فأقوالهم منصبة على تفسير الآية.
    ثالثاً: أنه لا يوجد حدث مخصوص حتى يقال نزلت الآية في شأنه.
    فإن قال قائل: قول ابن عبَّاسٍ: ثم أمر بالهجرة فنزلت. ما تقول فيه؟
    فالجواب: على فرض صحة الحديث فلا يدل على النزول، غاية ما فيه أن الله أراد تهيئته للهجرة فأمره بهذا الدعاء، وأما سبب النزول فلا بد من واقعة أو سؤال تنزل الآية معالجةً لها أو مجيبةً عليه.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبب نزولها لضعف سنده، وعدم دلالته على النزول وإعراض العلماء عن القول بالسببية، واللَّه أعلم.
    * * * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #106
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الإسراء

    من صــ 667 الى صـ 673
    الحلقة (105)





    113 - قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:
    1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرث بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يُوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال: (وَيَسْأَلُونَك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي .. ).
    2 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالت قريش لليهود، أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت: (وَيَسْأَلُونَك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) قالوا: أُوتينا علماً كثيراً أُوتينا التوراة، ومن أُوتي التوراة فقد أُوتي خيراً كثيراً قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ).
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد أكثر المفسرين حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي؟ قل لهم: الروح من أمر ربي، وما أوتيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا قليلا، وذكر أن الذين سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح، فنزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها كانوا قوما من اليهود) اهـ.
    وقال ابن عطية: (الضمير في يسألونك قيل هو لليهود وأن الآية مدنية ... ثم ساق الحديث وقيل: الآية مكية والضمير لقريش) اهـ.
    وذهب بعض أهل العلم إلى أن الآية مكية:
    قال ابن كثير لما ساق حديث ابن مسعود: (وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية، وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه وهي هذه الآية (ويسألونك عن الروح) ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد حدثنا ... ) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وقع هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمه أن مرجع ضمير (يسألونك) هو مرجع الضمائر المتقدمة فالسائلون عن الروح هم قريش .. ثم ذكر الحديث.
    ثم قال: والجمهور على أن الجميع نزل بمكة.
    وأما ما روي في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: ثم ساق الحديث ... فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم: أن اليهود لما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشا، فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة، أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشا سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير). اهـ بتصرف.
    وقال الحافظ ابن حجر في شرح حديث ابن مسعود: (وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة لكن روى الترمذي ... ثم ساق حديث ابن عباس ...
    ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح) اهـ.
    وخلاصة ما احتج به القائلون بأن سبب نزولها حديث ابن عباس ما يلي:
    1 - أن السورة كلها مكية، يعني أنها نزلت قبل سؤال اليهود.
    2 - أن سياق الضمائر في الآيات كانت في قريش، وهذا منها في قوله: (يسألونك).
    وأجابوا عن حديث ابن مسعود بما يلي:
    1 - أن الآية نزلت عليه في المدينة مرة ثانية.
    2 - أو نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه.
    وسأجيب مستعينا بالله عما أوردوه من حجج فأقول:
    قولهم: إن السورة كلها مكية قول لا يملكون لإثباته دليلا صحيحا صريحا ألبتة ومن الخطأ عند بعض العلماء - رحمهم الله - أنه يدع أحاديث صحيحة صريحة قطعية الثبوت إلى أقوال ظنية لبعض العلماء منشأها ومردها الاستنباط المحض والاجتهاد الخاص الخالي من الدليل مما قادهم وقاد من تابعهم على أقوالهم إلى اختلاف كثير في علوم القرآن عموما وفي أسباب النزول، والمكي والمدني خصوصا.
    وما نحن فيه هو من هذا الباب، فترى بعضهم يقول: إن هذه الآية مدنية، وآخر يقول: والجمهور على أن الجميع نزل بمكة.
    وإذا أردت أن تعرف اختلافهم في تحديد ذلك فارجع لمقدمة ابن عاشور عند بداية سورة الإسراء لترى المزيد.
    والمزعج في الموضوع أن هذه الاختلافات المجردة عن الدليل عادت بالإبطال والرد على الأحاديث الصحيحة، فأصبح دفعها ممكنا ولأدنى سبب حتى من بعض المحققين الثقات.
    إذا تبين لك هذا فاعلم أنه لا يستطيع أحد مهما جل قدره وعلا في العلم شأنه أن يقيم دليلا على أن آيات السورة كلها مدنية أو مكية، نعم القول في بعضها ممكن لوجود القرائن والدلائل عليه، أما الجميع فلا.
    وحينئذ فقد تم الانفكاك من حجتهم الأولى.
    أما الثانية: وهي قوله: إن مرجع ضمير (يسألونك) هو مرجع الضمائر المتقدمة أي أنها في قريش.
    فالجواب أن يقال: إن أقرب ضمير يعود على قريش قبل هذه الآية بينه وبينها ثمان آيات وهو قوله: (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض).
    ثم لو سلمنا بهذا: ألا يمكن أن يتنوع عود الضمائر بسبب تنوع القرائن كما هو كثير معروف عند العلماء حتى في الآية الواحدة فما بالك بآيات منفصلات؟
    بل لو قال قائل: إن الناظر المتأمل في الآية يجد أنه لا صلة لها بالسابق واللاحق لم يكن قوله بعيدا من الصواب.
    وسأذكر بعض الأحاديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ثم أقوم بالمقارنة بين حديثي ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهما -.
    قال عبد الرحمن بن يزيد سمعت عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي.
    وقال شقيق بن سلمة: خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم.
    قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت رادا يقول غير ذلك.
    وقال مسروق: قال عبد الله - رضي الله عنه -: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله، إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله، إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه.
    وقد دلت هذه الأحاديث على أمور:
    1 - أن سورة الإسراء من أوائل ما حفظ ابن مسعود - رضي الله عنه - وعادة المرء إتقان ما حفظ قديما إتقانا يفوق الحديث، أفكان يخفى على ابن مسعود بعد هذا قوله تعالى: (ويسألونك عن الروح ... ) أنها نزلت بسبب سؤال قريش.
    مع أن ابن عباس في ذلك الوقت لم يولد بعد لأن عمره حين وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ثلاثة عشر عاما.
    2 - أن ابن مسعود تلقف من الفم الشريف بضعا وسبعين سورة أي ما يجاوز ثلثي سور القرآن.
    إذا أضفت هذا إلى قوله: ولقد علم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أني من أعلمهم بكتاب الله. فاجتمع العلم والحفظ والتميز والصحبة في حقه - رضي الله عنه - أفيمكن أن يقدم قول غيره على قوله مع كل هذا؟
    3 - أنه يقسم وهو صادق بار بدون قسم أنه ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وهو يعلم أين نزلت؟ أي هل هي في مكة أو في المدينة؟ هل هي قبل الهجرة أم بعد الهجرة؟
    ويقسم أنه يعلم فيما أنزلت؟ في جواب المشركين أو اليهود أو النصارى؟
    ويؤكد هذا كله بأنه لو يعلم أحدا أعلم بكتاب الله منه تبلغه الإبل لركب إليه.
    فهذه العبارات القوية، والجمل الصادقة الواثقة منه - رضي الله عنه - تنادي أهل التفسير خصوصا والمشتغلين بالقرآن عموما أن لكم مراجع علمية فلا تتجاوزوها وحدودا فلا تعتدوها.
    وإذا أردنا المقارنة بين الحديثين تبين ما يلي:
    1 - أن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - صحيح الإسناد لا مطعن فيه بوجه من الوجوه قد روي في أصح كتابين بعد كتاب الله - عز وجل -، وليس الأمر كذلك في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فكيف إذا كان حديث ابن عباس قد اختلف في وصله وإرساله.
    2 - أن ابن مسعود كان بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن القصة، وليس الأمر كذلك بالنسبة لابن عباس، وقد قيل: ليس الشاهد كالغائب.
    3 - أن حديث ابن مسعود تضمن تفصيلا خلا منه حديث ابن عباس وفيه: فقام ساعة ينظر فعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت عنه حتى صعد الوحى، والتفصيل دليل على الضبط والإتقان، والعلم التام بما حدث.
    4 - أن الآية لو نزلت بسبب حديث ابن عباس، فلماذا يعيد اليهود السؤال عن ذلك بالمدينة مرة ثانية، لا سيما أن اليهود قد علموا جواب الله للمشركين في مكة حسبما يدل عليه حديث ابن عباس ولهذا قالوا بعد نزول الآية: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة.
    وبهذا يظهر ويتبين أن سبب نزول الآية الكريمة هو حديث ابن مسعود لما تقدم.
    بقي أن أجيب عن أدلتهم في الجمع بين السببين وخلاصتها:
    أن الآية نزلت عليه في المدينة مرة ثانية، وهذا غريب، إذ ما الفائدة؟
    وما هي الحكمة أن تنزل عليه الآية مرة ثانية، وهي محفوظة في صدره،؟ مع أنه لا يوجد دليل يدل على تكرر النزول، والأصل عدمه.
    ولو كانت الآية قد نزلت قبل ذلك لأجابهم بها حين سألوه عن الروح، ولم ينزل الوحي لذلك.
    الثانية: أنه نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وأضاف ابن عاشور: (أن النبي ظن أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح) وهذا أغرب من سابقه والأمر لا يخلو من حالين:
    الأولى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن قريشا أخذوا السؤال من اليهود كما دل عليه حديث ابن عباس وحينئذ فالجواب للفريقين، وعلى هذا ينتفي تعليل ابن عاشور.
    الثانية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم أن قريشا أخذوا السؤال من اليهود وهذا بعيد لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف ما عند قومه من العلم، وما عند غيرهم من أهل الكتاب، ويعلم الصلات بين الطرفين حق العلم، وإذا كان كذلك فلماذا لم يتلو الآية على اليهود حين سألوه، واضطر لانتظار الوحي؟
    وإذا كنا نقول بأن سبب النزول حديث ابن مسعود فإنه ينتفي الاحتمال ويرتفع الإشكال ويندفع الحالان.
    * النتيجة:
    أن سبب نزول الآية الكريمة حديث ابن مسعود لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج أكثر المفسرين به والله أعلم.
    * * * * *




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #107
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الكهف

    من صــ 674 الى صـ 684
    الحلقة (106)



    114 - قال الله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110)
    * سبب النزول:

    1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) قال: نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن (ولا تخافت بها) بها عن أصحابك فلا تسمعهم (وابتغ بين ذلك سبيلا).
    2 - أخرج البخاري ومالك ومسلم والنسائي عن عائشة - رضي الله عنها -: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها). أنزلت في الدعاء.
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذين الحديثين عند ذكرهم لسبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
    قال الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ما ذكرنا عن ابن عباس ... ثم ذكر كلاما حتى قال: فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر يا محمد بقراءتك في صلاتك ودعائك فيها ربك ومسألتك إياه، وذكرك فيها، فيؤذيك بجهرك بذلك المشركون، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك (وابتغ بين ذلك سبيلا) ولكن التمس بين الجهر والمخافتة طريقا إلى أن تسمع أصحابك، ولا يسمعه المشركون فيؤذونك) اهـ.
    وقال السعدي: (ولا تجهر بصلاتك) أي قراءتك (ولا تخافت بها) فإن في كل من الأمرين محذورا، أما الجهر فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه وسبوا من جاء به.
    وأما المخافتة فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء، (وابتغ بين ذلك) أي اتخذ بين الجهر والإخفات (سبيلا) أي تتوسط فيما بينهما) اهـ.
    وقال النووي بعد ذكر الحديثين: الكن المختار الأظهر ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -) اهـ.
    وقال ابن حجر: (يحتمل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الصحيح في سبب نزولها حديث ابن عباس - رضي الله عنه - وذلك لموافقته سياق القرآن وبيان ذلك:أن الله تعالى نهى عن الجهر والمخافتة، ولو كان المراد بالصلاة الدعاء لما نهى عن المخافتة به لأن هذا هو المشروع فيه لقوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55).
    قال السعدي: (وخفية) أي: لا جهر أو علانية، يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصا لله تعالى.
    ثم ذكر كلاما حتى قال: أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه) اهـ.
    فهذه دلالة السياق على أن الدعاء ليس مرادا هنا.
    ويقال أيضا: إن إطلاق الصلاة على الدعاء إطلاق لغوي، بينما إطلاق الصلاة على العبادة المعروفة إطلاق شرعي، والمتكلم بالقرآن هو المشرع - صلى الله عليه وسلم - وإذا دار كلام الشارع بين أن يحمل على الاصطلاح الشرعي، أو الاصطلاح اللغوي وجب حمله على الشرعي لأن المتكلم به هو الشارع الحكيم.
    فإن قال قائل: ما تقول في قوله - عز وجل -: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103).
    أليس المراد بالصلاة هنا الدعاء بنص القرآن؟
    فالجواب: بلى، لكن لوجود القرينة، وهي أنه لا يمكن أن يراد بالصلاة هنا الصلاة المعهودة.
    فلم يبق إلا الدعاء. ولهذا كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء لصاحب الصدقة، لما روي الشيخان عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: (اللهم صل على آل فلان) فأتاه أبي بصدقته فقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى).
    فإن قال قائل: هل تطلق الصلاة ويراد بها القراءة؟
    فالجواب: نعم فقد روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى حمدني عبدي ... الحديث.
    قال ابن العربي: (عبر الله هاهنا بالصلاة عن القراءة، كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله: (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)؛ لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر، الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود، فهي من جملة أجزائها فيعبر بالجزء عن الجملة، وبالجملة عن الجزء) اهـ.
    فإن قيل: بماذا تجيب عن قول عائشة - رضي الله عنها - أنزلت في الدعاء؟
    فالجواب: أني لا أدري ما وجه هذا القول إلا إن كانت تعني بقولها قول الله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) فهذا بين أنه في الدعاء.
    أما قول ابن حجر: (الجمع بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة).
    فالجواب عن ذلك من وجهين:
    أولا: أن مقتضى هذا إلغاء دلالة حديث ابن عباس على أن السبب هو القراءة فلم يتحقق الجمع.
    ثانيا: أن رفع الصوت بالدعاء داخل الصلاة لم يكن معروفا ولا معهودا ولا دليل عليه.
    * النتيجة:
    أن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - هو سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به. والله أعلم.
    * * * * *
    سورة الكهف
    115 - قال الله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28)
    سبب النزول:
    أخرج ابن ماجه عن خباب في قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ... ) إلى قوله: (فتكون من الظالمين) قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صهيب وبلال وعمار وخباب. قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي - صلى الله عليه وسلم - حقروهم فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد. فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك. فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا. قال: فدعا بصحيفة. ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبرائيل - عليه السلام - فقال: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (52). ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (53). ثم قال: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة). قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا. فأنزل الله: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم) ولا تجالس الأشراف (تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) يعني عيينة والأقرع (واتبع هواه وكان أمره فرطا) (قال: هلاكا) قال: أمر عيينة والأقرع ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا.
    قال خباب: فكنا نقعد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم.
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى المعنى الذي دل عليه الحديث، على اختلاف بينهم وتفاوت في الأحاديث التي ذكروها. منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي وابن عاشور.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: لا تعد عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك، وقال بعضهم: بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا قالوا: فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عليه: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) ثم كان يقوم إذا أراد القيام، ويتركهم قعودا فأنزل الله عليه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) اهـ موضع الشاهد.
    وقال البغوي: (نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شمله قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها فقال عيينة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها، فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا فأنزل الله: (واصبر نفسك). اهـ.
    وقال ابن عطية: (سبب هذه الآية: أن عظماء الكفار قيل من أهل مكة وقيل عيينة بن حصن وأصحابه والأول أصوب لأن السورة مكية قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك يريدون عمار بن ياسر وصهيب بن سنان وسلمان الفارسي وابن مسعود وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه وقالوا: إن ريح جباتهم تؤذينا فنزلت الآية بسبب ذلك). اهـ.
    وقال الشنقيطي: (وقد نزلت هذه الآية الكريمة في فقراء المهاجرين كعمار، وصهيب، وبلال وابن مسعود ونحوهم لما أراد صناديد الكفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطردهم عنه ويجالسهم بدون حضور أولئك الفقراء المؤمنين، وقد قدمنا في سورة الأنعام أن الله كما أمره هنا بأن يصبر نفسه معهم أمره بألا يطردهم، وأنه إذا رآهم يسلم عليهم وذلك في قوله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين) - إلى قوله - (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم). اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وتقدم في سوره الأنعام عند قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لولا أن من المؤمنين ناسا أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتوا إلى مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستمعوا القرآن فاقترحوا عليه أن يطردهم من حوله إذا غشيه سادة قريش، فرد الله عليهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة) اهـ.
    هذه أقوال المفسرين في شأن الآية وقد أطبقت على أن سبب نزولها هو استكبار الكافرين عن الجلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضرة هؤلاء الضعفاء، وقد تباينت أقوال المفسرين في تحديد هؤلاء الكافرين، وأصح الأقوال في ذلك - والله أعلم - أنهم كفار قريش لأن سورة الكهف مكية متقدمة النزول.
    بقي أن يقال: إن حديث خباب - رضي الله عنه - ضعيف السند فكيف يحتج به؟
    فالجواب: أن يقال: هذا الكلام صحيح، ولعل مما يجبر الضعف إجماع المفسرين على المعنى الذي دل عليه الحديث.
    وكذلك سياق القرآن فإن السياق يطابق كلام المفسرين تماما، ويدل عليه.
    وإذا كان الفقهاء يلتزمون أحكاما بالحلال والحرام مبنية على أحاديث ضعيفة لأن قواعد الشريعة تشهد لها، والأمة تلقتها بالقبول، أو كانت تعتضد بالمتابعات والشواهد فلعل هذا مما يشفع لنا هنا لأن الحديث قد أجمع على معناه المفسرون، وسياق القرآن يشهد له. والله أعلم.
    * النتيجة:
    أن سبب النزول المذكور وإن كان ضعيفا لكن يعتضد بإجماع المفسرين على معناه وبسياق الآيات القرآني ويكون سبب نزولها والله أعلم.
    * * * * *



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #108
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة مريم

    من صــ 685 الى صـ 693
    الحلقة (107)





    116 - قال الله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (109)
    * سبب النزول:

    أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)، قالوا: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا قال فأنزل الله - عز وجل -: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر).
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة، وقد أورد البغوي والقرطبي وابن عاشور هذا الحديث لسبب نزولها.
    وقال ابن عطية: (روي أن سبب الآية أن اليهود قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كيف، تزعم أنك نبي الأمم كلها، ومبعوث إليها، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم، وأنت مقصر قد سئلت في الروح ولم تجب فيه، ونحو هذا من القول فنزلت الآية معلمة باتساع معلومات الله، وأنها غير متناهية) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور ليس سببا لنزول الآية وإن كان إسناده صحيحا لأمرين:
    الأول: أنه ليس بين الحديث المذكور وسياق الآية أي ارتباط مما يجعل القول بأنه سبب نزولها بعيدا، إذ لا بد أن يكون بين السبب والآية قدر مشترك ولو كان يسيرا.
    الثاني: إعراض كثير من المفسرين عن ذكر الحديث والاحتجاج به على السببية مما يوجب الشك والتردد.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببا لنزول الآية لعدم موافقته لسياق القرآن، وإعراض كثير من المفسرين عن ذكره - والله أعلم -.
    * * * * *
    سورة مريم
    117 - قال الله تعالى: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (64)
    * سبب النزول:

    أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا جبريل، ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا) فنزلت: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا) إلى آخر الآية، قال: كان هذا الجواب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد المفسرون هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
    قال الطبري: (ذكر أن هذه الآية نزلت من أجل استبطاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
    جبرائيل بالوحي، وقد ذكرت بعض الرواية، ونذكر إن شاء الله باقي ما حضرنا ذكره مما لم نذكر قبل ... ثم ساق الروايات في ذلك حتى قال:
    فتأويل الكلام إذن: فلا تستبطئنا يا محمد في تخلفنا عنك، فإنا لا نتنزل من السماء إلى الأرض إلا بأمر ربك لنا بالنزول إليها، لله ما هو حادث من أمور الآخرة التي لم تأت وهي آتية، وما قد مضى فخلفناه من أمر الدنيا، وما بين وقتنا هذا إلى قيام الساعة بيده ذلك كله، وهو مالكه ومصرفه لا يملك ذلك غيره، فليس لنا أن نحدث في سلطانه أمرا إلا بأمره إيانا به، ولم يكن ربك ذا نسيان فيتأخر نزولي إليك بنسيانه إياك بل هو الذي لا يعزب عنه شيء في السماء ولا في الأرض ... ) اهـ محل الشاهد.
    قال السعدي: (استبطأ النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - مرة في نزوله إليه فقال له: (لو تأتينا أكثر مما تأتينا) شوقا إليه، وتوحشا لفراقه، وليطمئن قلبه بنزوله. فأنزل الله على لسان جبريل (وما نتنزل إلا بأمر ربك) أي ليس لنا من الأمر شيء، إن أمرنا ابتدرنا أمره ولم نعص له أمرا كما قال الله عنهم: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)، فنحن عبيد مأمورون.
    ثم ذكر كلاما حتى قال: (وما كان ربك نسيا) أي لم يكن لينساك ويهملك كما قال تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى) بل لم يزل معتنيا بأمورك، مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة وتدابيره الجليلة.
    فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد، فلا يحزنك ذلك ولا يهمك، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك لماله من الحكمة فيه) اهـ بتصرف يسير.
    وقال ابن عاشور: (وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، وإجماع المفسرين على القول به. والله أعلم.
    * * * * *

    118 - قال الله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا (77) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (78) كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا (79) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا (80)
    * سبب النزول:

    أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن خباب - رضي الله عنه - قال: كنت رجلا قينا، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: قلت: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال: وإني لمبعوث من بعد الموت، فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد، قال: فنزلت: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا (77) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (78) كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا (79) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا (80).
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد اتفق جمهور المفسرين على أن هذا سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي والشنقيطي وابن عاشور.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أفرأيت يا محمد الذي كفر بحججنا فلم يصدق بها، وأنكر وعيدنا من أهل الكفر وقال وهو بالله كافر وبرسوله لأوتين في الآخرة مالا وولدا، وذكر أن هذه الآيات أنزلت في العاص بن وائل السهمي) اهـ ثم ساق الروايات في ذلك.
    وقال ابن عطية: (الذي كفر يعني به العاصي بن وائل السهمي قاله جمهور المفسرين) اهـ.
    وقال السعدي: (أفلا تعجب من حال هذا الكافر، الذي جمع بين كفره بآيات الله، ودعواه الكبيرة، أنه سيؤتى في الآخرة مالا وولدا أي: يكون من أهل الجنة وهذا من أعجب الأمور فلو كان مؤمنا بالله وادعى هذه الدعوى لسهل الأمر.
    وهذه الآية وإن كانت نازلة في كافر معين فإنها تشمل كل كافر زعم أنه على الحق وأنه من أهل الجنة.
    قال الله توبيخا له وتكذيبا (أطلع الغيب) أي أحاط علمه بالغيب حتى علم ما يكون وأن من جملة ما يكون أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا؟.
    (أم اتخذ عند الرحمن عهدا) أنه نائل ما قاله، أي: لم يكن شيء من ذلك فعلم أنه متقول، قائل ما لا علم له به، وهذا التقسيم والترديد في غاية ما يكون من الإلزام وإقامة الحجة، فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند الله في الآخرة لا يخلو:
    إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة، وقد علم أن هذا لله وحده فلا أحد يعلم شيئا من المستقبلات الغيبية إلا من أطلعه الله عليه من رسله.
    وإما أن يكون متخذا عهدا عند الله بالإيمان به واتباع رسله الذين عهد الله لأهله وأوزع أنهم أهل الآخرة والناجون الفائزون.
    فإذا انتفى هذان الأمران، علم بذلك بطلان الدعوى ولهذا قال تعالى: (كلا) أي: ليس الأمر كما زعم، فليس للقائل اطلاع على الغيب لأنه كافر ليس عنده من علم الرسل شيء ولا اتخذ عند الرحمن عهدا لكفره وعدم إيمانه) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث، وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه: أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا.
    أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول: قولك إنك تؤتى مالا وولدا يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء:
    الأول: أن تكون اطلعت على الغيب، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
    والثاني: أن يكون الله أعطاك عهدا بهذا، فإنه إن أعطاك عهدا لن يخلفه.
    والثالث: أن تكون قلت هذا افتراء على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب.
    وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله: (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا) مبطلا لهما بأداة الإنكار، ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا فتعين القسم الثالث) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا هو سبب نزول الآيات الكريمة لصحة سنده وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، واتفاق المفسرين عليه. والله أعلم.
    * * * * *




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #109
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الحج

    من صــ 694 الى صـ 703
    الحلقة (108)





    سورة الحج
    119 - قال الله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين (11)
    * سبب النزول:

    أخرج البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله، قال: هذا دين سوء.
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد أورد هذا الحديث الطبري والبغوي وابن عطية وابن كثير وابن عاشور وجعلوا الحديث سبب نزولها.
    وأورده القرطبي ومعه غيره لكن بدون ترجيح.
    قال الطبري: (يعني جل ذكره بقوله: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرين من باديتهم، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة، والدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام وإلا ارتدوا على أعقابهم فقال الله: (ومن الناس من يعبد الله) على شك (فإن أصابه خير اطمأن به) وهو السعة من العيش وما يشبهه مبن أسباب الدنيا اطمأن به. يقول: استقر بالإسلام وثبت عليه، (وإن أصابته فتنة) وهو الضيق بالعيش وما يشبهه من أسباب الدنيا (انقلب على وجهه) يقول: ارتد فانقلب على وجهه الذي كان عليه من الكفر بالله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) اهـ. ثم ساق الحديث.
    وقال البغوي: (نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته ذكرا وكثر ماله قال: هذا دين حسن وقد أصبت خيرا واطمأن إليه، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت فرسه وقل ماله قال: ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شرا فينقلب عن دينه، وذلك الفتنة فأنزل الله - عز وجل -: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) اهـ.
    وقال ابن عطية: (هذه الآية نزلت في أعراب وقوم لا يقين لهم كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان من نمو ماله وولد ذكر يرزقه وغير ذلك قال: هذا دين جيد وتمسك به لهذه المعاني وإن كان الأمر بخلاف ذلك تشاءم به وارتد كما صنع العرنيون وغيرهم، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم) اهـ.
    وقال ابن كثير بعد ذكر السبب: (وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة. ثم ساق الحديث إلى أن قال: وفي رواية الحسن أنها نزلت في المنافقين مثل عبد الله بن أبي ابن سلول وهذا بعيد لأن أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله: (فإن أصابه خير اطمأن به) وممن يصلح مثالا لهذا الفريق العرنيون). اهـ بتصرف يسير.
    وقال السعدي: (ومن الناس من هو ضعيف الإيمان لم يدخل الإيمان قلبه ولم تخالطه بشاشته بل دخل فيه إما خوفا، وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن.
    (فإن أصابه خير اطمأن به) إن استمر رزقه رغدا، ولم يحصل له من المكاره شيء، اطمأن بذلك الخير لا إيمانه، فهذا ربما أن الله يعافيه ولا يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه.
    (وإن أصابته فتنة) من حصول مكروه، أو زوال محبوب (انقلب على وجهه) أي ارتد عن دينه) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية، لصحة سنده، وموافقته للسياق القرآني واتفاق المفسرين على معناه. والله أعلم.
    * * * * *

    120 - قال الله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم (19)
    * سبب النزول:

    أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه كان يقسم قسما: إن هذه الآية: (هذان خصمان اختصموا في ربهم). نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
    وأخرجه البخاري والنسائي عن علي - رضي الله عنه - قال: فينا نزلت هذه الآية: (هذان خصمان اختصموا في ربهم).
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد اختلفت أنظار المفسرين في الحديث.
    فمنهم من ذهب إلى أنه سبب نزولها كالقرطبي والشنقيطي.
    قال القرطبي بعد أن ذكر الأقوال: (والقول الأول أصح) اهـ يعني حديث أبي ذر وعلي - رضي الله عنهما -.
    وقال الشنقيطي: (نزل في المبارزين يوم بدر) اهـ.
    وذهب بعض أهل العلم إلى أن الآية تتناول المؤمنين والكافرين عموما وإن كانت صورة السبب تدخل في العموم دخولا أوليا، واختار هذا الطبري وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري بعد ذكر الأقوال: (وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب وأشبهها بتأويل الآية قول من قال: عنى بالخصمين جميع الكفار من أي أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لأنه تعالى ذكره، ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه: أحدهما أهل طاعة له بالسجود له، والآخر: أهل معصية له قد حق عليه العذاب. فذكر كلاما حتى قال:
    فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن أبي ذر في قوله: (إن ذلك نزل في الذين بارزوا يوم بدر؟) قيل: ذلك إن شاء الله كما روي عنه، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب، وهذه من تلك) اهـ.
    وقال ابن كثير: (وقول مجاهد وعطاء أن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله - عز وجل - والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل وهذا اختيار ابن جرير وهو حسن) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (فالمراد من هذه الآية ما يعم جميع المؤمنين، وجميع مخالفيهم في الدين. ثم ذكر حديث أبي ذر فقال: والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية، ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين) اهـ.
    وذهب بعض أهل العلم إلى أن الآية في المؤمنين والكافرين عموما، واختار هذا ابن عطية والسعدي.
    قال ابن عطية: (وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن ابن أبي الحسن وعاصم والكلبي الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم، وهذا قول تعضده الآية وذلك أنه تقدم قوله: (وكثير من الناس) المعنى: هم مؤمنون ساجدون، ثم قال: (وكثير حق عليه العذاب) ثم أشار إلى هذين الصنفين بقوله: (هذان خصمان) اهـ.
    وقال السعدي: (يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض من الذين أوتوا الكتاب من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين، ومن المجوس ومن المشركين أن الله سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل ثم ذكر كلاما إلى أن قال: ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) كل يدعي أنه المحق) اهـ.
    والفرق بين هذا القول وسابقه أن الأولين وإن كانوا يرون العموم إلا أنهم أشاروا إلى حديث أبي ذر وعلي - رضي الله عنهما - بخلاف ابن عطية والسعدي فلم يشيرا إليه والله أعلم.
    أما البغوي فقد ساق عددا من الأقوال بداية بحديث أبي ذر، لكنه لم يتعقبها بشيء.
    وقبل تحرير الكلام في المسألة أود أن أبين أن البحث في أمرين:
    الأول: هل للآية سبب نزول.
    الثاني: فيمن نزلت هذه الآية.
    أما الأول: فالظاهر - والله أعلم - أن الآية تتحدث عن الخصومة بين عسكرين: إيمان، وكفر: أيا كان حال هذين العسكرين، وتبين ما أعد الله لهما من الثواب والعقاب: ولم تنزل لتعالج قضية حاضرة تنتظر الجواب لحلها، مما يجعل القول بأن الآية نزلت بسبب كذا بعيد.
    وإنما مراد من أشار إلى النزول أن الآية تتناول بعمومها هؤلاء المذكورين وغيرهم ممن يماثلهم.
    أما الثاني: فإن الناظر في سياق الآيات يلحظ حديثها العام بين الإيمان والكفر وبيان ذلك ما يلى:
    أولا: أن الله ذكر المؤمنين واليهود والصابئين والنصارى والمجوس والمشركين، وهذه طوائف الكفر مع الإيمان، وعقب هذا بقوله: (إن الله يفصل بينهم).
    ثانيا: أن الله ذكر السجود له وأن كثيرا من الناس يسجد له، وكثيرا حق عليه العذاب.
    ثالثا: أن الله ذكر ما أعد لكلا الطائفتين من النعيم والعذاب المقيم.
    وإذا نظرت إلى قول أبي ذر وأنه كان يقسم أن هذه الآية نزلت في المذكورين يوم بدر وقول علي - رضي الله عنه -: (أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة).
    قلت: إن الآية تتحدث عن هؤلاء المبارزين يوم بدر فقط.
    وعندي - والله أعلم - أن الآية تعم المؤمنين ومن خالفهم في الدين، وهؤلاء الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم، وهذا اختيار الطبري وابن كثير وابن عاشور، وبهذا تتحقق الموازنة بين سياق الآيات، والأحاديث الواردة في ذلك.
    * النتيجة:
    أن الآية نزلت تتحدث عن الخصومة بين المؤمنين والكافرين، وليس لها سبب معلوم، كالمصطلح عليه، وذلك لدلالة السياق على ذلك، واختيار أكثر المفسرين له. والله أعلم.
    *******




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #110
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة المؤمنون

    من صــ 704 الى صـ 712
    الحلقة (109)



    121 - قال الله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39)
    * سبب النزول:

    أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن. فنزلت: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) قال: فعرف أنه سيكون قتال. قال ابن عباس: هي أول آية نزلت في القتال.
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد الطبري وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير هذا الحديث عند تفسيرها ومعه غيره من الأقوال.
    وقال البغوي: (قال المفسرون: كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يزالون محزونين من بين مضروب ومشجوج، ويشكون ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية) اهـ.
    وقال السعدي: (كان المسلمون في أول الإسلام ممنوعين من قتال الكفار، ومأمورين بالصبر عليهم، لحكمة إلهية، فلما هاجروا إلى المدينة وأوذوا وحصل لهم منعة وقوة أذن لهم بالقتال كما قال تعالى: (أذن للذين يقاتلون) يفهم منه أنهم كانوا قبل ممنوعين فأذن الله لهم بقتال الذين يقاتلونهم) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة أذى شديدا فذكر كلاما حتى قال: فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة إذنا لهم بالتهيؤ للدفاع عن أنفسهم ولم يكن قتال قبل ذلك كما يؤذن به قوله تعالى عقب هذا: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) اهـ.
    وبما تقدم من أقوال العلماء لم يتبين لي أن الحديث سبب لنزول الآية الكريمة، حتى من الذين ذكروا الحديث.
    وإنما مرادهم أن الآية نزلت بالإذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بقتال من ظلمهم، بصدهم عن دينهم، وإخراجهم من ديارهم.
    ولو نظرنا إلى الصلة بين الحديث وسياق الآية لما وجدنا بينهما ارتباطأ؛ لأن قول أبي بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن، ليس بينه وبين سياق الآية أدنى اشتراك.
    وإذا أضفت إلى هذا وذاك أن الحديث مرسل كان هذا مما يضعف دلالة الحديث على السببية.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببا لنزول الآية لعدم وجود الدليل على ذلك من سياق الآية أو من سند الحديث، أو من أقوال المفسرين والله أعلم.
    * * * * *
    سورة المؤمنون
    122 - قال الله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (76)
    * سبب النزول:

    أخرج النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء أبو سفيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العلهز - يعني الوبر والدم - فأنزل الله - عز وجل -: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون).
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد هذا الحديث الطبري وابن كثير.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا، وأنزلنا بهم بأسنا وشخطنا وضيقنا عليهم معايشهم، وأجدبنا بلادهم، وقتلنا سراتهم بالسيف (فما استكانوا لربهم) يقول: فما خضعوا لربهم فينقادوا لأمره ونهيه وينيبوا إلى طاعته (وما يتضرعون) يقول: وما يتذللون له.
    وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أخذ الله قريشا بسني الجدب إذ دعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) اهـ.
    وذكر البغوي وابن عطية والقرطبي الحديث بلفظ مقارب.
    قال البغوي: (وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط فجاء أبو سفيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أنشدك الله والرحم، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟
    فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط، فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية (فما استكانوا لربهم) أي: ما خضعوا وما ذلوا لربهم (وما يتضرعون) أي لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم) اهـ.
    وقال ابن عطية: (هذا إخبار من الله تعالى عن استكبارهم وطغيانهم بعد ما نالهم من الجوع هذا قول روي عن ابن عباس وابن جريج أن العذاب هو الجوع والجدب المشهور نزوله بهم حتى أكلوا الجلود وما جرى مجراها) اهـ.
    وقال السعدي: (قال المفسرون: المراد بذلك الجوع الذي أصابهم سبع سنين وأن الله ابتلاهم بذلك ليرجعوا إليه بالذل والاستسلام، فلم ينجع فيهم ولا نجح منهم أحد، فما خضعوا وذلوا بل مر عليهم ذلك ثم زال كأنه لم يصبهم لم يزالوا في غيهم وكفرهم) اهـ بتصرف يسير.
    وقال الشنقيطي: (ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أخذ الكفار بالعذاب والظاهر أنه هنا العذاب الدنيوي كالجوع والقحط والمصائب والأمراض والشدائد فما خضعوا له ولا ذلوا (وما يتضرعون) أي ما يبتهلون إليه بالدعاء متضرعين له، ليكشف عنهم ذلك العذاب لشدة قسوة قلوبهم وبعدهم من الاتعاظ، ولو كانوا متصفين بما يستوجب ذلك من إصابة عذاب الله لهم) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الآية لم تنزل بسبب قول أبي سفيان، بل نزلت تتحدث عن حال المشركين، مع دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم بها وإصرارهم على ذلك حتى وإن أصابتهم الضراء كما قال تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون).
    ولعل مما يؤيد أن الحديث ليس سببا للنزول أن قول أبي سفيان للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز، لا يشكل حدثا أو علة للنزول، وإن كان قوله يوافق قول الله: (ولقد أخذناهم بالعذاب).
    غاية ما فيه إن صح أن الآية نزلت بعد قوله، أن يكون هذا من باب التصديق لشكواه كما يأتي في بعض الأحاديث فأنزل الله تصديق ذلك.
    ومما يدل على انتفاء السببية ما روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قال: سمع الله لمن حمده، في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت: (اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف).
    وجه الدلالة من الحديث: أن الدعاء كان بالمدينة بدليل دعائه بنجاة المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا في مكة.
    وفي الحديث أنه قال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وهذا الدعاء هو سبب العقوبة.
    وسورة المؤمنون مكية بالاتفاق.
    وإذا كان الأمر كذلك فكيف تنزل الآية في شأن القحط في مكة؟ مع أن سبب القحط وهو الدعاء كان بالمدينة.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببب نزول الآية؛ لأن الآية نزلت قبل القحط بزمن بل قبل الهجرة، كما أن ما أصابهم لا يشكل حدثا أو علة للنزول، وإنما الآية تتحدث عن الكافرين وحالهم مع سنن الله فيهم والله أعلم.
    * * * * *




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #111
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة النور

    من صــ 713 الى صـ 742
    الحلقة (110)





    سورة النور
    123 - قال الله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين (3)
    * سبب النزول:

    1 - أخرج الترمذي وأبو داود والنسائي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق، وكانت صديقة له، وأنه كان وعد رجلا من أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط فلما انتهت إلي عرفت، فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد. فقالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال: قلت: يا عناق حرم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام، هذا الرجل يحمل أسراءكم، قال: فتبعني ثمانية، وسلكت الخندمة فانتهيت إلى كهف أو غار فدخلت، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فبالوا فظل بولهم على رأسي، وعماهم الله عني، قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر،ففككت عنه أكبله فجعلت أحمله ويعينني حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله أنكح عناقا؟ مرتين، فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد علي شيئا حتى نزلت: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها).
    2 - وأخرج النسائي وأحمد عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول، وكانت بجياد وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجها، فأنزل الله - عز وجل -: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين).
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد بعض المفسرين هذين الحديثين ومعهما غيرهما عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
    قال الطبري: (اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في بعض من استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح نسوة كن معروفات بالزنا من أهل الشرك، وكن أصحاب رايات يكرين أنفسهن فأنزل الله تحريمهن على المؤمنين) اهـ.
    وذهب ابن عاشور إلى أن الآية نزلت بسبب مرثد الغنوي فقال: (وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود والترمذي وحسنه أنه كان رجل يقال له مرثد ابن أبي مرثد الغنوي من المسلمين فذكر الحديث بكماله ... حتى قال: فتبين أن هذه الآية نزلت جوابا عن سؤال مرثد ابن أبي مرثد هل يتزوج عناق) اهـ.
    وعندي - والله أعلم - أنه يمكن أن تكون كنية عناق أم مهزول وحينئذ يكون المراد من الحديثين امرأة واحدة.
    فإن لم يكن الأمر كذلك فلا مانع أن تكون الآية نازلة جوابا لسؤال أحد المؤمنين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستئذانه إياه في نكاح إحدى المرأتين، فإن هذا القدر قد اتفق عليه المفسرون، وكلامهم يدور في فلكه والله أعلم.
    * النتيجة:
    أن الآية نزلت فيمن استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نكاح من كن معروفات بالزنى، وذلك لدلالة لفظ الآية، وأقوال المفسرين والأحاديث المروية على ذلك والله أعلم.
    * * * * *
    124 - قال الله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9)
    * سبب النزول:

    1 - (أ) أخرج البخاري وأحمد والدارمي ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عاصم عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عويمر فقال: يا عاصم، ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة التي سألته عنها، قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط الناس، فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها) قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
    قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين.
    (ب) وفي لفظ للبخاري: فقال عويمر: والله لآتين النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء وقد أنزل الله تعالى القرآن خلف عاصم، فقال له: (قد أنزل الله فيكم قرآنا).
    2 - أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: ذكر التلاعن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا، ثم انصرف فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه قد وجد مع امرأته رجلا، فقال عاصم: مما ابتليت بهذا إلا لقولي، فذهب به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرا، قليل اللحم، سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله خدلا آدم كثير اللحم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم بين) فجاءت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده، فلاعن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما.
    قال رجل لابن عباس في المجلس: هي التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه) فقال: لا تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء.
    3 - (أ) أخرج مسلم وأحمد والدارمي والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه سئل عن المتلاعنين أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله. نعم إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان. قال: يا رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه. فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. فأنزل الله - عز وجل - هؤلاء الآيات في سورة النور: (والذين يرمون أزواجهم) فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم فرق بينهما.
    (ب) وفي رواية للبخاري ومسلم عنه - رضي الله عنه - قال: فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني العجلان وقال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب) فأبيا، فقال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب). فأبيا فقال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب) فأبيا، ففرق بينهما.
    4 - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجه عن عبد الله بحن مسعود - رضي الله عنه - قال: إنا ليلة الجمعة في المسجد. إذ جاء رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ، والله لأسألن عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كان من الغد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله. فقال: لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ. فقال: (اللهم افتح) وجعل يدعو. فنزلت آية اللعان: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) هذه الآيات - فابتلي به ذلك الرجل من بين الناس - فجاء هو وامرأته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم لعن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. فذهبت لتلعن. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مه) فأبت فلعنت. فلما أدبرا قال: (لعلها أن تجيء به أسود جعدا) فجاءت به أسود جعدا.
    5 - أخرج مسلم والنسائي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، وكان أخا البراء بن مالك لأمه. وكان أول رجل لاعن في الإسلام. قال: فلاعنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضيء العينين فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء) قال: فأنبئت أنها جاءت به أكحل، جعدا، حمش الساقين.
    ولفظ النسائي: إذ نزلت عليه آية اللعان: (والذين يرمون أزواجهم).
    6 - أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (البينة أو حد في ظهرك) فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (البينة وإلا حد في ظهرك) فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه: (والذين يرمون أزواجهم) فقرأ حتى بلغ (إن كان من الصادقين) فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب) ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة.
    قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء) فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن).
    * دراسة السبب:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات. وقد أورد جمهور المفسرين هذه الأحاديث أو بعضها على اختلاف بينهم منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية، والقرطبي وابن كثير، وابن عاشور.
    قال ابن عطية: (والمشهور أن نازلة هلال قبل وأنها سبب الآية، وقيل نازلة عويمر قبل وهو الذي وسط إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاصم بن عدي) اهـ.
    قال القرطبي: (قال الطبري: يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد بن العجلاني رماها بشريك بن السحماء والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني، كذلك كان يقول أهل الأخبار ... وذكر كلاما إلى أن قال: قال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني لكثرة ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العجلاني وامرأته، واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبدة وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بني عم عاصم) اهـ.
    وقال ابن عاشور: لما ذكر قصة عويمر: (فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى. واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال ابن أمية الواقفي. وزيد في القصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (البينة وإلا حد في ظهرك) والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك، والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب) اهـ.
    وبعد نقل أقوال بعض المفسرين سأنقل ما وقفت عليه من أقوال المحدثين:
    قال ابن بطال: (قال أبو عبد الله بن أبي صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجته عويمر وهلال بن أمية خطأ. وقد روى القاسم عن ابن عباس أن العجلاني قذف امرأته، كما روى ابن عمر وسهل بن سعد وأظنه غلط من هشام بن حسان. ومما يدل على أنها قصة واحدة توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها حتى أنزل الله فيها الآية، ولو أنهما قضيتان لم يتوقف عن الحكم فيها، ولحكم في الثانية بما أنزل الله في الأولى) اهـ
    وقد نقل البيهقي بإسناده إلى الشافعي أنه قال: (وقد قذف العجلاني امرأته بابن عمه، وابن عمه شريك بن السحماء).
    ثم قال: هكذا ذكره الشافعي في الإملاء أن القاذف كان العجلاني وهو عويمر العجلاني المذكور في حديث سهل بن سعد الساعدي، والذي رمي به شريك بن السحماء وهو المذكور في حديث عكرمة عن ابن عباس وفي حديث أنس بن مالك وبمعناه نقل المزني في المختصر، فذهب بعض مشايخنا إلى أن هذا غلط، فإن القاذف بشريك بن سحماء هو هلال بن أمية، وكذلك رواه عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، أما عويمر العجلاني فإنه لم يسم من رمى امرأته به.
    كذلك رواه سهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن عمر دون اسم المرمي به غير أن في رواية سهل ما دل على أنه رماها برجل بعينه لأنه قال في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن جاءت به لنعت كذا فلا أراه إلا قد صدق عليها، فلولا أنه كان مسمى بعينه لما جعل شبه الولد به علاقة لصدقه إلا أنه لم ينقله سهل.
    وهذا الذي ذهب إليه هذا القائل محتمل غير أن الشافعي - رحمه الله - لم ينفرد بهذا القول وتبع فيما قال من رواية من رواه كذلك وهي رواية المغيرة بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن أبي الزناد عن القاسم بن محمد عن ابن عباس أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العجلاني وامرأته وكانت حاملا وكان الذي رميت به ابن السحماء. ثم فكر كلاما حتى قال:
    والذي يغلب على ظني أن الذي رواه ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد وأنس بن مالك وغيرهم في حديث المتلاعين خبر عن قصة واحدة لاتفاق من فكر منهم نزول الآية، على أن الآية نزلت نميما رواه من قصة المتلاعنين، ونزولها يكون مرة واحدة لاتفاقهم على أنه رماها وهي حامل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن جاءت به على نعت كذا فهو كذا، وقل ما يتفق جميع ذلك في قصتين مختلفتين إلا أن عكرمة خالف القاسم بن محمد عن ابن عباس ثم سهلا وابن عمر في تسميته القاذف بهلال بن أمية.
    وخالف هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أنس سهلا وابن عمر، ثم رواية القاسم عن ابن عباس فيها.

    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #112
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة النور

    من صــ 713 الى صـ 742
    الحلقة (111)




    وإذا صرنا إلى الترجيح فرواة حديث ابن عمر وسهل بن سعد أحفظ وأوثق ومع روايتهم رواية القاسم بن محمد عن ابن عباس التي جمع فيها بين تسميته الرامي والمرمي به فالاعتماد على روايتهم في اسم القاذف.
    وعلى رواية عكرمة وهشام بن حسان في اسم المرمي به.
    ثم على رواية القاسم بن محمد عن ابن عباس في اسمهما جميعا، وقول الشافعي في الإملاء صحيح على ما ذكرناه والله أعلم) اهـ بتصرف.

    وقال ابن العربي: (السابعة وهو عويمر وقد روى ما قدمنا هلال بن أمية قال الناس هو وهم من هشام بن حسان، وعليه دار الحديث لابن عباس بذلك وحديث أنس وقد رواه القاسم عن ابن عباس كما رواه الناس فيهن فيه الصواب) اهـ.
    وقال القاضي عياض: (جاء في هذه الأحاديث هلال بن أمية وهو خطأ، والصحيح أنه عويمر) اهـ.
    وقال القرطبي: ((قوله: أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان) هو - والله أعلم - عويمر العجلاني المتقدم الذكر) اهـ
    وقال في موضع آخر: (وقوله في هلال بن أمية إنه كان أول من لاعن في الإسلام، هذا يقتضي أن آية اللعان نزلت بسبب هلال بن أمية، وكذلك ذكره البخاري، وهو مخالف لما تقدم: أنها نزلت بسبب عويمر العجلاني. وهذا يحتمل أن تكون القضيتان متقاربتي الزمان فنزلت بسببهما معا. ويحتمل أن تكون الآية أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين. أي كرر نزولها عليه - وهذه الاحتمالات - وإن بعدت - فهي أولى من أن يطرق الوهم للرواة الأئمة الحفاظ) اهـ باختصار يسير.
    وقال النووي: (واختلف العلماء في نزول آية اللعات هل هو بسبب عويمر العجلاني أم بسبب هلال بن أمية فقال بعضهم. بسبب عويمر العجلاني واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، وقال جمهور العلماء: سبب نزولها قصة هلال بن أمية واستدلوا بالحديث الذي ذكره مسلم في قصة هلال قال وكان أول رجل لاعن في الإسلام، قال الماوردي من أصحابنا في كتابه الحاوي: قال الأكثرون قصة هلال بن أمية أسبق من قصة العجلاني قال والنقل فيهما مشتبه ومختلف وقال ابن الصباغ من أصحابنا في كتابه الشامل: قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولا قال وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لعويمر إن الله قد أنزل فيك وفي صاحبتك فمعناه ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع الناس.
    قلت: ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعا فلعلهما سألا في وقتين متقاربين فنزلت الآية فيهما وسبق هلال باللعان فيصدق أنها نزلت في ذا وفي ذاك وأن هلالا أول من لاعن والله أعلم) اهـ
    وقد تكرر كلام ابن حجر في عدة مواضع فقال مرة: (ولا مانع أن تتعدد القصص ويتحد النزول).
    وقال أيضا: (ويحتمل أن النزول سبق بسب هلال، فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكم، ولهذا قال في قصة هلال (فنزل جبريل) وفي قصة عويمر (قد أنزل الله فيك) فيؤول قوله قد أنزل الله فيك أي وفيمن كان مثلك).
    وقال مرة: (ولا مانع أن يروي ابن عاس القصتين معا، ويؤيد التعدد اختلاف السياقين وخلو أحدهما عما وقع في الآخر، وما وقع بين القصتين من المغايرة) اهـ.
    وقال أيضا: (وقد قدمت اختلاف أهل العلم في الراجح من ذلك وبينت كيفية الجمع بينهما بأن يكون هلال سأل أولا، ثم سأل عويمر فنزلت في شأنهما معا، وظهر لي الآن احتمال أن يكون عاصم سأل قبل النزول ثم جاء هلال بعده فنزلت عند سؤاله فجاء عويمر في المرة الثانية التي قال فيها: (إن الذي سألك عنه قد ابتليت به) فوجد الآية نزلت في شأن هلال فأعلمه - صلى الله عليه وسلم - بأنها نزلت فيه، يعني أنها نزلت في كل من وقع له ذلك لأن ذلك لا يختص بهلال) اهـ.
    وقال أيضا: (ولا يمتنع أن يتهم شريك بن سحماء بالمرأتين معا) اهـ
    وبعد استقراء أقوال المفسرين والمحدثين في المسألة تبين اقتصارها على أربعة أقوال:
    الأول: أن الآية نزلت بسبب عويمر العجلاني، واختار هذا الكلبي والشافعي والطبري وأبو عبد الله بن أبي صفرة وابن بطال والبيهقي وابن العربي والقاضي عياض وأبو العباس القرطبي، والنووي احتمالا، وكذا ابن عاشور.
    وحجتهم ما يلي:
    1 - كثرة ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العجلاني وامرأته وهو ما يصدق على عويمر دون هلال بن آمية.
    2 - توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحكم فيها حتى أنزل الله فيها الآية ولو أنهما قضيتان لم يتوقف عن الحكم فيها، ولحكم في الثانية بما أنزل الله في الأولى.
    3 - أن الأحاديث خبر عن قصة واحدة لاتفاقهم على ذكر نزول الآية، والنزول يكون مرة واحدة واتفاقهم على أنه رماها وهي حامل وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن جاءت به على نعت كذا فهو كذا وقل أن يتفق جميع ذلك في قصتين مختلفتين.
    4 - أن حديث سهل وإن لم يسم فيه المقذوف فإنه كان معروفا بعينه ولهذا ذكر أوصافه.
    5 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعويمر: (قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك).
    6 - أنه قد روى المغيرة بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن أبي الزناد عن القاسم بن محمد عن ابن عباس قال: لاعن بين العجلاني وامرأته وكان الذي رميت به ابن السحماء.
    7 - أن عكرمة وهشاما قد خالفا القاسم بن محمد وسهلا وابن عمر في تسميتهما القاذف بهلال بن أمية، ثم إن رواة حديث ابن عمر وسهل بن سعد أحفظ وأوثق ومع روايتهم رواية القاسم عن ابن عباس.
    8 - أن هشام بن حسان قد غلط في الحديث ووهم.
    9 - أن أهل الأخبار كانوا يقولون: إن القضية في عويمر العجلاني.
    القول الثاني: أن الآية نزلت بسبب هلال بن أمية واختار هذا الماوردي وعزاه إلى الأكثرين وابن الصباغ، ونسبه النووي إلى جمهور العلماء ومال إليه بعض الشافعية وذكره ابن حجر احتمالا.
    وحجتهم ما يلي:

    1 - لما روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس، ومسلم عن هشام عن ابن سيرين عن أنس.
    2 - أن المقذوف في قصة هلال قد سمي بخلاف قصة عويمر.
    3 - لما روي مسلم في قصة هلال (وكان أول رجل لاعن في الإسلام).
    4 - أنه جاء في قصة هلال (فنزل جبريل).
    القول الثالث: أن تكون القصتان وقعتا في وقت واحد أو متقارب فسألا فنزلت الآية فيهما معا، واختاره ابن حجر وابن عاشور، وذكره القرطبي والنووي احتمالا.
    والحجة فيه: اختلاف السياقين وخلو أحدهما مما وقع في الآخر، وما وقع بين القصتين من المغايرة.
    القول الرابع: أن تكون الآية أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين. وذكر هذا أبو العباس القرطبي احتمالا.
    وليس لهذا القول حجة إلا الخوف من توهيم الرواة.
    وهذان القولان الثالث والرابع متلازمان يؤولان إلى تعدد الواقعة لأن تكرر النزول نتيجة لتكرر الحدث.
    وقبل مناقشة هذه الأقوال يحسن عقد مقارنة بين صفات القاذفين وأخرى بين صفات المقذوفين فلعل نتيجة المقارنة تجيب على الكثير من الأسئلة التي تدور في الذهن. ثم المقارنة بين صفات القاذف والمقذوف.
    وقد قمت بجمع الأوصاف الخلقية من مصادر السنة التي روت القصة برواياتها المختلفة، وسأشرح الألفاظ الغريبة منها وإن كان قد تقدم شرحها لما في ذلك من الإيضاح والبيان.
    دلت الروايات على أن صفة القاذف في قصة عويمر العجلاني ما يلي:
    1 - عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإن جاءت به أحمر قصيرا كأنه وحرة فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها.
    ب - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: وكان ذلك الرجل مصفرا، قليل اللحم، سبط الشعر.
    جـ - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: وكان زوجها حمش الساقين والذراعين، أصهب الشعرة.
    فاجتمع من هذه الأحاديث الأوصاف التالية: أحمر، قصيرا، وحرة، مصفرا، قليل اللحم، سبط الشعر، حمش الساقين والذراعين، أصهب الشعرة.
    دلت الروايات على أن صفة القاذف في قصة هلال بن أمية ما يلي:
    1 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضيء العينين فهو لهلال بن أمية.
    ب - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جاءت به أصيهب، أريصح، أثيبج، حمش الساقين فهو لهلال.
    فاجتمع من هذين الحديثين الأوصاف التالية: أبيض، سبطا، قضيء العينين، أصيهب، أريصح، أثيبج، حمش الساقين.
    وهنا يحسن أيضا النظر في صفات القاذفين ليتبين هل بينها توافق أو تعارض؟.

    1 - أما اللون: فقد جاء فيه أبيض، أحمر، مصفرا.
    2 - أما حال الشعر: فإنه سبط.
    3 - أما لون الشعر: فأشقر.
    4 - أما العينان: فإنه قضيء العينين.
    5 - أما الإليتان: فإنه أريصح.
    6 - أما الساقان: فإنه حمش الساقين.
    7 - أما القامة: فإنه قصير.
    8 - أما اللحم: فإنه قليل اللحم.
    9 - أما حال ما بين الكتفين والكاهل فإنه أثيبج.
    10 - أما الحجم: فإنه كالوحرة صغير الحجم.
    ولونه الأبيض لا يعارض الأحمر لأن الأحمر يراد به الأبيض أحيانا، والصفرة لا تعارض البياض، ومن المشاهد أن لون الإنسان يتبدل ويتشكل بحسب ما يعتريه من العوارض الحياتية كالمرض، والهزال، والحزن، ونحو ذلك.
    ويمكن أن يقال أيضا إن وصفه بالصفرة ليس وصفا نبويا سالما من الخطأ بل هو وصف ابن عباس - رضي الله عنهما - حيث قال: وكان ذلك الرجل مصفرا.
    وربما رآه ابن عباس كذلك بعدما نزلت به تلك المصيبة فيكون الاصفرار عارضا بسبب الحزن، وحينئذ يلغى الوصف إن كان يعارض وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظل وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه بالحمرة والبياض أصلا.
    أما سائر الأوصاف فليس فيها اختلاف أو تناقض بل هي مكملة لبعضها. والله أعلم.

    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #113
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة النور

    من صــ 713 الى صـ 742
    الحلقة (112)



    دلت الروايات على أن صفة المقذوف في قصة عويمر العجلاني ما يلي:
    (أ) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (انظروا فإن جاءت به أسحم، أدعج العينين، عظيم الإليتين، خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها) فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر، فكان بعد ينسب إلى أمه.

    (ب) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وإن جاءت به أسود أعين، ذا إليتين فلا أراه إلا قد صدق عليها) فجاءت به على المكروه من ذلك.
    (جـ) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: وكان الدي وجد عند أهله آدم، خدلا، كثير اللحم، جعدا، قططا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم بين) فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها.
    (د) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: فولدت غلاما أسود، أجلى،جعدا، عبل الذراعين.
    دلت الروايات على أن صفة المقذوف في قصة هلال بن أمية ما يلي:
    (أ) - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أبصروهها فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء) فجاءت به كذلك.
    (ب) - عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وإن جاءت به أكحل جعدا، حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء) فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدا، حمش الساقين.
    (جـ) - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن جاءت به أورق، جعدا، جماليا، خدلج الساقين، سابغ الإليتين فهو للذي رميت به فجاءت به أورق، جعدا، جماليا، خدلج الساقين سابغ الإليتين) والقاذف هنا هلال فيكون المقذوف شريكا.
    د - عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وإن جاءت به آدم، جعدا، ربعا، حمش الساقين، فهو لشريك بن سحماء) فجاءت به آدم، جعدا.
    هـ - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعلها أن تجيء به أسود، جعدا) فجاءت به أسود، جعدا.
    وهنا يحسن النظر في صفات المقذوفين ليتبين ما بينها من التوافق والتعارض.
    1 - أما اللون: فقد جاء فيه أسحم، أسود، آدم، أورق.
    2 - أما حال الشعر: فقد جاء فيه جعدا، قططا.
    3 - أما العينان: فإنه أكحل العينين، أدعج العينين، أعين.
    4 - أما الذراعان: فإنه عبل الذراعين.
    5 - أما الإليتان: عظيم الإليتين، ذا إليتين، سابغ الإليتين.
    6 - أما الساقان: فإنه خدلج الساقين، خدل، حمش الساقين.
    7 - أما الطول: فإنه ربع.
    8 - أما اللحم: فإنه كثير اللحم.
    9 - أما الحجم: فإنه جمالي.
    10 - أما كثافة الشعر: فإنه أجلى.
    وبناء على تلك الأوصاف المتقدمة فلونه الأسود والأسحم معناهما واحد، والآدم والأورق معناهما السمرة، والسمرة لا تنافي السواد لأنها سواد خفيف. وقد وصف كل واحد منهما بأنه آدم وأسود.
    أما الشعر: فالجعودة لا تنافي القطط لأنه أشد الجعودة أو أحسنها. وقد وصف كل واحد منهما بأنه جعد الشعر.
    أما العينان: فالأدعج لا ينافي الأكحل فهما دائران على سواب في العين وغيرها كالجفن. والأعين، وإن كان ليس بمعناهما، لكنه لا يخالفهما بل يجتمع معهما.
    أما الساقان: فقد تقدم أن وصفهما بالحموشة وهم، ولعل مما يؤكد هذا أن الحموشة لا تتفق مع كثرة اللحم، وعظم الإليتين، وضخامة الأعضاء لأن العادة أن السمن والضخامة يشمل البدن كله، كما أن النحافة والنحول كذلك.
    أما بقية الأوصاف فليس بينها تعارض بل هي مكملة لبعضها. والله أعلم.
    وإذا أردنا أن نعقد مقارنة بين خلاصة أوصاف القاذف والمقذوف تبين الآتي:
    * * * [القاذف] * * * * * * * [المقذوف]
    1 - أبيض اللون - * * * * * أسود
    2 - سبط الشعر - * * * * * جعد قطط
    3 - قضيء العينين * * * * * أدعج العينين
    4 - خفيف لحم الإليتين * * عظيمهما
    5 - حمش الساقين * * * * خدلج الساقين
    6 - قصير القامة * * * * * ربع في طوله
    7 - قليل اللحم * * * * * كثير اللحم
    8 - صغير الحجم كالوحرة * * * كبير الحجم كالجمل
    وقبل الوصول إلى نتيجة بحث التعدد سأذكر بعض الاحتمالات في المقذوف والقاذف فأقول: الأوصاف المذكورة في المقذوف متفقة ومتطابقة تماما وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من حالين اثنين لا ثالث لهما:
    الأولى: أن تكون هذه الأوصاف لموصوفين اثنين، يحمل كل واحد منهما نفس الأوصاف التي يحملها الآخر، ثم يقع أحد الرجلين على امرأة عويمر والآخر على امرأة هلال في زمن متقارب جدا، ثم تحملان ثم تضعان ذكرين، وهذان الذكران يشبهان هذين المقذوفين الشبه الذي ذكرنا، والوصف الذي سردنا، ونتيجة هذا أربعة متشابهون.
    وهذا الاحتمال بعيد جدا، حتى إن مجرد تصوره كاف في اطراحه.
    الثانية: أن تكون هذه الأوصاف لموصوف واحد وعلى هذا يرد احتمالان:
    الأول: أن يقع الفعل منه بالمرأتين جميعا في زمن متقارب ثم يذهب الزوجان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبراه الخبر، ثم يقع لعان المرأتين ثم تلدان ذكرين، كل منهما يشبه المقذوف هذا من البعيد أيضا وإن كان أقرب من الأول.
    ومن العجيب أن الحافظ ابن حجر قال: (ولا يمتنع أن يتهم شريك بن سحماء بالمرأتين معا). ونتيجة ذلك ثلاثة يتطابقون في الشبه.
    الثاني: أن يقع الفعل منه بامرأة واحدة فتحمل منه وتنجب ذكرا يشبهه وهذا ممكن وواقع وليس بغريب ولا بعيد.

    وإذا كان المقذوف واحدا فمن يكون؟
    فالجواب: أنه شريك بن سحماء لأمرين:
    الأول: أن كل الروايات التي تسمي لا تذكر إلا شريك بن سحماء باسمه.
    الثاني: أن كل الروايات التي لم تسم المقذوف ذكرت أوصافا تطابق أوصاف شريك بن سحماء.
    بقي سؤال أخير هنا وهو هل وقع الفعل من شريك بامرأة واحدة أو اثنتين؟
    والجواب: يحدد هذا حال القاذف هل هو واحد أو متعدد؟ وسيأتي إن شاء الله.
    أما القاذف فالأوصاف المذكورة فيه متفقة ومتكاملة وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من حالين اثنين لا ثالث لهما:
    الأولى: أن تكون هذه الأوصاف لموصوفين اثنين وعلى هذا يرد احتمالان:
    الأول: أن يحمل كل واحد منهما نفس الصفات التي يحملها الآخر، ثم يقع الفعل من زوجتيهما في زمن متقارب جدا ثم تحملان ثم تضعان ذكرين وهذان الذكران يشبهان المقذوف وهذا الاحتمال بعيد ومتكلف.
    الثاني: أن يحمل كل واحد من القاذفين بعض الصفات الواردة، ثم يقع الفعل من زوجتيهما في زمن متقارب جدا ثم تحملان وتضعان ذكرين يشبهان المقذوف وهذا لا يمكن لسببين:
    1 - إنه من البعيد أن تكون صفات القاذفين بمجموعهما تقابل صفات المقذوف تماما، كما هو حاصل معنا حيث تقابلت الصفات تماما.
    ب - أن المقابلة بين القاذف والمقذوف كما أرادها النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تتحقق من كل وجه، لأن القاذف ناقص الصفات، والمقذوف كامل الصفات فالناقص لا يقابل الكامل إلا في بعضها.
    الثانية: أن تكون هذه الأوصاف لموصوف واحد قذف أهله بفاحشة الزنى، وهذا هو الصحيح لا ريب أنه ليس ثم إلا قاذف واحد.
    وبناء على ما تقدم يتبين جواب السؤال السابق هل وقع الفعل من شريك بامرأة واحدة أو اثنتين؟
    فيقال: بل بامرأة واحدة فقط.
    وحينئذ يرد السؤال الأخير من هو القاذف؟

    والجواب: أنه قد تبين فيما تقدم من دراسة حديثي أنس بن مالك وابن عباس - رضي الله عنهما - والنظر في طرقهما أن ذكر هلال بن أمية وامرأته - رضي الله عنهما - خطأ، وأن الصواب في قضية اللعان التي وقعت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن القاذف فيها عويمر العجلاني وأن المقذوف فيها شريك ابن سحماء العجلاني وأنه لم يقع معها قضية أخرى، وتفصيل ذلك في موضعه من الحاشية.
    ولعل مناقشة الأقوال الأربعة تكشف المزيد من الأدلة لهذه النتيجة.
    وسأبدأ بالقول الرابع: وهو أن الآية أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين.
    وهذا القول ضعيف إذ قد تبين مما تقدم أن القصة واحدة فلماذا تنزل الآية مرتين، وإذا كان قائله قد جعله احتمالا بعيدا ألجأه إليه الخوف من توهيم الرواة فكيف يقبله غيره؟.
    أما القول الثالث: وهو أن تكون القصتان وقعتا في وقت واحد أو متقارب فسألا فنزلت الآية فيهما، واحتجاجهم باختلاف السياقين.
    فالجواب: أنه قد تقرر أن القصة واحدة لم تتكرر، واختلاف السياقين ليس دليلا على اختلاف القصة. وإذا كان قد وقع من الرواة خطأ إقحام هلال وزوجه في قضية ليس لهما فيها ناقة ولا جمل مع عظم ذلك فوقوع الأقل من باب أولى.
    أما القول الثاني: وهو أن الآية نزلت بسبب هلال بن أمية فالجواب عن أدلتهم بما يلي:
    1 - حديث ابن عباس عند البخاري، وأنس عند مسلم قد تقدم جوابه.
    2 - أن المقذوف في قصة هلال قد سمي بخلاف قصة عويمر فهذا حق، لكن المقذوف في قصة عويمر قد وصف وصفا يعرف به بعينه، وربما كان الوصف أبلغ؛ لأن الاشتراك في الأسماء أكثر من الاشتراك في الأوصاف، ولهذا لما اشتركا في الأوصاف قلنا هي لرجل واحد.
    3 - أن قول أنس: (وكان أول رجل لاعن في الإسلام) لا حجة فيه لأنه مقابل بغيره وذلك في حديث ابن عمر: (إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان) وجاء في حديثه (فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني العجلان) وهو ما يصدق على عويمر دون هلال لأنه واقفي وليس عجلانيا.
    4 - أنه جاء في قصة هلال: (فنزل جبريل) وهذا لا حجة فيه لأنه مقابل بمثله وأكثر منه ومن ذلك: (قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك) وفيه (قد أنزل الله فيكم قرآنا) وفي حديث ابن عمر: (فأنزل الله - عز وجل - هؤلاء الآيات في سورة النور (والذين يرمون أزواجهم) وهذه الألفاظ ليس لأحد أن يحتج بها لأن بعضها من أقوال الصحابة، والمنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا واحد لا يتعدد.
    أما القول الأول: فقد ذكروا عددا من الحجج على قولهم إنها في عويمر وأعتقد أن جميع ما ذكر هو الصحيح باستثناء قولهم: إن أهل الأخبار كانوا يقولون إن القضية في عويمر العجلاني فإني لم أجد من قال هذا من الأخباريين.
    أما قولهم: إنه قد روى المغيرة بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن أبي الزناد عن القاسم بن محمد عن ابن عباس فسأذكر هذا الحديث لأهميته إذ اجتمع فيه ذكر القاذف والمقذوف تصريحا. فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين العجلاني وامرأته، قال: وكانت حبلى، فقال: والله ما قربتها منذ عفرنا. - قال: والعفر: أن يسقى النخل بعد أن يترك من السقي، بعد الإبار بشهرين - قال: وكان زوجها حمش الساقين والذراعين، أصهب الشعرة، وكان الذي رميت به ابن السحماء، قال: فولدت غلاما أسود، أجلى، جعدا، عبل الذراعين، قال: فقال ابن شداد بن الهاد لابن عباس: أهي المرأة التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت راجما بغير بينة لرجمتها)؟ قال: لا تلك امرأة كانت قد أعلنت في الإسلام.
    وبهذا يتبين أن أصح الأقوال وأسعدها بصحيح المنقول وصريح المعقول هو القول الأول وأن القصة نزلت بسبب عويمر العجلانى حين قذف امرأته بالزنى مع شريك بن سحماء العجلاني.
    * النتيجة:
    أن سبب نزول آيات اللعان أن عويمرا العجلاني قذف امرأته بشريك بن سحماء وذلك لصحة الأحاديث في ذلك وخلوها من معارض راجح والله أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #114
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة النور

    من صــ 743 الى صـ 751
    الحلقة (113)





    125 - قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات ُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما نزل الحجاب فأنا أُحمل في هودجي وأُنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جَزْع ظَفَار قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه،وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه.
    وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم، إنما تأكل العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها دلّ ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ.
    فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يَرِيبُنِي في وجعي أني لا أعرف من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيسلم ثم يقول: (كيف تيكم). ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر، حتى خرجت بعدما نقهت، فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
    فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً. قالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ قالت: قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً على مرضي.
    فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعني - سلم ثم قال: (كيف تيكم). فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فواللَّه لقلما كانت امرأة قط وضيئة، عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا كثرن عليها. قالت: فقلت: سبحان اللَّه، ولقد تحدث الناس بهذا؟
    قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، فدعا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فأشار على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود. فقال: يا رسول اللَّه، أهلك وما نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول اللَّه لم يضيق اللَّه عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريرة فقال: (أي بريرة،هل رأيت من شيء يريبك؟). قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله.
    فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستغدر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول، قالت: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر: (يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي).
    فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك.
    قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همو أن يقتتلوا، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
    قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا، لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع، يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي.
    قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني. قالت: فتشهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين جلس، ثم قال: (أما بعد، يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللَّه وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى اللَّه تاب اللَّه عليه).
    قالت: (فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالته قلص دمعي، حتى ما أحسن منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما قال: قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت لأمي: أجيبي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: ما أدري ما أقول لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قالت: فقلت، وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني واللَّه لقد علمت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، واللَّه يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، واللَّه يعلم أني منه بريئة لتصدقني، واللَّه ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ). قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأن اللَّه مبرئي ببراءتي، ولكن واللَّه ما كنت أظن أن اللَّه منزل في شأني وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم اللَّه فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوم رؤيا يبرئني اللَّه بها.
    قالت: فواللَّه ما رام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي ينزل عليه. قالت: فلما سري عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فقد برأك). فقالت أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: واللَّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وأنزل اللَّه:(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ) العشر الآيات كلها.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سببًا لنزول الآيات الكريمات كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
    قال ابن عطية: (هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية أُنزلت في عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وما اتصل بذلك من أمر الإفك). اهـ.
    وقال القرطبي: (وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة - رضوان اللَّه عليها - وهو خبر صحيح مشهور أغنى اشتهاره عن ذكره). اهـ.
    وقال ابن كثير: (هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لها ولنبيه - صلوات اللَّه وسلامه عليه - فأنزل الله تعالى براءتها صيانة لعرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
    وقال السعدي: (وهذه الآيات نزلت في قصة الإفك المشهورة الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد). اهـ.
    وقول ابن عطية: (هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية) لا يعارض ما جاء في الحديث وأقوال بعض المفسرين أن ما نزل في شأنها عشر آيات؛ لأن هذه العشر تخص عائشة - رضي الله عنها - مباشرة، وما زاد يتعلق بأطراف القصة.
    * فائدة:
    قد أفاد الحديث فائدة جليلة وهي أن طول الأمد بين الواقعة والحدث وبين نزول الآيات لا يمنع السببية، قالت عائشة: (وقد لبث شهراً لا يُوحى إليه في شأني) ومع هذا فقد أجمع المفسرون على أن واقعة الإفك هي سبب نزول هذه الآيات.
    * النتيجة:
    أن هذا الحديث سبب لنزول الآيات لصحة سنده وموافقته لسياق القرآن وإجماع المفسرين على ذلك.
    * * * * *

    126 - قال اللَّه تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِي نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا، فقال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه: واللَّه لا أُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى .. ) الآية قال أبو بكر: بلى والله إني لأُحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أَنزعها عنه أبداً.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي والشنقيطي وابن عاشور.
    قال الطبري: (وإنما عُني بذلك أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حلفه بالله لا ينفق على مسطح فقال جل ثناؤه: ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها المؤمنون باللَّه ألا يُعطوا ذوي قرابتهم فيصلوا به أرحامهم كمسطح وهو ابن خالة أبي بكر). اهـ.
    قال ابن العربي: (قد بينا أن ذلك نزل في أبي بكر، قالت عائشة في حديثها فحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً فأنزل الله الآية: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ) قال أبو بكر: بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن يغفر لنا وعاد لما كان يصنع له). اهـ.
    قال ابن عطية: (المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر ومسطح بن أُثاثة وذكر كلامًا حتى قال: وكان أبو بكر ينفق عليه لمسكنته فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قاله حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً). اهـ.
    وقال ابن كثير: (وهذه الآية نزلت في الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أُثاثة بنافعةٍ أبداً بعدما قال في عائشة ما قال). اهـ.
    وقال السعدي: (كان من جملة الخائضين في الإفك (مسطح بن أثاثة) وهو قريب لأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان مسطح فقيراً من المهاجرين في سبيل اللَّه، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه لقوله الذي قال، فنزلت هذه الآية ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه ويحثه على العفو والصفح ويعده بمغفرة الله إن غفر له). اهـ.
    وقال الشنقيطي: (نزلت هذه الآية في أبي بكر ومسطح بن أثاثة ابن عباد بن عبد المطلب، وكان مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير، وكانت أمه ابنةَ خالة أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرابته وهجرته وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة بالإفك المذكور فلما نزلت براءة عائشة حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح ولا ينفعه بنافعةٍ بعدما رمى عائشة بالإفك ظلماً وافتراءً فأنزل اللَّه في ذلك: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ... ) الآية اهـ بتصرف يسير.
    * النتيجة:
    أن سبب نزول الآية الكريمة الحديث المذكور لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن واحتجاج المفسرين به والله أعلم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #115
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة النور

    من صــ 752 الى صـ 757
    الحلقة 114)


    127 - قال الله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِف ِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج مسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن جارية لعبد اللُّه بن أبى ابن سلول يُقال لها مسيكة. وأخرى يُقال لها أُميمة فكان يكرههما على الزنا. فشكتا ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) إلى قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ).
    وفي لفظ آخر لمسلم عنه - رضي الله عنه - قال: كان عبد اللُّه بن أُبي ابنُ سلول يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد أورد جمهور المفسرين هذه القصة مع اختلاف بينهم في لفظها.
    فالطبري وابن عطية والقرطبي وابن كثير ذكروا اللفظ الذي معنا.
    قال الطبري: (لا تكرهوا إماءكم على البغاء وهو الزنا إن أردن تعففاً عن الزنا لتلتمسوا بإكراهكم إياهن على الزنا عَرَض الحياة، وذلك ما تعرض لهم إليه الحاجة من رياشها وزينتها وأموالها ... وذكر كلامًا إلى أن قال: وذكر أن هذه الآية أُنزلت في عبد اللَّه بن أبيّ ابن سلول حين أكره أمته مسيكة على الزنا). اهـ مختصراً.
    قال ابن كثير: (كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت فلما جاء الإسلام نهى اللَّه المؤمنين عن ذلك. وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول، فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلبًا لخراجهن ورغبةً في أولادهن ورياسةً منه فيما يزعم) اهـ.
    أما البغوي وابن العربي وابن عاشور فقد ذكروا ألفاظًا مقاربة.
    قال البغوي: (نزلت في عبد اللَّه بن أبي ابن سلول المنافق كانت له جاريتان معاذة ومسيكة، وكان يكرههما على الزنا بالضريبة يأخذها منهما، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيرًا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرًا فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل اللَّه هذه الآية) اهـ.
    وقال ابن العربي: (وروى الزهري أنه كان لعبد اللَّه بن أُبَيّ جارية يقال لها معاذة، وكان رجل من قريش أُسر يوم بدر، فكان عنده، وكان القرشي يريد الجارية على نفسها، وكانت الجاربة تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد اللَّه بن أبي يضربها على امتناعها من القرشي، رجاء أن تحمل منه فيطلب فداء ولده فأنزل الله الآية) اهـ.
    قال السعدي: (وإنما نهى عن هذا لما كانوا يستعملونه في الجاهلية من كون السيد يجبر أمته على البغاء ليأخذ منها أجرة ذلك ولهذا قال: (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم خيرًا منكم وأعف عن الزنا، وأنتم تفعلون بهن ذلك لأجل عرض الحياة، متاع قليل يعرض ثم يزول.
    فكسبكم النزاهة والنظافة والمروءة - بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها - أفضل من كسبكم العرض القليل، الذي يكسبكم الرذالة والخسة) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، واتفاق المفسرين عليه والله أعلم.
    * * * * *

    128 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْك ُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج أبو داود عن عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عبَّاسٍ كيف ترى في هذه الآية التي أُمرنا فيها بما أُمرنا ولا يعمل بها أحد قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْك ُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) قرأ القعنبي إلى (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال ابن عبَّاسٍ: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حِجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل. والرجل على أهله، فأمرهم اللَّه بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم اللَّه بالستور والخير، فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد هذا الحديث ابن العربي والقرطبي وابن كثير.
    قال ابن العربي: (وقال ابن عبَّاسٍ: قد ذهب حكمها. ثم ساق الحديث، ثم قال: وهذا ضعيف جداً بما بيناه في غير موضع من أن شروط النسخ لم تجتمع فيه من المعارضة، ومن التقدم والتأخر فكيف يصح لناظر أن يحكم به؟) اهـ.
    قال القرطبي: (قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحاري ونحوها). اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية الكريمة للأسباب التالية:
    أولاً: أن أكثر المفسرين عنايةً بالأسباب أعرضوا عنه فلم يذكروه ولو كان مما يحتج به عندهم لما تركوه.
    ثانياً: أن الحديث ضعيف كما تبين من دراسة إسناده.
    ثالثاً: أن الذين ذكروا الحديث لم يذكروه محتجين به على السببية، بل يذكرون الإحكام والنسخ كما هو ظاهر من أقوالهم.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية الكريمة لضعف سنده، وخلوه من التصريح بالسببية وإعراض المفسرين عنه. واللَّه أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #116
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة النور

    من صــ 758 الى صـ 769
    الحلقة 115)


    سورة الفرقان
    129 - قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارةً فنزل: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ) ونزل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ).
    وفي لفظ لمسلم والبخاري وأبي داود عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية بمكة: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) إلى قوله (مُهَانًا) فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلامُ وقد عدلنا باللَّه، وقد قتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش؟ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا .. ) إلى آخر الآية.
    2 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال سألت أو سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيُّ الذنب عند الله أكبر؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) قلت: ثم أيٌّ؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قلت: ثم أيٌّ؟ قال: (أن تزاني بحليلة جارك) قال: ونزلت هذه الآية تصديقاً لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ).
    وفي لفظ للترمذي وأحمد عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وتلا هذه الآية: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... ) ولم يقل: ونزلت.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذين الحديثين عند تفسيرها، واقتصروا على ذلك منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل قوم من المشركين أرادوا الدخول في الإسلام ممن كان منه في شركه هذه الذنوب، فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام فاستفتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، يعلمهم أن اللَّه قابلٌ توبة من تاب منهم). اهـ ثم ساق الحديثين.
    وذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا صلة له بالنزول.
    قال أبو العباس القرطبي: (ظاهر هذا أن هذه الآية نزلت بسبب هذا الذنب الذي ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس كذلك؛ لأن الترمذي قد روى هذا الحديث وقال فيه: وتلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) بدل فأنزل اللَّه وظاهره: أنه - عليه الصلاة والسلام - قرأ بعد ذكر هذا الحديث ما قد كان أُنزل منها، على أن الآية تضمنت ما ذكره في حديثه بحكم عمومها) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن قول القرطبي صحيح ويؤيده أمران:
    الأول: أن السورة مكية عند جمهور العلماء، والشرك كان واسعاً في الناس ذلك الوقت، وهذا يوافق قول ابن عبَّاسٍ: إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا ... الحديث.
    فبين الحديث وسياق الآيات قدر من التطابق والمماثلة.
    أما حديث ابن مسعود فليس كذلك لأنه حصر القتل في الولد خشية الطعام وحصر الزنا بحليلة الجار، وهذا الحصر لا يوافق العموم في الآية.
    الثاني: أنه جاء في حديث ابن مسعود: (ونزلت هذه الآية تصديقاً لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وبيان ذلك:
    أن يقال: إن القرآن إما أن ينزل ابتداءً أو على سبب وليس ثمةَ قسم ثالث اسمه نزول القرآن لتصديق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينطق عن اللَّه، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4). فكيف يُصدِّق هذا بهذا؟
    فإن قال قائل: الفائدة من هذا النزول هو التوكيد.
    فالجواب: أن يقال: الأصل في الكلام الشرعي، إذا كان دائراً بين التوكيد والتأسيس أن يحمل على التأسيس لأنه يحمل معنى زائداً على مجرد التوكيد.
    وهذا بعينه يتحقق في حديث ابن عبَّاسٍ، دون ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الذي لا يُفيد جديداً.
    * النتيجة:
    أن سبب نزول الآيات الكريمة حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لموافقته سياق القرآن وصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لأقوال المفسرين. والله أعلم.
    * * * * *
    سورة القصص
    130 - قال الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ (56)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن المسيب قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد عنده أبا جهل وعبد اللَّه بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: (أيّ عمِّ، قل لا إله إلا اللَّه كلمةً أُحاجُّ لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد اللَّه بن أبي أُمية: أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (والله لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ )، وأنزل اللَّه في أبي طالب: فقال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
    وأخرجه مسلم وأحمد والترمذي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلفظ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمه: (قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة) قال لولا أن تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل اللَّه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي والشنقيطي وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان باللَّه إلى ما دعاه إليه من ذلك) اهـ.
    وقال ابن عطية: (أجمع جل المفسرين على أن قوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) إنما نزلت في شأن أبي طالب عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
    وقال القرطبي: (قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب. قلت: والصواب أن يقال: أجمع جلّ المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو نص حديث البخاري ومسلم) اهـ.
    وقال ابن كثير: (وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حبًا شديدًا طبعيًا لا شرعيًا، فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإيمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه واختطف من يده فاستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحكمة التامة) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (ونزول قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) في أبي طالب مشهور معروف). اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وقد تضافرت الروايات على أن من أول المراد بذلك أبا طالب عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اغتم لموته على غير الإسلام كما في الأحاديث الصحيحة) اهـ.
    وبذكر أقوال المفسرين المتقدمة تبين أن سبب نزول الآية الكريمة قصة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أبي طالب حين دعاه إلى الإيمان باللَّه قبل الوفاة لكنَّ قدر الله سابق أنه لا يكون من المهتدين.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن، واتفاق المفسرين عليه والله أعلم.
    * * * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #117
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة العنكبوت

    من صــ 770 الى صـ 777
    الحلقة 116)


    سورة العنكبوت

    131 - قال الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج مسلم والترمذي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه ولا تأكلَ ولا تشربَ. قالت: زَعَمْتَ أن اللَّه وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا. قال: مَكَثَتْ ثلاثًا حتى غُشي عليها من الجهد. فقام ابن لها يُقال له عُمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في القرآن هذه الآية: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي) وفيها: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث لنزولها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبب سعد بن أبي وقاص) اهـ.
    قال ابن عطية: (روي عن قتادة وغيره أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وذلك أنه هاجر فحلفت أمه أن لا تستظل بظل حتى يرجع إليها ويكفر بمحمد فلج هو في هجرته ونزلت الآية) اهـ.
    وقال القرطبي: (نزلت في سعد بن أبي وقاص) اهـ.
    أما قوله تعالى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فليست في سياق الآية التي معنا بل هي في سورة لقمان. فهل نزلت في ذلك الآيتان؟
    البغوي قال: (نزلت هذه الآية والتي في سورة لقمان والأحزاب في سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان باراً بأُمِّه) اهـ.
    ولا أدري ما يعني بالتي نزلت في سورة الأحزاب؟ فسورة الأحزاب ليس فيها شيء من هذا.
    والظاهر - والله أعلم - أن ذكر قوله تعالى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لا يصح لأمور:
    1 - أن الترمذي الذي روى الحديث مع مسلم لم يذكرها، واقتصر على آية العنكبوت.
    2 - أن سياق آيات العنكبوت السابقة واللاحقة تتحدث عن الابتلاء والفتنة. ففي السابقة يقول اللَّه: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3).
    وفي اللاحقة يقول الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ .. ).
    وهذا يتفق مع قصة سعد بن أبي وقاص لأن فعل أمه نوع من الابتلاء والامتحان لإيمانه لأنه كان باراً بها محبًا لها، أما آية لقمان فليس في سياقها مثل هذا.
    3 - أن المفسرين لم يذكروا آية لقمان في موضع نزول آية العنكبوت إلا البغوي، وإن كان بعضهم قد ذكر حديث سعد في موضع نزول آية لقمان، لكن ما دلّ عليه الحديث هو الراجح. والله أعلم.
    * تنبيه:
    ما ذُكر عن قوله تعالى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) ينسحب على قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي) لأن هذه الآية أيضاً في سورة لقمان وليس العنكبوت.
    * النتيجة:
    أن سبب نزول الآية قصة سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع أمه لصحة سندها وتصريحها بالنزول، وموافقتها لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين بها. والله أعلم.
    * * * * *

    132 - قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الدارمي عن يحيى بن جعدة قال: أُتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتف فيه كتاب فقال: كفى بقوم ضلالاً أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ) الآية.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كالطبري وابن عطية والقرطبي.
    قال الطبري: (وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن قوماً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتسخوا شيئاً من بعض كتب أهل الكتاب). اهـ ثم ذكر الحديث.
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية لأن سياق الآيات يتحدث عن قوم كافرين جاحدين مرتابين. وقد قال اللَّه قبل هذه الآية: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50).
    وقال بعدها: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52).
    فالضمير في قوله: (يَكْفِهِمْ) يعود على الذين قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ) هذا الظاهر من سياق الآيات.
    أما ما دلَّ عليه الحديث فإن عدم الاكتفاء واقع من بعض المؤمنين ولهذا قال فيه: كفى بقوم ضلالاً أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم، مما يدل على أن لهؤلاء نبياً وكتاباً.
    وبناءً على هذا فإنه ليس بين سياق الآيات والحديث موافقة مما يجعل القول بأنه سبب نزولها قولاً بعيداً من الصواب.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية لأنه ضعيف السند، ولا يتفق مع السياق، مع إعراض أكثر المفسرين عن ذكره واللَّه أعلم.
    * * * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #118
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن
    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الروم

    من صــ 778 الى صـ 788
    (الحلقة 117)

    سورة الروم
    133 - قال الله تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ) - إلى قوله -: (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، وقد ذكر هذا الحديث ومعه غيره الطبري وابن العربي والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    أما البغوي وابن عطية فلم يذكرا الحديث.
    فأما الطبري والقرطبي فقد اقتصرا على سياق الأحاديث والمرويات في القصة.
    وأما ابن العربي فإنه لما ساق الحديث الذي معنا أضاف إليه حديث ابن عباس، وحديث نِيار بن مكرم الأسلمي ثم قال: (فهذه أحاديث صحاح حسان غراب) اهـ.
    وأما ابن كثير فقال: (نزلت هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم فاضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينة، وحاصره فيها مدة طويلة ثم عادت الدولة لهرقل) اهـ.
    وأما ابن عاشور فقال: (واتفقت الروايات على أن غلب الروم للفرس وقع بعد مضي سبع سنين من غلب الفرس على الروم الذي نزلت عنده هذه السورة .. ثم ذكر كلامًا قال بعده: أول أغراض هذه السورة سبب نزولها على ما سرَّ المشركين من تغلب الفرس على الروم، فقمع الله تعالى تطاول المشركين به وتحداهم بأن العاقبة للروم في الغلب على الفرس بعد سنين قليلة) اهـ.
    وقال البغوي: (سبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن أهل فارس كانوا مجوساً أميين، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشاً إلى الروم فذكر كلامًا ... حتى قال: فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق عليهم، وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم فأنزل الله تعالى هذه الآيات) اهـ.
    والظاهر - واللَّه أعلم - أن الحديث الذي معنا لا يصح أن يكون سبباً للنزول لأمور:
    1 - أن إسناده ضعيف، ومضطرب فلا ينهض للاحتجاج به على السببية.
    2 - أن سورة الروم مكية بكاملها.
    قال ابن عطية: (هذه السورة مكية ولا خلاف أحفظه في ذلك) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وهي مكية كلها بالاتفاق، حكاه ابن عطية والقرطبي، ولم يذكرها صاحب الإتقان في السور المختلف في مكيتها ولا في بعض آيها) اهـ.
    وإذا كانت مكية بالكامل، فكيف تنزل في يوم بدر كما يدل هذا الحديث؟
    3 - أن سياق القرآن يأبى ذلك. وجه ذلك: أن الحديث نص على أن ظهور الروم على فارس كان في يوم بدر فنزلت هذه الآية.
    فإذا كان الأمر كذلك فكيف يبشر اللَّه المؤمنين بانتصار الروم على الفرس في بضع سنين، والنصر قد تم للروم في يوم بدر - حسبما يدل عليه الحديث -.
    4 - أني لم أجد في أقوال المفسرين من اعتمد الحديث الذي معنا سبباً للنزول بل أقوالهم تدل على خلافه.
    فابن كثير يقول: إن الآيات نزلت حين غلب ملك الفرس على بلاد الشام.
    وابن عاشور يذكر: أن السورة نزلت عندما غلب الفرسُ الرومَ.
    وكلام البغوي وابن عطية يدل على هذا وهو أن القضية وقعت قبل الهجرة ونزل فيها القرآن حينذاك.
    5 - أن الطبري ذكر جملة من الآثار عن السلف كابن مسعود وابن عبَّاسٍ وعكرمة وغيرهم تعارض ما دلّ عليه حديث أبي سعيد من نزولها ببدر والله أعلم.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببًا للنزول لضعف سنده، وكون السورة بكاملها مكية، مع مخالفته للسياق القرآني وأقوال المفسرين من السلف والخلف، وإنما الآية نزلت في مكة بعد أن غلبت الفرسُ الرومَ فحزن لذلك المؤمنون وفرح الكافرون فبشر الله المؤمنين بأن الدائرة للروم على الفرس في بضع سنين فتم ما أخبر الله به واللَّه أعلم.
    * * * * *
    سورة لقمان
    134 - قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي عن أبي أُمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام)، في مثل هذا أُنزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث عند نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال ابن العربي بعد ذكر هذا الحديث وغيره: (هذه الأحاديث التي أوردناها لا يصح منها شيء بحال لعدم ثقة ناقليها إلى من ذكر من الأعيان فيها) اهـ.
    قال ابن كثير: (علي وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء والله أعلم).
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث ليس سبباً لنزول الآية ليس بسبب إسناده فحسب، بل هو أيضاً ليس صريحاً في النزول لقوله: (في مثل هذا أُنزلت).
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية لضعف سنده، ولأنه ليس صريحًا في النزول والله أعلم.
    * * * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #119
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد




    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة لقمان

    من صــ 789 الى صـ 792
    (الحلقة 118)

    135 - قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيُّنا لم يظلم؟ فأنزل الله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
    وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عنه بلفظ: لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول اللَّه، أيُّنا لا يظلم نفسه؟ قال: (ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). ولفظ مسلم: (فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في تفسير هذه الآية وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث لكن منهم من ذكر التصريح بالنزول كابن عطية والقرطبي.
    ومنهم من لم يذكر ذلك كابن كثير وابن عاشور.
    وقال ابن حجر لما ذكر التصريح بالنزول: (واقتضت رواية شعبة هذه أن هذا السؤال سبب نزول الآية الأخرى التي في لقمان، لكن رواه البخاري ومسلم من طريق أخرى عن الأعمش وهو سليمان المذكور في حديث الباب. ففي رواية جرير عنه (فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس بذلك ألا تسمعون إلى قول لقمان).
    وفي رواية وكيع عنه: (فقال: ليس كما تظنون). وفي رواية عيسى بن يونس: (إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان) وظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومةً عندهم، ولذلك ينبههم عليها، ويحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم فتلتئم الروايتان) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث ليس سبباً للنزول وأن التصريح بالنزول لا يصح لما يلي:
    1 - أن أكثر الروايات خلت من التصريح بالنزول، ليس هذا فقط بل صرحت بخلافه: (ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه) وهذا يدل على أن هذا معلوم عندهم.
    2 - أن آية لقمان في سياق النصيحة، ومثل هذا لا يناسب السببية، إذ لو كانت الآية نزلت جواباً لاستشكال الصحابة كما قال الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيها: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) إذ لا فائدة من ذلك.
    3 - أن احتمال نزول آية لقمان بعد سؤالهم. وقبل جواب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بعيد عادةً.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة لعدم الدليل على ذلك، مع إعراض جمهور المفسرين عن ذكره والله أعلم.
    ***************

    136 - قال اللَّه تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج مسلم وأحمد عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه- قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكلَ ولا تشربَ قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا.
    قال: مكثت ثلاثًا حتى غُشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يُقال له عُمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في القرآن هذه الآية: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي) وفيها (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
    ولفظ أحمد: فأنزلت: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) وقرأ حتى بلغ: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين حديث سعد هذا عند تفسيرها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
    قال الطبري: (وذكر أن هذه الآية نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه) اهـ ثم قال: ذكر الرواية الواردة في ذلك.
    وقال البغوي: (وقيل: نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقاص وأمه، وقد مضت القصة) اهـ.
    وقال ابن عطية: (ففي هذه القصة نزلت الآيات قاله سعد بن أبي وقاص والجماعة من المفسرين) اهـ.
    وقال القرطبي: (والصحيح أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص كما تقدم في (العنكبوت) وعليه جماعة المفسرين) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وعلى كلا الاعتبارين - يعني أكانت الوصية بالوالدين من الله أو من حكمة لقمان لا يحسن ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت في قضية إسلام سعد بن أبي وقاص وامتعاض أمه، لعدم مناسبته السياق ولأنه قد تقدم أن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك، وأنها المناسبة لسبب النزول، فإنها أُخلِيت عن الأوصاف التي فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه، ولا وجه لنزول آيتين في غرض واحد ووقت مختلف) اهـ.
    وعندي - والله أعلم - أن ما ذكره ابن عاشور هو الصحيح، وأن الآيتين في سورة لقمان لا صلة لهما بقضية سعد، ومن الغريب حقاً أن يذكر بعض المفسرين النزول في الموضعين إذ لا فائدة من ذلك، ولعل إضافة آية لقمان للحديث جاءت من باب أن موضوع الآيتين واحد، ومن هنا أدرجها بعض الرواة في الحديث. وقد أشار ابن عاشور هنا إلى علة لطيفة وهي أن آية العنكبوت ليس فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه.
    وهذا صحيح فإن الله لو رقق قلبه على أمه بتعداد أفضالها لربما تعسر عليه مخالفتها، لكن الله أمره بالإحسان عموماً، ونهاه عن الشرك.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآيتين هنا لعدم المناسبة بين سياقه وسياقها والله أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #120
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الاحزاب

    من صــ 793 الى صـ 800
    (الحلقة 119)





    سورة الأحزاب
    137 - قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج أحمد والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنه قيل له: أرأيت قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما عنى بذلك؟ قال: قام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً يصلي، قال: فخطر خطرةً فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين، قال: قلباً معكم، وقلبًا معهم؟ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث بنصه كالطبري وابن العربي وابن كثير.
    وذكر بعضهم الحديث بمعناه كابن عطية والقرطبي.
    قال ابن عطية: (قال ابن عبَّاسٍ سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمداً له قلبان؛ لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعةً ثم عاد إلى شأنه فقالوا ذلك عنه فنفاه اللَّه تعالى عنه) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور ليس سبب نزول الآية لأمرين:
    الأول: أن الحديث ضعيف فلا ينهض للاحتجاج به على السببية.
    الثاني: أن سياقه فيه غرابة لأن قوله: (فخطر خطرة) معناه الوسوسة فكيف علم المنافقون، الوسوسة مع أن مكانها الصدر لقوله تعالى: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ).
    ثم قوله في الحديث: (قلباً معكم وقلباً معهم) هذا مشكل لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُعلت الصلاة قرة عينه وهو أتقى الخلق وأخشاهم للَّه فكيف يقال: (قلباً معكم)؛ لأن الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حال الصلاة. ثم قوله: (وقلباً معهم) من هم هؤلاء؟
    فإن قيل: ما سبب نزولها إذن؟
    فالجواب: قال ابن عطية: (ويظهر من الآية أنها بجملتها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك، وإعلام بحقيقة الأمر فمنها أن بعض العرب كانت تقول إن الإنسان له قلبان قلب يأمره وقلب ينهاه وكان تضاد الخواطر يحملها على ذلك. وذكر كلامًا إلى أن قال: وكانت العرب تعتقد الزوجة إذا ظوهر منها بمنزلة الأم وتراه طلاقاً وكانت تعتقد الدعي المتبنى ابناً فأعلمَ الله تعالى أنه لا أحد بقلبين) اهـ.
    وبناءً عليه فليس للآية سبب معين يعول عليه بل نزلت ابتداءً لهدم بعض المعتقدات الباطلة والله أعلم.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببًا للنزول لضعف سنده وغرابة سياقه وأن الآية قد نزلت ابتداءً لإبطال ما كان يعتقده بعض الكافرين من أمر الجاهلية. واللَّه أعلم.
    * * * * *

    138 - قال اللَّه تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج البخاري وأحمد والدارمي، والترمذي، والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - أن أبا حذيفة، وكان ممن شهد بدراً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبنى سالماً وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه، حتى أنزل الله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) فجاءت سهلةُ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت الحديث.
    ولفظ الدارمي: فأنزل الله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ).
    2 - وأخرج مسلم وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن:
    (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في تفسير هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين أحد هذين الحديثين بلفظه كالبغوي وابن العربي والقرطبي.
    وبعضهم ذكره بمعناه كالطبري وابن عطية وابن كثير.
    قال النووي: (قال العلماء كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تبنى زيداً ودعاه ابنه، وكانت العرب تفعل ذلك يتبني الرجل مولاه أو غيره فيكون ابناً له يوارثه وينتسب إليه حتى نزلت الآية فرجع كل إنسان إلى نسبه) اهـ.
    وقال ابن حجر عن حديث عائشة: (أن أبا حذيفة تبنى سالماً أي ادعى أنه ابنه وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) فإنها لما نزلت صار يدعى مولى أبي حذيفة) اهـ.
    والظاهر - واللَّه أعلم - أن الحديثين المذكورين ليسا سبباً لنزول الآية الكريمة للأسباب التالية:
    1 - أن المصطلح عليه عند العلماء في أسباب النزول أن تقع حادثة أو سؤال فتأتي الآية مجيبة عن السؤال ومعالجةً للحادثة، وهو ما لم يحدث معنا هنا؛ لأن التبني كان قديمًا في العرب، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تبنى زيدًا قبل الهجرة بزمن، ولم تنزل آية الأحزاب إلا في المدينة لأن سورة الأحزاب مدنية بالاتفاق، وإذا كان الأمر كذلك، فليس التبني سببًا للنزول لطول الزمن، وبعد الأمد.
    2 - سياق الحديث لا يشير إلى السببية لقوله: (حتى أنزل الله) والمعنى أن التبني قد استمر حتى الغاية التي أنزل الله فيها إبطاله، بخلاف قولهم: فأنزل الله فإن فاء التعقيب تدل على تعقب النزول للحدث.
    3 - أن العلماء في كلامهم لا يشيرون إلى السببية، وربما كان هذا لأنهم لا يرون للآية سبباً.
    وبناءً على ما تقدم فإن الآية نزلت ابتدءًا لعلاج بعض الأمور الجاهلية التي كانت منتشرة بين العرب ومنها التبني، كما نفت من قبل أن يكون للرجل قلبان أو التسوية بين الأم والزوجة عند المظاهرة منها. واللَّه أعلم.
    * النتيجة:
    أن الآية لم تنزل على السبب المذكور لعدم الدليل على ذلك واللَّه أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •