المفهوم الشامل للعبادة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بطاعته، وألزمنا بعبادته، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي قال الله فيه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21].
فكان - عليه الصلاة والسلام - قائماً بعبادة ربه مدة حياته كلها، قام من الليل حتى تفطَّرت قدماه، ودعا إلى الله - عز وجل -، وجاهد في سبيله، وعبد ربه حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين ساروا على نهجه، والتزموا سنته، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله! أحييكم بتحية الإسلام: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وإنه لمن فضل الله علينا -في هذه الليلة- أن نجتمع في هذا المكان المبارك، في بيت من بيوت الله - عز وجل -، التي أَذِنَ الله أن تُرفع، ويُذكر فيها اسمه، نجتمع هذه الليلة لا لشيء؛ إلا للتذاكر والتعاون، والتواصي بالحق والصبر عليه، نجتمع هذه الليلة لنتحدث حول موضوع مهم وخطير، لا ينفك عنه المسلم لحظة واحدة، وهو وإن كان معروفاً عند كثير من الناس، إلا أن تطبيقه لا يقوم به إلا أصحاب الهمم العالية.
فاجتماع المسلمين في بيوت الله - عز وجل - لإحيائها، وذكر الله فيها، وتدارس العلم النافع، والتذكير بما يجب علينا؛ من أهم الأمور التي يجب على المسلمين أن يعتنوا بها، وكلما ابتعد المسلمون عن بيوت الله - سبحانه - أو عطلوا رسالتها، أو تساهلوا في القيام بواجبهم تجاهها، كلما أبعدوا النجعة عن صراط الله - عز وجل -.
فبيوت الله - سبحانه وتعالى - ينبغي أن تُفتح أبوابها، وتعود رسالتها، ومن رسالتها: إقامة هذه الندوات، والمحاضرات، وهذه الكلمات التي يحضرها من أراد الله به خيراً، يؤثرها على شهوات دنياه، يُؤثر الجلوس في هذه الأماكن الطيبة، على مجالس الدنيا، وإعمارها بالقيل والقال، وإشغالها بما لا يرضي الله - عز وجل -.
وهنيئاً للحاضرين بشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل فيما أخرج الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((وما اجتمع قوم في بيتٍ من بُيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
فأي بشارة أعظم من هذه!
إن تحقيق واحدة من هذه الخصال خير من الدنيا وما فيها، أن تتنـزل على الحاضرين الرحمة، وتغشاهم السكينة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله - عز وجل - في الملأ الأعلى خير من الدنيا وما فيها.
فواجب على المسلمين، وعلى علمائهم، وعامتهم، وشبابهم، ونسائهم، أن يحيوا مثل هذه اللقاءات الطيبة؛ لتصقل قلوبهم بذكر الله - عز وجل -؛ فإن الدنيا بشهواتها وزخرفها قد رانت على قلوب كثير من الناس، وأغفلتهم عن واجبهم، وأبعدتهم عن رسالتهم، فأصبحوا يعملون لها، ويركضون وراءها، ويجتهدون في البحث والتنقيب عنها بأي طريق، وما مقامهم في هذه الحياة إلا مقام قصير، فيجب عليهم ألا ينسوا رسالتهم التي خلقوا من أجلها، وواجبهم الذي أوجدوا من أجله؛ فإن المسلم -كما تعلمون- إنما خلق لرسالة عظيمة، ولواجب كبير، وللقيام بأمانة عظيمة، ألا وهي موضوع حديثنا الليلة.
إن موضوعنا الذي نريد الحديث حوله يدور حول موضوع العبادة لله - عز وجل -.
عبودية المسلم لربه، ما معناها؟
وما مفهومها؟
وما مقتضياتها؟
وما واجب المسلمين نحوها؟
وما الآيات والأحاديث التي جاءت بذكرها، والتنويه بشأنها؟
وما آثار هذه العبادة وآثار القيام بها على الأفراد والمجتمعات؟
وما الآثار السلبية التي يورثها تساهل المسلمين وتقاعسهم عن القيام بهذه الغاية المهمة؟
وما الأسباب الوخيمة والآثار العظيمة التي تترتب على انحسار مفهوم العبادة في مجتمعات المسلمين؟
حول هذه العناصر وغيرها، نريد أن نتحدث هذه الليلة، سائلين الله - عز وجل - أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونسأله - تعالى -أن يفتح على الجميع مغفرته ورحمته، ونسأله - تعالى -أن يوفقنا للعلم النافع، والعمل الصالح، والبصيرة في دينه، إنه جواد كريم.
العبادة في لغة العرب إذا أُطلقت، إنما تعني: التذلل، يُقال: طريق معبَّد، أي: مذلل قد وطئته الأقدام.
أما في اصطلاح العلماء: فإن العلماء لهم تعريفات كثيرة، وأقوال متعددة حول تعريف العبادة، لكن أشهرها وأجمعها وأولاها: تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -؛ حيث عرَّفها في كتاب له مستقل حول هذه القضية المهمة.
فقال - رحمه الله -: "العبادة: اسم جامع لكل ما يُحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة".
فهذا تعريف عظيم، سنتناول حيثياته، واحدة تلو الأخرى؛ لننظر ماذا قدمنا تجاه هذا الأمر المهم؟ ولنعرض أعمالنا اليومية التي نقوم بها على ضوء هذا التأصيل العظيم.
ومن تعريفات العلماء - رحمهم الله - لهذه القضية المهمة -ألا وهي قضية العبادة- تعـريف العـلامة ابن القيم - رحمه الله -، حيث عرفها بأنها: غاية الحب لله - عز وجل - مع غاية الذل له، التي تحث على العمل لطاعته، والانزجار عن نواهيه.
يقول في نونيته المشهورة:
"وعبادة الرحمن غاية حبـه *** مع ذل عابده هما قطبانِ
وعليهما فلك العبادة دائـر *** ما دار حتى قامت القطبانِ
ومداره بالأمر أمر رسولـه *** لا بالهوى والنفس والشيطانِ
هذه أبيات عظيمة.. تبين معنى العبادة لله - عز وجل -.
العبادة -يا إخوتي في الله- في الإسلام مفهومها واسع، ونطاقها شاسع، فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ما يحبه الله - عز وجل - مما جاء به في كتابه، وأتى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من العقيدة والعبادة والأخلاق والآداب، وغير ذلك من الأمور.
فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، داخل في مفهوم العبادة.
فالصلاة عبادة بل هي من أعظم العبادات.
توحيد الله - عز وجل -، وعدم الإشراك به.
إيتاء الزكاة.
صوم رمضان.
حج بيت الله الحرام.
بر الوالدين.
صلة الأرحام.
الإنفاق على المحتاجين، والمساكين، والفقراء.
الإنفاق على الأقرباء.
زيارة المريض.
القيام بحقوق الأخوة في الله - عز وجل -.
الخوف من الله، ورجاؤه، والتوكل عليه، والرغبة إليه.
كل ذلك من العبادات العظيمة، وكل هذه وغيرها عبادة من العبادات.
العبادات كثيرةٌ ومتنوعة، فمنها: ما هو من أعمال القلوب، وهو ما يسمى بالأعمال الباطنة: كالتوكل على الله، ورجاء ما عنده، والخوف منه - جل وعلا -… وما إلى ذلك.
ومنها: ما هي أمور ظاهرة متعلقة بالأبدان: كالصلاة، والحج.. وما إلى ذلك.
ومنها: ما هو مالي: كالزكاة.
ومنها: ما هو مالي وبدني: كالحج.
ونحو ذلك من الأقسام التي لا تكاد تخفى على أي مسلم.
فتبين من هذا -يا إخوتي في الله- سعة مفهوم العبادة في الإسلام، بل أكثر من ذلك الأعمال العادية تنقلب إلى عبادات عظيمة، إذا تحقق فيها الإخلاص لله - عز وجل -
فالعبادة تشمل أعظم من العبادات والشعائر، بل هي تشمل كل أمر من الأمور إذا أخلصت فيه النية لله - عز وجل -.
فأكلك، وطعامك، وشرابك، ونومك، إذا قصدت به التقوي على عبادة الله - عز وجل -؛ فإنه عبادة من العبادات.
فالأمور -كما هو مقرر في مقاصد الشريعة وقواعد الإسلام- بمقاصدها، والعادات تتحول إلى عبادات إذا أخلصت فيها النية، بل إن كلام المسلم وعمله وجلوسه مع أهله، ومخاطبته لهم، ومعاشرته إياهم، كل ذلك عبادة من العبادات.
ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح كما في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للصحابة - رضي الله عنهم -: ((وفي بضع أحدكم صدقة)).
وقع ذلك في نفوسهم، وتعجبوا!! فقالوا: "يا رسول الله! أيأتي أحـدنا شهوته ويكون لـه فيها أجر"؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)).
فما أعظم نعم الله على عباده!
هذه الأمور التي لا يستغني عنها مسلم، بل هي أمور جِبِلِّيَّة لا تقوم الحياة إلا بها، يُؤجر بها إذا أخلص نيته لله - عز وجل -، بل إن سعي المسلم للحصول على الرزق، وإعفاف نفسه، وكفاف أهله، وإغنائهم عن تعرض الناس.. كل ذلك عبادة من العبادات، حتى ما تضعه في فِي امرأتك.
فسعي المسلم على أبنائه في طلب الرزق كل ذلك عبادة من العبادات إذا أُخلصت فيها النية لله - عز وجل -.
كذلك أعمال المسلمين: من وظائفهم، والقيام بواجباتهم وحقوقهم كل ذلك عبادة من العبادات إذا أُخلصت فيها النية لله - عز وجل -.
فالموظف في وظيفته، والكاتب في مكتبه، والعامل في معمله، والصانع في مصنعه، والتاجر في بيعه وشرائه، كل واحد منهم إذا قصد وابتغى وجه الله - سبحانه وتعالى - وقام بنُصحٍ وأمانةٍ بحق الله عليه، ثم حق ولاة الأمر عليه، ثم حق إخوانه المسلمين عليه؛ فإنه مأجور على ذلك والحمد لله.
الطالب في مدرسته، الذي يتردد عليها صباحاً كل يوم، إذا ذهب إلى المدرسة ابتغاء ما عند الله - سبحانه -، والرغبة في طلب العلم والاستفادة، وابتغاء وجه الله - عز وجل - في التحصيل العلمي، فإنه يُؤجر على ذلك.
كل من يقوم بأي عمل من الأعمال عليه أن يستشعر أن ثواب الله عظيم، وأن عليه ألا يدنس نيته بالأطماع الدنيوية، بل عليه أن يخلص نيته لله - عز وجل -، ويبتغي ما عند الله - جل وعلا - ويرجو ثواب الله - سبحانه - مع ما يأتي من ثواب الدنيا؛ لكن أجر الدنيا وثوابه تابع لثواب الآخرة، ولا ينبغي أن يكون المقصد دنيوياً فحسب؛ بل يجب علينا أن نُروضِّ أنفسنا على الإخلاص لله - سبحانه -، وأن نستشعر أن كل أعمالنا التي نقوم بها قد تدخل -جميعاً- في مُسمَّى العبادة، إذا أُخلصت فيها النية لله - سبحانه وتعالى -.
أيها الإخوة في الله! بعدما عرفنا جميعاً تعريف العبادة، ومفهومها الواسع، وأنها تقتضي أن يقوم المسلمون بهذه الرسالة، وأن يعملوا بطاعة الله - عز وجل -، ويقوموا بعبادته في حياتهم كلها؛ لأن الله - عز وجل - قصر الحكمة من خلقه الجن والإنس للقيام بهذا الواجب العظيم، يقول - سبحانه -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
بيد أن كثيراً من الناس يفهم أننا حينما نقول: إنه يجب على المسلمين أن يقوموا بعبادة الله - سبحانه وتعالى - في أوقاتهم كلها وأيامهم وأعوامهم، بل في حياتهم وأعمارهم، أن يقوموا بهذه العبادة، قد يفهم أننا نقصد أن يدخل المسلمون المساجد فلا يخرجون منها، يفهمون ذلك نتيجةً لجهلهم بمفهوم العبادة في الإسلام، وأن مفهومها أعم من أن تكون في المساجد فقط.
ليست العباد يا إخوتي في الله! محض شعائر معينة يُؤديها المسلمون في أوقات معينة، فإذا خرجوا من هذه الأماكن، وبارحوا هذه الأوقات نكصوا على أعقابهم، ووقعوا في معصية الله - عز وجل -، لا. هذا مفهوم خطير، سبَّب انحسار مفهوم العبادة عند كثير من المسلمين هدانا الله وإياهم.
فالعبادة ليست في المساجد فقط، فأنت في بيتك في عبادة، وعند أهلك في عبادة، وفي مكتبك ووظيفتك وبيعك وشرائك.. في عبادة وفي سوقك، وفي مجالستك الناس.. كل ذلك في عبادة.
فعليك أن تُخلِص العمل لله - عز وجل -، وألا تغيب عنك العبادة طرفة عين.
وحذارِ يا إخوتي في الله! أن نقصر العبادة على أداء الصلوات في المساجد فقط، ثم لا حرج على المسلم أن يعمل في بيته مع أولاده ومع أهله ما يشاء، أن يأكل من الأموال، ويتاجر بما يشاء!! لا. ليس هكذا عمل المسلمين.
المسلمون في مساجدهم في عبادة من أعظم العبادات، يترددون إليها؛ امتثالاً لأمر الله - سبحانه - وأمر رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وكذلك خارج المساجد وهم في بيوتهم عليهم أن يقوموا بالتربية، وعليهم أن يقوموا بالتوجيه، ويحموا بيوتهم وأسرهم من الفساد ووسائله، وعليهم أن يربوا أبناءهم، ويرعوا نساءهم وبناتهم عمَّا حرَّم الله - عز وجل -.
كذلك في معاملاتهم: في بيعهم وشرائهم، يجب عليهم أن يتحروا الحلال النـزيه الطيب، فإن الله - عز وجل - طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن اللقمة من الحرام يقذفها الرجل في جوفه، لا تُقبل له صلاة أربعين يوماً؛ فالأمر خطير يا إخوتي في الله!
فعلينا أن نستشعر أننا في عبادة دائمة، ولسنا في عبادة ما دمنا في بيوت الله، فإذا خرجنا منها تركنا عبادة الله.
ليست العبادة في المساجد أو في أوقات معينة، بل العبادة مع المسلم في كل أحواله، وفي كل أوقاته وتصرفاته.. في أقواله وأفعاله.. في سلوكه.. في عقيدته.. في تحركاته كلها، قال - تعالى -: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99].
كذلك ينبغي علينا أن نفهم أنه حينما تطلق العبادة فإنه يدخل فيها جميع الأقوال والأفعال والتصرفات، فلا نريد أن يدخل المسلمون بيوت الله، فيصلون ويقومون ويركعون ويسجدون ويبكون، فإذا خـرجوا من بيـوت الله - سبحانه وتعالى - رجعوا على أعقابهم وإلى أعمالهم، ونسوا الله -سبحانه وتعالى-.
فهذا المفهوم الذي نريد أن نعالجه، وننبه على خطورته علينا أن نستشعر أننا مخلوقون لله -سبحانه-، وأن علينا أن نقوم بعبادته - جل وعلا - في حياتنا كلها، وأن نستشعر طاعة الله - سبحانه -، وعبادته ومرضاته في كل فعل وترك.
فما كان من فعل سليم صحيح مأمور به في الشرع؛ أتينا به وما كان من نهي في الشرع؛ فإننا نبتعد عنه، ونُحذره ونجتنبه، هكذا يكون المسلمون.
أيها الإخوة في الله! لِعِظَم شأن العبودية، والعبادة لله - سبحانه وتعالى - زخر كتاب الله - سبحانه وتعالى - بذكرها والأمر بها، وحث الناس على القيام بها، وبيان آثارها، والتحذير من تركها والتهاون بها، والتحذير مما يناقضها أو ينقصها.
يقول الله - سبحانه وتعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وهذه آية عظيمة في كتاب الله - سبحانه وتعالى - يجب علينا أن نضعها -دائماً- أمام ونصب أعيننا؛ لأنها تضبط تحركات الإنسان، فإذا تحرك المسلم في أمر لا يُرضي الله - سبحانه وتعالى - فإنه يُحجم عنه، يتذكر أنه خلق للعبادة، وهذا يتنافى مع العبادة، فمن كان قلبه حياً؛ فإنه يعود إلى الله - سبحانه وتعالى -، ويتذكر أنه لم يُخلق إلا للقيام بهذه العبادة.
فلم تُخلق -أخي المسلم- للدنيا وجمع الحطام، ولم تخلق للتكاثر، والسعي في الدنيا، وإغفال الآخرة، لم تخلق لتتمتع بالمراكز والمساكن والمراتب والمناصب والأبناء؟! وإنما خلقت لعبادة الله - سبحانه وتعالى -، وفرق ما بين المؤمنين والكافرين: أن المؤمنين يتذكرون ما خلقوا لأجله، وأنهم مخلوقون لعبادة الله، أما الكفار فإنهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام؛ لكن ما هي النتيجة الوخيمة؟ والعاقبة الخطيرة؟ (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [محمد: 12]، نسأل الله العافية.
فالمسلم يجب أن يتذكر دائماً أنه لم يُخلق إلا لعبادة الله - سبحانه وتعالى -، ولا يعني هذا أنه لا يعمل في سبيل دنياه.. ما يكسب رزقه، ويحصل معيشته، وينفق على أهله وأبنائه؟! لا. ليس معنى ذلك أن الإنسان يجلس في المسجد فلا يخرج منه، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة؛ وإنما على الإنسان أن يتذكر أنه وإن عمل للدنيا فإنما هي وسيلة إلى الآخرة وليست قصداً بذاتها، وإنما هي وسيلة للآخرة، يعمل بها ليرضي الله - سبحانه وتعالى -، وليقيم عوجه، وليقيم صلبه في هذه الحياة، ولينفق على نفسه وأهله وعائلته؛ ليقوم بتربيتهم، ويجعلهم مجندين لله - سبحانه وتعالى - يقومون بطاعته وعبادته.
وإنك إذا نظرت إلى كثير من المسلمين في أفعالهم؛ تجد أنهم -والعياذ بالله- كأنهم لم يُخلقوا لعبادة الله، وكأنهم لا يعلمون بل لا يؤمنون، ويتصورون ويُصدقون ويجزمون أن هناك داراً أخرى، وأنهم مُنقلبون إلى الله - سبحانه وتعالى -، وأنههم سيعودون إليه - سبحانه وتعالى -.
الناس في غفلة خطيرة عن الله، وفي غفلة عن عبادة الله - سبحانه وتعالى -.
تتعجب كثيراً حينما يبزغ الفجر!! وتطلع الشمس، ويستعد الناس -جميعاً- كبارهم وصغارهم، شبابهم وشيبهم، نساؤهم ورجالهم، كلٌ يذهب مع الصباح الباكر، لماذا؟ إنهم يتحركون في سبيل الدنيا، فأين العمل لله؟!
مَن مِن هؤلاء أخلص عمله لله - عز وجل -، وأيقن أنه حينما يخرج لوظيفته، أو لعمله، أو لمدرسته، أو لمتجره، إنما يعمل ابتغاء ما عند الله - سبحانه وتعالى -، وأنه يقوم بهذا العمل وسيلة في هذه الدنيا يتبلغ بها، ولا يغفل عن الآخرة، ولا يغفل عمَّا أعد الله للمؤمنين من النعيم، وللمخالفين من الجحيم؟!
مَن مِن المسلمين يتصور هذه الأمور؟!
مع الأسف! إنهم ما إن يخرجون إلى أن يرجعوا قرب العصر، وهم في دنيا! من دنيا إلى دنيا، كلامهم في الدنيا، ثم بعد ذلك يرجعون إلى بيوتهم، ويتناولون ما شاء الله لهم، وقد ينام بعضهم عن العبادات العظيمة التي إنما خُلقوا لتحقيقها والقيام بها، ثم بعد ذلك في المساء، كل يجد ويفتح ويبحث، هذا يبحث عن قطعة أرض، وهذا يبحث عن فِيْلاَّ، وهذا يبحث عن سيارة، وهذا يبحث عن مزرعة، وهذا.. وهذا.. أين الذين يبحثون عن الدار الآخرة، ويعملون لها؟
أنا لا أُحجِّر على أولئك، ولكن يجب علينا أن نعمل لآخرتنا، وأن نقوم بعبادة ربنا، فالمقام قصير، والحياة أنفاس معدودة، وأيام محدودة.
وكم من الناس نعرفهم من الشباب أو الشيب، جاءتنا أخبار وفاتهم وهم أصحاء في منتهى عافيتهم ونشاطهم؟!
فمن الخطر أن يُصاب المسلم بهذه النهاية وهو غافل عن عبادة الله - سبحانه وتعالى -.
نسمع عَمَّن يخرج في سيارته فلا يعود، ومن يسافر فلا يرجع، بل ومن يموت وهو على فراشه، فماذا قدَّمنا لعبادة الله - عز وجل -؟!
أين القلوب من تلاوة كتاب الله - سبحانه وتعالى -؟!
ألم يقل الله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21]؟.
ألم يقل - سبحانه -: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء: 36]، ويقول - سبحانه -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء: 23]، ويقول جلَّ شأنه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]، ويقول - سبحانه وتعالى -: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) [هود: 1-2]، ويقول - جل وعلا -: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92]، ويقول - جل وعلا -: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].
أليست هذه أوامر؟
وكثير.. كثير في كتاب الله - عز وجل - الأوامر للقيام بهذه العبادة! فأين قيامنا بعبادة الله - سبحانه وتعالى -؟!.
هل نحن أفضل من خير البرية، وسيد البشرية، الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، يُصلِّي ويتهجد ويبكي ويقرأ القرآن حتى يخرج الدم من رجليه؛ لكثرة القيام والوقوف والعبادة والصلاة، وهو من هو - عليه الصلاة والسلام -؟! بأبي هو وأمي، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
تقول له عائشة - رضي الله عنها -: لم تفعل هذا يا رسول الله! -خطاب إشفاق ورحمة- وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ما هو الجواب العظيم الذي يجب ألا نغفل عنه؟
يقول: ((يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً!)).
انظروا إلى حقيقة الشكر هنا! وهو القيام بالعبادة، الشكر لله - عز وجل - إنما هو القيام بعبادته ((أفلا أكون عبداً شكوراً))، كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه؛ شكراً لله - عز وجل -.
يتبع