تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 10 من 14 الأولىالأولى 1234567891011121314 الأخيرةالأخيرة
النتائج 181 إلى 200 من 272

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #181
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 179)

    من صــ 141 الى صـ 150



    بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان. (والجواب الثاني أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقصارين ونحوهم وما كان نفعه ومصلحته عامة كان خيرا مقصودا ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس. وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية وهو جواب كثير من المتفلسفة. وقال هؤلاء: جميع ما يحدثه في الوجود من الضرر فلا بد فيه من حكمة قال الله تعالى {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال
    {الذي أحسن كل شيء خلقه} والضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شرا مطلقا وإن كان شرا بالنسبة إلى من تضرر به؛ ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله؛ بل لا يذكر الشر إلا على أحد وجوه " ثلاثة " إما أن يدخل في عموم المخلوقات فإنه إذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل وإما أن يحذف فاعله. فالأول كقوله تعالى {الله خالق كل شيء} ونحو ذلك ومن هذا الباب أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع والضار النافع المعز المذل الخافض الرافع فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه ولا الضار عن قرينه؛ لأن اقترانهما يدل على العموم وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله تعالى وما في الوجود من غير ذلك فهو من عدله فكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
    {يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع} فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع فخفضه ورفعه من عدله وإحسانه إلى خلقه من فضله. وأما حذف الفاعل فمثل قول الجن {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} وقوله تعالى في سورة الفاتحة {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ونحو ذلك.

    وإضافته إلى السبب كقوله {من شر ما خلق} وقوله {فأردت أن أعيبها} مع قوله {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما} وقوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقوله {ربنا ظلمنا أنفسنا} وقوله تعالى {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وأمثال ذلك.

    ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر وإنما يذكر الشر في مفعولاته كقوله {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} {وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقوله {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} وقوله {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} وقوله {إن بطش ربك لشديد} {إنه هو يبدئ ويعيد} {وهو الغفور الودود} فبين سبحانه أن بطشه شديد وأنه هو الغفور الودود.
    واسم " المنتقم " ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جاء في القرآن مقيدا كقوله تعالى {إنا من المجرمين منتقمون} وقوله {إن الله عزيز ذو انتقام} والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم فذكر في سياقه {البر التواب المنتقم العفو الرءوف} ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أو عن بعض شيوخه؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي رواه عن طريق الوليد بن مسلم بسياق ورواه غيره باختلاف في الأسماء وفي ترتيبها: يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
    وسائر من روى هذا الحديث عن أبي هريرة ثم عن الأعرج ثم عن أبي الزناد لم يذكروا أعيان الأسماء؛ بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم {إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة} وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهما ولكن روي عدد الأسماء من طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة ورواه ابن ماجه وإسناده ضعيف يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وليس في عدد الأسماء الحسنى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة وهذا مبسوط في موضعه. والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسألة فإن نفوس بني آدم لا يزال يحوك فيها من هذه المسألة أمر عظيم.
    وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا ثم كلما ازداد علما وإيمانا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح {الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها} وفي الصحيحين عنه أنه قال: {إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة واحتبس عنده تسعا وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها عباده} أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم هؤلاء الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمته فلا ينفونها - كما نفاها الأشعرية ونحوهم الذين لم يثبتوا إلا إرادة بلا حكمة ومشيئة بلا رحمة ولا محبة ولا رضى وجعلوا جميع المخلوقات بالنسبة إليه سواء لا يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضى بل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان قالوا: إنه يحبه ويرضاه كما يريده وإذا قالوا لا يحبه ولا يرضاه دينا قالوا إنه لا يريده دينا وما لم يقع من الإيمان والتقوى فإنه لا يحبه ولا يرضاه عندهم كما لا يريده. وقد قال تعالى {إذ يبيتون ما لا يرضى من القول}
    فأخبر أنه لا يرضاه مع أنه قدره وقضاه - لا يوافقون المعتزلة على إنكار قدرة الله تعالى وعموم خلقه ومشيئته وقدرته ولا يشبهونه بخلقه فيما يوجب ويحرم كما فعل هؤلاء ولا يسلبونه ما وصف به نفسه من صفاته وأفعاله بل أثبتوا له ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال ونزهوه عما نزه عنه نفسه من الصفات والأفعال وقالوا إن الله خالق كل شيء ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يرضى بالقول المخالف لأمر الله ورسوله.

    وقالوا: مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات أعيانها وأفعالها كما قال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} وكما قال: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}.

    وقال تعالى:{وما يستوي الأعمى والبصير} {ولا الظلمات ولا النور} {ولا الظل ولا الحرور} {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد كما قال تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} وقال تعالى: {فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} وقال تعالى: {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما} وقال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون} {وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون} ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
    وينبغي أن يعلم أن هذا المقام زل فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف وصاروا فيه إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم من القدرية فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لكن ضلوا في القدر واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقا متناولا لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته وغلطوا في ذلك.

    فقابل هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه وهذا حسن وصواب؛ لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد وأفرطوا حتى خرج غلاتهم إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث إنهم أثبتوا فاعلا لما اعتقدوه شرا غير الله سبحانه فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا:

    {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} فالمشركون شر من المجوس فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين وقد ذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم وطعامهم ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية وجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون بالجزية وإن أقرت المجوس فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من أحد من المشركين؛ بل قال {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل}.
    والمقصود هنا أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل بين جميع الخلق فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات ولم يفرق بين المأمور والمحظور والمؤمنين والكفار وأهل الطاعة وأهل المعصية لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب وكان عنده آدم وإبليس سواء ونوح وقومه سواء وموسى وفرعون سواء والسابقون الأولون وكفار مكة سواء. وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة لا سيما إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة والبغض والرضى والسخط الذين يقولون: " التوحيد " هو توحيد الربوبية.
    و " الإلهية " عندهم هي القدرة على الاختراع ولا يعرفون توحيد الإلهية ولا يعلمون أن الإله هو المألوه المعبود وأن مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء لا يكون توحيدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله كما قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. قال عكرمة: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم يعبدون غيره وهؤلاء يدعون التحقيق والفناء في التوحيد ويقولون إن هذا نهاية المعرفة وإن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة. وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ... (167)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    فقوله: {وليعلم الذين نافقوا} ظاهر فيمن أحدث نفاقا وهو يتناول من لم ينافق قبل ومن نافق ثم جدد نفاقا ثانيا. وقوله: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم بل إما أن يتساويا وإما أن يكونوا للإيمان أقرب وكذلك كان؛ فإن ابن أبي لما انخزل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. انخزل معه ثلث الناس قيل: كانوا نحو ثلاثمائة وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق.
    فإن ابن أبي كان مظهرا لطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به؛ وكان كل يوم جمعة يقوم خطيبا في المسجد يأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس إن ظهر وكان معظما في قومه؛ كانوا قد عزموا على أن يتوجوه ويجعلوه مثل الملك عليهم؛ فلما جاءت النبوة بطل ذلك فحمله الحسد على النفاق وإلا فلم يكن له قبل ذلك دين يدعو إليه؛ وإنما كان هذا في اليهود فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدينه وقد أظهر الله حسنه ونوره مالت إليه القلوب لا سيما لما نصره الله يوم بدر ونصره على يهود بني قينقاع صار معه الدين والدنيا؛ فكان المقتضي للإيمان في عامة الأنصار قائما وكان كثير منهم يعظم ابن أبي تعظيما كثيرا ويواليه ولم يكن ابن أبي أظهر مخالفة توجب الامتياز؛ فلما انخزل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان - أو كما قال - انخزل معه خلق كثير منهم من لم ينافق قبل ذلك.

    (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وأما ما أخبر الله به من حياة الشهيد ورزقه وما جاء في الحديث الصحيح من دخول أرواحهم الجنة فذهب طوائف إلى أن ذلك مختص بهم دون الصديقين وغيرهم.
    والصحيح الذي عليه الأئمة وجماهير أهل السنة: أن الحياة والرزق ودخول الأرواح الجنة ليس مختصا بالشهيد، كما دلت على ذلك النصوص الثابتة ويختص الشهيد بالذكر لكون الظان يظن أنه يموت فينكل عن الجهاد فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة. كما نهى عن قتل الأولاد خشية الإملاق؛ لأنه هو الواقع. وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق.

    (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173)

    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وما يروى أن الخليل لما ألقي في المنجنيق قال له جبريل: سل قال " حسبي من سؤالي علمه بحالي " ليس له إسناد معروف وهو باطل بل الذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: " حسبي الله ونعم الوكيل " قال ابن عباس: قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين: {قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} وقد روي أن جبريل قال: هل لك من حاجة؟ قال " أما إليك فلا " وقد ذكر هذا الإمام أحمد وغيره.

    وأما سؤال الخليل لربه عز وجل فهذا مذكور في القرآن في غير موضع فكيف يقول حسبي من سؤالي علمه بحالي والله بكل شيء عليم وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسبابا لما يرتبه عليها من إثابة العابدين وإجابة السائلين. وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضى بها حاجته كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي بها ينال كرامته. ولكن العبد قد يكون مأمورا في بعض الأوقات بما هو أفضل من الدعاء كما روي في الحديث {من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين} وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين} قال الترمذي حديث حسن غريب.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #182
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 180)

    من صــ 151 الى صـ 160





    (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175)
    وللشيخ - رحمه الله -:

    في قوله تعالى {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} هذا هو الصواب الذي عليه جمهور المفسرين: كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي؛ وأهل اللغة كالفراء وابن قتيبة والزجاج وابن الأنباري وعبارة الفراء: يخوفكم بأوليائه كما قال: {لينذر بأسا شديدا من لدنه} ببأس شديد. وقوله: {لينذر يوم التلاق} وعبارة الزجاج: يخوفكم من أوليائه. قال ابن الأنباري: والذي نختاره في الآية يخوفكم أولياءه. تقول العرب: أعطيت الأموال: أي أعطيت القوم الأموال فيحذفون المفعول الأول ويقتصرون على ذكر الثاني.

    وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا ليس له في تخويف ناس بناس ضرورة فحذف الأول ليس مقصودا وهذا يسمى حذف اختصار كما يقال: فلان يعطي الأموال والدراهم. وقد قال بعض المفسرين: يخوف أولياءه المنافقين ونقل هذا عن الحسن والسدي وهذا له وجه سنذكره؛ لكن الأول أظهر لأن الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار كما قال قبلها: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا} الآيات.

    ثم قال: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} فهي إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس. وقد قال: {يخوف أولياءه} ثم قال: {فلا تخافوهم} والضمير عائد إلى أولياء الشيطان الذين قال فيهم: {فاخشوهم} قبلها.
    وأما ذلك القول فالذي قاله فسرها من جهة المعنى وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه بالمؤمنين؛ لأن سلطانه على أوليائه بخوف يدخل عليهم المخاوف دائما فالمخاوف منصبة إليهم محيطة بقولهم وإن كانوا ذوي هيئات وعدد وعدد فلا تخافوهم. وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم الكفار أو أنهم أرادوا المفعول الأول: أي يخوف المنافقين أولياءه وإلا فهو يخوف الكفار كما يخوف المنافقين ولو أنه أريد أنه يخوف أولياءه: أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه وهو قوله: {فلا تخافوهم}.
    وأيضا فهذا فيه نظر؛ فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم كما قال:تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} وقال تعالى: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}. ولكن الكفار يلقي الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين والشيطان لا يختار ذلك. قال تعالي: {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} وقال: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} وقال: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله}.

    وفي حديث قرطبة أن جبريل قال: " إني ذاهب إليهم فمزلزل بهم الحصن " فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابهم هو من الله نصرة للمؤمنين. ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام فهم يوالون العدو فصاروا بذلك منافقين وإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم كما قال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} وقال تعالى {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} الآيات.
    إلى قوله: {يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم} فكلا القولين صحيح من حيث المعنى؛ لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين كما دل عليه سياق الآية ولفظها، والله أعلم.

    وإذا جعلهم الشيطان مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم فجعله خائفا. فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين ويجعل ناسا خائفين منهم. ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان ولا يخاف الناس. كما قال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} بل يجب عليه أن يخاف الله فخوف الله أمر به وخوف الشيطان وأوليائه نهى عنه.
    وقال تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني} فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته والذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله. وقال: {وإياي فارهبون}. وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك وهذا كلام ساقط لا يجوز؛ بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدا لا من يخاف الله ولا من لا يخاف الله؛ فإن من لا يخاف الله أخس وأذل أن يخاف فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان فالخوف منه قد نهى الله عنه والله أعلم.
    (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض ... (180)
    ثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش}. وثبت عنه في " الصحيح " أنه قال: {ما من صاحب كنز إلا جعل له كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته أنا مالك أنا كنزك. وفي لفظ: إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة}. وفي حديث آخر: {مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه: هذا مالك الذي كنت تبخل به فإذا رأى أنه لا بد له منه أدخل يده في فيه فيقضمها كما يقضم الفحل}. وفي رواية: {فلا يزال يتبعه فيلقمه يده فيقضمها ثم يلقمه سائر جسده}.

    (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير (184)

    [فصل: ما يتناوله اسم الرسل في قوله (فقد كذب رسل من قبلك)]
    قالوا: وقال في سورة آل عمران: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس.
    فيقال: قد تقدم أن الرسل تتناول قطعا الرسل الذين ذكرهم الله في القرآن لا سيما أولو العزم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، فإن هؤلاء مع محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين - صلوات الله عليهم وسلامه - خصهم الله وفضلهم بقوله - تعالى -: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا - ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما} [الأحزاب: 7 - 8]وفي قوله - تعالى -: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13] فالدين دين رسل الله دين واحد ; كما بينه الله في كتابه وكما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وأن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي».
    ويتناول أيضا اسم الرسل من لم يسمهم بأعيانهم في القرآن قال - تعالى -: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا - ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما - رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 163 - 165]
    وقال - تعالى -: {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78] وأما الحواريون، فإن الله - تعالى - ذكرهم في القرآن ووصفهم بالإسلام واتباع الرسول وبالإيمان بالله ; كما أنزل في قوله - تعالى -: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون - ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 52 - 53] وقال - تعالى -: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} [المائدة: 111] وقال - تعالى -: {ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14].
    ولم يذكر الله تعالى في القرآن أنه أرسلهم البتة بل ذكر أنه ألهمهم الإيمان به وبرسوله وأنهم أمروا باتباع رسوله وقوله: {وإذ أوحيت إلى الحواريين} [المائدة: 111] لا يدل على النبوة، فإنه قال - تعالى -: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7]
    وأم موسى لم تكن نبية بل ليس في النساء نبية ; كما تقوله: عامة النصارى والمسلمين.
    وقد ذكر إجماعهم على ذلك غير واحد مثل القاضيين أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى بن أبي الفراء والأستاذ أبي المعالي الجويني وغيرهم ويدل على ذلك قوله - تعالى -: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109] وقوله - تعالى -: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} [المائدة: 75] فجعل غاية مريم الصديقية ; كما جعل غاية المسيح الرسالة.

    وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم» يعني من نساء الأمم قبلنا، وهذا يدل على أن أم موسى ليست ممن كمل من النساء فكيف تكون نبية، وقوله - تعالى -: {جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] والكتاب اسم جنس كما تقدم يتناول كل كتاب أنزله الله تعالى، وقال - تعالى -: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8]




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #183
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 181)

    من صــ 161 الى صـ 170




    وَقَوْلُهُ: وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْمَعْنَى فَيَعُمُّ كُلَّ كِتَابٍ مُنِيرٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْإِنْجِيلَ لَقِيلَ وَلَا الْكِتَابِ الْمُنِيرِ، وَأَيْضًا فالتوراة أعظم من الإنجيل، وقد بين الله أنه لم ينزل كتابا أهدى من التوراة والقرآن، فقال تعالى: {قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران} [القصص: 48] وقرئ ساحران تظاهرا {وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 48] وهذا تعجيز لهم أن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما كقوله: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله} [يونس: 38] وهذا يبين أنه ليس الإنجيل ولا الزبور أهدى من التوراة والقرآن فكيف يجعل الكتاب المنير هو الإنجيل دون التوراة والزبور.

    وأيضا فإن الله تعالى إنما يخص بالذكر من الكتب المتقدمة التوراة دون غيرها فهي التي يقرنها بالقرآن، كقوله - تعالى -: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون - وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون} [الأنعام: 91 - 92]
    وقد وصف التوراة بأن فيها نورا وهدى للناس فكيف يجعل النور في الإنجيل دونها وقال - تعالى -: {ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون - وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون - أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام: 154 - 156] فقد ذكر التوراة والقرآن، وقولهم أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فبين أن الكتاب اسم جنس يتناول هنا التوراة والإنجيل، كقوله - تعالى -: {ياأهل الكتاب} [آل عمران: 64] وقوله - تعالى -: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة: 5] فذكر الكتاب بلفظ المنفرد، ومعلوم أنه أراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا اليهود والنصارى لا يختص ذلك بالنصارى ; كما قال: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام: 156].
    وقد تبين بطلان قول هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويفسرون كلام الله ورسوله بما يعلم كل من عرف حاله من مؤمن وكافر أنه لم يرده.
    وبين أن الله لم يرد بالكتاب الإنجيل وحده ; كما لم يرد بالرسل الحواريين بل أراد بالكتاب المنير ما أنزله الله من الكتب كالتوراة والإنجيل ; كما أراد بالرسل من أرسله الله مطلقا كنوح وإبراهيم وموسى والمسيح ابن مريم - صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين -.

    (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)

    فإن قيل: فقد قال تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} فأخبر أنا نسمع منهم الأذى الكثير ودعانا إلى الصبر على أذاهم وإنما يؤذينا أذى عاما الطعن في كتاب الله ودينه ورسوله وقوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} من هذا الباب.
    قلنا: أولا: ليس في الآية بيان أن ذلك مسموع من أهل الذمة والعهد وإنما هو مسموع في الجملة من الكفار.
    وثانيا: إن الأمر بالصبر على أذاهم وبتقوى الله لا يمنع قتالهم عند المكنة وإقامة حد الله عليهم عند القدرة فإنه لا خلاف بين المسلمين أنا إذا سمعنا مشركا أو كتابيا يؤذي الله ورسوله فلا عهد بيننا وبينه وجب علينا أن نقاتله ونجاهده إذا أمكن ذلك وثالثا: أن هذه الآية وما شابهها منسوخ من بعض الوجوه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان بها يهود كثير ومشركون وكان أهل الأرض إذ ذاك صنفين: مشركا أو صاحب كتاب فهادن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بها من اليهود وغيرهم وأمرهم الله إذ ذاك بالعفو والصفح كما في قوله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} فأمره الله بالعفو والصفح عنهم إلى أن يظهر الله دينه ويعز جنده فكان أول العز وقعة بدر فإنها أذلت رقاب أكثر الكفار الذين بالمدينة وأرهبت سائر الكفار.
    وقد أخرجا في الصحيحين عن عروة عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ركب حمارا على إكاف على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر فسار حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بي أبي وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي قال كذا وكذا قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي نزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك فذلك الذي فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله.

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى ويصبرون على الأذى قال الله تعالى: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وقال الله عز وجل: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير}.
    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله تعالى حتى أذن الله عز وجل فيهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله تعالى به من قتل من صناديد قريش وقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منصورين غانمين مع أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش فقال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا اللفظ للبخاري.
    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى: {وأعرض عن المشركين} {لست عليهم بمصيطر} {فاعف عنهم واصفح} {وإن تعفوا وتصفحوا} {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} ونحو هذا في القرآن مما أمر الله به المؤمنين بالعفو والصفح عن المشركين فإنه نسخ ذلك كله قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله: {وهم صاغرون} فنسخ هذا عفوه عن المشركين.
    وكذلك روى الإمام أحمد وغيره عن قتادة قال: أمر الله نبيه أن يعفو عنهم ويصفح حتى يأتي الله بأمره وقضائه ثم أنزل الله عز وجل براءة فأتى الله بأمره وقضائه فقال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} الآية قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها وأمر الله فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يقروا بالجزية صغارا ونقمة لهم.
    وكذلك ذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل من كف عن قتاله كقوله تعالى: {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} إلى أن نزلت براءة.
    وجملة ذلك أنه لما نزلت براءة أمر أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كفوا عنه أو لم يكفوا وإن ينبذ إليهم تلك العهود المطلقة التي كانت بينه وبينهم وقيل له فيها: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} بعد أن كان قد قيل له: {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم}.
    ولهذا قال زيد بن أسلم: نسخت هذه الآية ما كان قبلها فأما قبل براءة وقبل بدر فقد كان مأمورا بالصبر على أذاهم والعفو عنهم وأما بعد بدر وقبل براءة فقد كان يقاتل من يؤذيه ويمسك عمن سالمه كما فعل بابن الأشرف وغيره ممن كان يؤذيه فبدر كانت أساس عز الدين وفتح مكة كانت كمال عز الدين فكانوا قبل بدر يسمعون الأذى الظاهر ويؤمرون بالصبر عليه وبعد بدر يؤذون في السر من جهة المنافقين وغيرهم فيؤمرون بالصبر عليه وفي تبوك أمروا بالإغلاظ للكفار والمنافقين فلم يتمكن بعدها كافر ولا منافق من أذاهم في مجلس خاص ولا عام بل مات بغيظه لعلمه بأنه يقتل إذا تكلم وقد كان بعد بدر لليهود استطالة وأذى للمسلمين إلى أن قتل كعب بن الأشرف.

    قال محمد بن إسحاق في حديثه عن محمد بن مسلمة قال: فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعد والله فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.
    وروى بإسناده عن محيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه" فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة ابن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضر به ويقول: أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله إن كان لأول إسلام حويصة فقال محيصة: فقلت له: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال: لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟

    فقال محيصة: نعم والله فقال حويصة: والله إن دينا بلغ هذا منك لعجب.
    وذكر غير ابن إسحاق أن اليهود حذرت وذلت وخافت من يوم قتل ابن الأشرف فلما أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين كافة وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
    فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمرهم بهما في أول الأمر وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهده خلفائه الراشدين وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

    (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199)

    (فصل في بيان أن المجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك: إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك: إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله ألبتة خلافا للجهمية المجبرة وهو مصيب؛ بمعنى: أنه مطيع لله لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه خلافا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق فإن هذا باطل كما تقدم بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب. وكذلك الكفار: من بلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه؛ واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ولا التزام جميع شرائع الإسلام؛ لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام:

    فهذا مؤمن من أهل الجنة. كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون وكما كانت امرأة فرعون بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر؛ فإنهم كانوا كفارا ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام؛ فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا}.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #184
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 182)

    من صــ 171 الى صـ 180






    وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام بل إنما دخل معه نفر منهم؛ ولهذا {لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه وأخبرهم بموته يوم مات وقال: إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات} وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤد الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم. ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه. وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم وفي الديات بالعدل؛ والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك.

    والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل وقيل: إنه سم على ذلك. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها. ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب قال الله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب} وهذه الآية قد قال طائفة من السلف: إنها نزلت في النجاشي ويروى هذا عن جابر وابن عباس وأنس. ومنهم من قال: فيه وفي أصحابه؛ كما قال الحسن وقتادة. وهذا مراد الصحابة ولكن هو المطاع فإن لفظ الآية لفظ الجمع لم يرد بها واحد.
    وعن عطاء قال: نزلت في أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يذكر هؤلاء من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مثل: عبد الله بن سلام وغيره ممن كان يهوديا وسلمان الفارسي وغيره ممن كان نصرانيا إلا هؤلاء صاروا من المؤمنين فلا يقال فيهم: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم} ولا يقول أحد: إن اليهود والنصارى بعد إسلامهم وهجرتهم ودخولهم في جملة المسلمين المهاجرين المجاهدين يقال: إنهم من أهل الكتاب أي من جملتهم وقد آمنوا بالرسول كما قال تعالى في المقتول خطأ: {عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} وقوله:
    {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} فهو من العدو ولكن هو كان قد آمن وما أمكنه الهجرة وإظهار الإيمان والتزام شرائعه فسماه مؤمنا لأنه فعل من الإيمان ما يقدر عليه. وهذا كما أنه قد كان بمكة جماعة من المؤمنين يستخفون بإيمانهم وهم عاجزون عن الهجرة قال تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا} فعذر سبحانه المستضعف العاجز عن الهجرة.
    وقال تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} فأولئك كانوا عاجزين عن إقامة دينهم فقد سقط عنهم ما عجزوا عنه؟ فإذا كان هذا فيمن كان مشركا وآمن: فما الظن بمن كان من أهل الكتاب وآمن؟ وقوله: {فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن} قيل: هو الذي يكون عليه لباس أهل الحرب مثل أن يكون في صفهم فيعذر القاتل لأنه مأمور بقتاله فتسقط عنه الدية وتجب الكفارة وهو قول الشافعي وأحمد في أحد القولين وقيل: بل هو من أسلم ولم يهاجر. كما يقوله أبو حنيفة لكن هذا قد أوجب فيه الكفارة.
    وقيل إذا كان من أهل الحرب لم يكن له وارث فلا يعطى أهل الحرب ديته بل تجب الكفارة فقط. وسواء عرف أنه مؤمن وقتل خطأ أو ظن أنه كافر وهذا ظاهر الآية. وقد قال بعض المفسرين: إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه كما نقل عن ابن جريج ومقاتل وابن زيد يعني: قوله: {وإن من أهل الكتاب} وبعضهم قال: إنها في مؤمني أهل الكتاب. فهو كالقول الأول وإن أراد العموم فهو كالثاني. وهذا قول مجاهد ورواه أبو صالح عن ابن عباس. وقول من أدخل فيها ابن سلام وأمثاله ضعيف؛ فإن هؤلاء من المؤمنين ظاهرا وباطنا من كل وجه لا يجوز أن يقال فيهم:{وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب}.

    أما أولا: فإن ابن سلام أسلم في أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقال: فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. وسورة آل عمران إنما نزل ذكر أهل الكتاب فيها لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر. وثانيا: أن ابن سلام وأمثاله هو واحد من جملة الصحابة والمؤمنين وهو من أفضلهم وكذلك سلمان الفارسي فلا يقال فيه: إنه من أهل الكتاب. وهؤلاء لهم أجور مثل أجور سائر المؤمنين بل يؤتون أجرهم مرتين وهم ملتزمون جميع شرائع الإسلام فأجرهم أعظم من أن يقال فيه: {أولئك لهم أجرهم عند ربهم}.

    وأيضا فإن أمر هؤلاء كان ظاهرا معروفا ولم يكن أحد يشك فيهم فأي فائدة في الإخبار بهم؟ وما هذا إلا كما يقال: الإسلام دخل فيه من كان مشركا أو كان كتابيا وهذا معلوم لكل أحد بأنه دين لم يعرف قبل محمد صلى الله عليه وسلم فكل من دخل فيه كان قبل ذلك إما مشركا وإما من أهل الكتاب إما كتابيا وإما أميا. فأي فائدة في الإخبار بهذا؟ بخلاف أمر النجاشي وأصحابه ممن كانوا متظاهرين بكثير مما عليه النصارى؛ فإن أمرهم قد يشتبه. ولهذا ذكروا في سبب نزول هذه الآية: إنه لما مات النجاشي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال قائل: تصلي على هذا العلج النصراني وهو في أرضه؟ فنزلت هذه الآية هذا منقول عن جابر وأنس بن مالك وابن عباس وهم من الصحابة الذين باشروا الصلاة على النجاشي وهذا بخلاف ابن سلام وسلمان الفارسي؛ فإنه إذا صلى على واحد من هؤلاء لم ينكر ذلك أحد.
    وهذا مما يبين أن المظهرين للإسلام فيهم منافق لا يصلى عليه كما نزل في حق ابن أبي وأمثاله. وإن من هو في أرض الكفر يكون مؤمنا يصلى عليه كالنجاشي. ويشبه هذه الآية أنه لما ذكر تعالى أهل الكتاب فقال: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}
    {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} وهذه الآية قيل: إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه.
    وقيل: إن قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}. هو عبد الله بن سلام وأصحابه. وهذا والله أعلم من نمط الذي قبله؛ فإن هؤلاء ما بقوا من أهل الكتاب وإنما المقصود من هو منهم في الظاهر وهو مؤمن؛ لكن لا يقدر على ما يقدر عليه المؤمنون المهاجرون المجاهدون كمؤمن آل فرعون هو من آل فرعون وهو مؤمن؛ ولهذا قال تعالى: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} فهو من آل فرعون وهو مؤمن. وكذلك هؤلاء منهم المؤمنون.
    ولهذا قال: {وأكثرهم الفاسقون} وقد قال قبل هذا {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} ثم قال: {لن يضروكم إلا أذى} وهذا عائد إليهم جميعهم لا إلى أكثرهم. ولهذا قال: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة وهو مكره على القتال ويبعث يوم القيامة على نيته كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يغزو جيش هذا البيت فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل: يا رسول الله وفيهم المكره قال: يبعثون على نياتهم} وهذا في ظاهر الأمر وإن قتل وحكم عليه بما يحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويبعثون على نياتهم. والجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر؛ ولهذا روي {أن العباس قال: يا رسول الله كنت مكرها. قال: أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله}.
    وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها بل الوجوب بحسب الإمكان وكذلك ما لم يعلم حكمه فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقي مدة لم يصل لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد. وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء الزكاة وغير ذلك. ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يحد باتفاق المسلمين وإنما اختلفوا في قضاء الصلوات.
    سورة النساء
    (ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)

    فصل:
    في الأسباب التي بين الله وعباده وبين العباد: الخلقية والكسبية. الشرعية؛ والشرطية.

    قال الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} افتتح السورة بذكر خلق الجنس الإنساني من نفس واحدة؛ وأن زوجها مخلوق منها وأنه بث منهما الرجال والنساء: أكمل الأسباب وأجلها ثم ذكر ما بين الآدميين من الأسباب المخلوقة الشرعية: كالولادة ومن الكسبية الشرطية: كالنكاح ثم قال: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} قال طائفة من المفسرين من السلف: {تساءلون به} تتعاهدون به وتتعاقدون. وهو كما قالوا؛ لأن كل واحد من المتعاقدين عقد البيع أو النكاح أو الهدنة أو غير ذلك يسأل الآخر مطلوبه: هذا يطلب تسليم المبيع. وهذا تسليم الثمن: وكل منهما قد أوجب على نفسه مطلوب الآخر فكل منهما طالب من الآخر موجب لمطلوب الآخر.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #185
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 183)

    من صــ 181 الى صـ 190



    ثم قال: {والأرحام}. و " العهود " و " الأرحام ": هما جماع الأسباب التي بين بني آدم؛ فإن الأسباب التي بينهم: إما أن تكون بفعل الله أو بفعلهم. فالأول " الأرحام " والثاني " العهود " ولهذا جمع الله بينهما في مواضع؛ في مثل قوله: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} فالإل: القرابة والرحم. والذمة العهد والميثاق. وقال تعالى في أول البقرة: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} وقال: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} إلى قوله: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل}.

    واعلم أن حق الله داخل في الحقين. ومقدم عليهما؛ ولهذا قدمه في قوله {اتقوا ربكم الذي خلقكم} فإن الله خلق العبد وخلق أبويه وخلقه من أبويه. فالسبب الذي بينه وبين الله هو الخلقي التام؛ بخلاف سبب الأبوين؛ فإن أصل مادته منهما وله مادة من غيرهما؛ ثم إنهما لم يصوراه في الأرحام. والعبد ليس له مادة إلا من أبويه والله هو خالقه وبارئه ومصوره ورازقه وناصره وهاديه؛ وإنما حق الأبوين فيه بعض المناسبة لذلك؛ فلذلك قرن حق الأبوين بحقه في قوله: {أن اشكر لي ولوالديك} وفي قوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} وفي قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}

    وجعل النبي صلى الله عليه وسلم التبرؤ من الأبوين كفرا؛ لمناسبته للتبرؤ من الرب. وفي الحديث الصحيح: {من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر} أخرجاه في الصحيحين وقوله: {كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق} وقوله: {لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم}. فحق النسب والقرابة والرحم تقدمه حق الربوبية وحق القريب المجيب الرحمن؛ فإن غاية تلك أن تتصل بهذا كما قال الله؛ {أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته} وقال: {الرحم شجنة من الرحمن} وقال {لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة}.
    وقد قيل في قوله {لا يرقبون في مؤمن إلا} إن " الإل " الرب كقول الصديق لما سمع قرآن مسيلمة: إن هذا كلام لم يخرج من إل.
    وأما دخول حق الرب في العهود والعقود. فكدخول العبد في السلام وشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله؛ فإن هذا عهد الإسلام وهو أشرف العهود وأوكدها وأعمها وأكملها (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11) ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ... (12)
    وسئل - رحمه الله -:
    عن امرأة ماتت: وخلفت زوجا وبنتا وأما وأختا من أم. فما يستحق كل واحد منهم؟
    فأجاب:
    هذه الفريضة تقسم على أحد عشر: للبنت ستة أسهم وللزوج ثلاثة أسهم؛ وللأم سهمان ولا شيء للأخت من الأم؛ فإنها تسقط بالبنت باتفاق الأئمة كلهم. وهذا على قول من يقول بالرد كأبي حنيفة وأحمد. ومن لا يقول بالرد: كمالك والشافعي: فيقسم عندهم على اثني عشر سهما؛ للبنت ستة؛ وللزوج ثلاثة؛ وللأم سهمان؛ والسهم الثاني عشر لبيت المال (*).
    فصل:
    والمقصود هنا: أن النصوص شاملة لجميع الأحكام. ونحن نبين ذلك فيما هو من أشكل الأشياء لننبه به على ما سواه والفرائض من أشكلها. فنقول:النص والقياس - وهما الكتاب والميزان - دلا على أن الثلث يختص به ولد الأم كما هو قول علي ومن وافقه وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه وروى حرب التشريك وهو قول زيد ومن وافقه وقول مالك والشافعي واختلف في ذلك عن عمر وعثمان وغيرهما من الصحابة حتى قيل: إنه اختلف فيها عن جميع الصحابة إلا عليا وزيدا؛ فإن عليا لم يختلف عنه أنه لم يشرك وزيد لم يختلف عنه أنه يشرك. قال العنبري: القياس ما قال علي والاستحسان ما قال زيد. قال العنبري: هذه وساطة مليحة وعبارة صحيحة.
    فيقال: النص والقياس دلا على ما قال علي. أما النص فقوله تعالى: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} والمراد به: ولد الأم وإذا أدخلنا فيهم ولد الأبوين لم يشتركوا في الثلث؛ بل زاحمهم غيرهم. وإن قيل: إن ولد الأبوين منهم وأنهم من ولد الأم فهو غلط والله تعالى قال: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس} الآية. وفي قراءة سعد وابن مسعود (من الأم) والمراد به ولد الأم بالإجماع. ودل على ذلك قوله: {فلكل واحد منهما السدس} وولد الأبوين والأب في آية في قوله: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد}
    فجعل لها النصف وله جميع المال وهكذا حكم ولد الأبوين. ثم قال: {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين} وهذا حكم ولد الأبوين؛ لا الأم باتفاق المسلمين. فدل ذكره تعالى لهذا الحكم في هذه الآية وكذلك الحكم في تلك الآية على أن أحد الصنفين غير الآخر. وإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث فمن نقصهم منه فقد ظلمهم. وولد الأبوين جنس آخر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر}. وهذا يقتضي أنه إذا لم تبق الفرائض شيئا لم يكن للعصبة شيء وهنا لم تبق الفرائض شيئا.

    وأما قول القائل: إن أباهم كان حمارا فقد اشتركوا في الأم. فقول فاسد حسا وشرعا. أما الحس: فلأن الأب لو كان حمارا لكانت الأم أتانا ولم يكونوا من بني آدم. وإذا قيل: مراده أن وجوده كعدمه فيقال: هذا باطل فإن الوجود لا يكون معدوما. وأما الشرع: فلأن الله حكم في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم وإذا قيل؛ فالأب. إذا لم ينفعهم لم يضرهم؟ قيل: بلى. قد يضرهم كما ينفعهم؛ بدليل ما لو كان ولد الأم واحدا وولد الأبوين كثيرين؛ فإن ولد الأم وحده يأخذ السدس والباقي يكون لهم كله ولولا الأب لتشاركوا هم وذاك الواحد في الثلث وإذا جاز أن يكون وجود الأب ينفعهم جاز أن يحرمهم. فعلم أنه يضرهم.

    وأيضا فأصول الفرائض مبنية على أن القرابة المتصلة: ذكر وأنثى لا تفرق أحكامها. فالأخ من الأبوين لا يكون كأخ من أب ولا كأخ من أم ولا يعطى بقرابة الأم وحدها كما لا يعطى بقرابة الأب وحده؛ بل القرابة المشتركة من الأبوين؛ وإنما يفرد إذا كان قرابة لأم منفردا مثل ابني عم: أحدهما أخ لأم فهنا ذهب الجمهور إلى أن للأخ لأم السدس ويشتركان في الباقي وهو مأثور عن علي وروي عن شريح: أنه جعل الجميع للأخ من الأم كما لو كان ابن عم لأبوين والجمهور يقولون: كلاهما في بنوة العم سواء هما ابن عم من أبوين أو من أب والإخوة من الأم مستقلة ليست مقترنة حتى يجعل كابن عم لأبوين.
    ومما يبين الحكم في " مسألة المشركة " أن لو كان فيهن أخوات من أب لفرض لهن الثلثان وعالت الفريضة؛ فلو كان معهن أخوهن سقطن ويسمى " الأخ المشئوم " فلما صرن بوجوده يصرن عصبة: صار تارة ينفعهن. وتارة يضرهن؛ ولم يجعل وجوده كعدمه في حالة الضر. كذلك قرابة الأب لماالإخوة بها عصبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى. فهذا مجرى " العصوبة " فإن العصبة تارة يحوز المال كله وتارة يحوز أكثره؛ وتارة أقله وتارة لا يبقى له شيء وهو إذا استغرقت الفرائض المال. فمن جعل العصبة تأخذ مع استغراق الفرائض المال فقد خرج عن الأصول المنصوصة في الفرائض. وقول القائل: هو استحسان. يقال هذا استحسان يخالف الكتاب والميزان؛ فإنه ظلم للإخوة من الأم؛ حيث يؤخذ حقهم فيعطاه غيرهم. والمنازعون في هذه المسألة ليس معهم حجة إلا أنه قول زيد. فقد روي عن عمر: أنه حكم بها فعمل بذلك من عمل من أهل المدينة وغيرها كما عملوا بمثل ذلك في ميراث الجد والإخوة. وعملوا بقول زيد في غير ذلك من الفرائض تقليدا له وإن كان النص والقياس مع من خالفه.
    وبعضهم يحتج لذلك بقوله: {أفرضكم زيد}. وهو حديث ضعيف؛ لا أصل له. ولم يكن زيد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم معروفا بالفرائض. حتى أبو عبيدة لم يصح فيه إلا قوله: {لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح}. وكذلك اتباعهم لزيد في " الجد " مع أن جمهور الصحابة على خلافه. فجمهور الصحابة موافقون للصديق في أن الجد كالأب يحجب الإخوة وهو مروي عن بضعة عشر من الصحابة ومذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد. اختاره أبو حفص البرمكي من أصحابه وحكاه بعضهم رواية عن أحمد.
    وأما المورثون للإخوة مع الجد فهم علي وابن مسعود وزيد ولكل واحد قول انفرد به. وعمر بن الخطاب كان متوقفا في أمره. والصواب بلا ريب قول الصديق؛ لأدلة متعددة ذكرناها في غير هذا الموضع.

    وأما " العمريتان " فليس في القرآن ما يدل على أن للأم الثلث مع الأب والزوج؛ بل إنما أعطاها الله الثلث إذ ورثت المال هي والأب فكان القرآن قد دل على أن ما ورثته هي والأب تأخذ ثلثه والأب ثلثيه واستدل بهذا أكابر الصحابة: كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد وجمهور العلماء على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين يكونان فيه أثلاثا قياسا على جميع المال إذا اشتركا فيه وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدين والوصية. ومفهوم القرآن ينفي أن تأخذ الأم الثلث مطلقا فمن أعطاها الثلث مطلقا حتى مع الزوجة فقد خالف مفهوم القرآن.

    وأما الجمهور فقد عملوا بالمفهوم فلم يجعلوا ميراثها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرث بل إن ورثه أبوه فلأمه الثلث مطلقا وأما إذا لم يرثه أبوه؛ بل ورثه من دون الأب: كالجد والعم والأخ فهي بالثلث أولى فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب فمع غيره من العصبة أولى.
    فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلا الأم والأب؛ أو عصبة غير الأب سوى الابن؛ فلأمه الثلث؛ وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ وأما الابن فإنه أقوى من الأب؛ فلها معه السدس.
    وإذا كان مع العصبة ذو فرض فالبنات والأخوات قد أعطوا الأم معهن السدس والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من الإخوة فمع الأنثى أولى. وإنما الحجب عن الثلث إلى السدس بالإخوة؛ والواحد ليس إخوة. فإذا كانت مع الأخ الواحد تأخذ الثلث فمع العم وغيره بطريق الأولى. وفي الجد نزاع: يروى عن ابن مسعود والجمهور على أنها مع الجد تأخذ ثلث المال وهو الصواب؛ لأن الجد أبعد منها؛ وهو محجوب بالأب فلا يحجبها عن شيء من حقها؛ ومحض القياس أن الأب مع الأم؛ كالبنت من الابن والأخت مع الأخ لأنهما ذكر وأنثى من جنس واحد هما عصبة. وقد أعطيت الزوجة نصف ما يعطاه الزوج؛ لأنهما ذكر وأنثى من جنس.
    وأما دلالة الكتاب في ميراث الأم؛ فإن الله يقول: {لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} فالله تعالى فرض لها بشرطين: أن لا يكون له ولد. وأن يرثه أبوه؛ فكان في هذا دلالة على أنها لا تعطى الثلث مطلقا مع عدم الولد
    وهذا مما يدل على صحة قول أكابر الصحابة والجمهور الذين يقولون: لا تعطى في " العمريتين " - زوج وأبوان؛ وزوجة وأبوان - ثلث جميع المال. قال ابن عباس وموافقوه: فإنها لو أعطيت الثلث هنا لكانت تعطاه مع عدم الولد مطلقا وهو خلاف ما دل عليه القرآن. وقد روي عنه أنه قال لزيد: أفي كتاب الله ثلث ما بقي؟ أي ليس في كتاب الله إلا سدس وثلث. فيقال: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث مطلقا فكيف يعطيها مع الزوجين الثلث بل في كتاب الله ما يمنع إعطاءها الثلث مع الأب وأحد الزوجين.
    فإنه لو كان كذلك كان يقول: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث. فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقا؛ فلما خص الثلث ببعض الحال: علم أنها لا تستحق مطلقا. فهذا مفهوم المخالفة الذي يسمى دليل الخطاب يدل على بطلان قول من أعطاها الثلث إلا العمريتين ولا وجه لإعطائها الثلث مع مخالفته للإجماع. إلى أن قال: فإن قوله: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} دل على أن لها الثلث والباقي للأب بقوله ورثه أبواه فإنه لما جعل الميراث ميراثا بينهما ثم أخرج نصيبها دل على أن الباقي نصيبه. وإذا أعطي الأب الباقي معها لم يلزم أن يعطى غيره مثل ما أعطي. وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} وبقوله: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون}
    وبقول النبي صلى الله عليه وسلم {ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر}.
    _________

    Q (*) كذا وردت الإجابة في الفتاوى، وينبغي التأكد من أصل نسبة هذه الفتوى إلى الشيخ رحمه الله، وصحة ذلك، فإن الكلام الموجود هنا في حل هذه المسألة وهم، لأنه رد على الزوج، والزوج لا يرد عليه عند الجمهور - وحكاه بعضهم إجماعا (1) - ومنهم الأئمة الذين ذكرهم: أبو حنيفة وأحمد.
    ولو أن الكلام المذكور هنا لم ينسب للأئمة: أبي حنيفة وأحمد، لقلنا إنه أحد اختيارات الشيخ التي خالفهم فيها، إلا أنه ذكر هذا القول ونسبه إليهم، مما يرجح التردد في نسبة هذا إليه (2)، وقسمتها على الصواب من ستة عشر: للزوج أربعة أسهم، وللأم ثلاثة، وللبنت تسعة، والله تعالى أعلم.
    (1) انظر في هذا (باب الرد) من (كتاب الفرائض أو المواريث) من جميع كتب الفقه، وانظر مثلا: (المغني) 9/ 48.
    (2) ونحن هنا لا ندعي أن الشيخ رحمه الله معصوم من الوهم والخطأ، حاشا لله، بل هو بشر يعتريه ما يعتري غيره من ذلك، ولكن المسألة التي بين أيدينا ظاهرة، والكلام فيها من أشهر ما يكون في مسائل الفرائض، فاحتمال وقوع الوهم فيها من الشيخ رحمه الله بعيد، فينبغي التأكد من نسبة هذه الفتوى، والله تعالى أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #186
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 184)

    من صــ 191 الى صـ 200


    فصل:
    وأما ميراث الأخوات مع البنات: وأنهن عصبة. كما قال: ({وله أخت} - الذي هو قول جمهور الصحابة والعلماء - فقد دل عليه القرآن والسنة أيضا فإن قوله تعالى {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد}. فدل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد. وأنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها. وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك؛ إذ لو كان كذلك لكان لها النصف سواء كان له ولد أو لم يكن له فكان ذكر الولد تدليسا وعبثا مضرا وكلام الله منزه عن ذلك. ومن هذا قوله تعالى {ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} وقوله {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} وإذا علم أنها مع الولد لا ترث النصف فالولد إما ذكر وإما أنثى.
    أما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى؛ بدليل قوله: {وهو يرثها إن لم يكن لها ولد} فلم يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد والإرث المطلق هو حوز جميع المال فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يحز المال؛ بل: إما أن يسقط وإما أن يأخذ بعضه. فيبقى إذا كان لها ولد: فإما ابن وإما بنت. والقرآن قد بين أن البنت إنما تأخذ النصف فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر؛ إذا لم يكن إلا بنت وأخ.
    ولما كان فتيا الله إنما هو في الكلالة؛ والكلالة من لا والد له ولا ولد: علم أن من ليس له ولد ووالد ليس هذا حكمه.
    ولما كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز المال - مال الأخت - فيكون لها عصبة؛ كان الأب أن يكون له عصبة بطريق الأولى؛ وإذا كان الأب والأخ عصبة فالابن بطريق الأولى. وقد قال تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} ودل أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم {ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر} أن ما بقي بعد الفرائض لا يرثه إلا العصبة وقد علم أن الابن أقرب ثم الأب؛ ثم الجد؛ ثم الإخوة. وقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن أولاد بني الأم يتوارثون؛ دون بني العلات.
    فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب وابن الابن يقوم مقام الابن وكذلك كل بني أب أدنى هم أقرب من بني الأب الذي هو أعلى منه وأقر بهم إلى الأب الأعلى فهو أقرب إلى الميت. وإذا استويا في الدرجة فمن كان لأبوين أولى ممن كان للأب. فلما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد. وأنه مع ذكور ولد يكون الابن عاصبا يحجب الأخت؛ كما يحجب أخاها. بقي الأخت مع إناث الولد: ليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت في هذه الحال.
    بقي مع البنت: إما أن تسقط؛ وإما أن يكون لها النصف وإما أن تكون عصبة. ولا وجه لسقوطها؛ فإنها لا تزاحم البنت. وأخوها لا يسقط. فلا تسقط هي ولو سقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب والبعيد لا يسقط القريب ولأنها كانت تساوي البنت مع اجتماعهما والبنت أولى منها فلا تساوى بها؛ فإنه لو فرض لها النصف لنقصت البنت عن النصف كزوج وبنت فلو فرض لها النصف لعالت فنقصت البنت عن النصف والإخوة لا يزاحمون الأولاد بفرض ولا تعصيب؛ فإن الأولاد أولى منهم. والله إنما أعطاها النصف إذا كان الميت كلالة.

    فلما بطل سقوطها وفرضها لم يبق إلا أن تكون عصبة أولى من البعيد كالعم وابن العم وهذا قول الجمهور. وقد دل عليه حديث البخاري {عن ابن مسعود لما ذكر له أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة قالا: في بنت وبنت ابن. وأخت: للبنت النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا. فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين لأقضين فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنت النصف وبنت الابن السدس تكملة الثلثين. وما بقي للأخت} فدل ذلك أن الأخوات مع البنات عصبة والأخت تكون عصبة بغيرها وهو أخوها فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت.

    وقوله صلى الله عليه وسلم {ألحقوا الفرائض بأهلها إلخ} فهذا عام خص منه المعتقة والملاعنة والملتقطة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم {تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه} وإذا كان عاما مخصوصا: خصت منه هذه الصورة بما ذكر من الأدلة.
    فصل:
    وأما " ميراث البنتين " فقد قال تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف} فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر الثلث ولها وحدها النصف ولما فوق اثنتين الثلثان. بقيت البنت إذا كان لها مع الذكر الثلث لا الربع فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى؛ ولأنه قال: {وإن كانت واحدة فلها النصف} فقيد النصف بكونها واحدة فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا مع هذا الوصف؛ بخلاف قوله: {فإن كن نساء} ذكر ضمير (كن) و (ونساء) وذلك جمع لم يمكن أن يقال: اثنتين؛ لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين؛ ولأن الحكم لا يختص باثنتين فلزم أن يقال:
    {فوق اثنتين} لأنه قد عرف حكم الثنتين؛ وعرف حكم الواحدة وإذا كانت واحدة فلها النصف ولما فوق الثنتين الثلثان: امتنع أن يكون للبنتين أكثر من الثلثين فلا يكون لهما جميع المال لكل واحدة النصف فإن الثلاث ليس لهن إلا الثلثان فكيف الثلاثة ولا يكفيها النصف لأنه لها بشرط أن تكون واحدة فلا يكون لها إذا لم تكن واحدة. وهذه الدلالة تظهر من قراءة النصب {وإن كانت واحدة} فإن هذا خبر كان تقديره: فإن كانت بنتا واحدة أي مفردة ليس معها غيرها {فلها النصف} فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها فانتفى النصف وانتفى الجميع فلم يبق إلا الثلثان. وهذه دلالة من الآية.
    وأيضا فإن الله لما قال في الأخوات: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} كان دليلا على أن البنتين أولى بالثلثين من الأختين.

    وأيضا فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أعطى ابنتي سعد بن الربيع الثلثين وأمهما الثمن والعم ما بقي ". وهذا إجماع لا يصح فيه خلاف عن ابن عباس.
    ودلت آية (الولد) على أن حكم ما فوق الاثنتين حكم الاثنتين؛ فكذلك قال في الأخوات {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} ولم يذكر ما فوقهما؛ فإنه إذا كانت الثنتان تستحقان الثلثين فما فوقهما بطريق الأولى والأحرى؛ بخلاف آية البنات؛ فإنه لم يدل قوله {للذكر مثل حظ الأنثيين} إلا على أن لها الثلث مع أخيها وإذا كن اثنتين لم تستحق الثلث فصار بيانه في كل من الآيتين من أحسن البيان؛ لما دل الكلام الأول على ميراث البنتين دون ما زاد على ذلك بين بعد ذلك ميراث ما زاد على البنتين وفي آية الصيف لما دل الكلام على ميراث الأختين وكان ذلك دالا بطريق الأولى على ميراث الثلاثة أو الأربعة وما زاد: لم يحتج أن يذكر ما زاد على الأختين. فهناك ذكر ما فوق البنتين دون البنتين وفي الآية الأخرى ذكر البنتين دون ما فوقهما لما يقتضيه حسن البيان في كل موضوع ولما بين حكم الأخت الواحدة والأخ الواحد وحكم الأختين فصاعدا: بقي بيان الابنتين فصاعدا من الصنفين ليكون البيان مستوعبا للأقسام.

    ولفظ " الإخوة " وسائر جميع ألفاظ الجمع قد يعني به الجنس من غير قصد القدر منه: فيتناول الاثنين فصاعدا. وقد يعني به الثلاثة فصاعدا. وفي هذه الآية إنما عنى به العدد مطلقا؛ لأنه بين الواحدة قبل ذلك؛ ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرق فيه بين الواحد والعدد وسوى فيه بين مراتب العدد الاثنين والثلاثة وقد صرح بذلك في قوله: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة} إلى قوله: {فهم شركاء في الثلث} فقوله: (كانوا)ضمير جمع وقوله: {أكثر من ذلك} أي من أخ وأخت ثم قال: {فهم شركاء في الثلث} فذكرهم بصيغة الجمع المضمر وهو قوله: فهم والمظهر وهو قوله شركاء. فدل على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد مطلقا: الاثنين فصاعدا؛ لقوله: {يوصيكم الله في أولادكم} وقوله؛ {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} وقوله: {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء}.
    فصل:
    وأما " الجدة " فكما قال الصديق: ليس لها في كتاب الله شيء؛ فإن الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا فالجدة وإن سميت أما لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض فأدخلت في لفظ الأمهات في قوله {حرمت عليكم أمهاتكم} ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطاها السدس " فثبت ميراثها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل عنه لفظ عام في الجدات؛ بل ورث الجدة التي سألته فلما جاءت الثانية أبا بكر جعلها شريكة الأولى في السدس. وقد تنازع الناس في " الجدات " فقيل: لا يرث الاثنتان: أم الأم وأم الأب كقول مالك وأبي ثور. وقيل: لا يرث إلا ثلاث هاتان وأم الجد؛ لما {روى إبراهيم النخعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم
    ورث ثلاث جدات: جدتيك من قبل أبيك وجدتك من قبل أمك} وهذا مرسل حسن؛ فإن مراسيل إبراهيم من أحسن المراسيل. فأخذ به أحمد. ولم يرد في النص إلا توريث هؤلاء.
    وقيل: بل يرث جنس الجدات المدليات بوارث؛ وهو قول الأكثرين كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما وهو وجه في مذهب أحمد. وهذا القول أرجح؛ لأن لفظ النص وإن لم يرد في كل جدة فالصديق لما جاءته الثانية قال لها: لم يكن السدس التي أعطي إلا لغيرك؛ ولكن هي لو خلت به فهو لها. فورث الثانية. والنص إنما كان في غيرها. ولأنه لا نزاع أن من علت بالأمومة ورثت: فترث أم أم الأب وأم أم الأم بالاتفاق: فيبقى أم أبي الجد: أي فرق بينها وبين أم الجد وإن فرق بين أم الأب وأم الجد. ومعلوم أن أبا الجد يقوم مقام الجد؛ بل هو جد أعلى كذلك الجد كالأب؛ كأي وصف يفرق بين أم أم الأب وأم أبي الجد يبين ذلك أن أم أم الميت وأم أبيه بالنسبة إليه سواء؛ فكذلك أم أم أبيه وأم أبي أبيه بالنسبة إلى أبيه سواء؛ فوجب اشتراكهما في الميراث.
    وأيضا فهؤلاء جعلوا أم أم الأم وإن زادت أمومتها ترث وأم أبي الأب لا ترث.

    ورجحوا الجدة من جهة الأم على الجدة من جهة الأب. وهذا ضعيف فلم تكن أم الأم أولى به من أم الأب؛ وأقارب الأم لم يقدموا في شيء من الأحكام بل أقارب الأب أولى في جميع الأحكام؛ فكذلك في الحضانة. والصحيح أنها لا تسقط بابنها - أي الأب - كما هو أظهر الروايتين عن أحمد؛ لحديث ابن مسعود. ولأنها ولو أدلت به فهي لا ترث ميراثه؛ بل هي معه كولد الأم مع الأم لم يسقطوا بها.
    وقول من قال: من أدلى بشخص سقط به. باطل: طردا وعكسا. باطل طردا: بولد الأم مع الأم وعكسا: بولد الابن مع عمهم؛ وولد الأخ مع عمهم. وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بمن لم يدل به؛ وإنما العلة أنه يرث ميراثه فكل من ورث ميراث شخص سقط به إذا كان أقرب منه والجدات يقمن مقام الأم فيسقطن بها وإن لم يدلين بها.

    وأما كون " بنات الابن مع البنت " لهن السدس تكملة الثلثين وكذلك الأخوات من الأب مع أخت الأبوين؛ فلأن الله قال. {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} وقد علم أن الخطاب تناول ولد البنين؛ دون ولد البنات وأن قوله {أولادكم} يتناول من ينسب إلى الميت؛ وهم ولده وولد ابنته وأنه متناولهم على الترتيب: يدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب؛ لما قد عرف من أنما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر والابن أقرب من ابن الابن فإذا لم تكن إلا بنت فلها النصف؛ وبقي من نصيب البنات السدس؛ فإذا كان هنا بنات ابن فإنهن يستحققن الجميع لولا البنت؛ فإذا أخذت النصف فالباقي لهن.
    وكذلك في الأخت من الأبوين مع الأخت من الأب: {أخبر ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى للبنت بالنصف؛ ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين} وأما إذا استكملت البنات الثلثين لم يبق فرض؛ فإن كان هناك عصبة من ولد البنين فالمال له؛ لأنه أولى ذكر؛ وإن كان معه أو فوقه عصبها عند جمهور الصحابة والعلماء كالأربعة وغيرهم.

    وأما ابن مسعود فإنه يسقطها؛ لأنها لا ترث مفردة.
    والنزاع في الأخت للأب مع أخيها إذا استكمل البنات الثلثين. فالجمهور يجعلون البنات عصبة مع إخوانهن يقتسمون الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين سواء زاد ميراثهن بالتعصيب أو نقص وتوريثهن هنا أقوى وقول ابن مسعود معروف في نقصانهن.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #187
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 185)

    من صــ 201 الى صـ 210



    (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14)
    (فائدة)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وقد قيل: إن " التأبيد " لم يذكر في القرآن إلا في وعيد الكفار؛ ولهذا قال: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}. وقال فيمن يجور في المواريث: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين}. فهنا قيد المعصية بتعدي حدوده فلم يذكرها مطلقة؛ وقال: {وعصى آدم ربه فغوى}. فهي معصية خاصة؛ وقال تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} فأخبر عن معصية واقعة معينة وهي معصية الرماة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أمرهم بلزوم ثغرهم وإن رأوا المسلمين قد انتصروا فعصى من عصى منهم هذا الأمر وجعل أميرهم يأمرهم لما رأوا الكفار منهزمين وأقبل من أقبل منهم على المغانم. وكذلك قوله: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان}. جعل ذلك ثلاث مراتب.

    (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17)

    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب وكذلك قال سائر المفسرين. قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته وقال الحسن وقتادة وعطاء والسدي وغيرهم: إنما سموا جهالا لمعاصيهم لا أنهم غير مميزين. وقال الزجاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء؛ لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءا؛ وإنما يحتمل أمرين. (أحدهما): أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه.
    والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة وآثروا العاجل على الآجل؛ فسموا جهالا لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة. فقد جعل الزجاج " الجهل " إما عدم العلم بعاقبة الفعل وإما فساد الإرادة؛ وقد يقال: هما متلازمان وهذا مبسوط في الكلام مع الجهمية. والمقصود هنا أن كل عاص لله فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع لله؛ وإنما يكون جاهلا لنقص خوفه من الله إذ لو تم خوفه من الله لم يعص.
    (فصل)
    سئل الشيخ - رحمه الله تعالى -:
    هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك؟
    فأجاب:

    لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث؛ بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر - يعني الخطيب - في كتابه " السابق واللاحق " وذكره أبو القاسم السهيلي في " شرح السيرة " بإسناد فيه مجاهيل وذكره أبو عبد الله القرطبي في " التذكرة " وأمثال هذه المواضع فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبا كما نص عليه أهل العلم وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث؛ لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح. لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فإنه من أعظم الأمور خرقا للعادة من وجهين:

    من جهة إحياء الموتى: ومن جهة الإيمان بعد الموت. فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره فلما لم يروه أحد من الثقات علم أنه كذب. والخطيب البغدادي هو في كتاب " السابق واللاحق " مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص واحد سواء كان الذي يروونه صدقا أو كذبا وابن شاهين يروي الغث والسمين. والسهيلي إنما ذكر ذلك بإسناد فيه مجاهيل. ثم هذا خلاف الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع. قال الله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما} {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار}.
    فبين الله تعالى: أنه لا توبة لمن مات كافرا. وقال تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت؟ ونحو ذلك من النصوص. وفي صحيح مسلم: " {أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أين أبي؟ قال: إن أباك في النار. فلما أدبر دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار} ".
    وفي صحيح مسلم أيضا أنه قال: " {استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي. فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة} ".
    وفي الحديث الذي في المسند وغيره قال: " {إن أمي مع أمك في النار} " فإن قيل: هذا في عام الفتح والإحياء كان بعد ذلك في حجة الوداع ولهذا ذكر ذلك من ذكره وبهذا اعتذر صاحب التذكرة وهذا باطل لوجوه: - (الأول: إن الخبر عما كان ويكون لا يدخله نسخ كقوله في أبي لهب: {سيصلى نارا ذات لهب} وكقوله في الوليد: {سأرهقه صعودا}. وكذلك في: " {إن أبي وأباك في النار} " و " {إن أمي وأمك في النار} "
    وهذا ليس خبرا عن نار يخرج منها صاحبها كأهل الكبائر؛ لأنه لو كان كذلك لجاز الاستغفار لهما ولو كان قد سبق في علم الله إيمانهما لم ينهه عن ذلك فإن الأعمال بالخواتيم ومن مات مؤمنا فإن الله يغفر له فلا يكون الاستغفار له ممتنعا.

    (الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه لأنها كانت بطريقه " بالحجون " عند مكة عام الفتح وأما أبوه فلم يكن هناك ولم يزره إذ كان مدفونا بالشام في غير طريقه فكيف يقال: أحيي له؟. (الثالث: إنهما لو كانا مؤمنين إيمانا ينفع كانا أحق بالشهرة والذكر من عميه: حمزة والعباس؛ وهذا أبعد مما يقوله الجهال من الرافضة ونحوهم من أن أبا طالب آمن ويحتجون بما في " السيرة " من الحديث الضعيف وفيه أنه تكلم بكلام خفي وقت الموت. ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما كان {قال للنبي صلى الله عليه وسلم عمك الشيخ الضال كان ينفعك فهل نفعته بشيء؟ فقال: وجدته في غمرة من نار فشفعت فيه حتى صار في ضحضاح من نار في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} ".

    هذا باطل مخالف لما في الصحيح وغيره فإنه كان آخر شيء قاله: هو على ملة عبد المطلب وأن العباس لم يشهد موته مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أحق بالشهرة من حمزة والعباس فلما كان من العلم المتواتر المستفيض بين الأمة خلفا عن سلف أنه لم يذكر أبو طالب ولا أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين كحمزة والعباس وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم كان هذا من أبين الأدلة على أن ذلك كذب. (الرابع: أن الله تعالى قال {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم} - إلى قوله - {لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} الآية. وقال تعالى {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}. فأمر بالتأسي بإبراهيم والذين معه؛ إلا في وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار. وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه والله أعلم.

    (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20)

    [فصل كلام الرافضي أن عمر رضي الله عنه منع المغالاة في المهور]
    فصل
    قال الرافضي: " وقال في خطبة له: من غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال، فقالت له امرأة: كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال: {وآتيتم إحداهن قنطارا} [سورة النساء: 20]؟ فقال: كل أحد أفقه من عمر حتى المخدرات ".
    والجواب: أن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر ودينه وتقواه، ورجوعه إلى الحق إذا تبين له، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة، ويتواضع له، وأنه معترف بفضل الواحد عليه، ولو في أدنى مسألة، وليس من شرط الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمر من الأمور، فقد قال الهدهد لسليمان: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين} [سورة النمل: 22] وقد قال موسى للخضر: {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا} [سورة الكهف: 66] والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين عمر وبين أشباهه من الصحابة، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريبا من موسى، فضلا عن أن يكون مثله، بل الأنبياء المتبعون لموسى، كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم، أفضل من الخضر.
    وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل، فإن الصداق فيه حق لله - تعالى، ليس من جنس الثمن والأجرة، فإن المال والمنفعة يستباح بالإباحة، ويجوز بذله بلا عوض، وأما البضع فلا يستباح بالإباحة، ولا يجوز النكاح بغير صداق، لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق المسلمين، واستحلال البضع بنكاح لا صداق فيه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم، لكن يجوز عقده بدون التسمية، ويجب مهر المثل، فلو مات قبل أن يفرض لها ففيها قولان للصحابة والفقهاء، أحدهما: لا يجب شيء، وهو مذهب علي ومن اتبعه، كمالك والشافعي في أحد قوليه، والثاني: يجب مهر المثل، وهو مذهب عبد الله بن مسعود، ومذهب أبي حنيفة وأحمد والشافعي في قوله الآخر.
    والنبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بروع بنت واشق بمثل ذلك، فكان هذا قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعمر لم يستقر قوله على خلاف النص، فكان حاله أكمل من حال من استقر قوله على خلاف النص، وإذا كان الصداق فيه حق لله أمكن أن يكون مقدرا بالشرع، كالزكاة وفدية الأذى وغير ذلك، ولهذا ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن أقله مقدر بنصاب السرقة، وإذا جاز تقدير أقله جاز تقدير أكثره، وإذا كان مقدرا اعتبر بالسنة، فلم يتجاوز به ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسائه وبناته.
    وإذا قدر أن هذا لا يسوغ، كانت قد بذلت لمن لا يستحقها، فلا يعطاها الباذل لحصول مقصوده، ولا الآخذ لكونه [لا] يستحقها، فتوضع في بيت المال، كما تقوله طائفة من الفقهاء: إن المتجر بمال غيره يتصدق بالربح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات، وكما يقوله محققو الفقهاء فيمن باع سلاحا في الفتنة، أو عصيرا أو عنبا للخمر: إنه يتصدق بالثمن.

    ففي الجملة عمر لو نفذ اجتهاده لم يكن أضعف من كثير من اجتهاد غيره الذي أنفذه، وكيف لم ينفذه؟!
    وقوله - تعالى -: {وآتيتم إحداهن قنطارا} [سورة النساء: 20] يتأول كثير من الناس ما هو أصرح منها، بأن يقولوا: هذا قيل للمبالغة، كما قالوا في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «التمس ولو خاتما من حديد» "، أنه قاله على سبيل المبالغة، فإذا كان المقدرون لأدناه يتأولون مثل هذا، جاز أن يكون المقدر لأعلاه يتأول مثل هذا.

    وإذا كان في هذا منع للمرأة المستحقة، فكذلك منع المفوضة المهر الذي استحقته بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما والمزوجة بلا تسمية لم تغال في الصداق، وعمر مع هذا لم يصر على ذلك، بل رجع إلى الحق.
    فعلم أن تأييد الله له وهدايته إياه أعظم من تأييده لغيره وهدايته إياه، وأن أقواله الضعيفة التي رجع عنها ولم يصر عليها خير من أقوال غيره الضعيفة التي لم يرجع عنها.
    والله - تعالى - قد غفر لهذه الأمة الخطأ وإن لم يرجعوا عنه، فكيف بمن رجع عنه؟
    وقد ثبت في موضع غير هذا أن اجتهادات السلف من الصحابة والتابعين كانت أكمل من اجتهادات المتأخرين، وأن صوابهم أكمل من صواب المتأخرين، وخطأهم أخف من خطأ المتأخرين، فالذين قالوا من الصحابة والتابعين بصحة نكاح المتعة خطؤهم أيسر من خطأ من قال من المتأخرين بصحة نكاح المحلل، من أكثر من عشرين وجها، قد ذكرناها في مصنف مفرد، والذين قالوا من الصحابة والتابعين بجواز الدرهم بدرهمين خطؤهم أخف من خطأ من جوز الحيل الربوية من المتأخرين، وأن الذين أنكروا ما قاله الصحابة، عمر وغيره، في مسألة المفقود من أن زوجها إذا أتى خير بين امرأته ومهرها - قولهم ضعيف، وقول الصحابة هو الصواب الموافق لأصول الشرع، والذين عدوا هذا خلاف القياس، وقالوا: لا ينفذ حكم الحاكم إذا حكم به، قالوا ذلك لعدم معرفتهم بمآخذ الصحابة ودقة فهمهم؛ فإن هذا مبني على وقف العقود عند الحاجة؛ وهو أصل شريف من أصول الشرع.

    وكذلك ما فعله عمر من جعل أرض العنوة فيئا هو فيه على الصواب، دون من لم يفهم ذلك من المتأخرين، وأن الذي أشار به علي بن أبي طالب في قتال أهل القبلة كان علي - رضي الله عنه - فيه على الصواب، دون من أنكره عليه من الخوارج وغيرهم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #188
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 186)

    من صــ 211 الى صـ 220



    وما أفتى به ابن عباس وغيره من الصحابة في مسائل الأيمان والنذور والطلاق والخلع، قولهم فيها هو الصواب، دون قول من خالفهم من المتأخرين.
    وبالجملة فهذا باب يطول وصفه، فالصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها، ولهذا أحسن الشافعي - رحمه الله - في قوله: " هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى، وفي كل سبب ينال به علم وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا " أو كلاما هذا معناه.
    وقال أحمد بن حنبل: " أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
    وما أحسن قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال: " أيها الناس من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ".
    وقال حذيفة - رضي الله عنه -: " يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا ".

    (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23)

    (فصل: المحرمات بالرضاع)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    فصل:
    وأما " المحرمات بالرضاع " فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب} وفي لفظ: {يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة} وهذا مما اتفق عليه علماء المسلمين؛ لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء المعروفين. فإذا ارتضع الطفل من امرأة خمس رضعات في الحولين قبل الفطام صار ولدها باتفاق الأئمة وصار الرجل الذي در اللبن بوطئه أبا لهذا المرتضع باتفاق الأئمة المشهورين وهذا يسمى " لبن الفحل " وقد ثبت ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فإن عائشة كانت قد أرضعتها امرأة وكان لها زوج يقال له أبو القعيس فجاء أخوه يستأذن عليها فأبت أن تأذن له حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: إيذني له فإنه عمك فقالت عائشة: إنما أرضعتني المرأة؛ ولم يرضعني الرجل فقال: إنه عمك فليلج عليك}. وقال: {يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب}.
    وإذا صار الرجل والمرأة والدي المرتضع صار كل من أولادهما إخوة المرضع؛ سواء كانوا من الأب فقط أو من المرأة أو منهما أو كانوا أولادا لهما من الرضاعة؛ فإنهم يصيرون إخوة لهذا المرتضع من الرضاعة؛ حتى لو كان لرجل امرأتان فأرضعت هذه طفلا وهذه طفلة: كانا أخوين؛ ولم يجز لأحدهما التزوج بالآخر باتفاق الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين.
    وهذه " المسألة " سئل عنها ابن عباس فقال: اللقاح واحد يعني الرجل الذي وطئ المرأتين حتى در اللبن واحد. ولا فرق باتفاق المسلمين بين أولاد المرأة الذين رضعوا مع الطفل وبين من ولد لها قبل الرضاعة وبعد الرضاعة: باتفاق المسلمين. وما يظنه كثير من الجهال أنه إنما يحرم من رضع معه: هو ضلال على صاحبه إن لم يرجع عنه فإن أصر على استحلال ذلك استتيب كما يستتاب سائر من أباح الإخوة من الرضاعة فإن تاب وإلا قتل. وإذا كان كذلك فجميع " أقارب المرأة أقارب للمرتضع من الرضاعة " أولادها إخوته وأولاد أولادها أولاد إخوته وآباؤها وأمهاتها أجداده وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته:
    وكل هؤلاء حرام عليه وأما " بنات أخواله وخالاته من الرضاع " فحلال كما يحل ذلك من النسب؛ وأقارب الرجل أقاربه من الرضاع: أولاد إخوته وأولادهم أولاد إخوته. وإخوته أعمامه وعماته وهن حرام عليه. وحل له بنات عمه وبنات عماته. وأولاد المرتضع بمنزلته كما أن أولاد المولود بمنزلته فليس لأولاده من النسب والرضاع أن يتزوجوا إخوته ولا إخوة أبيه لا من نسب ولا رضاع لأنهم أعمامهم وعماتهم وأخوالهم وخالاتهم.

    وأما إخوة المرتضع من نسب أو رضاع غير رضاع هذه المرضعة فهم أجانب منها ومن أقاربها فيجوز لإخوة هؤلاء أن يتزوجوا أولاد المرضعة؛ كما إذا كان أخ للرجل من أبيه وأخت من أمه. وبالعكس: جاز أن يتزوج أحدهما الآخر؛ وهو نفسه لا يتزوج واحدا منهما: فكذلك المرتضع هو نفسه لا يتزوج واحدا من أولاد مرضعه؛ ولا أحدا من أولاد والديه فإن هؤلاء إخوته من الرضاع؛ وهؤلاء إخوته من النسب. ويجوز لإخوته من الرضاع أن يتزوجوا إخوته من النسب كما يجوز لإخوته من أبيه أن يتزوجوا إخوته من أمه. وهذا كله متفق عليه بين العلماء.

    ولكن بعض المنتصبين للفتيا قد يغلظ في هذه المسائل؛ لالتباس أمرها على المستفتين ولا يذكرون ما يسألون عنه بالأسماء والصفات المعتبرة في الشرع مثل أن يقول: اثنان تراضعا: هل يتزوج هذا بأخت هذا؟ وهذا سؤال مجمل. فالمرتضع نفسه ليس له أن يتزوج من أخوات الآخر اللاتي هن من أمه التي أرضعت؛ وإن كان له أخوات من غير تلك الأم فهن أجانب من المرتضع فللمرتضع أن يتزوج منهن. وكذلك إذا قيل: طفل وطفلة تراضعا أو طفلان تراضعا: هل يحل أن يتزوج أحدهما بإخوة الآخر ويتزوج الأخوات من الجانبين بعضهم لبعض؟ فجواب ذلك أن إخوة كل من المتراضعين لهم أن يتزوجوا أخوات الآخر؛ إذا لم يرتضع الخاطب من أم المخطوبة ولا المخطوبة من أم الخاطب وهذا متفق عليه بين العلماء.
    وأما المتراضعان فليس لأحدهما أن يتزوج شيئا من أولاد المرضعة فلا يتزوج هذا بأحد من إخوة الآخر من الأم التي أرضعته أو من الأب صاحب اللبن ويجوز أن يتزوج كل منهما من إخوة الآخر الذين ليسوا من أولاد أبويه من الرضاعة. فهذا جواب هذه الأقسام. فإن الرضيع: إما أن يتزوج من إخوة المرتضع الآخر من تلك المرأة أو الرجل وإما أن يتزوج من إخوة المرتضع الآخر من النسب أو من رضاعة أخرى. وإخوة الرضيع إما أن يتزوجوا من هؤلاء وإما من هؤلاء وإما من هؤلاء. فإخوة الرضيع لهم أن يتزوجوا الجميع: أولاد المرضعة وزوجها من نسب أو رضاع. ولإخوة هذا أن يتزوجوا بإخوة هذا؛ بل لأب هذا من النسب أن يتزوج أخته من الرضاع.
    وأما أولاد المرضعة فلا يتزوج أحد منهن المرتضع؛ ولا أولاده؛ ولا يتزوج أحدا من أولاد إخوته وأخواته؛ لا من نسب؛ ولا من رضاع فإنه يكون: إما عما وإما خالا. وهذا كله متفق عليه بين العلماء.

    " ثم الرضاع المحرم " فيه ثلاثة أقوال مشهورة ثلاث روايات عن أحمد " أحدها " أنه يحرم كثيره وقليله. وهي مذهب مالك وأبي حنيفة؛ لإطلاق القرآن. " والثاني " لا تحرم الرضعة والرضعتان ويحرم ما فوق ذلك. وهو مذهب طائفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لا تحرم الرضعة والرضعتان} " وروي " {المصة والمصتان} " وروي {الإملاجة؛ والإملاجتان} " فنفى التحريم عنهما وبقي الباقي على العموم والمفهوم. " والثالث " أنه لا يحرم إلا خمس رضعات وهو مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد لحديثين صحيحين. حديث عائشة: {إن مما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك} ولأمره صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة خمس رضعات؛ ليصير محرما لها بذلك.

    وعلى هذا فالرضعة في مذهب الشافعي وأحمد ليست هي الشبعة وهو أن يلتقم الثدي ثم يسيبه ثم يلتقمه ثم يسيبه حتى يشبع بل إذا أخذ الثدي ثم تركه باختياره فهي رضعة سواء شبع بها أو لم يشبع إلا برضعات فإذا التقمه بعد ذلك فرضع ثم تركه فرضعة أخرى وإن تركه بغير اختياره ثم عاد قريبا ففيه نزاع.
    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    ما الذي يحرم من الرضاع؟ وما الذي لا يحرم؟ وما دليل حديث عائشة رضي الله عنها " {أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب}. ولتبينوا جميع التحريم منه؟ وهل للعلماء فيه اختلاف؟ وإن كان لهم اختلاف فما هو الصواب والراجح فيه؟ وهل حكم رضاع الصبي الكبير الذي دون البلوغ أو الذي يبلغ حكمه حكم الصغير الرضيع؛ فإن بعض النسوة يرضعن أولادهن خمس سنين؛ وأكثر وأقل؟ وهل يقع تحريم بين المرأة والرجل المتزوجين برضاع بعض قراباتهم لبعض؟ وبينوه بيانا شافيا؟
    الجواب:
    الحمد لله، حديث عائشة حديث صحيح متفق على صحته؛ وهو متلقى بالقبول؛ فإن الأئمة اتفقوا على العمل به ولفظه: {يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب} " والثاني: " {يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة} ": وقد استثنى بعض الفقهاء المستأخرين من هذا العموم صورتين؛ وبعضهم أكثر من ذلك وهذا خطأ؛ فإنه لا يحتاج أن يستثنى من الحديث شيء. ونحن نبين ذلك فنقول. إذا ارتضع الرضيع من المرأة خمس رضعات في الحولين صارت المرأة أمه وصار زوجها الذي جاء اللبن بوطئه أباه فصار ابنا لكل منهما من الرضاعة وحينئذ فيكون جميع أولاد المرأة من هذا الرجل ومن غيره وجميع أولاد الرجل منها ومن غيرها إخوة له سواء ولدوا قبل الرضاع أو بعده باتفاق الأئمة.

    وإذا كان أولادهما إخوته كان أولاد أولادهما أولاد إخوته فلا يجوز للمرتضع أن يتزوج أحدا من أولادهما ولا أولاد أولادهما؛ فإنهم: إما إخوته وإما أولاد إخوته وذلك يحرم من الولادة. وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته من الرضاع وأبوها وأمها أجداده وجداته من الرضاع فلا يجوز له أن يتزوج أحدا من إخوتها. ولا من أخواتها وإخوة الرجل أعمامه وعماته.

    وأبو الرجل وأمهاته أجداده وجداته؛ فلا يتزوج بأعمامه وعماته ولا بأجداده وجداته؛ لكن يتزوج بأولاد الأعمام والعمات؛ فإن جميع أقارب الرجل حرام عليه؛ أولاد الأعمام والعمات؛ وأولاد الخال والخالات كما ذكر الله في قوله {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} فهؤلاء " الأصناف الأربعة " هي المباحات من الأقارب فيبحن من الرضاعة. وإذا كان المرتضع ابنا للمرأة وزوجها فأولاده أولاد أولادهما ويحرم على أولاده ما يحرم على الأولاد من النسب. فهذه الجهات الثلاث منها تنتشر حرمة الرضاع.
    وأما إخوة المرتضع من النسب؛ وأبوه من النسب وأمه من النسب: فهم أجانب أبيه وأمه وإخوته من الرضاع؛ ليس بين هؤلاء وهؤلاء صلة ولا نسب ولا رضاع؛ لأن الرجل يمكن أن يكون له أخ من أبيه وأخ من أمه ولا نسب بينهما؛ بل يجوز لأخيه من أبيه أن يتزوج أخته من أمه؛ فكيف إذا كان أخ من النسب وأخت من الرضاع؛ فإنه يجوز لهذا أن يتزوج هذا ولهذا أن يتزوج هذا. وبهذا تزول الشبهة التي تعرض لبعض الناس فإنه يجوز للمرتضع أن يتزوج أخوه من الرضاعة بأمه من النسب كما يتزوج بأخته من النسب. ويجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاعة وهذا لا نظير له في النسب؛ فإن أخ الرجل من النسب لا يتزوج بأمه من النسب. وأخته من الرضاع ليست بنت أبيه من النسب ولا ربيبته فلهذا جاز أن تتزوج به.
    فيقول من لا يحقق: يحرم في النسب على أخي أن يتزوج أمي ولا يحرم مثل هذا في الرضاع. وهذا غلط منه؛ فإن نظير المحرم من النسب أن تتزوج أخته أو أخوه من الرضاعة بابن هذا الأخ أو بأمه من الرضاعة كما لو ارتضع هو وآخر من امرأة واللبن لفحل؛ فإنه يحرم على أخته من الرضاعة أن تتزوج أخاه وأخته من الرضاعة؛ لكونهما أخوين للمرتضع ويحرم عليهما أن يتزوجا أباه وأمه من الرضاعة؛ لكونهما ولديهما من الرضاعة؛ لا لكونهما أخوي ولديهما. فمن تدبر هذا ونحوه زالت عنه الشبهة.
    وأما " رضاع الكبير " فإنه لا يحرم في مذهب الأئمة الأربعة؛ بل لا يحرم إلا رضاع الصغير كالذي رضع في الحولين. وفيمن رضع قريبا من الحولين نزاع بين الأئمة؛ لكن مذهب الشافعي وأحمد أنه لا يحرم.

    فأما الرجل الكبير والمرأة الكبيرة فلا يحرم أحدهما على الآخر برضاع القرايب: مثل أن ترضع زوجته لأخيه من النسب: فهنا لا تحرم عليه زوجته؛ لما تقدم من أنه يجوز له أن يتزوج بالتي هي أخته من الرضاعة لأخيه من النسب؛ إذ ليس بينه وبينها صلة نسب ولا رضاع؛ وإنما حرمت على أخيه لأنها أمه من الرضاع وليست أم نفسه من الرضاع. وأم المرتضع من الرضاع لا تكون أما لإخوته من النسب؛ لأنها إنما أرضعت الرضيع ولم ترضع غيره. نعم:
    لو كان للرجل نسوة يطأهن وأرضعت كل واحدة طفلا لم يجز أن يتزوج أحدهما الآخر؛ ولهذا لما سئل ابن عباس عن ذلك قال: اللقاح واحد. وهذا مذهب الأئمة الأربعة؛ لحديث أبي القعيس الذي في الصحيحين عن عائشة وهو معروف. وتحرم عليه أم أخيه من النسب؛ لأنها أمه أو امرأة أبيه؛ وكلاهما حرام عليه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #189
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 187)

    من صــ 221 الى صـ 230



    وأما أم أخيه من الرضاعة فليست أمه ولا امرأة أبيه؛ لأن زوجها صاحب اللبن ليس أبا لهذا؛ لا من النسب ولا من الرضاعة. فإذا قال القائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب} " وأم أخيه من النسب حرام فكذلك من الرضاع. قلنا: هذا تلبيس وتدليس؛ فإن الله لم يقل: حرمت عليكم أمهات أخواتكم؛ وإنما قال: {حرمت عليكم أمهاتكم} وقال تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} فحرم على الرجل أمه ومنكوحة أبيه وإن لم تكن أمه. وهذه تحرم من الرضاعة فلا يتزوج أمه من الرضاعة.
    وأما منكوحة أبيه من الرضاع فالمشهور عند الأئمة أنها تحرم؛ لكن فيها نزاع لكونها من المحرمات بالصهر؛ لا بالنسب والولادة. وليس الكلام هنا في تحريمها فإنه إذا قيل: تحرم منكوحة أبيه من الرضاعة وفينا بعموم الحديث.
    وأما أم أخيه التي ليست أما ولا منكوحة أب: فهذه لا توجد في النسب؛ فلا يجوز أن يقال: تحرم من النسب فلا يحرم نظيرها من الرضاعة فتبقى أم الأم من النسب لأخيه من الرضاعة أو الأم من الرضاعة لأخيه من النسب: لا نظير لها من الولادة فلا تحرم. وهذا متفق عليه بين المسلمين. والله أعلم.
    (فصل: الرضاعة المحرمة)
    و " الرضاعة المحرمة بلا ريب " أن يرضع خمس رضعات فيأخذ الثدي فيشرب منه ثم يدعه ثم يأخذه فيشرب مرة ثم يدعه ولو كان ذلك في زمن واحد مثل غدائه وعشائه.
    وأما دون الخمس فلا يحرم في مذهب الشافعي. وقيل: يحرم القليل والكثير: كقول أبي حنيفة ومالك. وقيل لا يحرم إلا ثلاث رضعات. والأقوال الثلاثة مروية عن أحمد؛ لكن الأول أشهر عنه لحديث عائشة الذي في الصحيحين {كان مما نزل في القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخ ذلك بخمس رضعات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك} "
    " وفي المسند وغيره أيضا {أنه صلى الله عليه وسلم أمر امرأة أن ترضع شخصا خمس رضعات؛ لتحرم عليه}. " والرضاع المحرم " ما كان في الحولين؛ فإن تمام الرضاع حولان كاملان كما قال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} وما كان بعد تمام الرضاعة فليس من الرضاعة؛ ولهذا كان جمهور العلماء والأئمة الأربعة وغيرهم على أن رضاع الكبير لا تأثير له واحتجوا بما في الصحيحين عن {عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال من هذا يا عائشة؟ قلت: أخي من الرضاعة قال. يا عائشة انظرن من إخوانكن؟ إنما الرضاعة من المجاعة} وروى الترمذي عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام}. ومعنى قوله في: " الثدي " أي وقته وهو الحولان كما جاء في الحديث {إن ابني إبراهيم مات في الثدي} أي وهو في زمن الرضاع.
    وهذا لا يقتضي أنه لا رضاع بعد الحولين ولا بعد الفطام وإن كان الفطام قبل تمام الحولين. وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن إرضاع الكبير يحرم. واحتجوا بما في صحيح مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة {أن أم سلمة قالت لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت عائشة: ما لك في رسول الله أسوة حسنة قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل في نفس أبي حذيفة منه شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضعيه حتى يدخل عليك} وفي رواية لمالك في الموطأ قال: " {أرضعيه خمس رضعات} " فكان بمنزلة ولده من الرضاعة. وهذا الحديث أخذت به عائشة وأبى غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذن به؛ مع أن عائشة روت عنه قال: " {الرضاعة من المجاعة} " لكنها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة أو تغذية. فمتى كان المقصود الثاني لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام. وهذا هو إرضاع عامة الناس.
    وأما الأول فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم. وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها. وهذا قول متوجه.
    ولبن الآدميات طاهر عند جمهور العلماء؛ ولكن شك بعض المتأخرين فقال. هو نجس.
    (فصل: تحريم الجمع بين الأختين)

    وقال الشيخ - رحمه الله تعالى -:
    وأما تحريم " الجمع " فلا يجمع بين الأختين بنص القرآن؛ ولا بين المرأة وعمتها؛ ولا بين المرأة وخالتها. لا تنكح الكبرى على الصغرى؛ ولا الصغرى على الكبرى؛ فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ فروي أنه قال: {إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم بين أرحامكم}. ولو رضيت إحداهما بنكاح الأخرى عليها لم يجز؛ فإن الطبع يتغير؛ ولهذا لما {عرضت أم حبيبة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أوتحبين ذلك؟ فقالت:
    لست لك بمخلية وأحق من شركني في الخير أختي فقال: إنها لا تحل لي. فقيل له: إنا نتحدث أنك ناكح درة بنت أبي سلمة فقال: لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي. فإنها بنت أخي من الرضاع أرضعتني وأباها أبا سلمة ثويبة أمة أبي لهب فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن} وهذا متفق عليه بين العلماء.

    و" الضابط " في هذا: أن كل امرأتين بينهما رحم محرم فإنه يحرم الجمع بينهما بحيث لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له التزوج بالأخرى؛ لأجل النسب. فإن الرحم المحرم لها " أربعة أحكام " حكمان متفق عليهما. وحكمان متنازع فيهما فلا يجوز ملكهما بالنكاح ولا وطؤهما.
    فلا يتزوج الرجل ذات رحمه المحرم؛ ولا يتسرى بها. وهذا متفق عليه؛ بل هنا يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فلا تحل له بنكاح؛ ولا ملك يمين؛ ولا يجوز له أن يجمع بينهما في ملك النكاح فلا يجمع بين الأختين؛ ولا بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها. وهذا أيضا متفق عليه. ويجوز له أن يملكهما؛ لكن ليس له أن يتسراهما. فمن حرم جمعهما في النكاح حرم جمعهما في التسري فليس له أن يتسرى الأختين ولا الأمة وعمتها؛ والأمة وخالتها. وهذا هو الذي استقر عليه قول أكثر الصحابة؛ وهو قول أكثر العلماء.
    وهم متفقون على أنه لا يتسرى من تحرم عليه بنسب أو رضاع وإنما تنازعوا في الجمع فتوقف بعض الصحابة فيها وقال: أحلتهما آية؛ وحرمتهما آية وظن أن تحريم الجمع قد يكون كتحريم العدد؛ فإن له أن يتسرى ما شاء من العدد ولا يتزوج إلا بأربع. فهذا تحريم عارض وهذا عارض بخلاف تحريم النسب والصهر فإنه لازم؛ ولهذا تصير المرأة من ذوات المحارم بهذا ولا تصير من ذوات المحارم بذلك؛ بل أخت امرأته أجنبية منه لا يخلو بها ولا يسافر بها كما لا يخلو بما زاد على أربع من النساء؛ لتحريم ما زاد على العدد.
    وأما الجمهور فقطعوا بالتحريم وهو المعروف من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم. قالوا: لأن كل ما حرم الله في الآية بملك النكاح حرم بملك اليمين وآية التحليل وهي قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} إنما أبيح فيها جنس المملوكات ولم يذكر فيها ما يباح ويحرم من التسري كما لم يذكر ما يباح ويحرم من الممهورات والمرأة يحرم وطؤها إذا كانت معتدة ومحرمة وإن كانت زوجة أو سرية. وتحريم العدد كان لأجل وجوب العدل بينهن في القسم كما قال تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} أي: لا تجوروا في القسم هكذا قال السلف وجمهور العلماء. وظن طائفة من العلماء أن المراد أن لا تكثر عيالكم. وقالوا: هذا يدل على وجوب نفقة الزوجة. وغلط أكثر العلماء من قال ذلك لفظا ومعنى. أما اللفظ فلأنه يقال: عال يعول إذا جار. وعال يعيل إذا افتقر. وأعال يعيل إذا كثر عياله. وهو سبحانه قال: {تعولوا} لم يقل: تعيلوا.
    وأما المعنى فإن كثرة النفقة والعيال يحصل بالتسري كما يحصل بالزوجات ومع هذا فقد أباح مما ملكت اليمين ما شاء الإنسان بغير عدد؛ لأن المملوكات لا يجب لهن قسم ولا يستحققن على الرجل وطئا؛ ولهذا يملك من لا يحل له وطؤها كأم امرأته وبنتها وأخته وابنته من الرضاع ولو كان عنينا أو موليا لم يجب أن يزال ملكه عنها. والزوجات عليه أن يعدل بينهن في القسم " وخير الصحابة أربعة " فالعدل الذي يطيقه عامة الناس ينتهي إلى الأربعة.

    وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله قواه على العدل فيما هو أكثر من ذلك - على القول المشهور - وهو وجوب القسم عليه وسقوط القسم عنه على القول الآخر كما أنه لما كان أحق بالمؤمنين من أنفسهم أحل له التزوج بلا مهر. قالوا: وإذا كان " تحريم جمع العدد " إنما حرم لوجوب العدل في القسم وهذا المعنى منتف في المملوكة؛ فلهذا لم يحرم عليه أن يتسرى بأكثر من أربع؛ بخلاف الجمع بين الأختين؛ فإنه إنما كان دفعا لقطيعة الرحم بينهما وهذا المعنى موجود بين المملوكتين كما يوجد في الزوجتين فإذا جمع بينهما بالتسري حصل بينهما من التغاير ما يحصل إذا جمع بينهما في النكاح فيفضي إلى قطيعة الرحم. ولما كان هذا المعنى هو المؤثر في الشرع جاز له أن يجمع بين المرأتين إذا كان بينهما حرمة بلا نسب أو نسب بلا حرمة. فالأول مثل أن يجمع بين المرأة وابنة زوجها. كما جمع عبد الله بن جعفر لما مات علي بن أبي طالب بين امرأة علي وابنته.

    وهذا يباح عند أكثر العلماء الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن هاتين المرأتين وإن كانت إحداهما تحرم على الأخرى فذاك تحريم بالمصاهرة لا بالرحم؛ والمعنى إنما كان بتحريم قطيعة الرحم؛ فلم يدخل في آية التحريم لا لفظا ولا معنى.
    وأما إذا كان بينهما رحم غير محرم: مثل بنت العم والخال: فيجوز الجمع بينهما؛ لكن هل يكره؟ فيه قولان: هما روايتان عن أحمد؛ لأن بينهما رحما غير محرم وأما " الحكمان المتنازع فيهما " فهل له أن يملك ذا الرحم المحرم؟ وهل له أن يفرق بينهما في ملك فيبيع أحدهما دون الآخر؟ هاتان فيهما نزاع وأقوال ليس هذا موضعها.
    " وتحريم الجمع " يزول بزوال النكاح فإذا ماتت إحدى الأربع أو الأختين أو طلقها أو انفسخ نكاحها وانقضت عدتها: كان له أن يتزوج رابعة ويتزوج الأخت الأخرى باتفاق العلماء وإن طلقها طلاقا رجعيا لم يكن له تزوج الأخرى عند عامة العلماء. الأئمة الأربعة وغيرهم وقد روى عبيدة السلماني قال: لم يتفق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء كاتفاقهم على أن الخامسة لا تنكح في عدة الرابعة ولا تنكح الأخت في عدة أختها وذلك لأن الرجعية بمنزلة الزوجة فإن كلا منهما يرث الآخر لكنها صائرة إلى البينونة وذلك لا يمنع كونها زوجة كما لو أحالها إلى أجل مثل أن يقول: إن أعطيتني ألفا في رأس الحول فأنت طالق. فإن هذه صائرة إلى بينونة صغرى؛ ومع هذا فهي زوجة باتفاق العلماء وإذا قيل لا يمكن أن تعطيه العوض المعلق به فيدوم النكاح؟ قيل: والرجعية يمكن أن يراجعها فيدوم النكاح.
    وكذلك لو قال: إن لم تلدي في هذا الشهر فأنت طالق. وكانت قد بقيت على واحدة فهاهنا هي زوجة لا يزول نكاحها إلا إذا انقضى الشهر ولم تلد وإن كانت صائرة إلى بينونة. وإنما تنازع العلماء هل يجوز له وطؤها كما تنازعوا في وطء الرجعية؟ وأما إذا كان الطلاق بائنا: فهل يتزوج الخامسة في عدة الرابعة؟ والأخت في عدة أختها؟ هذا فيه نزاع مشهور بين السلف والخلف. والجواز مذهب مالك والشافعي. والتحريم مذهب أبي حنيفة وأحمد. والله أعلم.
    (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وهداه هنا يتعدى بنفسه؛ لأن التقدير: ويلزمكم سنن الذين من قبلكم فلا تعدلوا عنها وليس المراد هنا بالهدى الإلهام. كما في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} لكونه لو أراد ذلك لوقع؛ ولم يكن فينا ضال؛ بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا ولهذا قال الزجاج: يريد أن يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم فعلق الإرادة بفعل نفسه. فإن الزجاج ظن الإرادة في القرآن ليست إلا كذلك وليس كما ظن؛ بل الإرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

    وأما الإرادة الموجودة في أمره وشرعه فهو كقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} الآية. وقوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} ونحو ذلك. فهذه إرادته لما أمر به بمعنى أنه يحبه ويرضاه ويثيب فاعله؛ لا بمعنى أنه أراد أن يخلقه فيكون كما قال: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} الآية. وكما قال نوح: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون} فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه. كما يقول المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذه الإرادة متعلقة بكل حادث، والإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات كما يقول الناس لمن يفعل القبيح: يفعل شيئا ما يريده الله مع قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فإن هذه الإرادة " نوعان ". كما قد بسط في موضع آخر.
    وقد يراد بالهدى الإلهام ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين هداهم الله إلى طاعته فإن الله تعالى أراد أن يتوب عليهم ويهديهم فاهتدوا ولولا إرادته لهم ذلك لم يهتدوا كما قالوا: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق}. لكن الخطاب في الآية لجميع المسلمين كالخطاب بآية الوضوء. والخطاب لأهل البيت بقوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} ولهذا يهدد من لم يطعه. وكما في الصيام: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.
    فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا؛ لا إرادة الخلق المستلزمة للمراد؛ لأنه لو كان كذلك لم تكن الآية خطابا إلا لمن أخذ باليسر ولمن فعل ما أمر به وكان من تخلف عن ذلك لا يدخل تحت الأمر والنهي الذي في الآية وليس كذلك. بل الحكم الشرعي لازم لجميع المسلمين؛ فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب والذين أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم: هدى الإلهام والإعانة بأن جعلهم مهتدين. كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليا والمسلم مسلما. ولو كانت الإرادة هنا من الإنسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل: {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما} فإنه حينئذ لا تأثير لإرادة هؤلاء بل وجودها وعدمها سواء. كما في قول نوح {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} فإن ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس.
    والمقصود بالآية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات. والمعنى: إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم وهؤلاء يريدون لكم الشر الذي يضركم كالشيطان الذي يريد أن يغويكم وأتباعه هم أهل الشهوات فلا تتخذوه وذريته أولياء من دوني بل اسلكوا طرق الهدى والرشاد وإياكم وطرق الغي والفساد. كما قال تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} الآيات.

    وقوله: {يتبعون الشهوات} في الموضعين. فاتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى كما قال تعالى: {أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} وقال تعالى. {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل} وقال تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} وقال تعالى: {ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} وهذا في القرآن كثير.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #190
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 188)

    من صــ 231 الى صـ 240



    (فصل)
    سئل شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة أم لا؟ فإذا كانت مقتضية للحكمة. فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه؟ وإذا كانت الإرادة قد تقدمت فما معنى وجود العذر والحالة هذه؟ أفتونا مأجورين.

    فأجاب: الحمد لله رب العالمين، قد أحاط ربنا سبحانه وتعالى بكل شيء علما وقدرة وحكما؛ ووسع كل شيء رحمة وعلما فما من ذرة في السموات والأرض ولا معنى من المعاني إلا وهو شاهد لله تعالى بتمام العلم والرحمة وكمال القدرة والحكمة وما خلق الخلق باطلا ولا فعل شيئا عبثا بل هو الحكيم في أفعاله وأقواله - سبحانه وتعالى - ثم من حكمته ما أطلع بعض خلقه عليه ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه. وإرادته " قسمان ": إرادة أمر وتشريع وإرادة قضاء وتقدير. فالقسم الأول: إنما يتعلق بالطاعات دون المعاصي سواء وقعت أو لم تقع. كما في قوله: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم} وقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.

    وأما القسم الثاني: وهو إرادة التقدير فهي شاملة لجميع الكائنات محيطة بجميع الحادثات وقد أراد من العالم ما هم فاعلوه بهذا المعنى لا بالمعنى الأول كما في قوله تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} وفي قوله: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم} وفي قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
    ونظائره كثيرة. وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي دون ما لم يحدث كما أن الأولى تتناول الطاعات حدثت أو لم تحدث والسعيد من أراد منه تقديرا ما أراد به تشريعا والعبد الشقي من أراد به تقديرا ما لم يرد به تشريعا والحكم يجري على وفق هاتين الإرادتين فمن نظر إلى الأعمال بهاتين العينين كان بصيرا ومن نظر إلى القدر دون الشرع أو الشرع دون القدر كان أعور مثل قريش الذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} قال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}. فإن هؤلاء اعتقدوا أن كل ما شاء الله وجوده وكونه وهي - الإرادة القدرية - فقد أمر به ورضيه دون الإرادة الشرعية ثم رأوا أن شركهم بغير شرع مما قد شاء الله وجوده قالوا: فيكون قد رضيه وأمر به قال الله: {كذلك كذب الذين من قبلهم} بالشرائع من الأمر والنهي {حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} بأن الله شرع الشرك وتحريم ما حرمتموه.

    {إن تتبعون} في هذا {إلا الظن} وهو توهمكم أن كل ما قدره فقد شرعه {وإن أنتم إلا تخرصون} أي تكذبون وتفترون بإبطال شريعته {قل فلله الحجة البالغة} على خلقه حين أرسل الرسل إليهم فدعوهم إلى توحيده وشريعته ومع هذا فلو شاء هدى الخلق أجمعين إلى متابعة شريعته لكنه يمن على من يشاء فيهديه فضلا منه وإحسانا ويحرم من يشاء لأن المتفضل له أن يتفضل وله أن لا يتفضل فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط. وله في ذلك حكمة بالغة.

    وهو يعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرادته الشرعية وإن كان ذلك بإرادته القدرية فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى أيضا بعقابها كما أنه سبحانه قد يقدر على العبد أمراضا تعقبه آلاما فالمرض بقدره والألم بقدره فإذا قال العبد: قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب كان بمنزلة قول المريض قد تقدمت الإرادة بالمرض فلا أتألم وقد تقدمت الإرادة بأكل الحار فلا يحم مزاجي أو قد تقدمت بالضرب فلا يتألم المضروب وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه؛ بل اعتلاله بالقدر ذنب ثان يعاقب عليه أيضا وإنما اعتل بالقدر إبليس حيث قال: {بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض} وأما آدم فقال: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. فمن أراد الله سعادته ألهمه أن يقول كما قال آدم - عليه السلام أو نحوه -ومن أراد شقاوته اعتل بعلة إبليس أو نحوها. فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار.
    ومثله مثل رجل طار إلى داره شرارة نار؛ فقال له العقلاء: أطفئها لئلا تحرق المنزل فأخذ يقول: من أين كانت؟ هذه ريح ألقتها وأنا لا ذنب لي في هذه النار فما زال يتعلل بهذه العلل حتى استعرت وانتشرت وأحرقت الدار وما فيها. هذه حال من شرع يحيل الذنوب على المقادير ولا يردها بالاستغفار والمعاذير. بل حاله أسوأ من ذلك بالذنب الذي فعله بخلاف الشرارة فإنه لا فعل له فيها. والله سبحانه يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه فإنها لا تنال طاعته إلا بمعونته ولا تترك معصيته إلا بعصمته. والله أعلم.
    وسئل - قدس الله روحه - عن الأقضية: هل هي مقتضية للحكمة أم لا؟ وإذا كانت مقتضية للحكمة: فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه أم لا؟ وإذا كانت الإرادة قد تقدمت: فما معنى وجود العذر والحالة هذه؟
    فأجاب:

    الحمد لله رب العالمين، نعم لله حكمة بالغة في أقضيته وأقداره وإن لم يعلمه العباد فإن الله علم علما وعلمه لعباده أو لمن يشاء منهم وعلم علما لم يعلمه لعباده {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما}. وهو سبحانه أراد من العباد ما هم فاعلوه إرادة تكوين كما اتفق المسلمون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكما قال: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا}.
    وكما قال: {ولا يزالون مختلفين} {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} وكما قال: {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} وكما قال: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.

    ولكن لم يرد المعاصي من أصحابها إرادة أمر وشرع ومحبة ورضى ودين بل ذلك كما قال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وكما قال تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما} {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} وقال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} وكما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. وبالتقسيم والتفصيل في المقال يزول الاشتباه ويندفع الضلال وقد بسطت الكلام في ذلك بما يليق به في غير موضع من القواعد إذ ليس هذا موضع بسط ذلك.
    وأما قول السائل: ما معنى وجود العذر؟ فالمعذور الذي يعرف أنه معذور هو من كان عاجزا عن الفعل مع إرادته له: كالمريض العاجز عن القيام والصيام والجهاد والفقير العاجز عن الإنفاق ونحو ذلك وهؤلاء ليسوا مكلفين ولا معاقبين على ما تركوه وكذلك العاجز عن السماع والفهم: كالصبي والمجنون؛ ومن لم تبلغه الدعوة.
    وأما من جعل محبا مختارا راضيا بفعل السيئات حتى فعلها فليس مجبورا على خلاف مراده ولا مكرها على ما يرضاه فكيف يسمى هذا معذورا بل ينبغي أن يسمى مغرورا ولكن بسط ذلك يحتاج إلى الحكمة في الخلق والأمر فهذا مذكور في موضعه. وهذا المكان لا يسعه والله أعلم وصلى الله على محمد.
    (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27)
    وقال شيخ الإسلام:
    في الكلام على قوله تعالى {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما}.
    فذكر ما يتعلق بشهوات الآدميين من سائر ما تشتهيه أنفسهم حتى النساء والمردان وقال: العبد يجب عليه إذا وقع في شيء من ذلك أن يجاهد نفسه وهواه وتكون مجاهدته لله تعالى وحده.
    ثم قال: وميل النفس إلى النساء عام في طبع جميع بني آدم وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كالمردان وإن لم يكن يفعل الفاحشة الكبرى كان بما هو دون ذلك من المباشرة وإن لم تكن كان بالنظر ويحصل للنفس بذلك ما هو معروف عند الناس. وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه فإذا ابتلي المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في طاعة الله تعالى وهو مأمور بهذا الجهاد وليس هو أمرا حرمه على نفسه فيكون في طاعة نفسه وهواه؛ بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه فتكون المجاهدة للنفس في طاعة الله ورسوله.
    وفي حديث أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا {من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات فهو شهيد} وأبو يحيى في حديثه نظر؛ لكن المعنى الذي ذكر فيه دل عليه الكتاب والسنة فإن الله أمره بالتقوى والصبر فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرم الله من نظر بعين ومن لفظ بلسان ومن حركة بيد ورجل.
    والصبر أن يصبر عن شكوى به إلى غير الله فإن هذا هو الصبر الجميل. وأما الكتمان فيراد به شيئان: " أحدهما " أن يكتم بثه وألمه ولا يشكو إلى غير الله فمتى شكا إلى غير الله نقص صبره وهذا أعلى الكتمانين؛ لكن هذا لا يصبر عليه كل أحد؛ بل كثير من الناس يشكو ما به وهذا على وجهين. فإن شكا ذلك إلى طبيب يعرف طب النفوس ليعالج نفسه بعلاج الإيمان فهو بمنزلة المستفتي وهذا حسن وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة كما أن المصاب يشتكي مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على معصية فهذا ينقص صبره؛ لكن لا يأثم مطلقا إلا إذا اقترن به ما يحرم كالمصاب الذي يتسخط.
    و " الثاني " أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما في ذلك من إظهار السوء والفاحشة فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت وتشهت وتمنت وتتيمت والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعيا له إلى الفعل والنساء متى رأين البهائم تنزو الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة؛ والمجامعة والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء أو رأى ذلك أو تخيله في نفسه دعاه ذلك إلى الفعل وإذا ذكر الإنسان طعاما اشتهاه ومال إليه وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غير ذلك مالت نفسه إليه.

    والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حن إليه. فكلما كان في نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب إما إلى وصفه وإما إلى مشاهدته وكلاهما يحصل به تخيل في النفس وقد يحصل التخيل بالسماع والرؤية أو التفكر في بعض الأمور المتعلقة به؛ فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة به انقلبت إلى تخيلة أخرى فتحركت داعية المحبة سواء كانت المحبة محمودة أو مذمومة. ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز وتتحرك بذكر الأبرق والأجرع والعلي ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهبا إلى المحبوب فصار ذكرها يذكر المحبوب. وكذلك إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر به وتحركت محبته.
    فالمبتلى بالفاحشة والعشق. إذا ذكر ما به لغيره تحركت النفوس إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة؛ فإذا تصورت جنس ذلك تحركت إلى المحبوب؛ ولهذا نهى الله عن إشاعة الفاحشة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #191
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 189)

    من صــ 241 الى صـ 250



    (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28)
    قال مجاهد وغيره: يتبعون الشهوات الزنا وقال ابن زيد: هم أهل الباطل. وقال السدي: هم اليهود والنصارى والجميع حق؛ فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية. ثم ذكر أنه {وخلق الإنسان ضعيفا} وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات فلا بد له من شهوة مباحة يستغني بها عن المحرمة؛ ولهذا قال طاووس ومقاتل: ضعيف في قلة الصبر عن النساء.
    وقال الزجاج وابن كيسان: ضعيف العزم عن قهر الهوى. وقيل: ضعيف في أصل الخلقة؛ لأنه خلق من ماء مهين، يروى ذلك عن الحسن لكن لا بد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر ليناسب ما ذكر في الآية فإنه قال: {يريد الله أن يخفف عنكم} وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه. كما أباح نكاح الفتيات؛ وقد قال قبل ذلك {لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم}. فهو سبحانه مع إباحته نكاح الإماء عند عدم الطول وخشية العنت قال: {وأن تصبروا خير لكم} فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه. وكذلك من أباح " الاستمناء " عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل.
    فقد روي عن ابن عباس: أن نكاح الإماء خير منه وهو خير من الزنا فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل. لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقا وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد. واختاره ابن عقيل في المفردات، والمشهور عنه - يعني عن أحمد - أنه محرم إلا إذا خشي العنت. والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت. فإذا كان الله قد قال في نكاح الإماء: {وأن تصبروا خير لكم} ففيه أولى. وذلك يدل على أن الصبر عن كليهما ممكن. فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه فذلك لتسهيل التكليف كما قال تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.
    و " الاستمناء " لا يباح عند أكثر العلماء سلفا وخلفا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك. وكلام ابن عباس وما روي عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي " العنت " وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك فأبيح له ذلك لتكسير شدة عنته وشهوته. وأما من فعل ذلك تلذذا أو تذكرا أو عادة؛ بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها فهذا كله محرم لا يقول به أحمد ولا غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد، والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات.
    وأما الصبر عن المحرمات فواجب وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها. قال تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله} و " الاستعفاف " هو ترك المنهي عنه.

    (ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29) ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30)

    فصل:
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وأما قول القائل: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ واحتجاجه بالحديث المذكور. فيقال له: لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد وقد قال الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} {ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا}. ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، والعبد عليه أن يصدق بهذا وبهذا لا يؤمن ببعض ويكفر ببعض فهؤلاء المشركون أرادوا أن يصدقوا بالوعد ويكذبوا بالوعيد.

    " والحرورية والمعتزلة ": أرادوا أن يصدقوا بالوعيد دون الوعد وكلاهما أخطأ، والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب قد بين سبحانه أنه بشروط: بأن لا يتوب فإن تاب تاب الله عليه. وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات وبألا يشاء الله أن يغفر له {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.

    فهكذا الوعد له تفسير وبيان. فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله وكذب الرسول فهو كافر باتفاق المسلمين وكذلك إن جحد شيئا مما أنزل الله. فلا بد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له؛ فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدا كان في النار فالسيئات تحبطها التوبة والحسنات تحبطها الردة ومن كان له حسنات وسيئات فإن الله لا يظلمه بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
    والله تعالى قد يتفضل عليه ويحسن إليه بمغفرته ورحمته. ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار. فالزاني والسارق لا يخلد في النار بل لا بد أن يدخل الجنة. فإن النار يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وهؤلاء المسئول عنهم يسمون: القدرية المباحية المشركين. وقد جاء في ذمهم من الآثار ما يضيق عنه هذا المكان والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.

    (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31)

    فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم. وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنة أو ما يقتضي ذلك؛ فإنه خارج عن هذا الوعد فلا يكون من مجتنبي الكبائر. وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه.
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    " الكبائر " هي ما فيها حد في الدنيا أو في الآخرة: كالزنا والسرقة والقذف التي فيها حدود في الدنيا. وكالذنوب التي فيها حدود في الآخرة وهو الوعيد الخاص. مثل الذنب الذي فيه غضب الله ولعنته أو جهنم؛ ومنع الجنة كالسحر واليمين الغموس والفرار من الزحف وعقوق الوالدين وشهادة الزور وشرب الخمر ونحو ذلك.
    هكذا روي عن ابن عباس وسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وغيرهم من العلماء. قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} وقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة}. وقال تعالى: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} وقال تعالى {ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} وقال تعالى: {وكل صغير وكبير مستطر}. و (أكبر الكبائر الإشراك بالله ثم قتل النفس ثم الزنا. كما قال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} الآية.
    (واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما (32)
    (فصل في قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    فصل:

    وأما قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا. فليس الأمر كذلك بل عامة الأنبياء كانوا يفعلون أسبابا يحصل بها الرزق؛ كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي؛ وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم}.

    وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم {إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه} وكان داود يأكل من كسبه وكان يصنع الدروع وكان زكريا نجارا وكان الخليل له ماشية كثيرة حتى إنه كان يقدم للضيف الذين لا يعرفهم عجلا سمينا؛ وهذا إنما يكون مع اليسار. وخيار الأولياء المتوكلين: المهاجرون والأنصار وأبو بكر الصديق - أفضل الأولياء المتوكلين بعد الأنبياء. وكان عامتهم يرزقهم الله بأسباب يفعلونها كان الصديق تاجرا؛ وكان يأخذ ما يحصل له من المغنم؛ ولما ولي الخلافة جعل له من بيت المال كل يوم درهمان وقد أخرج ماله كله وقال له النبي صلى الله عليه وسلم {ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله} ومع هذا فما كان يأخذ من أحد شيئا لا صدقة ولا فتوحا ولا نذرا بل إنما كان يعيش من كسبه.
    بخلاف من يدعي التوكل ويخرج ماله كله ظانا أنه يقتدي بالصديق؛ وهو يأخذ من الناس إما بمسألة وإما بغير مسألة فإن هذه ليست حال أبي بكر الصديق بل في المسند: " أن الصديق كان إذا وقع من يده سوط ينزل فيأخذه، ولا يقول لأحد ناولني إياه ويقول إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئا ". فأين هذا ممن جعل الكدية وسؤال الناس طريقا إلى الله حتى إنهم يأمرون المريد بالمسألة للخلق.
    وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم مسألة الناس إلا عند الضرورة وقال: {لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع أو دم موجع أو فقر مدقع} وقال تعالى: {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب} فأمره أن تكون رغبته إلى الله وحده. ومن هؤلاء من يجعل دعاء الله ومسألته نقصا وهو مع ذلك يسأل الناس ويكديهم وسؤال العبد لربه حاجته من أفضل العبادات؛ وهو طريق أنبياء الله وقد أمر العباد بسؤاله فقال: {واسألوا الله من فضله} ومدح الذين يدعون ربهم رغبة ورهبة.

    ومن الدعاء ما هو فرض على كل مسلم كالدعاء المذكور في فاتحة الكتاب. ومن هؤلاء من يحتج بما يروى عن الخليل أنه لما ألقي في النار قال له جبرائيل: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا قال: سل قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وأول هذا الحديث معروف وهو قوله: أما إليك فلا؛ وقد ثبت في صحيح البخاري عن {ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: حسبنا الله ونعم الوكيل أنه قالها: إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم}.

    وأما قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي فكلام باطل خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء من دعائهم لله ومسألتهم إياه وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة. كقولهم: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ودعاء الله وسؤاله والتوكل عليه عبادة لله مشروعة بأسباب كما يقدره بها فكيف يكون مجرد العلم مسقطا لما خلقه وأمر به والله أعلم. وصلى الله على محمد وسلم.

    (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ... (34)

    وقال - رحمه الله -:
    فصل قوله: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} يقتضي وجوب طاعتها لزوجها مطلقا: من خدمة وسفر معه وتمكين له وغير ذلك كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث " الجبل الأحمر " وفي " السجود " وغير ذلك؛ كما تجب طاعة الأبوين؛ فإن كل طاعة كانت للوالدين انتقلت إلى الزوج؛ ولم يبق للأبوين عليها طاعة: تلك وجبت بالأرحام وهذه وجبت بالعهود كما سنقرر إن شاء الله هذين الأصلين العظيمين.
    وسئل - رحمه الله -:
    عن امرأة تزوجت وخرجت عن حكم والديها. فأيهما أفضل: برها لوالديها أو مطاوعة زوجها؟
    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها وطاعة زوجها عليها أوجب قال الله تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة؛ إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك}.
    وفي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت} وفي الترمذي عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة} وقال الترمذي حديث حسن. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو كنت آمرا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها} أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وأخرجه أبو داود ولفظه:

    {لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحقوق} وفي المسند عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تجري بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه} وفي المسند وسنن ابن ماجه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود ومن جبل أسود إلى جبل أحمر: لكان لها أن تفعل} أي لكان حقها أن تفعل.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #192
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 190)

    من صــ 251 الى صـ 260




    وكذلك في المسند وسنن ابن ماجه وصحيح ابن حبان عن عبد الله بن أبي أوفى قال: {لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفعلوا ذلك فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها؛ ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه} وعن طلق بن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أيما رجل دعا زوجته لحاجته فلتأته ولو كانت على التنور} رواه أبو حاتم في صحيحه والترمذي وقال حديث حسن وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبانا عليها: لعنتها الملائكة حتى تصبح}. والأحاديث في ذلك كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى {وألفيا سيدها لدى الباب}. وقال عمر بن الخطاب: النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته.
    وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عندكم عوان} فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة. وإذا أراد الرجل أن ينتقل إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ حدود الله فيها ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك: فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها؛ فإن الأبوين هما ظالمان؛ ليس لها أن ينهياها عن طاعة مثل هذا الزوج وليس لها أن تطيع أمها فيما تأمرها به من الاختلاع منه أو مضاجرته حتى يطلقها: مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق بما تطلبه ليطلقها فلا يحل لها أن تطيع واحدا من أبويها في طلاقه إذا كان متقيا لله فيها.

    ففي السنن الأربعة وصحيح ابن أبي حاتم عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة} وفي حديث آخر {المختلعات والمنتزعات هن المنافقات} وأما إذا أمرها أبواها أو أحدهما بما فيه طاعة الله: مثل المحافظة على الصلوات وصدق الحديث وأداء الأمانة ونهيها عن تبذير مالها وإضاعته ونحو ذلك مما أمر الله ورسوله أو نهاها الله ورسوله عنه: فعليها أن تطيعهما في ذلك ولو كان الأمر من غير أبويها.
    فكيف إذا كان من أبويها وإذا نهاها الزوج عما أمر الله أو أمرها بما نهى الله عنه: لم يكن لها أن تطيعه في ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق} بل المالك لو أمر مملوكه بما فيه معصية لله لم يجز له أن يطيعه في معصية فكيف يجوز أن تطيع المرأة زوجها أو أحد أبويها في معصية فإن الخير كله في طاعة الله ورسوله والشر كله في معصية الله ورسوله.

    (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34)

    وسئل الشيخ - رحمه الله -:
    عن قوله تعالى {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} وقوله تعالى {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} إلى قوله تعالى {والله بما تعملون خبير} يبين لنا شيخنا هذا النشوز من ذاك؟
    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، " النشوز " في قوله تعالى {تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع} هو أن تنشز عن زوجها فتنفر عنه بحيث لا تطيعه إذا دعاها للفراش أو تخرج من منزله بغير إذنه ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجب عليها من طاعته. وأما النشوز في قوله: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} فهو النهوض والقيام والارتفاع وأصل هذه المادة هو الارتفاع والغلظ ومنه النشز من الأرض وهو المكان المرتفع الغليظ ومنه قوله تعالى {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} أي نرفع بعضها إلى بعض ومن قرأ (ننشرها أراد نحييها فسمى المرأة العاصية ناشزا لما فيها من الغلظ والارتفاع عن طاعة زوجها وسمي النهوض نشوزا لأن القاعد يرتفع عن الأرض. والله أعلم.

    (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35)

    والله سبحانه لم يرض بحكم واحد بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما فإنه لا يعلم أيهما الظالم؛ وليس بينهما بينة؛ بل أمر بحكمين؛ وألا يكونا متهمين؛ بل حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة كما قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا} أي الحكمين {يوفق الله بينهما} أي بين الزوجين.

    فإن رأيا المصلحة أن يجمعا بين الزوجين جمعا وإن رأيا المصلحة أن يفرقا بينهما فرقا: إما بعوض تبذله المرأة فتكون الفرقة خلعا إن كانت هي الظالمة وإن كان الزوج هو الظالم فرق بينهما بغير اختياره. وأكثر العلماء على أن هذين حكمان كما سماهما الله حكمين يحكمان بغير توكيل الزوجين وهذا قول مالك والشافعي والإمام أحمد في أحد قوليهما وقيل هما وكيلان كقول أبي حنيفة والقول الآخر في المذهبين.

    فهنا لما اشتبه الحق لم يجعل الله الحكم لواحد وهو في قضية معينة بين زوجين. ولو حكم حاكم واحد بين الزوجين في أمر ظاهر لم ينفذ حكمه باتفاق المسلمين فكيف بأمور الدين والعبادات التي يشترك فيها جميع المسلمين وقد اشتبهت على كثير من الناس.
    هذا بإجماع المسلمين لا يحكم فيه إلا الله ورسوله فمن كان عنده علم مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وأوضحه للمسلمين والمسلمون إذا عرفوا شرع نبيهم لم يعدلوا عنه وإن كان كل قوم يقولون عندنا علم من الرسول ولم يكن هناك أمر ظاهر يجمعون فيما تنازعوا فيه كان أحد الحزبين لهم أجران والآخرون لهم أجر واحد كما قال تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما}.
    " وولي الأمر " إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتى يعرف الحق حكم به؛ وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ما هم عليه كل يعبد الله على حسب اجتهاده؛ وليس له أن يلزم أحدا بقبول قول غيره وإن كان حاكما.

    (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37)

    وقال:
    فصل:
    قوله تعالى {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} في النساء وفي الحديد أنه {لا يحب كل مختال فخور} {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} قد تؤولت في البخل بالمال والمنع والبخل بالعلم ونحوه وهي تعم البخل بكل ما ينفع في الدين والدنيا من علم ومال وغير ذلك كما تأولوا قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} النفقة من المال والنفقة من العلم. وقال معاذ في العلم: تعلمه لمن لا يعلمه صدقة. وقال أبو الدرداء: ما تصدق رجل بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها جماعة فيتفرقون وقد نفعهم الله بها. أو كما قال.
    وفي الأثر نعمة العطية ونعمت الهدية الكلمة من الخبر يسمعها الرجل ثم يهديها إلى أخ له أو كما قال: وهذه صدقة الأنبياء وورثتهم العلماء؛ ولهذا كان الله وملائكته وحيتان البحر وطير الهواء يصلون على معلم الناس الخير كما أن كاتم العلم يلعنه الله ويلعنه اللاعنون وبسط هذا كثير في فضل بيان العلم وذم ضده. والغرض هنا أن الله يبغض المختال الفخور البخيل به فالبخيل به الذي منعه والمختال إما أن يختال فلا يطلبه ولا يقبله وإما أن يختال على بعض الناس فلا يبذله وهذا كثيرا ما يقع عند بعض الناس أنه يبخل بما عنده من العلم ويختال به وأنه يختال عن أن يتعدى من غيره وضد ذلك التواضع في طلبه وبذله والتكرم بذلك.
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:

    فصل:
    قد كتبنا في غير موضع الكلام على جمع الله تعالى بين الخيلاء والفخر وبين البخل كما في قوله: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} في النساء والحديد وضد ذلك الإعطاء والتقوى المتضمنة للتواضع كما قال: {فأما من أعطى واتقى} وقال: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} وهذان الأصلان هما جماع الدين العام كما يقال التعظيم لأمر الله والرحمة لعباد الله.

    فالتعظيم لأمر الله يكون بالخشوع والتواضع وذلك أصل التقوى والرحمة لعباد الله بالإحسان إليهم وهذان هما حقيقة الصلاة والزكاة فإن الصلاة متضمنة للخشوع لله والعبودية له والتواضع له والذل له وذلك كله مضاد للخيلاء والفخر والكبر. والزكاة متضمنة لنفع الخلق والإحسان إليهم وذلك مضاد للبخل.
    ولهذا وغيره كثر القران بين الصلاة والزكاة في كتاب الله. وقد ذكرنا فيما تقدم أن الصلاة بالمعنى العام تتضمن كل ما كان ذكرا لله أو دعاء له كما قال عبد الله بن مسعود: ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة ولو كنت في السوق وهذا المعنى - وهو دعاء الله أي قصده والتوجه إليه المتضمن ذكره على وجه الخشوع والخضوع - هو حقيقة الصلاة الموجودة في جميع موارد اسم الصلاة كصلاة القائم والقاعد والمضطجع. والقارئ والأمي والناطق والأخرس وإن تنوعت حركاتها وألفاظها فإن إطلاق لفظ الصلاة على مواردها هو بالتواطؤ المنافي للاشتراك والمجاز وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. إذ من الناس من ادعى فيها الاشتراك ومنهم من ادعى المجاز بناء على كونها منقولة من المعنى اللغوي أو مزيدة أو على غير ذلك وليس الأمر كذلك؛ بل اسم الجنس العام المتواطئ المطلق إذا دل على نوع أو عين كقولك هذا الإنسان وهذا الحيوان أو قولك: هات الحيوان الذي عندك وهي غنم فهنا اللفظ قد دل على شيئين: على المعنى المشترك الموجود في جميع الموارد وعلى ما يختص به هذا النوع أو العين.
    فاللفظ المشترك الموجود في جميع التصاريف على القدر المشترك وما قرن باللفظ من لام التعريف مثلا أو غيرها دل على الخصوص والتعيين وكما أن المعنى الكلي المطلق لا وجود له في الخارج فكذلك لا يوجد في الاستعمال لفظ مطلق مجرد عن جميع الأمور المعينة. فإن الكلام إنما يفيد بعد العقد والتركيب وذلك تقييد وتخصيص كقولك أكرم الإنسان أو الإنسان خير من الفرس.

    ومثله قوله: {أقم الصلاة} ونحو ذلك ومن هنا غلط كثير من الناس في المعاني الكلية حيث ظنوا وجودها في الخارج مجردة عن القيود وفي اللفظ المتواطئ حيث ظنوا تجرده في الاستعمال عن القيود. والتحقيق: أنه لا يوجد المعنى الكلي المطلق في الخارج إلا معينا مقيدا ولا يوجد اللفظ الدال عليه في الاستعمال إلا مقيدا مخصصا وإذا قدر المعنى مجردا كان محله الذهن وحينئذ يقدر له لفظ مجرد غير موجود في الاستعمال مجردا.
    و " المقصود هنا " أن اسم الصلاة فيه عموم وإطلاق ولكن لا يستعمل إلا مقرونا بقيد إنما يختص ببعض موارده كصلواتنا وصلاة الملائكة والصلاة من الله سبحانه وتعالى وإنما يغلط الناس في مثل هذا حيث يظنون أن صلاة هذا الصنف مثل صلاة هذا مع علمهم بأن هذا ليس مثل هذا فإذا لم يكن مثله لم يجب أن تكون صلاته مثل صلاته وإن كان بينهما قدر متشابه كما قد حققنا هذا في الرد على الاتحادية والجهمية والمتفلسفة ونحوهم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #193
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 191)

    من صــ 261 الى صـ 270





    ومن هذا الباب أسماء الله وصفاته التي يسمى ويوصف العباد بما يشبهها كالحي والعليم والقدير ونحو ذلك. وكذلك اسم الزكاة هو بالمعنى العام كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل معروف صدقة} ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {على كل مسلم صدقة} وأما الزكاة المالية المفروضة فإنما تجب على بعض المسلمين في بعض الأوقات والزكاة المقارنة للصلاة تشاركها في أن كل مسلم عليه صدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق قالوا: فإن لم يستطع؟ قال: يعين صانعا أو يصنع لأخرق قالوا فإن لم يستطع؟ قال: يكف نفسه عن الشر}.
    وأما قوله في الحديث الصحيح حديث أبي ذر وغيره: {على كل سلامي من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة} فهذا - إن شاء الله - كتضمن هذه الأعمال نفع الخلائق فإنه بمثل هذا العمل يحصل الرزق والنصر والهدى فيكون ذلك من الصدقة على الخلق. ثم إن هذه الأعمال هي من جنس الصلاة وجنس الصلاة الذي ينتفع به الغير يتضمن المعنيين الصلاة والصدقة ألا ترى أن الصلاة على الميت صلاة وصدقة؟ وكذلك كل دعاء للغير واستغفار مع أن الدعاء للغير دعاء للنفس أيضا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا له بدعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل}.

    وقال:
    فصل:
    قول الناس: الآدمي جبار ضعيف أو فلان جبار ضعيف؛ فإن ضعفه يعود إلى ضعف قواه من قوة العلم والقدرة وأما تجبره فإنه يعود إلى اعتقاداته وإراداته أما اعتقاده فأن يتوهم في نفسه أنه أمر عظيم فوق ما هو ولا يكون ذلك وهذا هو الاختيال والخيلاء والمخيلة وهو أن يتخيل عن نفسه ما لا حقيقة له. ومما يوجب ذلك مدحه بالباطل نظما ونثرا وطلبه للمدح الباطل فإنه يورث هذا الاختيال. وأما الإرادة فإرادة أن يتعظم ويعظم وهو إرادة العلو في الأرض والفخر على الناس وهو أن يريد من العلو ما لا يصلح له أن يريده وهو الرئاسة والسلطان حتى يبلغ به الأمر إلى مزاحمة الربوبية كفرعون ومزاحمة النبوة وهذا موجود في جنس العلماء والعباد والأمراء وغيرهم.
    وكل واحد من الاعتقاد والإرادة يستلزم جنس الآخر؛ فإن من تخيل أنه عظيم أراد ما يليق بذلك الاختيال ومن أراد العلو في الأرض فلا بد أن يتخيل عظمة نفسه وتصغير غيره حتى يطلب ذلك ففي الإرادة يتخيله مقصودا وفي الاعتقاد يتخيله موجودا ويطلب توابعه من الإرادات.
    وقد قال الله تعالى: {إن الله لا يحب كل مختال فخور} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {الكبر بطر الحق وغمط الناس} فالفخر يشبه غمط الناس فإن كليهما تكبر على الناس. وأما بطر الحق - وهو جحده ودفعه - فيشبه الاختيال الباطل فإنه تخيل أن الحق باطل بجحده ودفعه. ثم هنا وجهان: " أحدهما " أن يجعل الاختيال وبطر الحق من باب الاعتقادات وهو أن يجعل الحق باطلا والباطل حقا فيما يتعلق بتعظيم النفس وعلو قدرها فيجحد الحق الذي يخالف هواها وعلوها ويتخيل الباطل الذي يوافق هواها وعلوها ويجعل الفخر وغمط الناس من باب الإرادات فإن الفاخر يريد أن يرفع نفسه ويضع غيره وكذلك غامط الناس. يؤيد هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد} فبين أن التواضع المأمور به ضد البغي والفخر. {وقال في الخيلاء التي يبغضها الله: الاختيال في الفخر والبغي}. . . (1) فكان في ذلك ما دل على أن الاستطالة على الناس إن كانت بغير حق فهي بغي؛ إذ البغي مجاوزة الحد. وإن كانت بحق فهي الفخر؛ لكن يقال على هذا:
    البغي يتعلق بالإرادة فلا يجوز أن يجعل هو من باب الاعتقاد وقسيمه من باب الإرادة بل البغي كأنه في الأعمال والفخر في الأقوال أو يقال: البغي بطر الحق والفخر غمط الناس. " الوجه الثاني " أن يكونا جميعا متعلقين بالاعتقاد والإرادة لكن الخيلاء غمط الحق يعود إلى الحق في نفسه الذي هو حق الله وإن لم يكن يتعلق به حق آدمي والفخر وغمط الناس يعود إلى حق الآدميين؛ فيكون التنويع لتمييز حق الآدميين مما هو حق لله لا يتعلق بالآدميين؛ بخلاف الشهوة في حال الزنا وأكل مال الغير: فلما قال سبحانه: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} والبخل منع النافع: قيد هذا بهذا وقد كتبت فيما قبل هذا من التعاليق: الكلام في التواضع والإحسان والكلام في التكبر والبخل.

    (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ... (43)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    قال: وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}؟ فنقول: لفظ الغائط في القرآن يستعمل في معناه اللغوي وهو: المكان المطمئن من الأرض؛ وكانوا ينتابون الأماكن المنخفضة لذلك وهو الغائط كما يسمى خلاء لقصد قاضي الحاجة الموضع الخالي ويسمى مرحاضا لأجل الرحض بالماء ونحو ذلك والمجيء من الغائط اسم لقضاء الحاجة؛ لأن الإنسان في العادة إنما يجيء من الغائط إذا قضى حاجته فصار اللفظ حقيقة عرفية يفهم منها عند الإطلاق التغوط فقد يسمون ما يخرج من الإنسان غائطا تسمية للحال باسم محله كما في قوله: جرى الميزاب. ومنه قول عائشة: مرن أزواجكم يغسلن عنهن أثر الغائط.
    وليس في قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} استعمال اللفظ في غير معناه؛ بل المجيء من الغائط يتضمن التغوط فكنى عن ذلك المعنى باللفظ الدال على العمل الظاهر المستلزم الأمر المستور وكلاهما مراد. وهذا كثير في الكلام يذكر الملزوم ليفهم منه لازمه المدلول.

    (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46)

    فإن قيل: فقد قال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة} إلى قوله: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين}.
    وقولهم: {واسمع غير مسمع} مثل قولهم: اسمع لا سمعت واسمع غير مقبول منك لأن من لا يقصد إسماعه لا يقبل كلامه.
    وقولهم {راعنا} قال قتادة وغيره: كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا سمعك يستهزئون بذلك وكانت في اليهود قبيحة.
    وروى الإمام أحمد عن عطية قال: كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود.
    وقال عطاء الخرساني: كان الرجل يقول: أرعنا سمعك ويلوي بذلك لسانه ويطعن في الدين.
    وذكر بعض أهل التفسير أن هذه اللفظة كانت سبا قبيحا بلغة اليهود.
    فهؤلاء قد سبوه صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام ولووا ألسنتهم به واستهزءوا به وطعنوا في الدين ومع ذلك فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم.
    قلنا: عن ذلك أجوبة:أحدها: أن ذلك كان في حال ضعف الإسلام في الحال التي أخبر الله عن رسوله والمؤمنين أنهم يسمعون من الذين أوتوا الكتاب والمشركين أذى كثيرا وأمرهم بالصبر والتقوى ثم إن ذلك نسخ عند القوة بالأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والصاغر لا يفعل شيئا من الأذى في الوجه ومن فعله فليس بصاغر.

    ثم إن من الناس من يسمي ذلك نسخا لتغير الحكم ومنهم من لا يسميه نسخا لأن الله تعالى أمرهم بالعفو والصفح إلى أن يأتي الله بأمره وقد أتى الله بأمره من عز الإسلام وإظهاره والأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
    وهذا مثل قوله تعالى: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد جعل الله لهن سبيلا" فبعض الناس يسمي ذلك نسخا وبعضهم لا يسميه نسخا والخلاف لفظي.
    ومن الناس من يقول: الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال بأن يكون في وقت أو مكان لا يتمكن منه وذلك لا يكون منسوخا إذ المنسوخ ما ارتفع في جميع الأزمنة المستقبلة.

    وبالجملة فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفروضا عليه لما قوي أن يترك ما كان يعامل به أهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح إلى قتالهم وإقامة الحدود عليهم سمي نسخا أو لم يسم.
    الجواب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان له أن يعفو عمن سبه وليس للأمة أن تعفو عمن سبه كما قد كان يعفو عمن سبه من المسلمين مع أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب قتل من سبه من المسلمين.
    الجواب الثالث: أن هذا ليس بإظهار للسب وإنما هو إخفاء له بمنزلة "السام عليكم" وبمنزلة ظهور النفاق في لحن القول لأنهم كانوا يظهرون أنهم يقصدون مسألته أن يسمع كلامهم وأن يراعيهم فينتظرهم حتى يقضوا كلامهم وحتى يفهموا كلامه ويأتونه على هذا الوجه ثم إنهم يلوون ألسنتهم بالكلام وينوون به الاستهزاء والسب والطعن في الدين كما يلوون ألسنتهم بالسام وينوون به الدعاء عليه بالموت واليهود أمة معروفة بالنفاق والخبث وأن تظهر خلاف ما تبطن ولكن ذلك لا يوجب إقامة الحد عليهم.
    ولو كان هذا سبا ظاهرا لما كان المسلمون يخاطبون بمثل ذلك قاصدين به الخير حتى نهوا عن التكلم بكلام يحتمل الاستهزاء ويوهمه بحيث يصير سبا بالنية ودلالة الحال.
    وذلك أن هذه اللفظة كانت العرب تتخاطب بها لا تقصد سبا قال عطاء: كانت لغة في الأنصار في الجاهلية وقال أبو العالية: إن مشركي العرب إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك فنهو عن ذلك وكذلك قال الضحاك وذلك أن العرب تقول: أرعيته سمعي إرعاء إذا فرغته لكلامه لأنك جعلت السمع يرعى كلامه وتقول "راعيته سمعي" بهذا المعنى لكن كانت اليهود تعتقدها سبا بينها: إما لما فيه من الاشتراك فإنها كما تستعمل في استرعاء السمع تستعمل بمعنى المفاعلة كأنه قيل: راعني حتى أراعيك وهذا إنما يكون بين الأمثال والنظراء ومرتبة الرئيس أعلى من ذلك أو أن اليهود ينوون بها معنى الرعونة أو فيها طلب حفظ الكلام والاهتمام به وهذا إنما يكون من الأعلى للأسفل لأن الرعاية هي الحفظ والكلاءة ومنه استرعاء الشاة.
    وقد غلبت في عرفهم ولغتهم على معنى رديء كما قيل: إنهم ينوون بها اسمع لا سمعت وبالجملة إنما يصير مثل هذا سبا بالنية ولي اللسان ونحوه فنهي المسلمون عنها حسما لمادة التشبه باليهود وتشبه اليهود بهم وجعل ذلك ذريعة إلى الاستهزاء به ولما يحتمله لفظها من قلة الأدب في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    الجواب الرابع: ما ذكره بعض أهل التفسير الذي ذكر أنها كانت سبا قبيحا بلغة اليهود قال: كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول الله وأرعنا سمعك يعنون من المراعاة وكانت هذه اللفظة سبا قبيحا بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها وقالوا فيما بينهم: كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا له الآن بالشتم وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود: عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه فقالوا: أولستم تقولنها؟ فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} لكيلا يتخذ اليهود ذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فهذا القول دليل على أن اللفظة مشتركة في لغة العرب ولغة العبرانيين وأن المسلمين لم يكونوا يفهمون من اليهود إذا قالوها إلا معناها في لغتهم فلما فطنوا لمعناها في اللغة الأخرى نهوهم عن قولها وأعلموهم أن ذلك ناقض لعهدهم ومبيح لدمائهم وهذا أوضح دليل على أنهم إذا تكلموا بما يفهم منه السب حلت دماؤهم وإنما لم يستحلوا دماءهم لأن المسلمين لم يكونوا يفهمون السب والكلام في السب الظاهر وهو ما يفهم منه السب.
    __________
    Q (1) خرم بالأصل


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #194
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 192)

    من صــ 271 الى صـ 280



    (ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47)
    [فصل: شبهات النصارى على رسالة النبي والرد عليها]
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    فإذا عرف هذا فاحتجاج هؤلاء بالآيات التي ظنوا دلالتها على أن نبوته خاصة بالعرب، تدل على أنهم ليسوا ممن يجوز لهم الاستدلال بكلام أحد على مقصوده ومراده، وأنهم ممن قيل فيه {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} [النساء: 78].
    فليسوا أهلا أن يحتجوا بالتوراة والإنجيل والزبور على مراد الأنبياء وسائر الكلام المنقول عن الأنبياء على مراد الأنبياء عليهم السلام - بل ولا يحتجون بكلام الأطباء والفلاسفة والنحاة وعلم أهل الحساب والهيئة على مقاصدهم.

    فإن الناس كلهم متفقون على أن لغة العرب من أفصح لغات الآدميين وأوضحها، ومتفقون على أن القرآن في أعلى درجات البيان والبلاغة والفصاحة، وفي القرآن من الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم التي يذكر فيها: أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم ما لا يحصى إلا بكلفة، ثم مع ذلك من النقول المتواترة عن سيرته صلى الله عليه وسلم في دعائه لأهل الكتاب، وأمره لهم بالإيمان به، وجهاده لهم إذا كفروا به ما لا يخفى على من له أدنى خبرة بسيرته صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر قد امتلأ العالم به، وسمعه القاصي والداني، فإذا كان الناس المؤمن به وغير المؤمن به يعلمون أنه كان يقول: إنه رسول الله إلى أهل الكتاب، وغيرهم، وأن ظهور مقصوده بذلك مما يعلمه بالاضطرار الخاصة والعامة، ثم شرعوا يظنون أنه كان يقول: إني لم أبعث إلا إلى العرب، واستمر على ذلك حتى مات دل على فساد نظرتهم وعقلهم، أو على عنادهم ومكابرتهم، وكان الواجب إذ لم يكن له معرفة معاني هذه الآيات التي استدلوا بها على خصوص رسالته أن يعتقدوا أحد أمرين:
    إما أن لها معاني توافق ما كان يقوله، أو أنها من المنسوخ فقد علمت الخاصة والعامة: أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد هجرته إلى بيت المقدس نحو سنة ونصف، ثم أمر بالصلاة إلى الكعبة البيت الحرام، والنصارى يوافقون على أن شرائع الأنبياء فيها ناسخ ومنسوخ، مع أن ما ذكروه من الآيات ليس منسوخا، ولكن المقصود: أن المعلوم من حال الرسول صلى الله عليه وسلم علما ضروريا يقينيا متواترا لا يجوز دفعه، فإن العلم بأنه كان يقول: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق معلوم لكل من عرف أخباره صلى الله عليه وسلم سواء صدقه أو كذبه، والعلم بأنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع الناس ممكن قبل أن يعلم أنه نبي أو ليس بنبي، كما أن العلم بنبوته وصدقه ممكن قبل أن يعلم عموم رسالته، فليس العلم بأحدهما موقوفا على الآخر، ولهذا كان كثير ممن يكذبه يعلم أنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع الخلق، وطائفة ممن تقر بنبوته وصدقه لا تقر بأنه رسول إلى جميع الخلق.
    والمقصود هنا: الكلام مع هؤلاء بأن العلم بعموم دعوته لجميع الخلق أهل الكتاب وغيرهم هو متواتر معلوم بالاضطرار كالعلم بنفس مبعثه ودعائه الخلق إلى الإيمان به وطاعته وكالعلم بهجرته من مكة إلى المدينة، ومجيئه بهذا القرآن، والصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق، وإيجاب الصدق والعدل، وتحريم الظلم والفواحش، وغير ذلك مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
    وإن قيل: بل في القرآن ما يقتضي أن رسالته خاصة، وفيه ما يقتضي أن رسالته عامة وهذا تناقض.
    قيل: هذا باطل، ويعلم بطلانه قبل العلم بنبوته ; فإنه من المعلوم لكل أحد آمن به، أو كذبه أنه كان من أعظم الناس عقلا وسياسة وخبرة، وكان مقصوده دعوة الخلق إلى طاعته واتباعه، وكان يقرأ القرآن على جميع الناس، ويأمر بتبليغه إلى جميع الأمم، وكان من طلب منه أن يؤمنه حتى يقرأ عليه القرآن من الكفار وجب عليه أن يجيبه ولو كان مشركا، فكيف إذا كان كتابيا؟ كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} [التوبة: 6].

    وكان قد أظهر أنه مبعوث إلى أهل الكتاب وسائر الخلق، وأنه رسول إلى الثقلين: الجن والإنس، فيمتنع مع هذا أن يظهر ما يدل على أنه لم يبعث إليهم، فإن هذا لا يفعله من له أدنى عقل لمناقضته لمراده، فكيف يفعله من اتفقت عقلاء الأمم على أنه أعقل الخلق وأحسنهم سياسة وشريعة؟
    وأيضا فكان أصحابه والمقاتلون معه بعد ذلك ينفرون عنه، وقد كان عادتهم أن يستشكلوا ما هو دون هذا، وهذا لم يستشكله أحد، ثم بعد هذا فلو قدر أن في القرآن ما يدل على أنه لم يبعث إلا إلى العرب، وفيه ما يدل على أنه بعث إلى سائر الخلق، كان هذا دليلا على أنه أرسل إلى غيرهم بعد أن لم يرسل إلا إليهم، وأن الله عم بدعوته بعد أن كانت خاصة، فلا مناقضة بين هذا وهذا، فكيف وليس في القرآن آية واحدة تدل على اختصاص رسالته بالعرب؟ وإنما فيه إثبات رسالته إليهم، كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش، وليس هذا مناقضا لهذا، وفيه إثبات رسالته إلى أهل الكتاب كقوله تعالى: {ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا} [النساء: 47].
    كما فيه إثبات رسالته إلى بني إسرائيل كقوله: يا بني إسرائيل.
    وليس هذا التخصص لليهود منافيا لذلك التعميم، وفي رسالته خطاب لليهود تارة وللنصارى تارة، وليس خطابه لإحدى الطائفتين ودعوته لها مناقضا لخطابه للأخرى ودعوته لها، وفي كتابه خطاب للذين آمنوا من أمته في دعوته لهم إلى شرائع دينه، وليس في ذلك مناقضة بأن يخاطب أهل الكتاب ويدعوهم، وفي كتابه أمر بقتال أهل الكتاب النصارى، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
    قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29].
    ثم لم يكن هذا مانعا أن يأمر بقتال غيرهم من اليهود والمجوس ; حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، بل هذا الحكم ثابت في المجوس بسنته واتفاق أمته.
    وإن قيل: إنهم ليسوا من أهل الكتاب، فهذا كله مما يعلم بالاضطرار من دينه قبل العلم بنبوته، فكيف ونحن نتكلم على تقدير نبوته، والنبي لا يتناقض قوله؟ وإذا كان العلم بعموم دعوته ورسالته معلوما بالاضطرار قبل العلم بنبوته، وبعد العلم بنبوته، فالعلم الضروري اليقيني لا يعارضه شيء، ولكن هذا شأن الذين في قلوبهم زيغ من أهل البدع: النصارى وغيرهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، وبسبب مناظرة النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم بالمتشابه، وعدولهم عن المحكم أنزل الله تبارك وتعالى فيهم: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} [آل عمران: 7].
    فالتأويل: يراد به تفسير القرآن، ومعرفة معانيه، وهذا يعلمه الراسخون، ويراد به ما استأثر الرب سبحانه وتعالى بعلمه من معرفة كنهه وكنه ما وعد به ووقت الساعة، ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا الله.
    والضلال يذكرون آيات تشتبه عليهم معرفة معانيها، فيتبعون تأويلها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وليسوا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويلها مع أن هؤلاء الآيات من أوضح الآيات.
    وهذا الذي سلكوه في القرآن هو نظير ما سلكوه في الكتب المتقدمة وكلام الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها، فإن فيها من النصوص الكثيرة الصريحة بتوحيد الله وعبودية المسيح ما لا يحصى إلا بكلفة، وفيها كلمات قليلة فيها اشتباه، فتمسكوا بالقليل المتشابه الخفي المشكل من الكتب المتقدمة وتركوا الكثير المحكم المبين الواضح، فهم سلكوا في القرآن ما سلكوه في الكتب المتقدمة، لكن تلك الكتب يقرون بنبوة أصحابها ومحمد صلى الله عليه وسلم هم فيه مضطربون متناقضون، فأي قول قالوه فيه ظهر فساده وكذبهم فيه إذا لم يؤمنوا بجميع ما أنزل إليه.

    (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48)
    قال شيخ الإسلام:
    اعلم رحمك الله أن الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به. قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم {سئل: أي الذنب أعظم؟. قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك}. والند المثل. قال تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون}. وقال تعالى: {وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار}. فمن جعل لله ندا من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة.

    فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته: لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه وتفزع إليه عند الشدائد وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية فكيف يصلح أن يكون إلها؟. قال الله تعالى: {وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين} وقال تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا}. وقال الله تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون}.
    وقال تعالى: {ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين}. وقال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} فالله - سبحانه - هو المستحق أن يعبد لذاته. قال تعالى: {الحمد لله رب العالمين} فذكر (الحمد بالألف واللام التي تقتضي الاستغراق لجميع المحامد فدل على أن الحمد كله لله ثم حصره في قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين}. فهذا تفصيل لقوله: {الحمد لله رب العالمين}. فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه فقوله: {إياك نعبد} إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته: من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهي. {وإياك نستعين} إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكل والتفويض والتسليم لأن الرب - سبحانه وتعالى - هو المالك وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح. والمالك: الذي يتصرف في ملكه كما يشاء.
    فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى قال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} فلا يرى نفعا ولا ضرا ولا حركة ولا سكونا ولا قبضا ولا بسطا ولا خفضا ولا رفعا إلا والله - سبحانه وتعالى - فاعله وخالقه وقابضه وباسطه ورافعه وخافضه فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات. وهو علم صفة الربوبية. والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفيات فالتحقيق بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الإلهية. والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم: يكون بعد كشف علم الربوبية وهو علم التدبير الساري في الأكوان كما قال عز وجل: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}. فإذا تحقق العبد لهذا المشهد ووفقه لذلك بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخلة في مشهد الربوبية.

    ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن: {إياك نعبد وإياك نستعين} لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء كما ذكرنا وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار. وجميع العبوديات داخلة في ذلك. ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء وهو القيام على كل نفس بما كسبت وتصرفه فيها وحكمه عليها فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه وإرادته القادرة فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق وعطل الأمر والنهي والنبوات ومرق من الإسلام مروق السهم من الرمية.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #195
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 193)

    من صــ 281 الى صـ 290



    وإن كان ذلك المشهد قد أدهشه وغيب عقله لقوة سلطانه الوارد وضعف قوة البصيرة أن يجمع بين المشهدين فهذا معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين: الأمر الشرعي ومشهد الأمر الكوني الإرادي وقد زلت في هذا المشهد أقدام كثيرة من السالكين لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين وذلك لأنهم عبدوا الله على مرادهم منه ففنوا بمرادهم عن مراد الحق - عز وجل - منهم لأن الحق يغني بمراده ومحبوبه ولو عبدوا الله على مراده مراده منهم لم ينلهم شيء من ذلك لأن العبد إذا شهد عبوديته ولم يكن مستيقظا لأمر سيده لا يغيب بعبادته عن معبوده ولا بمعبوده عن عبادته بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه كما {قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} والأخرى ينظر بها إلى أمر سيده ليوقعه على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه.
    فإذا تقرر هذا فالشرك إن كان شركا يكفر به صاحبه.

    وهو نوعان: - شرك في الإلهية وشرك في الربوبية. فأما الشرك في الإلهية فهو: أن يجعل لله ندا - أي: مثلا في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب لأنهم أشركوا في الإلهية قال الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} الآية {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} الآية {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} وقال تعالى: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} - إلى قوله - {الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد}.

    {وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين: كم تعبد. قال: ستة في الأرض وواحدا في السماء قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: ألا تسلم فأعلمك كلمات فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي} وأما الربوبية فكانوا مقرين بها قال الله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} وقال: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله} إلى قوله: {فأنى تسحرون} وما اعتقد أحد منهم قط أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبره وإنما كان شركهم كما ذكرنا أن اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئا من دون الله كما يحب الله تعالى فقد أشرك وهذا كقوله: {قالوا وهم فيها يختصمون} {تالله إن كنا لفي ضلال مبين} {إذ نسويكم برب العالمين}. وكذا من خاف أحدا كما يخاف الله أو رجاه كما يرجو الله وما أشبه ذلك.
    وأما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر المعطي المانع الضار النافع الخافض الرافع المعز المذل فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره فقد أشرك بربوبيته. ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك فلينظر إلى المعطي الأول مثلا فيشكره على ما أولاه من النعم وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه لقوله عليه السلام {من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه} لأن النعم كلها لله تعالى كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} وقال تعالى: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك} فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده فالمعطي هو الذي أعطاه وحرك قلبه لعطاء غيره. فهو الأول والآخر.
    ومما يقوي هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف} قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله ولا يضر غيره وكذا جميع ما ذكرنا في مقتضى الربوبية.

    فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم وأراح الناس من لومه وذمه إياهم وتجرد التوحيد في قلبه فقوي إيمانه وانشرح صدره وتنور قلبه ومن توكل على الله فهو حسبه ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله من عرف الناس استراح. يريد - والله أعلم - أنهم لا ينفعون ولا يضرون. وأما الشرك الخفي فهو الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه مثل أن يحب مع الله غيره. فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب لأن هذه تدل على حقيقة المحبة لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب وما أحبه ويكره ما يكرهه ومن صحت محبته امتنعت مخالفته لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة ويدل على نقص المحبة قول الله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} الآية. فليس الكلام في هذا.

    إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله وهو دليل على نقص محبة الله تعالى إذ لو كملت محبته لم يحب سواه. ولا يرد علينا الباب الأول لأن ذلك داخل في محبته.
    وهذا ميزان لم يجر عليك: كلما قويت محبة العبد لمولاه صغرت عنده المحبوبات وقلت، وكلما ضعفت كثرت محبوباته وانتشرت. وكذا الخوف والرجاء وما أشبه ذلك فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئا سواه قال الله تعالى {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله} وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة وكذا الرجاء وغيره. فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا من عصمه الله تعالى. وقد روي أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وطريق التخلص من هذه الآفات كلها الإخلاص لله عز وجل قال الله تعالى {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد ولا زهد إلا بتقوى والتقوى متابعة الأمر والنهي.
    (فصل في ذكر قول المعتزلة في أهل الكبائر، والرد عليهم)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    فلما شاع في الأمة أمر " الخوارج " تكلمت الصحابة فيهم ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم وظهرت بدعتهم في العامة؛
    فجاءت بعدهم " المعتزلة " - الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري وهم: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء الغزال وأتباعهما - فقالوا: أهل الكبائر مخلدون في النار كما قالت الخوارج ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفارا؛ بل فساق ننزلهم منزلة بين منزلتين. وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته وأن يخرج من النار بعد أن يدخلها. قالوا: ما الناس إلا رجلان: سعيد لا يعذب أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر وفاسق ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارا. وهؤلاء يرد عليهم بمثل ما ردوا به على الخوارج.

    فيقال لهم كما أنهم قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له وكافر لا حسنة له قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له وإلى كافر وفاسق لا حسنة له فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة وهو مخلد في النار لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق كما يستحقها المرتد؛ فإن هذا قد أظهر دينه بخلاف المنافق. وقد قال تعالى في كتابه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فجعل ما دون ذلك الشرك معلقا بمشيئته. ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب؛ فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره. كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} فهنا عمم وأطلق لأن المراد به التائب وهناك خص وعلق.

    وقال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} {جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} {الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب}.
    فقد قسم سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها " ثلاثة أصناف ": ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل: " الإسلام " و " الإيمان " و " الإحسان ". كما سنذكره " إن شاء الله ". ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب؛ لكن من تاب كان مقتصدا أو سابقا؛ كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات؛ كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزئ به ويكفر عنه خطاياه كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه} وفي المسند وغيره أنه {لما نزلت هذه الآية: {من يعمل سوءا يجز به} قال أبو بكر: يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا فقال: يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك مما تجزون به}.
    و " أيضا " فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يخرج أقوام من النار بعد ما دخلوها وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار. وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين: " الوعيدية " الذين يقولون: من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها وعلى " المرجئة الواقفة " الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا كما يقول ذلك طوائف من الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره.
    وأما ما يذكر عن " غلاة المرجئة " أنهم قالوا: لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد فلا نعرف قائلا مشهورا من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول. و " أيضا " فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لشارب الخمر المجلود مرات بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته ومعلوم أن من أحب الله ورسوله أحبه الله ورسوله بقدر ذلك.
    وأيضا فإن الذين قذفوا عائشة أم المؤمنين كان فيهم مسطح بن أثاثة وكان من أهل بدر وقد أنزل الله فيه لما حلف أبو بكر أن لا يصله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}. وإن قيل: إن مسطحا وأمثاله تابوا لكن الله لم يشرط في الأمر بالعفو عنهم والصفح والإحسان إليهم التوبة. وكذلك {حاطب بن أبي بلتعة كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم فلما أراد عمر قتله قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟}.
    وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: {لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة} وهذه النصوص تقتضي: أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات ولم يشترط مع ذلك توبة؛ وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا؛ والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل. وإذا قيل: إن هذا لأن أحدا من أولئك لم يكن له إلا صغائر لم يكن ذلك من خصائصه أيضا. وأن هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم و " أيضا " قد دلت نصوص الكتاب والسنة: على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب. " أحدها " التوبة وهذا متفق عليه بين المسلمين قال تعالى:إلا الله ثقلت بتلك السيئات؛ لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات وكما غفر للبغي بسقي الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان وأمثال ذلك كثير.

    " السبب الثالث ": الحسنات الماحية كما قال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} وقال صلى الله عليه وسلم {الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر} وقال: {من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه} وقال:
    {من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه} وقال {من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وقال: {فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر}. وقال: {من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه} وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح. وقال: {الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب}. وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة كما قد جاء في بعض الأحاديث: " ما اجتنبت الكبائر " فيجاب عن هذا بوجوه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #196
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 194)

    من صــ 291 الى صـ 300





    أحدها: أن هذا الشرط جاء في الفرائض. كالصلوات الخمس والجمعة وصيام شهر رمضان وذلك أن الله تعالى يقول: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلا بد أن يكون لها ثواب آخر فإن الله سبحانه يقول: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.
    (الثاني): أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر كما في {قوله صلى الله عليه وسلم غفر له وإن كان فر من الزحف} وفي السنن {أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب. فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار}.
    وفي الصحيحين في {حديث أبي ذر وإن زنى وإن سرق}..
    (الثالث): أن {قوله لأهل بدر ونحوهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم. فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. (الرابع): أنه قد جاء في غير {حديث أن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة فإن أكملها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع بسائر أعماله كذلك}.
    ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب؛ فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جبران ولأنه حينئذ لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات. وهذا لا ينافي من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة مع أن هذا لو كان معارضا للأول لوجب تقديم الأول لأنه أثبت وأشهر وهذا غريب رفعه وإنما المعروف أنه في وصية أبي بكر لعمر؛ وقد ذكره أحمد في " رسالته في الصلاة ".
    وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب عليها. ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبرا لها وإكمالا لها. فلم يكن فيها ثواب نافلة ولهذا قال بعض السلف: النافلة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره يحتاج إلى المغفرة.

    وتأول على هذا قوله: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقا بل قد تكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة. فإن قيل: العبد إذا نام عن صلاة أو نسيها كان عليه أن يصليها إذا ذكرها بالنص والإجماع. فلو كان لها بدل من التطوعات لم يجب القضاء. قيل: هذا خطأ فإن قيل هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال: إذا كان العبد يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل ومعلوم أن العبد عليه أن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ لأن الإخلال بذلك سبب للذم والعقاب وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب كما عليه أن يحتمي من السموم القاتلة وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية.

    والله عليم حكيم رحيم - أمرهم بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته بل جعل لهم أسبابا يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله. ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب قال بعضهم لشيخه: إني أذنب قال: تب قال: ثم أعود، قال: تب قال: ثم أعود، قال: تب قال: إلى متى قال: إلى أن تحزن الشيطان. وفي المسند عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله يحب العبد المفتن التواب}.
    وأيضا فإن من نام عن صلاة أو نسيها فصلاته إذا استيقظ أو ذكرها كفارة لها تبرأ بها الذمة من المطالبة ويرتفع عنه الذم والعقاب ويستوجب بذلك المدح والثواب وأما ما يفعله من التطوعات فلا نعلم القدر الذي يقوم ثوابه مقام ذلك ولو علم فقد لا يمكن فعله مع سائر الواجبات ثم إذا قدر أنه أمر بما يقوم مقام ذلك صار واجبا فلا يكون تطوعا والتطوعات شرعت لمزيد التقرب إلى الله كما قال تعالى. في الحديث الصحيح: {ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} الحديث فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله فإن الله لا يظلم مثقال ذرة بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء: فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلا محسنا. وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلا، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعا كان غالطا في جعله؛ بل يكون من الواجب الذي يستحقونه.
    ومن العجب أن " المعتزلة " يفتخرون بأنهم أهل " التوحيد " و " العدل " وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفيا يستلزم التعطيل والإشراك.
    وأما " العدل الذي وصف الله به نفسه " فهو أن لا يظلم مثقال ذرة وأنه: من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وهم يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطا بذنب واحد من الكبائر وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه فكان وصف الرب سبحانه بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله.

    (الخامس): أن الله لم يجعل شيئا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر كما أنه لم يجعل شيئا يحبط جميع السيئات إلا التوبة. و " المعتزلة مع الخوارج " يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان قال الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فعلق الحبوط بالموت على الكفر وقد ثبت أن هذا ليس بكافر والمعلق بشرط يعدم عند عدمه. وقال تعالى:{ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} وقال تعالى لما ذكر الأنبياء: {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} وقال: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} مطابق لقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به}.

    فإن الإشراك إذا لم يغفر وأنه موجب للخلود في النار لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه، ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال، وقوله: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}. لأن ذلك كفر، وقوله تعالى {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري كراهية أن يحبط أو خشية أن يحبط فنهاهم عن ذلك لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط.
    ولا ريب أن المعصية قد تكون سببا للكفر كما قال بعض السلف المعاصي بريد الكفر؛ فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط؛ كما قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} - وهي الكفر - {أو يصيبهم عذاب أليم} وإبليس خالف أمر الله فصار كافرا؛ وغيره أصابه عذاب أليم. وقد احتجت الخوارج والمعتزلة بقوله تعالى:
    {إنما يتقبل الله من المتقين}قالوا: فصاحب الكبيرة ليس من المتقين فلا يتقبل الله منه عملا فلا يكون له حسنة وأعظم الحسنات الإيمان فلا يكون معه إيمان فيستحق الخلود في النار وقد أجابتهم المرجئة: بأن المراد بالمتقين من يتقي الكفر فقالوا لهم: اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب كقوله تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر} {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} وأيضا فابنا آدم حين قربا قربانا لم يكن المقرب المردود قربانه حينئذ كافرا وإنما كفر بعد ذلك؛ إذ لو كان كافرا لم يتقرب وأيضا فما زال السلف يخافون من هذه الآية ولو أريد بها من يتقي الكفر لم يخافوا وأيضا فإطلاق لفظ المتقين والمراد به من ليس بكافر لا أصل له في خطاب الشارع فلا يجوز حمله عليه.
    و " الجواب الصحيح ": أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال: أخلصه وأصوبه قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة فمن عمل لغير الله - كأهل الرياء - لم يقبل منه ذلك. كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري فأنا بريء منه وهو كله للذي أشركه}. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول} وقال: {لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار} وقال في الحديث الصحيح: {من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد} أي فهو مردود غير مقبول. فمن اتقى الكفر وعمل عملا ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه وإن صلى بغير وضوء لم يقبل منه لأنه ليس متقيا في ذلك العمل وإن كان متقيا للشرك. وقد قال تعالى: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} وفي حديث {عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعذب؟ قال: لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه}.

    وخوف من خاف من السلف أن لا يتقبل منه لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور: وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال الإيمان كقول أحدهم: أنا مؤمن " إن شاء الله " - وصليت - إن شاء الله - لخوف أن لا يكون آتى بالواجب على الوجه المأمور به لا على جهة الشك فيما بقلبه من التصديق؛ لا يجوز أن يراد بالآية: إن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقيا فإن كان قبول العمل مشروطا بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة. بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير لم يخلص من الذنب بل هو متق في حال تخلصه منه. و " أيضا " فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة ثم تاب لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات وهو حين أتى بها كان فاسقا.

    و " أيضا " فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل وغصب وقذف - وكذلك الذمي إذا أسلم - قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه؛ فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم؛ بل يكون مع إسلامه مخلدا وقد كان الناس مسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم ذنوب معروفة وعليهم تبعات فيقبل إسلامهم ويتوبون إلى الله سبحانه من التبعات.
    كما ثبت في الصحيح {أن المغيرة بن شعبة لما أسلم وكان قد رافق قوما في الجاهلية فغدر بهم وأخذ أموالهم وجاء فأسلم فلما جاء عروة بن مسعود عام الحديبية والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف دفعه المغيرة بالسيف فقال: من هذا فقالوا: ابن أختك المغيرة فقال يا غدر ألست أسعى في غدرتك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبله وأما المال فلست منه في شيء} وقد قال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين} وقالوا لنوح: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} {قال وما علمي بما كانوا يعملون} {إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون}. ولا نعرف أحدا من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة.
    السبب الرابع - الدافع للعقاب -: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته فعن عائشة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه}. وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه} رواهما مسلم. وهذا دعاء له بعد الموت. فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقي الذي اجتنب الكبائر وكفرت عنه الصغائر وحده فإن ذلك مغفور له عند المتنازعين. فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت.
    السبب الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر؟ كالصدقة ونحوها فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة واتفاق الأئمة وكذلك العتق والحج. بل قد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: {من مات وعليه صيام صام عنه وليه} وثبت مثل ذلك في الصحيح من صوم النذر من وجوه أخرى ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} لوجهين.

    أحدهما: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه كدعاء الملائكة واستغفارهم له كما في قوله تعالى {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} الآية. ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم كما في قوله تعالى {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} وقوله سبحانه: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول} وقوله عز وجل: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} كدعاء المصلين للميت ولمن زاروا قبره - من المؤمنين -.
    الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه وهذا حق فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه وأما سعي غيره فلا يملكه ولا يستحقه؛ لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به؛ كما أنه دائما يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #197
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 195)

    من صــ 301 الى صـ 310



    وهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب فيرحم الجميع كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل} وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: {من صلى على جنازة فله قيراط؛ ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان؛ أصغرهما مثل أحد} فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له ويرحم الميت أيضا بدعاء هذا الحي له.
    السبب السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي}. وقوله صلى الله عليه وسلم {خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة؛ وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر؛ أترونها للمتقين؟ لا. ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين}.
    السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما يصيب المؤمن من وصب؛ ولا نصب؛ ولا هم؛ ولا حزن؛ ولا غم؛ ولا أذى - حتى الشوكة يشاكها - إلا كفر الله بها من خطاياه}.

    السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما يكفر به الخطايا.
    السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.
    السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد. فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة كان دعواهم أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مخالف لذلك.

    (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51)

    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    ومن جنس موالاة الكفار التي ذم الله بها أهل الكتاب والمنافقين: الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر أو التحاكم إليهم دون كتاب الله كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} وقد عرف أن سبب نزولها شأن كعب بن الأشرف - أحد رؤساء اليهود - لما ذهب إلى المشركين ورجح دينهم على دين محمد وأصحابه.
    والقصة قد ذكرناها في " الصارم المسلول " لما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله ". ونظير هذه الآية قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} الآية. فأخبر أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب الله كما يفعله كثير من اليهود وبعض المنتسبين إلى الإسلام من اتباعهم كتب السحرة - أعداء إبراهيم وموسى - من المتفلسفة ونحوهم وهو كإيمانهم بالجبت والطاغوت؛ فإن الطاغوت هو الطاغي من الأعيان والجبت: هو من الأعمال والأقوال كما قال عمر بن الخطاب: الجبت السحر والطاغوت الشيطان.
    ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {العيافة والطيرة والطرق: من الجبت} رواه أبو داود. وكذلك ما أخبر عن أهل الكتاب بقوله: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} أي: ومن عبد الطاغوت فإن أهل الكتاب كان منهم من أشرك وعبد الطواغيت. فهنا ذكر عبادتهم للطاغوت وفي " البقرة " ذكر اتباعهم للسحر وذكر في " النساء " إيمانهم بهما جميعا: بالجبت والطاغوت.
    وأما التحاكم إلى غير كتاب الله فقد قال: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا}. والطاغوت فعلوت من الطغيان. كما أن الملكوت فعلوت من الملك. والرحموت والرهبوت والرغبوت. فعلوت من الرحمة والرهبة والرغبة. والطغيان: مجاوزة الحد؛ وهو الظلم والبغي. فالمعبود من دون الله إذا لم يكن كارها لذلك: طاغوت؛ ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال: {ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت}.
    والمطاع في معصية الله والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق - سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب الله أو مطاعا أمره المخالف لأمر الله - هو طاغوت؛ ولهذا سمي من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب الله طاغوت وسمى الله فرعون وعادا طغاة وقال في صيحة ثمود: {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية}.

    فمن كان من هذه الأمة مواليا للكفار: من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة ونحوها: مثل إتيانه أهل الباطل واتباعهم في شيء من مقالهم وفعالهم الباطل: كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك؛ وذلك مثل متابعتهم في آرائهم وأعمالهم؛ كنحو أقوال الصابئة وأفعالهم من الفلاسفة ونحوهم المخالفة للكتاب والسنة؛ ونحو أقوال اليهود والنصارى وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة؛ ونحو أقوال المجوس والمشركين وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة. ومن تولى أمواتهم أو أحياءهم بالمحبة والتعظيم والموافقة فهو منهم؛ كالذين وافقوا أعداء إبراهيم الخليل: من الكلدانيين وغيرهم من المشركين عباد الكواكب أهل السحر؛ والذين وافقوا أعداء موسى من فرعون وقومه بالسحر.

    أو ادعى أنه ليس ثم صانع غير الصنعة ولا خالق غير المخلوق ولا فوق السماوات إله كما يقوله الاتحادية وغيرهم من الجهمية. والذين وافقوا الصائبة والفلاسفة فيما كانوا يقولونه في الخالق ورسله: في أسمائه وصفاته والمعاد وغير ذلك. ولا ريب أن هذه الطوائف: وإن كان كفرها ظاهرا فإن كثيرا من الداخلين في الإسلام. حتى من المشهورين بالعلم والعبادة والإمارة قد دخل في كثير من كفرهم وعظمهم ويرى تحكيم ما قرروه من القواعد ونحو ذلك.
    وهؤلاء كثروا في المستأخرين ولبسوا الحق - الذي جاءت به الرسل - بالباطل الذي كان عليه أعداؤهم. والله تعالى: يحب تمييز الخبيث من الطيب والحق من الباطل. فيعرف أن هؤلاء الأصناف: منافقون أو فيهم نفاق؛ وإن كانوا مع المسلمين؛ فإن كون الرجل مسلما في الظاهر لا يمنع أن يكون منافقا في الباطن؛ فإن المنافقين كلهم مسلمون في الظاهر والقرآن قد بين صفاتهم وأحكامهم. وإذا كانوا موجودين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عزة الإسلام مع ظهور أعلام النبوة ونور الرسالة: فهم مع بعدهم عنهما أشد وجودا لا سيما وسبب النفاق هو سبب الكفر وهو المعارض لما جاءت به الرسل.
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وذكر أهل المغازي والتفسير مثل محمد بن إسحاق أن كعب بن الأشرف كان موادعا للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة من وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طي وكانت أمه من بني النضير قالوا: فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا}.
    ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " وذكر قصة قتله مبسوطة.
    وقال الواقدي: حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رمان ومعمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وإبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر وذكر القصة إلى قتله قال: ففزعت يهود ومن معها من المشركين فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا: قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف " ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم وبينه كتابا تحت العذق في دار رملة بنت الحارث فحذرت يهود وخافت وذلت من يوم قتل ابن الأشرف.
    والاستدلال بقتل كعب بن الأشرف من وجهين:
    أحدهما: أنه كان معاهدا مهادنا وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير وهو عندهم من العلم العام الذي يستغنى فيه عن نقل الخاصة.

    ومما لا ريب فيه عند أهل العلم ما قدمناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد لما قدم المدينة جميع أصناف اليهود بني قينقاع والنضير وقريظة ثم نقضت بنو قينقاع عهده فحاربهم ثم نقض عهده كعب بن الأشرف ثم نقض عهده بنو النضير ثم بنو قريظة وكان ابن الأشرف من بني النضير وأمرهم ظاهر في أنهم كانوا مصالحين للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقضوا العهد لما خرج إليهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمر بن أمية الضمري وكان ذلك بعد مقتل كعب بن الأشرف وقد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهد للنبي صلى الله عليه وسلم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جعله ناقضا للعهد بهجائه وأذاه بلسانه خاصة والدليل على أنه إنما نقض العهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " فعلل ندب الناس له بأذاه والأذى المطلق هو باللسان كما قال تعالى: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} وقال تعالى:

    {لن يضروكم إلا أذى} وقال: {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} وقال: {لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا} الآية وقال: {ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي} إلى قوله: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} الآية ثم ذكر الصلاة عليه والتسليم خبرا وأمرا وذلك من أعمال اللسان ثم قال: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} إلى قوله: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات} وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر " وهذا كثير.
    وقد تقدم أن الأذى اسم لقليل الشر وخفيف المكروه بخلاف الضرر فلذلك أطلق على القول لأنه لا يضر المؤذى في الحقيقة.
    وأيضا فإنه جعل مطلق أذى الله ورسوله موجبا لقتل رجل معاهد ومعلوم أن سب الله وسب ورسوله أذى لله ولرسوله وإذا رتب الوصف على الحكم بحرف الفاء دل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان مناسبا وذلك يدل على أن أذى الله ورسوله علة لندب المسلمين إلى قتل من يفعل ذلك من المعاهدين وهذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله ورسوله والسب من أذى الله ورسوله باتفاق المسلمين بل هو أخص أنواع الأذى.
    وأيضا فقد قدمنا في حديث جابر أن أول ما نقض به العهد قصيدته التي أنشأها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هجاه بهذه القصيدة ندب إلى قتله وهذا وحده دليل على أنه إنما نقض العهد بالهجاء لا بذهابه إلى مكة.
    وما ذكره الواقدي عن أشياخه يوضح ذلك ويؤيده وإن كان الواقدي لا يحتج به إذا انفرد لكن لا ريب في علمه بالمغازي واستعلام كثير من تفاصيلها من جهته ولم نذكر عنه إلا ما أسندناه عن غيره.
    فقوله: " لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف " نص في أنه إنما انتقض عهد ابن الأشرف بالهجاء ونحوه وأن من فعل هذا من المعاهدين فقد استحق السيف وحديث جابر المسند من الطريقين يوافق هذا وعليه العمدة في الاحتجاج.
    وأيضا فإنه لما ذهب إلى مكة ورجع إلى المدينة لم يندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى قتله فلما بلغه عنه الهجاء ندبهم إلى قتله والحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث فعلم أن ذلك الهجاء والأذى الذي كان بعد قفوله من مكة موجب لنقض عهده ولقتاله وإذا كان هذا في المهادن الذي لا يؤدي جزية فما الظن بالذمي الذي يعطي الجزية ويلزم أحكام الملة؟.

    فإن قيل: إن ابن الأشرف كان قد أتى بغير السب والهجاء.
    فروى الإمام أحمد قال: ثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى إلى هذا الصنبر المنتبر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية قال: أنتم خير قال: فنزلت فيهم {إن شانئك هو الأبتر} قال: وأنزلت فيه: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} إلى قوله: {نصيرا}.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #198
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 196)

    من صــ 311 الى صـ 320



    وقال: ثنا عبد الرازق قال: قال معمر: أخبرني أيوب عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يغزوه وقال لهم: إنا معكم فقالوا: إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل ثم قالوا له: أنحن أهدى أم محمد؟ نحن نصل الرحم ونقري الضيف ونطوف بالبيت وننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده قال: بل أنتم خير وأهدى قال: فنزلت فيه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}.
    وقال: ثنا عبد الرزاق ثنا إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال: "إن أهل مكة قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم عليهم: ديننا خير أم دين محمد؟ قال: أعرضوا علي دينكم قالوا: نعمر بيت ربنا وننحر الكوماء ونسقي الحاج الماء ونصل الرحم ونقري الضيف قال: دينكم خير من دين محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية".
    قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان كعب بن الأشرف اليهودي وهو أحد بني النضير أو هو فيهم قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء وركب إلى قريش فقدم عليهم فاستعان بهم على رسول الله فقال أبو سفيان: أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق فإنا نطعم الجزور الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال قال ابن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلا ثم خرج مقبلا حتى أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنا بعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهجائه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لنا من ابن الأشرف؟ فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا وقد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا وقد أخبرني الله بذلك ثم قدم على أخبث ما كان ينتظر قريشا أن تقدم فيقاتلنا معهم " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ما أنزل فيه إن كان كذلك والله أعلم قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله: {سَبِيلاً} وآيات معها فيه وفي قريش.
    وذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت " فقال له محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله أاقتله وذكر القصة في قتله إلى آخرها ثم قال: فقتل الله ابن الأشرف بعداوته لله ورسوله وهجائه إياه وتأليبه عليه قريشا وإعلانه بذلك.
    وقال محمد بن إسحاق: كان من حديث كعب بن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى عليه وقتل من قتل من المشركين كما حدثني عبد الله ابن المغيث بن أبي بردة الظفري وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وصالح بن أبي أمامه بن سهل كل واحد قد حدثني بعض حديثه قالوا: كان كعب بن الأشرف من طيء ثم أحد بني نبهان وكانت أمه من بني النضير فقال حين بلغه الخبر:

    أحق هذا الذي يروون أن محمدا قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان؟ يعني زيدا وعبد الله بن رواحة فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمدا أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة ونزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية فأنزلته وأكرمته وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر وذكر شعرا وما رد عليه حسان وغيره ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني عبد الله بن أبي المغيث: "من لي بابن الأشرف؟ " فقال محمد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله وذكر القصة.

    وقال الواقدي: حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان ومعمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وإبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله فكل قد حدثني منه بطائفة فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا: ابن الأشرف كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحرض عليهم كفار قريش في شعره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الحلقة والحصون ومنهم حلفاء للحيين جميعا الأوس والخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشركا فكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذى شديدا فأمر الله نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم وفيهم أنزل: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وفيهم أنزل الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} الآية.
    فلما أبى ابن الأشرف أن يمسك عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء المسلمين وقد بلغ منهم فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين وأسر من أسر منهم ورأى الأسرى مقرنين كبت وذل ثم قال لقومه: ويلكم والله لبطن الأرض خير لكم من ظهرها اليوم هؤلاء سراة الناس قد قتلوا وأسروا فما عندكم؟ قالوا: عداوته ما حيينا قال: وما أنتم وقد وطئ قومه وأصابهم؟ ولكني أخرج إلى قريش فأحضها وأبكي قتلاها لعلهم ينتدبون فأخرج معهم فخرج حتى قدم مكة ووضع رحلة عند أبي وداعة بن أبي صبرة السهمي وتحته عاتكة بنت أسد بن أبي العيص فجعل يرثي قريشا وذكر ما رثاهم به من الشعر وما أجابه به حسان فأخبره بنزول كعب على من نزل فقال حسان فذكر شعرا هجا به أهل البيت الذين نزل فيهم قال: فلما بلغها هجاؤه نبذت رحله وقالت:
    ما لنا ولهذا اليهودي؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان؟ فتحول فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسانا فقال: ابن الأشرف نزل على فلان فلا يزال يهجوهم حتى نبذ رحلة فلما لم يجد مأوى قدم المدينة فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قدوم ابن الأشرف قال: "اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لي من ابن الأشرف فقد آذاني؟ " فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله وأنا أقتله قال: فافعل وذكر الحديث.
    فقد اجتمع لابن الأشرف ذنوب: أنه رثى قتلى قريش وحضهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم وواطأهم على ذلك وأعانهم على محاربته بإخباره أن دينهم خير من دينه وهجا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
    قلنا: الجواب من وجوه:
    أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة وقال ما قال هناك وإنما ندب إلى قتله لما قدم وهجاه كما جاء ذلك مفسرا في حديث جابر المتقدم بقوله: "ثم قدم المدينة معلنا لعداوة النبي صلى الله عليه وسلم" ثم بين أن أول ما قطع به العهد تلك الأبيات التي قالها بعد الرجوع وأن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ندب إلى قتله وكذلك في حديث موسى بن عقبة: " من لنا من ابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا وهجائنا؟ ".
    ويؤيد ذلك شيئان:أحدهما: أن سفيان بن عيينة روى عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن ونفك العناة ونسقي الحجيج ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن خير أم هو؟ فقالوا: بل أنتم خير وأهدى سبيلا فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}.

    وكذلك قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب رجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا في الموسم فقال لهما المشركون: نحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ فإنا أهل السدانة وأهل السقاية وأهل الحرم فقالا: أنتم أهدى من محمد وأصحابه وهما يعلمان أنهما كاذبان إنما محلهما على ذلك حسد محمد وأصحابه فأنزل الله تعالى فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما: إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا وكذا قالا: صدق والله ما حملنا على ذلك إلا حسده وبغضه.

    وهذان مرسلان من وجهين مختلفين فيهما أن كلا الرجلين ذهبا إلى مكة وقالا ما قالا ثم إنهما قدما فندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتل ابن الأشرف وأمسك عن ابن أخطب حتى نقض بنو النضير العهد فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلحق بخيبر ثم جمع عليه الأحزاب فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم فعلم أن الأمر الذي أتياه بمكة لم يكن هو الموجب للندب إلى قتل ابن الأشرف وإنما هو ما اختص به ابن الأشرف من الهجاء ونحوه وإن كان ما فعله بمكة مؤيدا عاضد لكن مجرد الأذى لله ورسوله موجب للندب إلى قتله كما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " وكما بينه جابر في حديثه.
    الوجه الثاني: أن ابن أبي أويس قال حدثني إبراهيم بن جعفر الحارثي عن أبيه عن جابر قال: لما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وبني قريظة كذا فيه: وأحسبه بني قينقاع اعتزل كعب بن الأشرف ولحق بمكة وكان منها: وقال: لا أعين عليه ولا أقاتله فقيل له بمكة: أديننا خير أم دين محمد وأصحابه؟ قال: دينكم خير وأقدم من دين محمد ودين محمد حديث فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربته.
    الجواب الثاني: أن جميع ما أتاه ابن الأشرف إنما هو أذى باللسان فإن مرثيته لقتلى المشركين وتحضيضه وسبه وهجاءه وطعنه في دين الإسلام وتفضيل دين الكفار عليه كله قول باللسان ولم يعمل عملا فيه محاربة ومن نازعنا في سب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه فهو في تفضيل دين الكفار وحضهم باللسان على قتل المسلمين أشد منازعة لأن الذمي إذا تجسس لأهل الحرب وأخبرهم بعورات المسلمين ودعا الكفار إلى قتالهم انتقض عهده أيضا عندنا كما ينتقض عهد الساب ومن قال إن الساب لا ينتقض عهده فإنه يقول لا ينتقض العهد بالتجسس للكفار ومطالعتهم بأخبار المسلمين بطريق الأولى عندهم وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي على خلاف بين أصحابه وابن الأشرف لم يوجد منه إلا الأذى باللسان فقط فهو حجة على من نازع في هذه المسائل ونحن نقول: إن ذلك كله نقض للعهد.
    والجواب الثالث: أن تفضيل دين الكفار على دين المسلمين هو دون سب النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب فإن كون الشيء مفضولا أحسن حالا من كونه مسبوبا مشتوما فإن كان ذلك ناقضا للعهد فالسب بطريق الأولى وأما مرثيته للقتلى وحضهم على أخذ ثأرهم فأكثر ما فيه تهييج قريش على المحاربة وقريش كانوا قد أجمعوا على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم عقب بدر وأرصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الأشرف نعم مرثيته وتفضيله ربما زادهم غيظا ومحاربة لكن سبه للنبي صلى الله عليه وسلم وهجاءه له ولدينه أيضا مما يهيجهم على المحاربة ويغريهم به فعلم أن الهجاء فيه من الفساد ما في غيره من الكلام وأبلغ فإذا كان غيره من الكلام نقضا فهو أن يكون نقضا أولى ولهذا قتل النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من النسوة اللواتي كن يشتمنه ويهجونه مع عفوه عما كانت تعين عليه وتحض على قتاله.

    الجواب الرابع: أن ما ذكره حجة لنا من وجوه أخر وذلك أنه قد اشتهر عند أهل العلم من وجوه كثيرة أن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَاب} نزلت في كعب بن الأشرف بما قاله لقريش وقد أخبر الله سبحانه أنه لعنه وأن من لعنه فلن تجد له نصيرا وذلك دليل على أنه لا عهد له لأنه لو كان له عهد لكان يجب نصره على المسلمين فعلم أن مثل هذا الكلام يوجب انتقاض عهده وعدم ناصره فكيف بما هو أغلظ منه من شتم وسب؟ وإنما لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم بمجرد ذلك ناقضا للعهد لأنه لم يعلن بهذا الكلام ولم يجهر به وإنما أعلم الله به رسوله وحيا كما تقدم بالأحاديث ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ أحدا من المسلمين والمعاهدين إلا بذنب ظاهر فلما رجع إلى المدينة وأعلن الهجاء والعداوة استحق أن يقتل لظهور أذاه وثبوته عند الناس نعم من خيف منه الخيانة فإنه ينبذ إليه العهد أما إجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى تظهر المحاربة وتثبت عليه.

    فإن قيل: كعب بن الأشرف سب النبي صلى الله عليه وسلم بالهجاء والشعر كلام موزون يحفظ ويروى وينشد بالأصوات والألحان ويشتهر بين الناس وذلك له من التأثير في الأذى والصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر حسان أن يهجوهم ويقول: "لهو أنكى فيهم من النبل" فيؤثر هجاءه فيهم أثرا عظيما يمتنعون به من أشياء لا يمتنعون عنها لو سبوا بكلام منثور أضعاف الشعر.
    وأيضا فإن كعب بن الأشرف وأم الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه وكثر والشيء إذا كثر واستمر صار له حال أخرى ليست له إذا انفرد وقد حكيتم أن الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثل هذه الجريمة وإن لم يجيزوا قتل من لم يتكرر منه فإذا ما دل عليه الحديث يمكن المخالف أن يقول به.
    قلنا أولا: إن هذا يفيدنا أن السب في الجملة من الذمي مهدر لدمه ناقض لعهده ويبقى الكلام في الناقض للعهد: هل هو نوع خاص من السب وهو ما كثر أو غلظ أو مطلق السب؟ هذا نظر آخر فما كان مثل هذا السب وجب أن يقال إنه مهدر لدم الذمي حتى لا يسوغ لأحد أن يخالف نص السنة فلو زعم زاعم أن شيئا من كلام الذمي وأذاه يبيح دمه كان مخالفا للسنة الصحيحة الصريحة خلافا لا عذر فيه لأحد.
    وقلنا ثانيا: لا ريب أن الجنس الموجب للعقوبة قد يتغلظ بعض أنواعه صفة أو قدرا أو صفة وقدرا فإنه ليس قتل واحد من الناس مثل قتل والد أو ولد عالم صالح ولا ظلم بعض الناس مثل ظلم يتيم فقير بين أبوين صالحين وليست الجناية في الأوقات والأماكن الأحوال المشرفة كالحرم والإحرام والشهر الحرام كالجناية في غير ذلك وكذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الديات إذا تغلظ القتل بأحد هذه الأسباب وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال:
    "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قيل له: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قيل له: ثم أي؟ قال: "ثم أن تزاني حليلة جارك " ولا شك أن من قطع الطريق مرات متعددة وسفك دماء خلق من المسلمين وكثر منه أخذ الأموال كان جرمه أعظم من جرم من لم يقطعه إلا مرة واحدة ولا ريب أن من أكثر من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو نظم القصائد في سبه فإن جرمه أغلظ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة بحيث يجب أن تكون إقامة الحد عليه أوكد والانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب وإن المقل لو كان أهلا أن يعفى عنه لم يكن هذا أهلا لذلك.
    ولكن هذا الحديث كغيره من الأحاديث يدل على أن جنس الأذى لله ورسوله ومطلق السب الظاهر مهدر لدم الذمي ناقض لعهده وإن كان بعض الأشخاص أغلظ جرما من بعض لتغلظ سبه نوعا أو قدرا وذلك من وجوه:
    أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " فجعل علة الندب إلى قتله أنه آذى الله ورسوله وأذى الله ورسوله اسم مطلق ليس مقيدا بنوع ولا بقدر فيجب أن يكون مطلق أذى الله ورسوله علة للانتداب إلى قتل من فعل ذلك من ذمي وغيره وقليل السب وكثيره ومنظومه ومنثوره أذى بلا ريب فيتعلق به الحكم وهو أمر الله ورسوله بقتله ولو لم يرد هذا المعنى لقال: من لكعب فإنه قد بالغ في أذى الله تعالى ورسوله أو قد أكثر من أذى الله ورسوله أو قد داوم على أذى الله ورسوله وهو صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى ولم يخرج من بين شفتيه صلى الله عليه وسلم إلا حق في غضبه ورضاه.

    وكذلك قوله في الحديث الآخر: "إنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولا يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف " ولم يقيده بالكثره.
    الثاني: أنه آذاه بهجائه المنظوم واليهودية بكلام منثور وكلاهما أهدر دمه فعلم أن النظم ليس له تأثير في أصل الحكم إذ لم يخص ذلك الناظم والوصف إذا ثبت الحكم بدونه كان عديم التأثير فلا يجعل جزاء من العلة ولا يجوز أن يكون هذا من باب تعليل الحكم بعلتين لأن ذلك إنما يكون إذا لم تكن إحداهما مندرجة في الأخرى كالقتل والزنا أما إذا اندرجت إحداهما في الأخرى فالوصف الأعم هو العلة والأخص عديم التأثير.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #199
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 197)

    من صــ 321 الى صـ 330


    الوجه الثالث: أن الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله وكثيره وغليظه وخفيفه في كونه مبيحا للدم سواء كان قولا أو فعلا كالردة والزنا والمحاربة ونحو ذلك وهذا هو قياس الأصول فمن زعم أن من الأقوال أو الأفعال ما يبيح الدم إذا كثر ولا يبيحه مع القلة فقد خرج عن قياس الأصول وليس له ذلك إلا بنص يكون أصلا بنفسه ولا نص يدل على إباحة القتل في الكثير دون القليل وما ذهب إليه المنازع من جواز قتل من كثر منه القتل بالمثقل والفاحشة في الدبر دون القبل إنما هو حكاية مذهب والكلام في الجميع واحد ثم إنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رضخ رأس يهودي بين حجرين لأنه فعل ذلك بجارية من الأنصار فقد قتل من قتل بالمثقل قودا مع أنه لم يتكرر منه وقال في الذي يعمل عمل قوم لوط: " اقتلوا الفاعل والمفعول به " ولم يعتبر التكرر وكذلك أصحابه من بعده قتلوا فاعل ذلك إما رجما أو حرقا أو غير ذلك مع عدم التكرر.
    وإذا كانت الأصول المنصوصة أو المجمع عليها مستوية في إباحة الدم بين المرة الواحدة والمرات المتعددة كان الفرق بينهما في إباحة الدم إثبات حكم بلا أصل ولا نضير له بل على خلاف الأصول الكلية وذلك غير جائز.
    يوضح ذلك: أن ما ينقض الإيمان من الأقوال يستوي فيه واحده وكثيره وإن لم يصرح بالكفر كما لو كفر بآية واحدة أو بفريضة ظاهرة أو بسب الرسول مرة واحدة فإنه كما لو صرح بتكذيب الرسول وكذلك ما ينقض الإيمان من الأقوال لو صرح به وقال: "قد نقضت العهد وبرئت من ذمتك" انتقض عهده بذلك وإن لم يكرره فكذلك ما يستلزم ذلك من السب والطعن في الدين ونحو ذلك لا يحتاج إلى تكرير.

    الوجه الرابع: أنه إذا أكثر من هذه الأقوال والأفعال فإما أن يقتل لأن جنسها مبيح للدم أو لأن المبيح قدر مخصوص فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فما حد ذلك المقدار المبيح للدم؟ وليس لأحد أن يحد في ذلك حدا إلا بنص أو إجماع أو قياس عند من يرى القياس في المقدرات والثلاثة منفية في مثل هذا فإنه ليس في الأصول قول أو فعل يبيح الدم منه عدد مخصوص فلا يبيحه أقل منه ولا ينتقض هذا بالإقرار في الزنا فإنه لا يثبت إلا بأربع مرات عند من يقول به أو القتل بالقسامة فإنه لا يثبت إلا بعد خمسين يمينا عند من يرى القود بها أو رجم الملاعنة فإنه لا يثبت إلا بعد أن يشهد الزوج أربع مرات عند من يرى أنها ترجم بشهادة الزوج إذا نكلت لأن المبيح للدم ليس هو الإقرار ولا الأيمان وإنما المبيح فعل الزنا أو فعل القتل وإنما الإقرار والأيمان حجة ودليل على ثبوت ذلك ونحن لم ننازع في أن الحجج الشرعية لها نصب محدودة وإنما قلنا: "إن نفس القول أو العمل المبيح للدم لا نصاب له في الشرع وإنما الحكم معلق بجنسه".

    الوجه الخامس: أن القتل عند كثرة هذه الأشياء إما أن يكون حدا يجب فعله أو تعزيزا يرجع إلى رأي الإمام فإن كان الأول فلا بد من تحديد موجبه ولا حد له إلا تعليقه بالجنس إذ القول بما سوى ذلك تحكم وإن كان الثاني فليس في الأصول تعزير بالقتل فلا يجوز إثباته إلا بدليل يخصه والعمومات الواردة في ذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث " تدل على ذلك أيضا.
    الوجه الثاني من الاستدلال به: أن النفر الخمسة الذين قتلوه من المسلمين: محمد بن مسلمة وأبا نائلة وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبا عبس بن جبر قد أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتالوه ويخدعوه بكلام يظهرون به أنهم قد آمنوه ووافقوه ثم يقتلوه ومن المعلوم أن من أظهر لكافر أمانا لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه وكلمه على ذلك صار مستأمنا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عمرو بن الحمق: "من آمن رجل على دمه وماله ثم قتله فأنا منه بريء وإن كان المقتول كافرا " رواه الإمام أحمد وابن ماجه.
    وعن سليمان بن صرد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا آمنك الرجل على دمه فلا تقتله " رواه ابن ماجه.
    وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن " رواه أبو داود وغيره.
    وقد زعم الخطابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان ونقض العهد قبل هذا وزعم أن مثل هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغرة لكن يقال: هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمنا وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمنا بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله ومن حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان ولا عهد كما لو آمن المسلم من وجب قتله لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل أو آمن من وجب قتله لأجل زناه أو آمن من وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام ونحو ذلك ولا يجوز أن يعقد له عقد عهد سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة لأن قتله حد من الحدود وليس قتله لمجرد كونه كافرا حربيا كما سيأتي وأما الإغارة والبيات فليس هناك قول أو فعل صاروا به آمنين ولا اعتقدوا أنهم قد أومنوا بخلاف قصة كعب بن الأشرف فثبت أن أذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يحقن معه الدم بالأمان فأن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة والهدنة المؤقتة بطريق الأولى فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر ويعقده كل مسلم ولا يشرط على المستأمن شيء من الشروط والذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه ولا يعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة:

    من التزام الصغار ونحوه وقد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الأشرف فظن أن دم مثل هذا يعصم بذمة متقدمة أو بظاهر أمان وذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء حتى ظن أن العهد لا ينتقض بذلك فروى ابن وهب: أخبرني سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سفيان بنى سعيد الثوري عن أبيه عن عباية قال: ذكر قتل ابن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين: كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة: يا معاوية أيغدر عندك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تنكر؟ والله لا يظلني وإياك سقف بيت أبدا ولا يخلوا لي دم هذا إلا قتلته.

    وقال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: قال مروان بن الحكم وهو على المدينة وعنده ابن يامين النظري: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين: كان غدرا ومحمد بن مسلمة جالس شيخ كبير فقال: يا مروان أيغدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد وأما أنت يا ابن يامين فالله علي إن أفلت وقدرت عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر وإلا لم ينزل فبينا محمد في جنازة وابن يامين في البقيع فرأى محمد يغشى عليه جرائد يظنه لا يراه فعاجله فقام إليه الناس فقالوا: يا أبا عبد الرحمن ما تصنع؟ نحن نكفيك فقام إليه فلم يزل بضربه به جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه ورأسه حتى لم يترك به مصحا ثم أرسله ولا طباخ به ثم قال: والله لو قدرت على السيف لضربتك به.
    فإن قيل: فإذا كان هو وبنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق قال: حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن أبيها محيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه" فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود إذا ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله قتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله إن كان لأول إسلام حويصة فقال محيصة: فقلت له: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال حويصة: والله إن دينا بلغ منك هذا لعجب.
    وقال الواقدي بالأسانيد المتقدمة: قالوا: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه " فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطلقوا وخافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف وذكر قتل ابن سنينة إلى أن قال: وفزعت يهود ومن معها من المشركين وساق القصة كما تقدم عنه.

    فإن هذا يدل على أنهم لم يكونوا موادعين وإلا لما أمر بقتل من صودف منهم ويدل هذا على أن العهد الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين اليهود كان بعد قتل بن الأشرف وحينئذ فلا يكون ابن الأشرف معاهدا.
    قلنا: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من ظفر به منهم لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم وقد تقدم أنه قال: ما عندكم؟ يعني في النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: عداوته ما حيينا وكانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله وكان مما يهيجهم على المحاربة وإظهار نقض العهد نقض العهد انتصارهم للمقتول وذبهم عنه واما من قر فهو مقيم على عهده المتقدم لأنه لم يظهر العداوة ولهذا لم يحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك وأما هذا الكتاب فهو شيء ذكره الواقدي وحده.

    وقد ذكر هو أيضا أن قتل ابن الأشرف في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأن غزوة بني قنيقاع كانت قبل ذلك في شوال سنة اثنتين بعد بدر بنحو شهر.
    وذكر أن الكتاب الذي وادع فيه النبي صلى الله عليه وسلم اليهود كلها كان لما قدم المدينة قبل بدر وعلى هذا فيكون هذا كتابا ثانيا خاصا لبني النضير تجدد فيه العهد الذي بينه وبينهم غير الكتاب الأول الذي كتبه بينه وبين جميع اليهود لأجل ما كانوا قد أرادوا من إظهار العداوة.
    وقد تقدم أن ابن الأشرف كان معاهدا وتقدم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب الكتاب لما قدم المدينة في أوائل الأمر والقصة تدل على ذلك وإلا لما جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكوا إليه قتل صاحبهم ولو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله وكلهم ذكر أن قتل ابن الأشرف كان بعد بدر وأن معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قبل بدر كما ذكره الواقدي.
    قال ابن إسحاق: "وكان فيما بين ذلك من غزو النبي صلى الله عليه وسلم أمر بني قينقاع يعني فيما بين بدر وغزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الأولى وقد ذكر أن بني قينقاع هم أول من حارب ونقض العهد".
    (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    قوله تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58) ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)}.
    قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور؛ عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم؛ عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك؛ إلا أن يأمروا بمعصية الله فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله؛ لأن ذلك من طاعة الله ورسوله وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله. قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل: فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة.
    فصل:
    أما أداء الأمانات ففيه نوعان:
    أحدهما الولايات: وهو كان سبب نزول الآية. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة طلبها منه العباس. ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية فدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة. فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل قال النبي صلى الله عليه وسلم {من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله}. وفي رواية: {من ولى رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين} رواه الحاكم في صحيحه. وروى بعضهم أنه من قول عمر: لابن عمر روي ذلك عنه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين ".
    وهذا واجب عليه. فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار؛ من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة ونحوهم ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر الصغار والكبار وولاة الأموال: من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين. وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده؛ وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمراء الحاج والبرد والعيون الذين هم القصاد وخزان الأموال وحراس الحصون والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن ونقباء العساكر الكبار والصغار وعرفاء القبائل والأسواق ورؤساء القرى الذين هم " الدهاقين ".
    فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو سبق في الطلب؛بل يكون ذلك سببا للمنع؛ فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية؛ فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه}. {وقال لعبد الرحمن بن سمرة: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها؛ وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها} أخرجاه في الصحيحين وقال صلى الله عليه وسلم {من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه؛ أنزل الله عليه ملكا يسدده}. رواه أهل السنن.

    فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو ولاء عتاقة أو صداقة أو مرافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس: كالعربية والفارسية والتركية والرومية؛ أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة؛ أو غير ذلك من الأسباب أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} ثم قال: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #200
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,804

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 198)

    من صــ 331 الى صـ 340


    فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته؛ وكذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه؛ بأخذ ما لا يستحقه أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات. فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته. ثم إن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه يثبته الله فيحفظه في أهله وماله بعده والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله ويذهب ماله. وفي ذلك الحكاية المشهورة؛ أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز؛ قيل له: يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم - وكان في مرض موته - فقال: أدخلوهم علي؛ فأدخلوهم؛ وهم بضعة عشر ذكرا ليس فيهم بالغ فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال لهم: يا بني والله ما منعتكم حقا هو لكم ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم؛ وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين؛ وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله قوموا عني. قال: فلقد رأيت بعض بنيه حمل على مائة فرس في سبيل الله؛ يعني أعطاها لمن يغزو عليها.

    قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق بلاد الترك إلى أقصى المغرب بلاد الأندلس وغيرها ومن جزائر قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها إلى أقصى اليمن. وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئا يسيرا يقال: أقل من عشرين درهما - قال وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار؛ ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه - وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله؛ ما فيه عبرة لكل ذي لب. وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع:

    مثل ما تقدم ومثل {قوله لأبي ذر رضي الله عنه في الإمارة: إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها} رواه مسلم. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قيل يا رسول الله: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة}.
    وقد أجمع المسلمون على معنى هذا؛ فإن وصي اليتيم وناظر الوقف ووكيل الرجل في ماله؛ عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح كما قال الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}. ولم يقل إلا بالتي هي حسنة. وذلك لأن الوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛فالإمام الذي على الناس راع؛ وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته؛ والعبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته؛ ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}. أخرجاه في الصحيحين وقال صلى الله عليه وسلم {ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} رواه مسلم. ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان فقال: السلام عليك أيها الأجير؛ فقالوا: قل السلام عليك أيها الأمير. فقال السلام عليك أيها الأجير. فقالوا: قل: السلام عليك أيها الأمير. فقال السلام عليك أيها الأجير. فقالوا قل السلام عليك أيها الأمير. فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول.

    فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها؛ فإن أنت هنأت جرباها وداويت مرضاها وحبست أولاها على أخراها: وفاك سيدها أجرك وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها؛ ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها. وهذا ظاهر في الاعتبار؛ فإن الخلق عباد الله والولاة نواب الله على عباده وهم وكلاء العباد على نفوسهم؛ بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر؛ ففيهم معنى الولاية والوكالة؛ ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلا وترك من هو أصلح للتجارة أو العقار منه وباع السلعة بثمن وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن؛ فقد خان صاحبه لا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قرابة فإن صاحبه يبغضه ويذمه ويرى أنه قد خانه وداهن قريبه أو صديقه.

    فصل:
    اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها. فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة؛ قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضررا فيها؛ فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع - وإن كان فيه فجور - على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا؛ كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: إما الفاجر القوي فقوله للمسلمين وفجوره على نفسه؛ وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر.
    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. وروي بأقوام لا خلاق لهم}. وإن لم يكن فاجرا كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم وقال: {إن خالد سيف سله الله على المشركين}. مع أنه أحيانا قد كان يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه - مرة - قام ثم رفع يديه إلى السماء وقال: {اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد} لما أرسله إلى بني جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة ولم يكن يجوز ذلك وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن أموالهم؛ ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره وفعل ما فعل بنوع تأويل.

    كان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق؛ ومع هذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم {يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم} رواه مسلم. نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفا مع أنه قد روى: {ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر}. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص في غزوة " ذات السلاسل - استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم - على من هم أفضل منه. وأمر أسامة بن زيد؛ لأجل طلب ثأر أبيه. كذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان.

    وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه ما زال يستعمل خالدا في حرب أهل الردة وفي فتوح العراق والشام وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى فلم يعزله من أجلها؛ بل عاتبه عليها؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه وأن غيره لم يكن يقوم مقامه؛ لأن المتولي الكبير إذا كان خلقه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة؛ وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين؛ ليعتدل الأمر. ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يؤثر استنابة خالد؛ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لأن خالدا كان شديدا كعمر بن الخطاب وأبا عبيدة كان لينا كأبي بكر؛ وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه؛ ليكون أمره معتدلا ويكون بذلك من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو معتدل؛ حقا قال النبي صلى الله عليه وسلم {أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة} وقال: {أنا الضحوك القتال}.
    وأمته وسط قال الله تعالى فيهم: {أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} وقال تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}. ولهذا لما تولى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صارا كاملين في الولاية واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من لين أحدها وشدة الآخر حتى قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم {اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر}. وظهر من أبي بكر من شجاعة القلب في قتال أهل الردة وغيرهم: ما برز به على عمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
    وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين: مثل حفظ الأموال ونحوها؛ فأما استخراجها وحفظها فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولى عليها شاد قوي يستخرجها بقوته وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته. وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أهل العلم والدين جمع بين المصلحتين؛ وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد؛ فلا بد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام.
    فصل:
    وأهم ما في هذا الباب معرفة الأصلح وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود؛ فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر. فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا؛ دون الدين؛ قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد وكان من يطلب رئاسة نفسه يؤثر تقديم من يقيم رئاسته؛ وقد كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم: هم أمراء الحرب الذين هم نواب ذي السلطان على الأجناد؛ ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة قدمه المسلمون في إمارة الحرب وغيرها.
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على حرب كان هو الذي يؤمره للصلاة بأصحابه وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبي العاص على الطائف وعليا ومعاذا وأبا موسى على اليمن وعمرو بن حزم على نجران: كان نائبه هو الذي يصلي بهم ويقيم فيهم الحدود وغيرها مما يفعله أمير الحرب وكذلك خلفاؤه بعده ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين؛ وذلك لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد؛ ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد وكان إذا عاد مريضا يقول: {اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا}.

    {ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال: يا معاذ إن أهم أمرك عندي الصلاة}. وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: " إن أهم أموركم عندي الصلاة؛ فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة " {. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} الصلاة عماد الدين {. فإذا أقام المتولي عماد الدين: فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات كما قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} وقال لنبيه: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا؛ وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم. وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه؛ وعقوبات المعتدين فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: " إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيأكم "}. فلما تغيرت الرعية من وجه والرعاة من وجه؛ تناقضت الأمور.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •