تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 12 من 14 الأولىالأولى ... 234567891011121314 الأخيرةالأخيرة
النتائج 221 إلى 240 من 262

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #221
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 219)

    من صــ 41 الى صـ 50


    وهذا المعنى قد ذكره الله في غير موضع يذم من يشرك به بعد كشف البلاء عنه وإسباغ النعماء عليه فيضيف العبد - بعد ذلك - الإنعام إلى غيره. ويعبد غيره تعالى. ويجعل المشكور غيره على النعم كما قال تعالى {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون} {ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون} وقال تعالى {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين} {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون} وقال تعالى {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار}.
    وقوله {نسي ما كان يدعو إليه} أي نسي الضر الذي كان يدعو الله لدفعه عنه كما قال في سورة الأنعام {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} {بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون}. فذم الله سبحانه حزبين: حزبا لا يدعونه في الضراء. ولا يتوبون إليه. وحزبا يدعونه ويتضرعون إليه ويتوبون إليه. فإذا كشف الضر عنهم: أعرضوا عنه وأشركوا به ما اتخذوهم من الأنداد من دونه. فهذا الحزب نوعان - كالمعطلة والمشركة - حزب إذا نزل بهم الضر لم يدعوا الله ولم يتضرعوا إليه ولم يتوبوا إليه كما قال {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} وقال تعالى {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} وقال تعالى {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} وقال تعالى {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} وحزب يتضرعون إليه في حال الضراء.

    ويتوبون إليه. فإذا كشفها عنهم: أعرضوا عنه كما قال تعالى {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} وقال تعالى {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} وقال تعالى {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} وقال في المشركين ما تقدم {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون}. والممدوح: هو القسم الثالث. وهم الذين يدعونه ويتوبون إليه. ويثبتون على عبادته والتوبة إليه في حال السراء. فيعبدونه ويطيعونه في السراء والضراء. وهم أهل الصبر والشكر كما ذكر ذلك عن أنبيائه عليهم السلام. فقال تعالى {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} وقال تعالى {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب}

    {قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} وقال تعالى {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} {إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط} {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب} {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} وقال تعالى عن آدم وحواء {فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وقال: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}.
    وقال تعالى عن المؤمنين الذين قتل نبيهم {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}. وقوله " قتل " أي النبي قتل. هذا أصح القولين. وقوله {معه ربيون كثير} جملة في موضع الخبر صفة للنبي - صفة بعد صفة - أي كم من نبي معه ربيون كثير قتل ولم يقتلوا معه. فإنه كان يكون المعنى: أنه قتل وهم معه. والمقصود: أنه كان معه ربيون كثير وقتل في الجملة. وأولئك الربيون {ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا}.

    و " الربيون " الجموع الكثيرة. وهم الألوف الكثيرة. وهذا المعنى: هو الذي يناسب سبب النزول وهو ما أصابهم يوم أحد لما قيل: " إن محمدا قد قتل " وقد قال قبل ذلك {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} وهي التي تلاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم. وقال " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ".

    فإنه عند قتل النبي وموته: تحصل فتنة عظيمة للناس - المؤمنين والكافرين - وتحصل ردة ونفاق لضعف قلوب أتباعه لموته ولما يلقيه الشيطان في قلوب الكافرين: إن هذا قد انقضى أمره وما بقي يقوم دينه. وأنه لو كان نبيا لما قتل وغلب. ونحو ذلك. فأخبر الله تعالى: أنه كم من نبي قتل؟ . فإن بني إسرائيل قتلوا كثيرا من الأنبياء. والنبي معه ربيون كثير أتباع له. وقد يكون قتله في غير حرب ولا قتال. بل يقتل وقد اتبعه ربيون كثير. فما وهن المؤمنون لما أصابهم بقتله وما ضعفوا. وما استكانوا. والله يحب الصابرين. ولكن استغفروا لذنوبهم التي بها تحصل المصائب - فما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم - وسألوا الله أن يغفر لهم وأن يثبت أقدامهم فيثبتهم على الإيمان والجهاد لئلا يرتابوا. ولا ينكلوا عن الجهاد. قال تعالى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} وسألوه أن ينصرهم على القوم الكافرين.
    سألوا ربهم ما يفعل لهم في أنفسهم من التثبيت وما يعطيهم من عنده من النصر. فإنه هو الناصر وحده. وما النصر إلا من عند الله. وكذا أنزل الملائكة عونا لهم. قال تعالى لما أنزل الملائكة {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} وقال تعالى {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين} وهذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا: أنه لما كانت الحسنة من إحسانه تعالى والمصائب من نفس الإنسان - وإن كانت بقضاء الله وقدره - وجب على العبد أن يشكر ربه سبحانه وأن يستغفره من ذنوبه. وألا يتوكل إلا عليه وحده. فلا يأتي بالحسنات إلا هو. فأوجب ذلك للعبد: توحيده والتوكل عليه وحده والشكر له وحده والاستغفار من الذنوب.
    وهذه الأمور كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمعها في الصلاة. كما ثبت عنه في الصحيح {أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد} فهذا حمد وهو شكر لله تعالى. وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد. ثم يقول بعد ذلك {اللهم لا مانع لما أعطيت.

    ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد}. وهذا تحقيق لوحدانيته: لتوحيد الربوبية. خلقا وقدرا وبداية وهداية. هو المعطي المانع. لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولتوحيد الإلهية - شرعا وأمرا ونهيا - وهو أن العباد وإن كانوا يعطون ملكا وعظمة وبختا ورياسة في الظاهر أو في الباطن كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة {فلا ينفع ذا الجد منك الجد} أي لا ينجيه ولا يخلصه من سؤالك وحسابك حظه وعظمته وغناه. ولهذا قال {لا ينفعه منك} ولم يقل " لا ينفعه عندك " فإنه لو قيل ذلك: أوهم أنه لا يتقرب به إليك لكن قد لا يضره. فيقول صاحب الجد: إذا سلمت من العذاب في الآخرة فما أبالي كالذين أوتوا النبوة والملك لهم ملك في الدنيا وهم من السعداء فقد يظن ذو الجد - الذي لم يعمل بطاعة الله من بعده - أنه كذلك. فقال {ولا ينفع ذا الجد منك} ضمن " ينفع " معنى " ينجي ويخلص " فبين أن جده لا ينجيه من العذاب.

    بل يستحق بذنوبه ما يستحقه أمثاله ولا ينفعه جده منك. فلا ينجيه ولا يخلصه. فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد وتحقيق قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} وقوله {فاعبده وتوكل عليه} وقوله {عليه توكلت وإليه أنيب} وقوله {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا}. فقوله {لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت} توحيد الربوبية الذي يقتضي: أنه سبحانه: هو الذي يسأل ويدعى ويتوكل عليه. وهو سبب لتوحيد الإلهية ودليل عليه. كما يحتج به في القرآن على المشركين. فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد - توحيد الربوبية - ومع هذا يشركون بالله. فيجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله. ويقولون: إنهم شفعاؤنا عنده وإنهم يتقربون بهم إليه. فيتخذونهم شفعاء وقربانا كما قال تعالى {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} وقال تعالى {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقال تعالى {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون} {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون}.
    وهذا التوحيد: هو عبادة الله وحده لا شريك له. وأن لا نعبده إلا بما أحبه وما رضيه. وهو ما أمر به وشرعه على ألسن رسله - صلوات الله عليهم - فهو متضمن لطاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من كل ما سواهما. وهو يتضمن: أن يحب الله حبا لا يماثله ولا يساويه فيه غيره بل يقتضي: أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه. فإذا كان الرسول - لأجل أنه رسول الله - يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه فكيف بربه سبحانه وتعالى؟ .
    وفي صحيح البخاري {أن عمر قال يا رسول الله والله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: فوالذي بعثك بالحق إنك لأحب إلي من نفسي قال: الآن يا عمر}. وقد قال تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}. فإن لم يكن الله ورسوله والجهاد في سبيله: أحب إلى العبد من الأهل والمال - على اختلاف أنواعه - فإنه داخل تحت هذا الوعيد.

    فهذا التوحيد - توحيد الإلهية - يتضمن فعل المأمور وترك المحظور. ومن ذلك: الصبر على المقدور كما أن الأول يتضمن الإقرار بأنه لا خالق ولا رازق ولا معطي ولا مانع إلا الله وحده. فيقتضي: أن لا يسأل العبد غيره ولا يتوكل إلا عليه ولا يستعين إلا به كما قال تعالى في النوعين {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال {فاعبده وتوكل عليه}.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #222
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 220)

    من صــ 51 الى صـ 60


    وهذا التوحيد: هو الفارق بين الموحدين والمشركين. وعليه يقع الجزاء والثواب في الأولى والآخرة. فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين. فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. أما توحيد الربوبية: فقد أقر به المشركون وكانوا يعبدون مع الله غيره ويحبونهم كما يحبونه. فكان ذلك التوحيد - الذي هو توحيد الربوبية - حجة عليهم. فإذا كان الله هو رب كل شيء ومليكه ولا خالق ولا رازق إلا هو. فلماذا يعبدون غيره معه وليس له عليهم خلق ولا رزق ولا بيده لهم منع ولا عطاء بل هو عبد مثلهم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فإن قالوا " ليشفع " فقد قال الله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فلا يشفع من له شفاعة - من الملائكة والنبيين - إلا بإذنه.
    وأما قبورهم - وما نصب عليها من قباب وأنصاب - أو تماثيلهم - التي مثلت على صورهم مجسدة أو مرقومة - فجعل الاستشفاع بها استشفاعا بهم فهذا باطل عقلا وشرعا. فإنها لا شفاعة لها بحال ولا لسائر الأصنام التي عملت للكواكب والجن والصالحين وغيرهم.
    وإذا كان الله لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يشفعون إلا لمن ارتضى: فما بقي الشفعاء شركاء كشفاعة المخلوق عند المخلوق. فإن المخلوق يشفع عنده نظيره - أو من هو أعلى منه أو دونه - بدون إذن المشفوع إليه. ويقبل المشفوع إليه ولا بد شفاعته: إما لرغبته إليه أو فيما عنده من قوة أو سبب ينفعه به أو يدفع عنه ما يخشاه وإما لرهبته منه وإما لمحبته إياه وإما للمعاوضة بينهما والمعاونة وإما لغير ذلك من الأسباب. وتكون شفاعة الشفيع: هي التي حركت إرادة المشفوع إليه وجعلته مريدا للشفاعة بعد أن لم يكن مريدا لها.

    كأمر الآمر الذي يؤثر في المأمور. فيفعل ما أمره به بعد أن لم يكن مريدا لفعله. وكذلك سؤال المخلوق للمخلوق: فإنه قد يكون محركا له إلى فعل ما سأله. فالشفيع: كما أنه شافع للطالب شفاعته في الطلب. فهو أيضا قد شفع المشفوع إليه. فبشفاعته صار المشفوع إليه فاعلا للمطلوب. فقد شفع الطالب والمطلوب. والله تعالى وتر لا يشفعه أحد. فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فالأمر كله إليه وحده. فلا شريك له بوجه. ولهذا ذكر سبحانه نفي ذلك في آية الكرسي التي فيها تقرير التوحيد. فقال {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}. وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. إذا سجد وحمد ربه. يقال له " ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فيحد له حدا. فيدخلهم الجنة " فالأمر كله لله. كما قال {قل إن الأمر كله لله} وقال لرسوله {ليس لك من الأمر شيء} وقال {ألا له الخلق والأمر}.

    فإذا كان لا يشفع عند الله أحد إلا بإذنه. فهو يأذن لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول الشفاعة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء}. وإذا دعاه الداعي وشفع عنده الشفيع. فسمع الدعاء وقبل الشفاعة: لم يكن هذا مؤثرا فيه. كما يؤثر المخلوق في المخلوق. فإنه سبحانه هو الذي جعل هذا يدعو وهذا يشفع. وهو الخالق لأفعال العباد. فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها. وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه عليه. وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه. فما يؤثر فيه شيء من المخلوقات. بل هو سبحانه الذي جعل ما يفعله سببا لما يفعله. وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر وأن الله خالق كل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولا يكون شيء إلا بمشيئته.
    وهو خالق أفعال العباد كما هو خالق سائر المخلوقات. قال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد. ولكن هذا يناقض قول القدرية. فإنهم إذا جعلوا العبد هو الذي يحدث ويخلق أفعاله بدون مشيئة الله وخلقه: لزمهم أن يكون العبد قد جعل ربه فاعلا لما لم يكن فاعلا له. فبدعائه جعله مجيبا له وبتوبته جعله قابلا للتوبة وبشفاعته جعله قابلا للشفاعة. وهذا يشبه قول من جعل المخلوق يشفع عند الله بغير إذنه. فإن " الإذن " نوعان: إذن بمعنى المشيئة والخلق وإذن بمعنى الإباحة والإجازة. فمن الأول: قوله في السحر {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} فإن ذلك بمشيئة الله وقدرته. وإلا فهو لم يبح السحر.

    والقدرية تنكر هذا " الإذن " وحقيقة قولهم: إن السحر يضر بدون إذن الله. وكذلك قوله {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} فإن الذي أصابهم من القتل والجراح والتمثيل والهزيمة: إذا كان بإذنه فهو خالق لأفعال الكفار ولأفعال المؤمنين. والنوع الثاني: قوله {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} {وداعيا إلى الله بإذنه} وقوله {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} فإن هذا يتضمن إباحته لذلك وإجازته له ورفع الجناح والحرج عن فاعله مع كونه بمشيئته وقضائه. فقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} هو هذا الإذن الكائن بقدره وشرعه.

    ولم يرد بمجرد المشيئة والقدر. فإن السحر وانتصار الكفار على المؤمنين كان بذلك الإذن. فمن جعل العباد يفعلون أفعالهم بدون أن يكون الله خالقا لها وقادرا عليها ومشيئا لها فعنده: كل شافع وداع قد فعل ما فعل بدون خلق الله وقدرته وإن كان قد أباح الشفاعة. وأما الكفر والسحر وقتال الكفار: فهو عندهم بغير إذنه لا هذا الإذن ولا هذا الإذن. فإنه لم يبح ذلك باتفاق المسلمين. وعندهم: أنه لم يشأه ولم يخلقه. بل كان بدون مشيئته وخلقه. والمشركون المقرون بالقدر يقولون: إن الشفعاء يشفعون بالإذن القدري وإن لم يأذن لهم إباحة وجوازا. ومن كان مكذبا بالقدر - مثل كثير من النصارى - يقولون: إن شفاعة الشفعاء بغير إذن لا قدري ولا شرعي. والقدرية من المسلمين يقولون: يشفعون بغير إذن قدري.
    ومن سأل الله بغير إذنه الشرعي: فقد شفع عنده بغير إذن قدري ولا شرعي. فالداعي المأذون له في الدعاء: مؤثر في الله عندهم. لكن بإباحته. والداعي غير المأذون له: إذا أجاب دعاءه فقد أثر فيه عندهم لا بهذا الإذن ولا بهذا الإذن كدعاء بلعام بن باعوراء وغيره. والله تعالى يقول {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فإن قيل: فمن الشفعاء من يشفع بدون إذن الله الشرعي وإن كان خالقا لفعله - كشفاعة نوح لابنه وشفاعة إبراهيم لأبيه وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي ابن سلول حين صلى عليه بعد موته. وقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} قد قلتم: إنه يعم النوعين. فإنه لو أراد الإذن القدري: لكان كل شفاعة داخلة في ذلك كما يدخل في ذلك كل كفر وسحر. ولم يكن فرق بين ما يكون بإذنه وما لا يكون بإذنه. ولو أراد الإذن الشرعي فقط: لزم قول القدرية. وهؤلاء قد شفعوا بغير إذن شرعي؟.
    قيل: المنفي من الشفاعة بلا إذن: هي الشفاعة التامة وهي المقبولة كما في قول المصلي " سمع الله لمن حمده " أي استجاب له. وكما في قوله تعالى {هدى للمتقين} وقوله {إنما أنت منذر من يخشاها} وقوله {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} ونحو ذلك. فإن الهدى والإنذار والتذكير والتعليم لا بد فيه من قبول المتعلم. فإذا تعلم حصل له التعليم المقصود. وإلا قيل: علمته فلم يتعلم. كما قيل {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} فكذلك الشفاعة.

    فالشفاعة: مقصودها قبول المشفوع إليه - وهي الشفاعة التامة. فهذه هي التي لا تكون إلا بإذنه. وأما إذا شفع شفيع فلم تقبل شفاعته: كانت كعدمها وكان على صاحبها التوبة والاستغفار منها. كما قال نوح {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} وكما نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين. وقال له {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} وقال له {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم}. ولهذا قال على لسان المشركين {فما لنا من شافعين} {ولا صديق حميم}. فالشفاعة المطلوبة: هي شفاعة المطاع الذي تقبل شفاعته. وهذه ليست لأحد عند الله إلا بإذنه قدرا وشرعا.

    فلا بد أن يأذن فيها. ولا بد أن يجعل العبد شافعا. فهو الخالق لفعله والمبيح له كما في الداعي: هو الذي أمره بالدعاء وهو الذي يجعل الداعي داعيا فالأمر كله لله خلقا وأمرا. كما قال {ألا له الخلق والأمر}. وقد روي في حديث - ذكره ابن أبي حاتم وغيره - أنه قال {فمن يثق به فليدعه} أي فلم يبق لغيره لا خلق ولا أمر. ولما كان المراد بالشفاعة المثبتة: هي الشفاعة المطلقة وهي المقصود بالشفاعة وهي المقبولة بخلاف المردودة. فإن أحدا لا يريدها لا الشافع ولا المشفوع له ولا المشفوع إليه. ولو علم الشافع والمشفوع له أنها ترد: لم يفعلوها. والشفاعة المقبولة: هي النافعة. بين ذلك في مثل قوله {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقوله {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} فنفى الشفاعة المطلقة وبين أن الشفاعة لا تنفع عنده إلا لمن أذن له.
    وهو الإذن الشرعي بمعنى: أباح له ذلك. وأجازه. كما قال تعالى {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} وقوله {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} وقوله {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} ونحو ذلك. وقوله {إلا لمن أذن له} هو إذن للمشفوع له. فلا يأذن في شفاعة مطلقة لأحد. بل إنما يأذن في أن يشفعوا لمن أذن لهم في الشفاعة فيه. قال تعالى {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا} {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} وفيه قولان: قيل: إلا شفاعة من أذن له الرحمن. وقيل: لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن. فهو الذي تنفعه الشفاعة. وهذا هو الذي يذكره طائفة من المفسرين. لا يذكرون غيره لأنه لم يقل " لا تنفع إلا من أذن له " ولا قال " لا تنفع الشفاعة إلا فيمن أذن له " بل قال {لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له} فهي لا تنفع ولا ينتفع بها ولا تكون نافعة إلا للمأذون لهم. كما قال تعالى في الآية الأخرى {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}. ولا يقال: لا تنفع إلا لشفيع مأذون له.

    بل لو أريد هذا لقيل: لا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له. وإنما قال {إلا لمن أذن له} وهو المشفوع له الذي تنفعه الشفاعة. وقوله {حتى إذا فزع عن قلوبهم} لم يعد إلى " الشفعاء " بل عاد إلى المذكورين في قوله {وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} ثم قال {ولا تنفع الشفاعة عنده} ثم بين أن هذا منتف {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} فلا يعلمون ماذا قال حتى يفزع عن قلوبهم فكيف يشفعون بلا إذنه؟ . وهو سبحانه إذا أذن للمشفوع له فقد أذن للشافع. فهذا الإذن هو الإذن المطلق بخلاف ما إذا أذن للشافع فقط. فإنه لا يلزم أن يكون قد أذن للمشفوع له. إذ قد يأذن له إذنا خاصا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #223
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 221)

    من صــ 61 الى صـ 70





    وهكذا قال غير واحد من المفسرين. قالوا: وهذا يدل على أن الشفاعة لا تنفع إلا المؤمنين. وكذلك قال السلف في هذه الآية. قال قتادة في قوله {إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} قال: كان أهل العلم يقولون: إن المقام المحمود الذي قال الله تعالى {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} هو شفاعته يوم القيامة. وقوله {إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} إن الله يشفع المؤمنين بعضهم في بعض. قال البغوي {إلا من أذن له الرحمن} أذن الله له أن يشفع له {ورضي له قولا} أي ورضي قوله. قال ابن عباس: يعني قال " لا إله إلا الله " قال البغوي: فهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن. وقد ذكروا القولين في قوله تعالى {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقدم طائفة هناك: أن المستثنى هو الشافع دون المشفوع له بخلاف ما قدموه هنا. منهم البغوي. فإنه لم يذكر هنا في الاستثناء إلا المشفوع له.
    وقال هناك: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} في الشفاعة قاله تكذيبا لهم حيث قالوا {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} قال: ويجوز أن يكون المعنى: إلا لمن أذن له أن يشفع له. وكذلك ذكروا القولين في قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق} وسنتكلم على هذه الآية إن شاء الله تعالى ونبين أن الاستثناء فيها يعم الطائفتين وأنه منقطع.

    ومعنى هاتين الآيتين مثل معنى تلك الآية. وهو يعم النوعين. وذلك: أنه سبحانه قال {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} و " الشفاعة " مصدر شفع شفاعة. والمصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى محل الفعل تارة. ويماثله الذي يسمى لفظه " المفعول به " تارة كما يقال: أعجبني دق الثوب ودق القصار. وذلك مثل لفظ " العلم " يضاف تارة إلى العلم وتارة إلى المعلوم. فالأول كقوله {ولا يحيطون بشيء من علمه} وقوله {أنزله بعلمه} وقوله {أنما أنزل بعلم الله} ونحو ذلك. والثاني: كقوله {إن الله عنده علم الساعة} فالساعة هنا: معلومة لا عالمة. وقوله حين قال فرعون {فما بال القرون الأولى}
    قال موسى {علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} ومثل هذا كثير. فالشفاعة مصدر لا بد لها من شافع ومشفوع له. والشفاعة: تعم شفاعة كل شافع وكل شفاعة لمشفوع له. فإذا قال {يومئذ لا تنفع الشفاعة} نفى النوعين: شفاعة الشفعاء والشفاعة للمذنبين. فقوله {إلا من أذن له الرحمن} يتناول النوعين: من أذن له الرحمن ورضي له قولا من الشفعاء. ومن أذن له الرحمن ورضي له قولا من المشفوع له. وهي تنفع المشفوع له فتخلصه من العذاب. وتنفع الشافع فتقبل منه ويكرم بقبولها ويثاب عليه.
    والشفاعة يومئذ لا تنفع لا شافعا ولا مشفوعا له {إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} فهذا الصنف المأذون لهم المرضي قولهم: هم الذين يحصل لهم نفع الشفاعة. وهذا موافق لسائر الآيات. فإنه تارة يشترط في الشفاعة إذنه. كقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}. وتارة يشترط فيها الشهادة بالحق. كقوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} ثم قال {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}. وهنا اشترط الأمرين: أن يأذن له الرحمن وأن يقول صوابا والمستثنى يتناول مصدر الفاعل والمفعول كما تقول: لا ينفع الزرع إلا في وقته. فهو يتناول زرع الحارث وزرع الأرض لكن هنا قال {إلا من أذن له الرحمن} والاستثناء مفرغ. فإنه لم يتقدم قبل هذا من يستثنى منه هذا. وإنما قال {لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن} فإذا لم يكن في الكلام حذف كان المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا هذا النوع فإنهم تنفعهم الشفاعة.
    ويكون المعنى: أنها تنفع الشافع والمشفوع له. وإن جعل فيه حذف - تقديره: لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن - كان المصدر مضافا إلى النوعين كل واحد بحسبه يضاف إلى بعضهم لكونه شافعا وإلى بعضهم لكونه مشفوعا له ويكون هذا كقوله {ولكن البر من آمن بالله} أي من يؤمن. و {مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الناعق أو مثل الذين كفروا كمثل منعوق به أي الذي ينعق به. والمعنى في ذلك كله ظاهر معلوم. فلهذا كان من أفصح الكلام: إيجازه دون الإطناب فيه.
    وقوله {يومئذ لا تنفع الشفاعة} إذا كان من هذا الباب لم يحتج: أن الشافع تنفعه الشفاعة. وإن لم يكرمه كان الشافع ممن تنفعه الشفاعة. وفي الآية الأخرى {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} من هؤلاء وهؤلاء. لكن قد يقال: التقدير: لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع فيه فيؤذن لغيره أن يشفع فيه. فيكون الإذن للطائفتين والنفع للمشفوع له كأحد الوجهين أو ولا تنفع إلا لمن أذن له من هؤلاء وهؤلاء. فكما أن الإذن للطائفتين فالنفع أيضا للطائفتين.

    فالشافع ينتفع بالشفاعة. وقد يكون انتفاعه بها أعظم من انتفاع المشفوع له. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {اشفعوا تؤجروا. ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء}. ولهذا كان من أعظم ما يكرم به الله عبده محمدا صلى الله عليه وسلم هو الشفاعة التي يختص بها. وهي المقام المحمود الذي يحمده به الأولون والآخرون. وعلى هذا لا تحتاج الآية إلى حذف بل يكون معناها:يومئذ لا تنفع الشفاعة لا شافعا ولا مشفوعا {إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا}. ولذلك جاء في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {يا بني عبد مناف لا أملك لكم من الله من شيء. يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله من شيء، يا عباس عم رسول الله لا أملك لك من الله من شيء}. وفي الصحيح أيضا {لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو شاة لها يعار أو رقاع تخفق فيقول: أغثني أغثني، فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء}.

    فيعلم من هذا: أن قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} و {لا يملكون منه خطابا} على مقتضاه. وأن قوله في الآية {لا يملكون منه} كقوله صلى الله عليه وسلم {لا أملك لكم من الله من شيء} وهو كقول إبراهيم لأبيه {وما أملك لك من الله من شيء}. وهذه الآية تشبه قوله تعالى {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا} {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} فإن هذا مثل قوله {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} ففي الموضعين: اشترط إذنه. فهناك ذكر " القول الصواب " وهنا ذكر " أن يرضى قوله " ومن قال الصواب رضي الله قوله. فإن الله إنما يرضى بالصواب. وقد ذكروا في تلك الآية قولين: أحدهما: أنه الشفاعة أيضا كما قال ابن السائب: لا يملكون شفاعة إلا بإذنه.

    والثاني: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه. قال مقاتل: كذلك قال مجاهد {لا يملكون منه خطابا} قال: كلاما. هذا من تفسيره الثابت عنه. وهو من أعلم - أو أعلم - التابعين بالتفسير. قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وقال: عرضت المصحف على ابن عباس: أقفه عند كل آية وأسأله عنها. وعليه اعتمد الشافعي وأحمد والبخاري في صحيحه. وهذا يتناول " الشفاعة " أيضا.

    وفي قوله {لا يملكون منه خطابا} لم يذكر استثناء. فإن أحدا لا يملك من الله خطابا مطلقا. إذ المخلوق لا يملك شيئا يشارك فيه الخالق كما قد ذكرناه في قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} أن هذا عام مطلق. فإن أحدا - ممن يدعي من دونه - لا يملك الشفاعة بحال. ولكن الله إذا أذن لهم شفعوا من غير أن يكون ذلك مملوكا لهم. وكذلك قوله {لا يملكون منه خطابا} هذا قول السلف وجمهور المفسرين. وقال بعضهم: هؤلاء هم الكفار. لا يملكون مخاطبة الله في ذلك اليوم.
    قال ابن عطية: قوله {لا يملكون} الضمير للكفار. أي لا يملكون - من إفضاله وإكماله - أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها. وهذا مبتدع. وهو خطأ محض. والصحيح: قول الجمهور والسلف: أن هذا عام كما قال في آية أخرى {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا} وفي حديث التجلي الذي في الصحيح - لما ذكر مرورهم على الصراط - قال صلى الله عليه وسلم {ولا يتكلم أحد إلا الرسل ودعوى الرسل: اللهم سلم سلم} فهذا في وقت المرور على الصراط. وهو بعد الحساب والميزان. فكيف بما قبل ذلك؟ .
    وقد طلبت الشفاعة من أكابر الرسل وأولي العزم وكل يقول " إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله. ولن يغضب بعده مثله. وإني فعلت كذا وكذا نفسي نفسي نفسي " فإذا كان هؤلاء لا يتقدمون إلى مخاطبة الله تعالى بالشفاعة فكيف بغيرهم؟ .
    وأيضا فإن هذه الآية مذكورة بعد ذكر المتقين وأهل الجنة وبعد أن ذكر الكافرين. فقال {إن للمتقين مفازا} {حدائق وأعنابا} {وكواعب أترابا} {وكأسا دهاقا} {لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} {جزاء من ربك عطاء حسابا} {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا} ثم قال {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} فقد أخبر: أن " الروح والملائكة " يقومون صفا لا يتكلمون. وهذا هو تحقيق قوله {لا يملكون منه خطابا} والعرب تقول: ما أملك من أمر فلان أو من فلان شيئا أي لا أقدر من أمره على شيء. وغاية ما يقدر عليه الإنسان من أمر غيره: خطابه ولو بالسؤال. فهم في ذلك الموطن لا يملكون من الله شيئا ولا الخطاب. فإنه لا يتكلم أحد إلا بإذنه.
    ولا يتكلم إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا. قال تعالى {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} فقد أخبر الخليل: أنه لا يملك لأبيه من الله من شيء. فكيف غيره؟ .

    وقال مجاهد أيضا {إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} قال: حقا في الدنيا وعملا به. رواه - والذي قبله - عبد بن حميد. وروي عن عكرمة {وقال صوابا} قال: الصواب قول لا إله إلا الله. فعلى قول مجاهد: يكون المستثنى: من أتى بالكلم الطيب والعمل الصالح. وقوله في سورة طه {لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} فإذا جعلت هذه مثل تلك: فتكون الشفاعة هي الشفاعة المطلقة. وهي الشفاعة في الحسنات وفي دخول الجنة كما في الصحيحين {أن الناس يهتمون يوم القيامة. فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مقامنا هذا؟} فهذا طلب الشفاعة للفصل بينهم. وفي حديث الشفاعة {أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن} فهذه شفاعة في أهل الجنة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #224
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 222)

    من صــ 71 الى صـ 80



    ولهذا قيل: إن هاتين الشفاعتين مختصتان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويشفع غيره في العصاة. فقوله {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} يدخل فيها الشفاعة في أهل الموقف عموما وفي أهل الجنة وفي المستحقين للعذاب. وهو سبحانه في هذه وتلك: لم يذكر العمل. إنما قال {وقال صوابا} وقال {ورضي له قولا} لكن قد دل الدليل على أن " القول الصواب المرضي " لا يكون صاحبه محمودا إلا مع العمل الصالح لكن نفس القول مرضي فقد قال الله {إليه يصعد الكلم الطيب}.
    وقد ذكر البغوي وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} قولين. أحدهما: أن المستثنى هو الشافع. ومحل " من " الرفع. والثاني: هو المشفوع له. قال أبو الفرج: في معنى الآية قولان. أحدهما: أنه أراد بـ {الذين يدعون من دونه} آلهتهم. ثم استثنى عيسى وعزيرا والملائكة. فقال {إلا من شهد بالحق} وهو شهادة أن لا إله إلا الله {وهم يعلمون} بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. قال: وهذا مذهب الأكثرين منهم قتادة.
    والثاني أن المراد بـ {الذين يدعون} عيسى وعزيرا والملائكة الذين عبدهم المشركون لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد {إلا من شهد بالحق} وهي كلمة الإخلاص {وهم يعلمون} أن الله خلق عيسى وعزيرا والملائكة. وهذا مذهب قوم منهم مجاهد. وقال البغوي {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق} هم عيسى وعزير والملائكة. فإنهم عبدوا من دون الله. ولهم الشفاعة. وعلى هذا تكون " من " في محل رفع. وقيل " من " في محل خفض. وأراد بالذين يدعون: عيسى وعزيرا والملائكة. يعني: أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق. قال: والأول أصح. قلت: قد ذكر جماعة قول مجاهد وقتادة منهم ابن أبي حاتم. روى بإسناده المعروف - على شرط الصحيح - عن مجاهد قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} عيسى وعزير والملائكة يقول: لا يشفع عيسى وعزير والملائكة {إلا من شهد بالحق} يعلم الحق. هذا لفظه. جعل " شفع " متعديا بنفسه وكذلك لفظ. . . (1)
    وعلى هذا فيكون منصوبا لا يكون مخفوضا كما قاله البغوي؛فإن الحرف الخافض إذا حذف انتصب الاسم. ويكون على هذا يقال: شفعته وشفعت له كما يقال: نصحته ونصحت له. و " شفع " أي صار شفيعا للطالب. أي لا يشفعون طالبا ولا يعينون طالبا {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} أن الله ربهم. وروي بإسناده عن قتادة {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} الملائكة وعيسى وعزير.

    أي أنهم قد عبدوا من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة. قلت: كلا القولين معناه صحيح. لكن التحقيق في تفسير الآية: أن الاستثناء منقطع. ولا يملك أحد من دون الله الشفاعة مطلقا. لا يستثنى من ذلك أحد عند الله. فإنه لم يقل: ولا يشفع أحد. ولا قال: لا يشفع لأحد بل قال {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} وكل من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة ألبتة. والشفاعة بإذن ليست مختصة بمن عبد من دون الله؛ وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم لم يعبد كما عبد المسيح. وهو - مع هذا - له شفاعة ليست لغيره. فلا يحسن أن تثبت الشفاعة لمن دعي من دون الله دون من لم يدع.

    فمن جعل الاستثناء متصلا فإن معنى كلامه: أن من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة إلا أن يشهد بالحق وهو يعلم أو لا يشفع إلا لمن شهد بالحق وهو يعلم. ويبقى الذين لم يدعوا من دون الله لم تذكر شفاعتهم لأحد. وهذا المعنى لا يليق بالقرآن ولا يناسبه. وسبب نزول الآية يبطله أيضا.
    وأيضا فقوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} يتناول كل معبود من دونه. ويدخل في ذلك الأصنام. فإنهم كانوا يقولون: هم يشفعون لنا. قال تعالى {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض}. فإذا قيل: إنه استثنى الملائكة والأنبياء كان في هذا إطماع لمن عندهم أن معبوديهم من دون الله يشفعون لهم. وهذا مما يبين فساد القول المذكور عن قتادة.

    فإنه إذا كان المعنى: أن المعبودين لا يشفعون إلا إذا كانوا ملائكة أو أنبياء كان في هذا إثبات شفاعة المعبودين لمن عبدوهم إذا كانوا صالحين. والقرآن كله يبطل هذا المعنى. ولهذا قال تعالى {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} فبين أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الرب. فعلم: أنه لا بد أن يؤذن لهم فيمن يشفعون فيه وأنهم لا يؤذن لهم إذن مطلق.

    وأيضا فإن في القرآن: إذا نفى الشفاعة من دونه: نفاها مطلقا. فإن قوله {من دونه} إما أن يكون متصلا بقوله يملكون أو بقوله يدعون أو بهما. فالتقدير: لا يملك الذين يدعونهم الشفاعة من دونه. أو لا يملك الذين يدعونهم من دونه أن يشفعوا. وهذا أظهر. لأنه قال {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} فأخر " الشفاعة " وقدم " من دونه ". ومثل هذا كثير في القرآن يدعون من دون الله ويعبدون من دون الله كقوله {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} وقوله {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك}. بخلاف ما إذا قيل: لا يملك الذين يدعون الشفاعة من دونه.
    فإن هذا لا نظير له في القرآن. واللفظ المستعمل في مثل هذا أن يقال: لا يملك الذين يدعون الشفاعة إلا بإذنه أو لمن ارتضى ونحو ذلك لا يقال في هذا المعنى " من دونه " فإن الشفاعة هي من عنده. فكيف تكون من دونه؛ لكن قد تكون بإذنه وقد تكون بغير إذنه.
    وأيضا فإذا قيل {الذين يدعون} مطلقا. دخل فيه الرب تعالى. فإنهم كانوا يدعون الله ويدعون معه غيره. ولهذا قال {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر}. والتقدير الثالث: لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة من دونه وهذا أجود من الذي قبله. لكن يرد عليه ما يرد على الأول. ومما يضعفهما: " أن الشفاعة " لم تذكر بعدها صلة لها. بل قال {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} فنفى ملكهم الشفاعة مطلقا. وهذا هو الصواب. وأن كل من دعي من دون الله: لا يملك الشفاعة. فإن المالك للشيء: هو الذي يتصرف فيه بمشيئته وقدرته. والرب تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه. فلا يملك أحد من المخلوقين الشفاعة بحال. ولا يقال في هذا " إلا بإذنه " إنما يقال ذلك في الفعل. فيقال {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}.

    وأما في الملك: فلا يمكن أن يكون غيره مالكا لها. فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال ولا يتصور أن يكون نبي فمن دونه مالكا لها. بل هذا ممتنع كما يمتنع أن يكون خالقا وربا. وهذا كما قال {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} فنفى الملك مطلقا. ثم قال {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فنفى نفع الشفاعة إلا لمن استثناه. لم يثبت أن مخلوقا يملك الشفاعة. بل هو سبحانه له الملك وله الحمد. لا شريك له في الملك قال تعالى {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} {الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا}.

    ولهذا - لما نفى الشفعاء من دونه - نفاهم نفيا مطلقا بغير استثناء. وإنما يقع الاستثناء: إذا لم يقيدهم بأنهم من دونه. كما قال تعالى {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} وكما قال تعالى {وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} وكما قال تعالى {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} فلما قال " من دونه " نفى الشفاعة مطلقا. وإذا ذكر " بإذنه " لم يقل " من دونه " كقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقوله {ما من شفيع إلا من بعد إذنه}.
    فمن تدبر القرآن: تبين له أنه كما قال تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} يشبه بعضه بعضا. ويصدق بعضه بعضا. ليس بمختلف ولا بمتناقض {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}. وهو " مثاني " يثني الله فيه الأقسام. ويستوفيها. والحقائق: إما متماثلة. وهي " المتشابه " وإما مماثلة. وهي: الأصناف والأقسام والأنواع. وهي " المثاني ". و " التثنية " يراد بها: جنس التعديد من غير اقتصار على اثنين فقط. كما في قوله تعالى {ارجع البصر كرتين} يراد به: مطلق العدد كما تقول: قلت له مرة بعد مرة. تريد: جنس العدد. وتقول: هو يقول كذا ويقول كذا. وإن كان قد قال مرات كقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما {عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه جعل يقول بين السجدتين: رب اغفر لي. رب اغفر لي} لم يرد: أن هذا قاله مرتين فقط كما يظنه بعض الناس الغالطين. بل يريد: أنه جعل يثني هذا القول ويردده ويكرره كما كان يثني لفظ التسبيح.
    وقد قال حذيفة رضي الله عنه في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم {إنه ركع نحوا من قيامه يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وذكر أنه سجد نحوا من قيامه يقول في سجوده: رب اغفر لي. رب اغفر لي}.
    وقد صرح في الحديث الصحيح {أنه أطال الركوع والسجود بقدر البقرة والنساء وآل عمران} فإنه قام بهذه السور كلها. وذكر {أنه كان يقول: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى}. فعلم أنه أراد بتثنية اللفظ: جنس التعداد والتكرار لا الاقتصار على مرتين. فإن " الاثنين " أول العدد الكثير. فذكر أول الأعداد يعني أنه عدد هذا اللفظ لم يقتصر على مرة واحدة. فالتثنية التعديد. والتعديد يكون للأقسام المختلفة. وليس في القرآن تكرار محض بل لا بد من فوائد في كل خطاب. فـ " المتشابه " في النظائر المتماثلة. و " المثاني " في الأنواع. وتكون التثنية في المتشابه أي هذا المعنى قد ثني في القرآن لفوائد أخر.
    فـ " المثاني " تعم هذا وهذا. وفاتحة الكتاب: هي " السبع المثاني " لتضمنها هذا وهذا. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا: أن قوله {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} قد تم الكلام هنا. فلا يملك أحد من المعبودين من دون الله الشفاعة ألبتة. ثم استثنى {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} فهذا استثناء منقطع. والمنقطع يكون في المعنى المشترك بين المذكورين.

    فلما نفى ملكهم الشفاعة بقيت الشفاعة بلا مالك لها. كأنه قد قيل: فإذا لم يملكوها هل يشفعون في أحد؟ فقال: نعم {من شهد بالحق وهم يعلمون}. وهذا يتناول الشافع والمشفوع له. فلا يشفع إلا من شهد بالحق وهم يعلمون. فالملائكة والأنبياء والصالحون - وإن كانوا لا يملكون الشفاعة - لكن إذا أذن الرب لهم شفعوا. وهم لا يؤذن لهم إلا في الشفاعة للمؤمنين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله. فيشهدون بالحق وهم يعلمون. لا يشفعون لمن قال هذه الكلمة تقليدا للآباء والشيوخ. كما جاء الحديث الصحيح: {إن الرجل يسأل في قبره؟ ما تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: هو عبد الله ورسوله. جاءنا بالبينات والهدى. وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري.
    __________
    Q (1) بياض بالأصل




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #225
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 223)

    من صــ 81 الى صـ 90



    سمعت الناس يقولون شيئا فقلته} فلهذا قال {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}. وقد تقدم قول ابن عباس: يعني من قال " لا إله إلا الله " يعني: خالصا من قلبه.
    والأحاديث الصحيحة الواردة في الشفاعة كلها تبين: أن الشفاعة إنما تكون في أهل " لا إله إلا الله ". وقد ثبت في صحيح البخاري. {أن أبا هريرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه}. فبين أن المخلص لها من قبل نفسه: هو أسعد بشفاعته صلى الله عليه وسلم من غيره ممن يقولها بلسانه وتكذبها أقواله وأعماله.
    فهؤلاء هم الذين شهدوا بالحق شهدوا " أن لا إله إلا الله " كما شهد الله لنفسه بذلك وملائكته وأولو العلم {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. فإذا شهدوا - وهم يعلمون - كانوا من أهل الشفاعة شافعين ومشفوعا لهم. فإن المؤمنين أهل التوحيد يشفع بعضهم في بعض كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة.

    كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - في الحديث الطويل حديث التجلي والشفاعة - {حتى إذا خلص المؤمنون من النار. فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار. يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم. فتحرم صورهم على النار} - وذكر تمام الحديث ". وسبب نزول الآية - على ما ذكروه - مؤيد لما ذكره. قال أبو الفرج ابن الجوزي: سبب نزولها: أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا " إن كان ما يقول محمد حقا. فنحن نتولى الملائكة. فهم أحق بالشفاعة من محمد. فنزلت هذه الآية " قاله مقاتل.

    وعلى هذا: فيقصد أن الملائكة وغيرهم لا يملكون الشفاعة. فليس توليكم إياهم واستشفاعكم بهم: بالذي يوجب أن يشفعوا لكم. فإن أحدا ممن يدعى من دون الله لا يملك الشفاعة. ولكن {من شهد بالحق وهم يعلمون} فإن الله يشفع فيه. فالذي تنال به الشفاعة: هي الشهادة بالحق. وهي شهادة أن لا إله إلا الله. لا تنال بتولي غير الله. لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحين.

    فمن والى أحدا من هؤلاء ودعاه وحج إلى قبره أو موضعه ونذر له وحلف به وقرب له القرابين ليشفع له: لم يغن ذلك عنه من الله شيئا. وكان من أبعد الناس عن شفاعته وشفاعة غيره. فإن الشفاعة إنما تكون: لأهل توحيد الله وإخلاص القلب والدين له. ومن تولى أحدا من دون الله فهو مشرك. فهذا القول والعبادة الذي يقصد به المشركون الشفاعة: يحرم عليهم الشفاعة. فالذين عبدوا الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين - ليشفعوا لهم - كانت عبادتهم إياهم وإشراكهم بربهم الذي به طلبوا شفاعتهم: به حرموا شفاعتهم وعوقبوا بنقيض قصدهم. لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. وكثير من أهل الضلال: يظن أن الشفاعة تنال بهذه الأمور التي فيها شرك أو هي شرك خالص كما ظن ذلك المشركون الأولون. وكما يظنه النصارى ومن ضل من المنتسبين إلى الإسلام. الذين يدعون غير الله ويحجون إلى قبره أو مكانه وينذرون له ويحلفون به. ويظنون: أنه بهذا يصير شفيعا لهم. قال تعالى {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا}.

    قال طائفة من السلف: كان أقوام يعبدون المسيح والعزير والملائكة فبين الله أنهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله. كما بين أنهم لا يملكون الشفاعة. وهذا لا استثناء فيه وإن كان الله يجيب دعاءهم ثم قال {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} فبين أن هؤلاء المزعومين الذين يدعونهم من دون الله كانوا يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال الصالحة كسائر عباده المؤمنين وقد قال تعالى {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}.
    وللناس في الشفاعة أنواع من الضلال قد بسطت في غير هذا الموضع.
    فكثير منهم: يظن أن الشفاعة هي بسبب اتصال روح الشافع بروح المشفوع له كما ذكر ذلك أبو حامد الغزالي وغيره. ويقولون: من كان أكثر صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كان أحق بالشفاعة من غيره. وكذلك من كان أحسن ظنا بشخص وأكثر تعظيما له: كان أحق بشفاعته. وهذا غلط. بل هذا هو قول المشركين الذين قالوا: نتولى الملائكة ليشفعوا لنا. يظنون أن من أحب أحدا - من الملائكة والأنبياء والصالحين وتولاه - كان ذلك سببا لشفاعته له. وليس الأمر كذلك. بل الشفاعة: سببها توحيد الله وإخلاص الدين والعبادة بجميع أنواعها له فكل من كان أعظم إخلاصا كان أحق بالشفاعة كما أنه أحق بسائر أنواع الرحمة. فإن الشفاعة: من الله مبدؤها وعلى الله تمامها فلا يشفع أحد إلا بإذنه. وهو الذي يأذن للشافع. وهو الذي يقبل شفاعته في المشفوع له. وإنما الشفاعة سبب من الأسباب التي بها يرحم الله من يرحم من عباده. وأحق الناس برحمته: هم أهل التوحيد والإخلاص له فكل من كان أكمل في تحقيق إخلاص " لا إله إلا الله " علما وعقيدة وعملا وبراءة وموالاة ومعاداة: كان أحق بالرحمة.
    والمذنبون - الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم فخفت موازينهم فاستحقوا النار -: من كان منهم من أهل " لا إله إلا الله " فإن النار تصيبه بذنوبه. ويميته الله في النار إماتة. فتحرقه النار إلا موضع السجود. ثم يخرجه الله من النار بالشفاعة. ويدخله الجنة كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. فبين أن مدار الأمر كله: على تحقيق كلمة الإخلاص وهي " لا إله إلا الله " لا على الشرك بالتعلق بالموتى وعبادتهم كما ظنه الجاهليون. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
    والمقصود هنا: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الحمد الذي هو رأس الشكر وبين التوحيد والاستغفار إذا رفع رأسه من الركوع فيقول ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد -: لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد ثم يقول اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد.
    اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} كما رواه مسلم في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع - قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد - لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد}.

    وروى مسلم أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع - قال: سمع الله لمن حمده. اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد. اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ}. وقد روى مسلم في صحيحه أيضا {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم لك الحمد وقال وملء الأرض وملء ما بينهما}. ولم يذكر في بعض الروايات. لأن " السموات والأرض " قد يراد بهما: العلو والسفل مطلقا. فيدخل في ذلك الهواء وغيره. فإنه عال بالنسبة إلى ما تحته وسافل بالنسبة إلى ما فوقه. فقد يجعل من السماء. كما يجعل السحاب سماء والسقف سماء. وكذا قال في القرآن {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}
    ولم يقل " وما بينهما " كما يقول {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع}. فتارة يذكر قوله وما بينهما فيما خلقه في ستة أيام.

    وتارة لا يذكره. وهو مراد. فإن ذكره كان إيضاحا وبيانا وإن لم يذكره دخل في لفظ " السموات والأرض " ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يقول {ملء السموات وملء الأرض} ولا يقول " وما بينهما " وتارة يقول " وما بينهما " وفيها كلها {وملء ما شئت من شيء بعد} وفي رواية أبي سعيد {أحق ما قال العبد} إلى آخره. وفي رواية ابن أبي أوفى " الدعاء بالطهارة من الذنوب ". ففي هذا الحمد رأس الشكر والاستغفار. فإن ربنا غفور شكور. فالحمد بإزاء النعمة. والاستغفار: بإزاء الذنوب. وذلك تصديق قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. ففي {سيد الاستغفار أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي} وفي حديث أبي سعيد {الحمد رأس الشكر والتوحيد} كما جمع بينهما في أم القرآن. فأولها تحميد وأوسطها: توحيد وآخرها: دعاء. وكما في قوله {هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}. وفي حديث الموطأ {أفضل ما قلت. أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد. وهو على كل شيء قدير. من قالها: كتب الله له ألف حسنة.
    وحط عنه ألف سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثلها أو زاد عليه. ومن قال في يوم مائة مرة: سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر}. وفضائل هذه الكلمات في أحاديث كثيرة: وفيها: التوحيد والتحميد. فقوله {لا إله إلا الله وحده لا شريك له} توحيد. وقوله {له الملك وله الحمد} تحميد. وفيها معان أخرى شريفة. وقد جاء الجمع بين التوحيد والتحميد والاستغفار في مواضع مثل حديث كفارة المجلس {سبحانك اللهم وبحمدك. أشهد أن لا إله إلا أنت. أستغفرك وأتوب إليك} فيه: التسبيح والتحميد والتوحيد والاستغفار. من قالها في مجلس إن كان مجلس لغط كانت كفارة له وإن كان مجلس ذكر: كانت كالطابع له. وفي حديث أيضا " إن هذا يقال عقب الوضوء ". ففي الحديث الصحيح في مسلم وغيره من حديث عقبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية.

    يدخل من أيها شاء} وفي حديث آخر أنه يقول {سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك}. وقد روي عن طائفة من السلف في الكلمات التي تلقاها آدم من ربه نحو هذه الكلمات. روى ابن جرير عن مجاهد أنه قال " اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك. رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي. إنك خير الغافرين. اللهم لا إله إلا أنت. سبحانك وبحمدك. رب إني ظلمت نفسي فارحمني. فأنت خير الراحمين. لا إله إلا أنت. سبحانك وبحمدك. رب إني ظلمت نفسي فتب علي. إنك أنت التواب الرحيم ".



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #226
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 224)

    من صــ 91 الى صـ 100



    فهذه الكلمات من جنس خاتمة الوضوء. وخاتمة الوضوء: فيها التسبيح والتحميد والتوحيد والاستغفار. فالتسبيح والتحميد والتوحيد لله. فإنه لا يأتي بالحسنات إلا هو. والاستغفار من ذنوب النفس التي منها تأتي السيئات. وقد قرن الله في كتابه بين التوحيد والاستغفار في غير موضع كقوله {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} وفي قوله {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} وفي قوله {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه}. وفي حديث رواه ابن أبي عاصم وغيره {يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء.
    فهم يذنبون ولا يستغفرون. لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. و " لا إله إلا الله " تقتضي الإخلاص والتوكل. والإخلاص يقتضي الشكر. فهي أفضل الكلام. وهي أعلى شعب الإيمان. كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {الإيمان بضع وستون - أو بضع وسبعون - شعبة. أعلاها: قول لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان}. ف " لا إله إلا الله " هي قطب رحى الإيمان وإليها يرجع الأمر كله. والكتب المنزلة: مجموعة في قوله تعالى {إياك نعبد وإياك نستعين} وهي معنى " لا إله إلا الله " و " لا حول ولا قوة إلا بالله " هي من معنى " لا إله إلا الله " و " الحمد لله " في معناها و " سبحان الله والله أكبر " من معناها. لكن فيها تفصيل بعد إجمال.

    فصل:
    وقد ظن بعض المتأخرين: أن معنى قوله {فمن نفسك} أي أفمن نفسك؟ وأنه استفهام على سبيل الإنكار ومعنى كلامه: أن الحسنات والسيئات كلها من الله لا من نفسك. وهذا القول يباين معنى الآية. فإن الآية بينت أن السيئات من نفس الإنسان. أي بذنوبه. وهؤلاء يقولون: ليست السيئات من نفسه.
    وممن ذكر ذلك: أبو بكر بن فورك. فإنه قال: معناه: أفمن نفسك؟ يدل عليه قول الشاعر:
    ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا ... عدد الرمل والحصى والتراب
    قلت: وإضمار الاستفهام - إذا دل عليه الكلام - لا يقتضي جواز إضماره في الخبر المخصوص من غير دلالة. فإن هذا يناقض المقصود. ويستلزم أن كل من أراد أن ينفي ما أخبر الله به يقدر أن ينفيه بأن يقدر في خبره استفهاما. ويجعله استفهام إنكار. وهذا من جهة العربية نظير ما زعمه بعضهم في قول إبراهيم عليه السلام " هذا ربي " أهذا ربي؟ قال ابن الأنباري: هذا القول شاذ. لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذا كان فارقا بين الإخبار والاستخبار. وهؤلاء استشهدوا بقوله {أفإن مت فهم الخالدون}. وهذا لا حجة فيه. لأنه قد تقدم الاستفهام في أول الجملة في الجملة الشرطية {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} فلم يحتج إلى ذكره ثانية. بل ذكره يفسد الكلام. ومثله قوله {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} وقوله {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} وقوله {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} وهذا من فصيح الكلام وبليغه. واستشهدوا بقوله:
    لعمرك لا أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان؟
    وقوله: كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا؟
    تقديره: أكذبتك عينك؟ . وهذا لا حجة فيه. لأن قوله فيما بعد " أم بثمان " و " أم رأيت " يدل على الألف المحذوفة في البيت الأول. وأما الثاني: فإن كانت " أم " هي المتصلة فكذلك. وإن كانت هي المنفصلة. فالخبر على بابه. وهؤلاء مقصودهم: أن النفس لا تأثير لها في وجود السيئات.

    وليست سببا فيها. بل قد يقولون: إن المعاصي علامة محضة على العقوبة لاقترانها بها. لا أنها سبب لها. وهذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وللعقل. والقرآن يبين في غير موضع: أن الله لم يهلك أحدا ولم يعذبه إلا بذنب. فقال هنا {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقال لهم في شأن أحد {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال تعالى في سورة الشورى أيضا {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}.
    وقال تعالى {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون} وقال تعالى {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} {ذكرى وما كنا ظالمين} وقال تعالى {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} وقال تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} وقال تعالى {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} وقال تعالى {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير} وقال تعالى في سورة القلم عن أهل الجنة الذين ضرب بهم المثل لما أهلكها بذلك العذاب {ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} وقال تعالى {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون}.

    وقال تعالى عن أهل سبأ {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم} - إلى قوله - {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} وقال تعالى {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} وقال تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وفي الحديث الصحيح الإلهي {يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا: فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك: فلا يلومن إلا نفسه}. وفي سيد الاستغفار {أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي} وقال تعالى {وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون}. والحمد لله وحده وصلى الله على عبد الله ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم. ورضي الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
    سئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد ابن تيمية - رضي الله عنه -:
    عن قول علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه ما معنى ذلك؟

    فأجاب:
    الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وهو من أحسن الكلام وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير والخوف يكون من الشر والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه كما قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. فإن كثيرا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي.
    ثم " المثبتة للقدر " يحتجون بقوله: {كل من عند الله} فيعارضهم قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. و " نفاة القدر " يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم: أن العبد يخلق جميع أعماله ويعارضهم قوله: {كل من عند الله}. وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب كما في قوله تعالى {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} وقوله تعالى {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} وقوله تعالى {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} وقوله تعالى {وقهم السيئات} ونحو ذلك. وهذا كثير. وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا: {هذا من عند الله} وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا: {هذه من عندك} - يا محمد - بسبب الدين الذي أمرتنا به كما قال قوم فرعون لموسى: وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى:
    {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} وكما قال الكفار لرسل عيسى: {إنا تطيرنا بكم}. فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين فبين الله سبحانه أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم ولهذا قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأخبر أنه لا يعذب مستغفرا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب فيندفع العذاب كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب} وقد قال تعالى: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}. فبين أن من وحده واستغفره متعه متاعا حسنا إلى أجل مسمى ومن عمل بعد ذلك خيرا زاده من فضله وفي الحديث: {يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار. فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.

    ولهذا قال تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا فحقهم عند مجيء البأس التضرع وقال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} قال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ولهذا قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان وأمرهم بخوفه وخوفه يوجب فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه والاستغفار من الذنوب وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء فلهذا قال علي رضي الله عنه لا يخافن عبد إلا ذنبه. وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه فليخف الله وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله كما في الأثر {يقول الله: أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم}.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #227
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 225)

    من صــ 101 الى صـ 110


    وأما قوله: لا يرجون عبد إلا ربه. فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر ولا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يذهب السيئات إلا الله {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} والرجاء مقرون بالتوكل فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة والتوكل لا يجوز إلا على الله كما قال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} وقال: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} وقال تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} وقال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
    فهؤلاء قالوا: حسبنا الله أي كافينا الله في دفع البلاء وأولئك أمروا أن يقولوا: حسبنا في جلب النعماء فهو سبحانه كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير أليس الله بكاف عبده ومن توكل على غير الله ورجاه خذل من جهته وحرم {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت}.

    {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} {كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا}. وقال الخليل: {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون}. فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له كانت صفقته خاسرة قال الله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} وقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} وقال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وقال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} كما قيل في تفسيرها كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه والراجي يكون راجيا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله فذاك نوع من العبادة له وهذا نوع من الاستعانة به وقد قال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال: {فاعبده وتوكل عليه} وقال: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}.

    ومما يوضح ذلك أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه فإنما يمنعها الله؛ وإنما يكشفها الله وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه فالله سبحانه هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك فالله خالق ذلك كله فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فالرجاء يجب أن يكون كله للرب والتوكل عليه والدعاء له فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر ولو لم يشأ الناس وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن؛ وإن شاءه الناس. وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب - وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره - لكان الواجب أن لا يرجى إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولا يسأل إلا هو ولا يستعان إلا به ولا يستغاث إلا هو فله الحمد وإليه المشتكى وهو المستعان وهو المستغاث ولا حول ولا قوة إلا به فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلا بمطلوب بل لا بد من انضمام أسباب أخر إليه ولا بد أيضا من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود.
    فكل سبب فله شريك وله ضد فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده لم يحصل سببه فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك فهو - مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل - فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه ولو كان ملكا مطاعا ولا بد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي فليس في الوجود شيء واحد هو مقتضيا وإن سمي مقتضيا وسمي سائر ما يعينه شروطا فهذا نزاع لفظي. وحينئذ فيقال: لا بد من وجود المقتضي والشروط وانتفاء الموانع وإما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها فهذا باطل.
    ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلا عن أن يعبد غيره ولا يتوكل على غيره ولا يرجى غيره وهذا مبرهن بالشرع والعقل ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له: هذا أيضا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه. كما قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}.
    فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته بل هو سبحانه خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات ولا حول ولا قوة إلا به.
    (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)
    [الرد على النصارى في دعواهم أن كلام الرسول متناقض]
    وإن قالوا: كلامه متناقض ونحن نحتج بما يوافق قولنا، إذ مقصودنا بيان تناقضه.
    قيل لهم عن هذا أجوبة:

    أحدها: أنه في الكتب المتقدمة مما يظن أنه متعارض أضعاف ما في القرآن وأقرب إلى التناقض، فإذا كانت تلك الكتب متفقة لا تناقض فيها، وإنما يظن تناقضها من يجهل معانيها ومراد الرسل فيكون كما قيل:
    وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
    فكيف القرآن الذي هو أفضل الكتب؟
    الثاني: أنهم متمسكون بالمتشابه في تلك الكتب، ومخالفون المحكم منها كما فعلوه بالقرآن وأبلغ.
    الثالث: أنه إذا كان ما جاء به متناقضا لم يكن رسول الله، فإن ما جاء به من عند الله لا يكون مختلفا متناقضا، وإنما يتناقض ما جاء من عند غير الله، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82].

    فكل كتاب ليس من عند الله لا بد أن يكون فيه تناقض، وما كان من عند الله لا يتناقض، وحينئذ فإن كان متناقضا لم يجز لهم الاحتجاج بشيء منه ; فإنه ليس من عند الله، وإن لم يكن متناقضا ثبت أن ما فيه من عموم رسالته، وأنه رسول إليهم، فليس فيه شيء يناقضه، فإن ما جاء من عند الله لا يتناقض.
    الرابع: أنا نبين أن ما فيه من عموم رسالته لا ينافي ما فيه من أنه أرسل إلى العرب، كما أن ما فيه من إنذار عشيرته الأقربين، وأمر قريش لا ينافي ما فيه من دعوة سائر العرب ; فإن تخصيص بعض العام بالذكر
    إذا كان له سبب يقتضي التخصيص لم يدل على أن ما سوى المذكور مخالفة، وهذا الذي يسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب.
    والناس كلهم متفقون على أن التخصيص بالذكر متى كان له سبب يوجب الذكر غير الاختصاص بالحكم لم يكن للاسم اللقب مفهوم، بل ولا للصفة كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31].
    فإنه نهاهم عن ذلك ; لأنه هو الذي كانوا يفعلونه، وقد حرم في موضع آخر قتل النفس بغير الحق، سواء كان ولدا، أو غيره، ولم يكن ذلك مناقضا لتخصيص الولد بالذكر.

    الخامس: أنه في ذلك أسوة بالمسيح عليه السلام فإن المسيح خص أولا بالدعوة، ثم عم، كما قيل في الإنجيل: ما بعثت وأرسلت إلا لبني إسرائيل. وقال أيضا في الإنجيل: ما بعثت إلا لهذا الشعب الخبيث. ثم عم، فقال لتلامذته حين أرسلهم كما في الإنجيل: كما بعثني أبي أبعث بكم، فمن قبلكم فقد قبلني. وقال: أرسلني أبي، وأنا أرسلكم. وقال: كما أفعل أنا بكم، كذلك افعلوا أنتم بعباد الله فسيروا في البلاد، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس، ولا يكون لأحدكم ثوبان، ولا يحمل معه فضة ولا ذهبا ولا عصا ولا حرابة ونحو ذلك مما هو في الأناجيل التي بين أيديهم من تخصيص الدعوة ثم تعميمها، وهو صادق في ذلك كله، فكيف يسوغ لهم إنكار ما في الإنجيل عن المسيح نظيره؟ ثم يقال في بيان الحال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، كما بعث المسيح وغيره، وإن كانت رسالته أكمل وأشمل كما نذكر في موضعه، فأمره بتبليغ رسالته بحسب الإمكان إلى طائفة بعد طائفة، وأمر بتبليغ الأقرب منه مكانا ونسبا، ثم بتبليغ طائفة بعد طائفة ; حتى تبلغ النذارة إلى جميع أهل الأرض، كما قال تعالى: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19].

    أي من بلغه القرآن فكل من بلغه القرآن فقد أنذره محمد صلى الله عليه وسلم.
    ونبين هنا أن النذارة ليست مختصة بمن شافههم بالخطاب، بل ينذرهم به وينذر من بلغهم القرآن، فأمره الله تبارك وتعالى أولا بإنذار عشيرته الأقربين وهو قريش، فقال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214].
    ولما أنزل الله عليه هذه الآية انطلق صلى الله عليه وسلم إلى مكان عال فعلا عليه، ثم جعل ينادي: «يا بني عبد مناف إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه».
    وهذه القصة رواها ابن عباس وأبو هريرة وعائشة وغيرهم في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن والمسانيد والتفسير.
    قال ابن عباس: لما «نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
    وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار،فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها».

    وقالت عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية عمة رسول الله، يا عباس عم رسول الله لا أملك لكم من الله شيئا».
    وقال ابن إسحاق: «لما نزلت هذه الآية جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش، ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله»، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #228
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 226)

    من صــ 111 الى صـ 120



    تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ - سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ - وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ - فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 1 - 5].
    وَدَعَا قُرَيْشًا إِلَى اللَّهِ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْزَلَ تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ - إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ - فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4].
    وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَمْرَ جَمِيعِ الْخَلْقِ بِعِبَادَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
    وَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
    وَقُرَيْشٌ هُمْ قَوْمُهُ الَّذِينَ كَذَّبَهُ جُمْهُورُهُمْ أَوَّلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66].
    كما أن جمهور بني إسرائيل وهم قوم المسيح كذبوه أولا.
    ثم أمره الله تعالى أن يدعو سائر العرب، فكان يخرج بنفسه ومعه أبو بكر صديقه إلى قبائل العرب قبيلة قبيلة، وكانت العرب لم تزل تحج البيت من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، فكان صلى الله عليه وسلم يأتيهم في منازلهم بمنى، وعكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فلا يجد أحدا إلا دعاه إلى الله، ويقول: «يا أيها الناس، إني رسول الله آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما يعبد من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني ; حتى أبين عن الله ما بعثني به، يا أيها الناس إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي فمن يمنعني أن أبلغ كلام ربي إلا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي، يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم» فيقولون: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك هذا لعجب.
    وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن دعوته، ويظهر رسالته، ويدعو الخلق إليها، وهم يؤذونه ويجادلونه ويكلمونه، ويردون عليه بأقبح الرد، وهو صابر على أذاهم، ويقول: «اللهم لك الحمد لو شئت لم يكونوا هكذا».

    فلما اشتد عليه أمر قريش خرج إلى الطائف وهي مدينة معروفة شرقي مكة بينهما نحو ليلتين ومعه زيد بن حارثة، ومكث بها عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه في منزله وكلمه ودعاه إلى التوحيد، فلم يجبه أحد منهم، وخافوه على أحداثهم، وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة إذا مشى حتى أن رجليه لتدميان، وزيد مولاه يقيه بنفسه حتى ألجئوا إلى ظل كرمة في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فرجع عنه ما كان تبعه من سفهائهم، فدعا، فقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».

    فلما رأى ابنا ربيعة ما صنع به رثيا له، وقالا لغلام لهما يقال له عداس - وكان نصرانيا -: خذ قطفا من عنب، ثم اجعله في طبق، ثم اذهب إلى ذلك الرجل يأكله، ففعل عداس وأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، قال: بسم الله، ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ فقال عداس: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس:
    وما يدريك ما يونس بن متى؟ والله لقد خرجت من نينوى، وما فيها عشرة يعرفون متى، من أين عرفت أنت متى وأنت أمي وفي أمة أمية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أخي كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رجع عداس فقالا: ويلك يا عداس، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه ورجليه، فقال: يا سيدي، ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي.
    ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون، إذ لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم يا رسول الله وقد فعلوا وفعلوا، فقال: يا زيد، إن الله عز وجل جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.
    ثم ذكر ابن إسحاق دخوله إلى مكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقي من أهل مكة والطائف ما لقي ودعا بالدعاء المتقدم نزل عليه جبريل ومعه ملك الجبال - كما في صحيح البخاري - أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.
    قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له».

    وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: «ادع الله على المشركين، فقال: إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة».
    وفي الصحيحين: عن خباب بن الأرت، أنه قال: «لما اشتد البلاء علينا من المشركين أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقال: لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه حتى يجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب، ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله ولكنكم تستعجلون».

    وذكر ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قومه من الأذى والاستهزاء والإغراء وهو صابر محتسب، مظهر لأمر الله بتبليغ رسالته، لا تأخذه في الله لومة لائم، مواجه لقومه بما يكرهون من عيب دينهم وآلهتهم، وتضليل آبائهم، وتسفيه أحلامهم، وإظهار عداوته، وقتاله إياهم ما بلغ مبلغ القطع.
    قال عكرمة، عن ابن عباس: «ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار، فانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى فريق منهم، فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، وأخبرهم بالذي آتاه الله فأيقنوا واطمأنت قلوبهم إلى دعوته، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته، وما يدعوهم إليه فصدقوه وآمنوا به، وكان من أسباب الخير الذي ساق الله للأنصار إلى ما كانوا يسمعون من الأخبار في صفته، فلما رجعوا إلى قومهم جعلوا يدعونهم سرا، ويخبرونهم بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي بعثه الله به من النور والهدى والقرآن، فأسلموا حتى قل أن يوجد دار من دورهم إلا أسلم فيها ناس لا محالة».
    وقد ذكر الله ذلك في القرآن، وأخبر أن أهل الكتاب كانوا يخبرون العرب به ويستفتحون به عليهم، فكان أهل الكتاب مقرين بنبوته مخبرين بها مبشرين بها قبل أن يبعث، فقال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب:
    {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون - وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون - ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين - بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين - وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 87 - 91].
    فقد أخبر تعالى أن أهل الكتاب كانوا يستفتحون على العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث - أي يستنصرون به - وكانوا هم والعرب يقتتلون فيغلبهم العرب، فيقولون: سوف يبعث النبي الأمي من ولد إسماعيل فنتبعه ونقتلكم معه شر قتلة، وكانوا ينعتونه بنعوته.

    وأخبارهم بذلك كثيرة متواترة، وكما قال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [البقرة: 89].
    وأخبر بما كانت عليه اليهود من أنه كلما جاءهم رسول الله بما لا تهوى أنفسهم كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم، وأخبر أنهم باءوا بغضب على غضب ; فإنهم ما زالوا يفعلون ما يغضب الله عليهم، فإما أن يراد بالتثنية تأكيد غضب الله عليهم، وإما أن يراد به مرتان، والغضب الأول: تكذيبهم المسيح والإنجيل، والغصب الثاني: لمحمد والقرآن.
    (فصل في أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى)

    ونزيده تقريرا أن الله سبحانه يقول: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} {قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} وقال تعالى: {الر تلك آيات الكتاب المبين} {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} فأخبر أنه أنزله ليعقلوه وأنه طلب تذكرهم. وقال أيضا: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}
    فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكر فيه ولم يستثن من ذلك شيئا؛ بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه مثل قوله {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} وقوله {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}
    ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفه ما لم يتدبر لما تدبر.
    وقال علي رضي الله عنه لما قيل له: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة. فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة والفهم أخص من العلم والحكم قال الله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {رب مبلغ أوعى من سامع} وقال {بلغوا عني ولو آية}.
    وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول: لو أعلم أعلم بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته. وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وترجمان القرآن كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتا للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم ومثلهما في جلالته جلالة أصحاب زيد بن ثابت؛ لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به بل أخذوا عن غيره مثل عمر وابن عمر وابن عباس.

    ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه. ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية.
    قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #229
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 227)

    من صــ 121 الى صـ 130





    وسئل شيخ الإسلام:
    عن رجل سمع كتب الحديث والتفسير وإذا قرئ عليه " كتاب الحلية " لم يسمعه فقيل له: لم لا تسمع أخبار السلف؟ فقال: لا أسمع من كتاب أبي نعيم شيئا. فقيل: هو إمام ثقة شيخ المحدثين في وقته فلم لا تسمع ولا تثق بنقله؟ فقيل له: بيننا وبينك عالم الزمان وشيخ الإسلام ابن تيمية في حال أبي نعيم؟ فقال: أنا أسمع ما يقول شيخ الإسلام وأرجع إليه. فأرسل هذا السؤال من دمشق
    فأجاب فيه الشيخ:

    الحمد لله رب العالمين، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني صاحب كتاب " حلية الأولياء " " وتاريخ أصبهان " " والمستخرج على البخاري ومسلم " و " كتاب الطب " " وعمل اليوم والليلة " و " فضائل الصحابة " و " دلائل النبوة " و " صفة الجنة " و " محجة الواثقين " وغير ذلك من المصنفات: من أكبر حفاظ الحديث ومن أكثرهم تصنيفات وممن انتفع الناس بتصانيفه وهو أجل من أن يقال له: ثقة؛ فإن درجته فوق ذلك وكتابه " كتاب الحلية " من أجود الكتب المصنفة في أخبار الزهاد والمنقول فيه أصح من المنقول في رسالة القشيري ومصنفات أبي عبد الرحمن السلمي شيخه ومناقب الأبرار لابن خميس وغير ذلك؛ فإن أبا نعيم أعلم بالحديث وأكثر حديثا وأثبت رواية ونقلا من هؤلاء ولكن كتاب الزهد للإمام أحمد والزهد لابن المبارك وأمثالهما أصح نقلا من الحلية.

    وهذه الكتب وغيرها لا بد فيها من أحاديث ضعيفة وحكايات ضعيفة بل باطلة وفي الحلية من ذلك قطع ولكن الذي في غيرها من هذه الكتب أكثر مما فيها؛ فإن في مصنفات أبي عبد الرحمن السلمي؛ ورسالة القشيري؛ ومناقب الأبرار؛ ونحو ذلك من الحكايات الباطلة بل ومن الأحاديث الباطلة: ما لا يوجد مثله في مصنفات أبي نعيم ولكن " صفوة الصفوة " لأبي الفرج ابن الجوزي نقلها من جنس نقل الحلية والغالب على الكتابين الصحة ومع هذا ففيهما أحاديث وحكايات باطلة وأما الزهد للإمام أحمد ونحوه فليس فيه من الأحاديث والحكايات الموضوعة مثل ما في هذه؛ فإنه لا يذكر في مصنفاته عمن هو معروف بالوضع بل قد يقع فيها ما هو ضعيف بسوء حفظ ناقله وكذلك الأحاديث المرفوعة ليس فيها ما يعرف أنه موضوع قصد الكذب فيه كما ليس ذلك في مسنده لكن فيه ما يعرف أنه غلط غلط فيه رواته ومثل هذا يوجد في غالب كتب الإسلام فلا يسلم كتاب من الغلط إلا القرآن.
    وأجل ما يوجد في الصحة " كتاب البخاري " وما فيه متن يعرف أنه غلط على الصاحب لكن في بعض ألفاظ الحديث ما هو غلط وقد بين البخاري في نفس صحيحه ما بين غلط ذلك الراوي كما بين اختلاف الرواة في ثمن بعير جابر وفيه عن بعض الصحابة ما يقال: إنه غلط كما فيه عن ابن عباس: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم} والمشهور عند أكثر الناس أنه تزوجها حلالا. وفيه عن أسامة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في البيت}. وفيه عن بلال: أنه صلى فيه وهذا أصح عند العلماء.
    وأما مسلم ففيه ألفاظ عرف أنها غلط كما فيه: {خلق الله التربة يوم السبت} وقد بين البخاري أن هذا غلط وأن هذا من كلام كعب وفيه أن {النبي صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف بثلاث ركعات في كل ركعة} والصواب: أنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة وفيه أن أبا سفيان سأله التزوج بأم حبيبة وهذا غلط. وهذا من أجل فنون العلم بالحديث يسمى: علم " علل الحديث " وأما كتاب حلية الأولياء فمن أجود مصنفات المتأخرين في أخبار الزهاد وفيه من الحكايات ما لم يكن به حاجة إليه والأحاديث المروية في أوائلها أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة.

    وسئل:
    عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن وهو ناو كتابة الحديث وغيره وإذا نسخ لنفسه أو للبيع هل يؤجر؟ إلخ.
    فأجاب: وأما كتب الحديث المعروفة: مثل البخاري ومسلم. فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن وما جمع بينهما: مثل الجمع بين الصحيحين للحميدي ولعبد الحق الإشبيلي وبعد ذلك كتب السنن: كسنن أبي داود؛ والنسائي؛ وجامع الترمذي؛ والمساند: كمسند الشافعي؛ ومسند الإمام أحمد. وموطأ مالك فيه الأحاديث والآثار وغير ذلك وهو من أجل الكتب حتى قال الشافعي:

    ليس تحت أديم السماء بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك يعني بذلك ما صنف على طريقته؛ فإن المتقدمين كانوا يجمعون في الباب بين المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ولم تكن وضعت كتب الرأي التي تسمى " كتب الفقه " وبعد هذا جمع الحديث المسند في جمع الصحيح للبخاري ومسلم والكتب التي تحب ويؤجر الإنسان على كتابتها سواء كتبها لنفسه أو كتبها ليبيعها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه؛ والرامي به؛ والممد به} فالكتابة كذلك؛ لينتفع به أو لينفع به غيره. كلاهما يثاب عليه.
    (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا (85)
    والشافع الذي يعين غيره فيصير معه شفعا بعد أن كان وترا؛ ولهذا فسرت " الشفاعة الحسنة " بإعانة المؤمنين على الجهاد و " الشفاعة السيئة " بإعانة الكفار على قتال المؤمنين كما ذكر ذلك ابن جرير وأبو سليمان. وفسرت " الشفاعة الحسنة " بشفاعة الإنسان للإنسان ليجتلب له نفعا أو يخلصه من بلاء كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد؛ فالشفاعة الحسنة إعانة على خير يحبه الله ورسوله؛ من نفع من يستحق النفع ودفع الضر عمن يستحق دفع الضرر عنه.
    و " الشفاعة السيئة " إعانته على ما يكرهه الله ورسوله كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان أو منع الإحسان الذي يستحقه. وفسرت الشفاعة الحسنة بالدعاء للمؤمنين والسيئة بالدعاء عليهم، وفسرت الشفاعة الحسنة بالإصلاح بين اثنين وكل هذا صحيح. فالشافع زوج المشفوع له إذ المشفوع عنده من الخلق إما أن يعينه على بر وتقوى وإما أن يعينه على إثم وعدوان. وكان {النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة قال لأصحابه: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء}.
    (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)
    ولم يذكر: (أبدا). وقد قيل: إن لفظ " التأبيد " لم يجئ إلا مع الكفر.
    وسئل - رحمه الله -:
    عن رجلين اختلفا في قتل النفس عمدا. فقال أحدهما: إن هذا ذنب لا يغفر وقال الآخر: إذا تاب تاب الله عليه؟
    فأجاب:
    أما حق المظلوم فإنه لا يسقط باستغفار الظالم القاتل؛ لا في قتل النفس؛ ولا في سائر مظالم العباد؛ فإن حق المظلوم لا يسقط بمجرد الاستغفار؛ لكن تقبل توبة القاتل وغيره من الظلمة؛ فيغفر الله له بالتوبة الحق الذي له.
    وأما حقوق المظلومين فإن الله يوفيهم إياها: إما من حسنات الظالم وإما من عنده. والله أعلم.
    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    عن القاتل عمدا أو خطأ: هل يدفع الكفارة المذكورة في القرآن {فصيام شهرين متتابعين}؟ أو يطالب بدية القتل؟
    فأجاب:
    " قتل الخطأ " لا يجب فيه إلا الدية والكفارة ولا إثم فيه.
    وأما القاتل عمدا فعليه الإثم فإذا عفى عنه أولياء المقتول أو أخذوا الدية: لم يسقط بذلك حق المقتول في الآخرة. وإذا قتلوه ففيه نزاع في مذهب أحمد. والأظهر أن لا يسقط؛ لكن القاتل إذا كثرت حسناته أخذ منه بعضها ما يرضى به المقتول أو يعوضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحا. وقاتل الخطأ تجب عليه الدية بنص القرآن واتفاق الأمة والدية تجب للمسلم والمعاهد كما قد دل عليه القرآن وهو قول السلف والأئمة؛ ولا يعرف فيه خلاف متقدم؛ لكن بعض متأخري الظاهرية زعم أنه الذي لا دية له.
    وأما " القاتل عمدا " ففيه القود فإن اصطلحوا على الدية. جاز ذلك بالنص والإجماع فكانت الدية من مال القاتل؛ بخلاف الخطأ فإن ديته على عاقلته.
    وأما " الكفارة " فجمهور العلماء يقولون: قتل العمد أعظم من أن يكفر كذلك قالوا في اليمين الغموس. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه كما اتفقوا كلهم على أن الزنى أعظم من أن يكفر؛ فإنما وجبت الكفارة بوطء المظاهر والوطء في رمضان. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: بل تجب الكفارة في العمد واليمين الغموس. واتفقوا على أن الإثم لا يسقط بمجرد الكفارة.
    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    عن جماعة اشتركوا في قتل رجل وله ورثة صغار وكبار: فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم؛ أم لا؟ وإذا وافق ولي الصغار - الحاكم أو غيره - على القتل مع الكبار: فهل يقتلون أم لا؟
    فأجاب:
    إذا اشتركوا في قتله وجب القود على جميعهم باتفاق الأئمة الأربعة وللورثة أن يقتلوا ولهم أن يعفوا. فإذا اتفق الكبار من الورثة على قتلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين. وكذا إذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فيقتلون.

    وسئل - رحمه الله -:
    عن الإنسان يقتل مؤمنا متعمدا أو خطأ وأخذ منه القصاص في الدنيا أولياء المقتول والسلطان: فهل عليه القصاص في الآخرة أم لا؟ وقد قال تعالى: {النفس بالنفس}.
    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، أما القاتل خطأ فلا يؤخذ منه قصاص؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لكن الواجب في ذلك الكفارة ودية مسلمة إلى أهل القتيل إلا أن يصدقوا.
    وأما " القاتل عمدا " إذا اقتص منه في الدنيا: فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة؟ فيه قولان في مذهب أحمد وكذلك غيره فيما أظن من يقول: لا حق له عليه؛ لأن الذي عليه استوفي منه في الدنيا. ومنهم من يقول: بل عليه حق؛ فإن حقه لم يسقط بقتل الورثة كما لم يسقط حق الله بذلك؛ وكما لا يسقط حق المظلوم الذي غصب ماله وأعيد إلى ورثته؛ بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته. والله أعلم.
    وسئل - رحمه الله -:
    عن رجل قتل رجلا عمدا؛ وللمقتول بنت عمرها خمس سنين وزوجته حامل منه وأبناء عم: فهل يجوز أن يقتص منه قبل بلوغ البنت ووضع الحمل؛ أم لا؟
    فأجاب:
    الحمد لله، ليس لسائر الورثة قبل وضع الحمل أن يقتصوا منه؛ إلا عند مالك فإن عنده للعصبة أن يقتصوا منه قبل ذلك. أما إن وضعت بنتا أو بنتين بحيث يكون لبني العم نصيب من التركة: كان للعصبة أن يقتصوا قبل بلوغ البنات عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية؛ ولم يجز لهن القصاص في المشهور عنه؛ وهو قول الشافعي. وهل لولي البنات كالحاكم أن يقوم مقامهن في الاستيفاء والصلح على مال؟ روايتان عن أحمد. " إحداهما " وهو قول جمهور العلماء جواز ذلك. و " الثانية " لا يجوز القصاص؛ كقول الشافعي؛ لكن إذا كانت البنات محاويج هل لوليهن المصالحة على مال لهن؟ فيه خلاف مشهور في مذهب الشافعي.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #230
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 228)

    من صــ 131 الى صـ 140





    (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95) درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96)
    فالله تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز؛ ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز؛ بل يقال: دليل الخطاب يقتضي مساواته إياه. ولفظ الآية صريح. استثنى أولو الضرر من نفي المساواة فالاستثناء هنا هو من النفي وذلك يقتضي أن أولي الضرر قد يساوون القاعدين وإن لم يساووهم في الجميع ويوافقه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك: {إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. قالوا: وهم بالمدينة. قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر} فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة. ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إلا العذر. ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
    {إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم} فإنه إذا كان يعمل في الصحة والإقامة عملا ثم لم يتركه إلا لمرض أو سفر ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة لا لضعف النية وفتورها فكان له من الإرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إلا لضعف القدرة ما للعامل والمسافر وإن كان قادرا مع مشقة كذلك بعض المرض إلا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة كما في قوله تعالى
    {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وقوله: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا}ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان بل لا بد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة بل أو مكافئة. ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا} وقوله: {من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء} فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس وجهاد بالمال فإذا بذل هذا بدنه وهذا ماله مع وجود الإرادة الجازمة في كل منهما كان كل منهما مجاهدا بإرادته الجازمة ومبلغ قدرته وكذلك لا بد للغازي من خليفة في الأهل فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضا غاز وكذلك الصيام لا بد فيه من إمساك ولا بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم وإلا فالصائم الذي لا يستطيع العشاء لا يتمكن من الصوم. وكذلك قوله في الحديث الصحيح:

    {إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجور بعض شيئا} وكذلك قوله في حديث أبي موسى: {الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين} أخرجاه. وذلك أن إعطاء الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به موفرا طيبة به نفسه لا يكون إلا مع الإرادة الجازمة الموافقة لإرادة الآمر وقد فعل مقدوره وهو الامتثال فكان أحد المتصدقين. ومن هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله علما ومالا فهو يعمل فيه بطاعة الله فقال رجل: لو أن لي مثل فلان لعملت بعمله فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء} وقد رواه الترمذي مطولا وقال حديث حسن صحيح فهذا التساوي مع " الأجر والوزر " هو في حكاية حال من قال ذلك وكان صادقا فيه وعلم الله منه إرادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب.

    وليس هذه الحال تحصل لكل من قال: " لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل " إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم لو اقترنت به القدرة لانفسخت عزيمته كعامة الخلق يعاهدون وينقضون وليس كل من عزم على شيء عزما جازما قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل تبقى تلك الإرادة عند القدرة المقارنة للصوارف كما قال تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} وكما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} وكما قال: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون}.
    (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا (101)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وأما قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فهنا علق القصر بسببين: الضرب في الأرض والخوف من فتنة الذين كفروا؛ لأن القصر المطلق يتناول قصر عددها وقصر عملها وأركانها.
    مثل الإيماء بالركوع والسجود فهذا القصر إنما يشرع بالسببين كلاهما كل سبب له قصر. فالسفر يقتضي قصر العدد والخوف يقتضي قصر الأركان. ولو قيل: إن القصر المعلق هو قصر الأركان فإن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر لكان وجيها. ولهذا قال: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة}. فقد ظهر بهذا أن القصر لا يسوى بالجمع فإنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعته لأمته بل الإتمام في السفر أضعف من الجمع في السفر. فإن الجمع قد ثبت عنه أنه كان يفعله في السفر أحيانا وأما الإتمام فيه فلم ينقل عنه قط وكلاهما مختلف فيه بين الأئمة فإنهم مختلفون في جواز الإتمام: وفي " جواز الجمع متفقون على جواز القصر وجواز الإفراد. فلا يشبه بالسنة المتواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليه في أسفاره وقد اتفقت الأمة عليه، فلا يصار إلى أن ما فعله في سفره مرات متعددة متفق عليه وقد تنازعت فيه الأمة.

    وقال - رحمه الله تعالى -:
    وأما قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فإن نفي الجناح لبيان الحكم وإزالة الشبهة لا يمنع أن يكون القصر هو السنة. كما قال: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} نفى الجناح لأجل الشبهة التي عرضت لهم من الطواف بينهما؛ لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من كراهة بعضهم للطواف بينهما والطواف بينهما مأمور به باتفاق المسلمين وهو إما ركن وإما واجب وإما سنة مؤكدة. وهو سبحانه ذكر الخوف والسفر لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان فالخوف يبيح قصر الأركان والسفر يبيح قصر العدد فإذا اجتمعا أبيح القصر بالوجهين وإن انفرد السفر أبيح أحد نوعي القصر والعلماء متنازعون في المسافر: هل فرضه الركعتان؟ ولا يحتاج قصره إلى نية؟ أم لا يقصر إلا بنية؟ على قولين:
    (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107)

    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    فصل:
    في قوله تعالى {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} فقوله: {يختانون أنفسهم} مثل قوله في سورة البقرة {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} قال ابن قتيبة وطائفة من المفسرين: معناه تخونون أنفسكم. زاد بعضهم: تظلمونها. فجعلوا الأنفس مفعول {تختانون} وجعلوا الإنسان قد خان نفسه أي ظلمها بالسرقة كما فعل ابن أبيرق - أو بجماع امرأته ليلة الصيام كما فعل بعض الصحابة - وهذا القول فيه نظر؛ فإن كل ذنب يذنبه الإنسان فقد ظلم فيه نفسه سواء فعله سرا أو علانية.
    وإذا كان اختيان النفس هو ظلمها أو ارتكاب ما حرم عليها كان كل مذنب مختانا لنفسه وإن جهر بالذنوب وكان كفر الكافرين وقتالهم للأنبياء وللمؤمنين اختيانا لأنفسهم وكذلك قطع الطريق والمحاربة وكذلك الظلم الظاهر وكان ما فعله قوم نوح وهود وصالح وشعيب اختيانا لأنفسهم. ومعلوم أن هذا اللفظ لم يستعمل في هذه المعاني كلها وإنما استعمل في خاص من الذنوب مما يفعل سرا وحتى قال ابن عباس في قوله: {تختانون أنفسكم} عنى بذلك فعل عمر فإنه روي أنه {لما جاء الأنصاري فشكى أنه بات تلك الليلة ولم يتعش لما نام قبل العشاء وكان من نام قبل الأكل حرم عليه الأكل فيستمر صائما فأصبح يتقلب ظهرا لبطن فلما شكا حاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر: يا رسول الله إني أردت أهلي الليلة فقالت إنها قد نامت فظننتها لم تنم فواقعتها فأخبرتني أنها كانت قد نامت قالوا: فأنزل الله في عمر: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}.

    وقد قيل: إن الجماع ليلة الصيام كانوا منهيين عنه مطلقا بخلاف الأكل فإنه كان مباحا قبل النوم. وقد روي {أن عمر جامع امرأته بعد العشاء قبل النوم وأنه لما فعل أخذ يلوم نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعتذر إلى الله من نفسي هذه الخائنة إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر} وجاء طائفة من الصحابة فذكروا مثل ذلك فأنزل الله هذه الآية. فهذا فيه أن نفسه الخاطئة سولت له ذلك ودعته إليه وأنه أخذ يلومها بعد الفعل فالنفس هنا هي الخائنة الظالمة والإنسان تدعوه نفسه في السر إذا لم يره أحد إلى أفعال لا تدعو إليها علانية وعقله ينهاه عن تلك الأفعال ونفسه تغلبه عليها.
    ولفظ الخيانة حيث استعمل لا يستعمل إلا فيما خفي عن المخون كالذي يخون أمانته فيخون من ائتمنه إذا كان لا يشاهده ولو شاهده لما خانه. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} وقال تعالى: {ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم} وقالت امرأة العزيز: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} وقال تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قام: {أما فيكم رجل يقوم إلى هذا فيضرب عنقه؟ فقال له رجل: هلا أومضت إلي؟ فقال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين} قال تعالى: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما}{يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وفي حديث آخر {على كل خلق يطبع المؤمن إلا الخيانة والكذب} ومثل هذا كثير. وإذا كان كذلك فالإنسان كيف يخون نفسه. وهو لا يكتمها ما يقوله ويفعله سرا عنها؟ كما يخون من لا يشهده من الناس؟ كما يخون الله والرسول إذا لم يشاهده فلا يكون ممن يخاف الله بالغيب ولم خصت هذه الأفعال بأنها خيانة للنفس دون غيرها؟ فالأشبه - والله أعلم - أن يكون قوله: {تختانون أنفسكم} مثل قوله: {إلا من سفه نفسه}.
    والبصريون يقولون في مثل هذا: إنه منصوب على أنه مفعول له ويخرجون قوله: {سفه} عن معناه في اللغة فإنه فعل لازم؛ فيحتاجون أن ينقلوه من اللزوم إلى التعدية بلا حجة. وأما الكوفيون - كالفراء وغيره ومن تبعهم - فعندهم أن هذا منصوب على التمييز وعندهم أن المميز قد يكون معرفة كما يكون نكرة وذكروا لذلك شواهد كثيرة من كلام العرب مثل قولهم: ألم فلان رأسه ووجع بطنه ورشد أمره. وكان الأصل سفهت نفسه ورشد أمره.

    ومنه قولهم: غبن رأيه وبطرت نفسه فقوله تعالى: {بطرت معيشتها} من هذا الباب فالمعيشة نفسها بطرت فلما كان الفعل. . . (1) نصبه على التمييز قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس} فقوله: {سفه نفسه} معناه إلا من سفهت نفسه أي كانت سفيهة فلما أضاف الفعل إليه نصبها على التمييز كما في قوله: {واشتعل الرأس شيبا} ونحو ذلك. وهذا اختيار ابن قتيبة وغيره؛ لكن ذاك نكرة وهذا معرفة. وهذا الذي قاله الكوفيون أصح في اللغة والمعنى؛ فإن الإنسان هو السفيه نفسه: كما قال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس} {ولا تؤتوا السفهاء} فكذلك قوله: {تختانون أنفسكم} أي تختان أنفسكم فالأنفس هي التي اختانت كما أنها هي السفيهة. وقال: اختانت ولم يقل خانت؛ لأن الافتعال فيه زيادة فعل على ما في مجرد الخيانة قال عكرمة: والمراد بالذين يختانون أنفسهم ابن أبيرق الذي سرق الطعام والقماش وجعل هو وقومه يقولون: إنما سرق فلان لرجل آخر.
    __________
    Q (1) بياض بالأصل




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #231
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 229)

    من صــ 141 الى صـ 150





    فهؤلاء اجتهدوا في كتمان سرقة السارق ورمي غيره بالسرقة كما قال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} فكانوا خائنين للصاحب والرسول وقد اكتسبوا الخيانة. وكذلك الذين كانوا يجامعون بالليل وهم يجتهدون في أن ذلك لا يظهر عنهم حين يفعلونه وإن أظهروه فيما بعد عند التوبة أما عند الفعل فكانوا يحتاجون من ستر ذلك وإخفائه ما لا يحتاج إليه الخائن وحده أو يكون قوله: {تختانون أنفسكم} أي يخون بعضكم بعضا كقوله: {فاقتلوا أنفسكم} وقوله:
    {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} وقوله: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} فإن السارق وأقواما خانوا إخوانهم المؤمنين. والمجامع إن كان جامع امرأته وهي لا تعلم أنه حرام فقد خانها والأول أشبه. والصيام مبناه على الأمانة فإن الصائم يمكنه الفطر ولا يدري به أحد فإذا أفطر سرا فقد خان أمانته والفطر بالجماع المستور خيانة كما أن أخذ المال سرا وإخبار الرسول والمظلوم ببراءة السقيم وسقم البريء خيانة فهذا كله خيانة والنفس هي التي خانت؛ فإنها تحب الشهوة والمال والرئاسة وخان واختان مثل كسب واكتسب فجعل الإنسان مختانا.
    ثم بين أن نفسه هي التي تختان كما أنها هي التي تضر؛ لأن مبدأ ذلك من شهوتها ليس هو مما يأمر به العقل والرأي ومبدأ السفه منها لخفتها وطيشها والإنسان تأمره نفسه في السر بأمور ينهاها عنه العقل والدين فتكون نفسه اختانته وغلبته وهذا يوجد كثيرا في أمر الجماع والمال؛ ولهذا لا يؤتمن على ذلك أكثر الناس ويقصد بالائتمان من لا تدعوه نفسه إلى الخيانة في ذلك. قال سعيد بن المسيب: لو ائتمنت على بيت مال لأديت الأمانة ولو ائتمنت على امرأة سوداء لخفت أن لا أؤدي الأمانة فيها. وكذلك المال لا يؤتمن عليه أصحاب الأنفس الحريصة على أخذه كيف اتفق. وهذا كله مما يبين أن النفس تخون أمانتها وإن كان الرجل ابتداء لا يقصد الخيانة فتحمله على الخيانة بغير أمره وتغلبه على رأيه ولهذا يلوم المرء نفسه على ذلك ويذمها ويقول هذه النفس الفاعلة الصانعة؛ فإنها هي التي اختانت.

    فصل:
    ودل قوله: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} أنه لا يجوز الجدال عن الخائن ولا يجوز للإنسان أن يجادل عن نفسه إذا كانت خائنة: لها في السر أهواء وأفعال باطنة تخفى على الناس فلا يجوز المجادلة عنها قال تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} وقال تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وقد قال تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} {ولو ألقى معاذيره} فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها وهو يبصرها بخلاف ذلك وقال تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} وقال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام}.

    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم} فهو يجادل عن نفسه بالباطل وفيه لدد: أي ميل واعوجاج عن الحق وهذا على نوعين: أحدهما أن تكون مجادلته وذبه عن نفسه مع الناس و " الثاني " فيما بينه وبين ربه بحيث يقيم أعذار نفسه ويظنها محقة وقصدها حسنا وهي خائنة ظالمة لها أهواء خفية قد كتمتها حتى لا يعرف بها الرجل حتى يرى وينظر قال شداد بن أوس: إن أخوف ما أخاف عليكم الشهوة الخفية قال أبو داود: هي حب الرياسة. وهذا من شأن النفس حتى إنه يوم القيامة يريد أن يدفع عن نفسه ويجادل الله بالباطل قال تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون}
    {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} وقال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} {انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}. وقد جاءت الأحاديث بأن الإنسان يجحد أعماله يوم القيامة حتى يشهد عليه سمعه وبصره وجوارحه. وقال تعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون}.
    ومن عادة المنافقين المجادلة عن أنفسهم بالكذب والأيمان الفاجرة وصفهم الله بذلك في غير موضع. {وفي قصة تبوك لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وجاء المنافقون يعتذرون إليه فجعل يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله فلما جاء كعب قال: والله يا رسول الله لو قعدت بين يدي ملك من ملوك الأرض لقدرت أن أخرج من سخطه: إني أوتيت جدلا؛ ولكن أخاف إن حدثتك حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي؛ ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى قط ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق يعني والباقي يكذبون ثم إنه هجره مدة ثم تاب الله عليه ببركة صدقه}.
    فالاعتذار عن النفس بالباطل والجدال عنها لا يجوز؛ بل إن أذنب سرا بينه وبين الله اعترف لربه بذنبه وخضع له بقلبه وسأله مغفرته وتاب إليه فإنه غفور رحيم تواب وإن كانت السيئة ظاهرة تاب ظاهرا وإن أظهر جميلا وأبطن قبيحا تاب في الباطن من القبيح فمن أساء سرا أحسن سرا ومن أساء علانية أحسن علانية {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}.
    (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115)
    قال العلماء: من لم يكن متبعا سبيلهم كان متبعا غير سبيلهم فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه.
    (فصل في أن الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة)

    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وهذه " الآية " تدل على أن إجماع المؤمنين حجة من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول وأن كل ما أجمعوا عليه فلا بد أن يكون فيه نص عن الرسول؛ فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين؛ فإنها مما بين الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر كما يكفر مخالف النص البين. وأما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به فهنا قد لا يقطع أيضا بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر؛ بل قد يكون ظن الإجماع خطأ. والصواب في خلاف هذا القول وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع وما لا يكفر. و " الإجماع " هل هو قطعي الدلالة أو ظني الدلالة؟.

    فإن من الناس من يطلق الإثبات بهذا أو هذا، ومنهم من يطلق النفي لهذا ولهذا. والصواب التفصيل بين ما يقطع به من الإجماع ويعلم يقينا أنه ليس فيه منازع من المؤمنين أصلا؛ فهذا يجب القطع بأنه حق؛ وهذا لا بد أن يكون مما بين فيه الرسول الهدى؛ كما قد بسط هذا في موضع آخر. ومن جهة أنه إذا وصف الواجب بصفات متلازمة؛ دل على أن كل صفة من تلك الصفات متى ظهرت وجب اتباعها وهذا مثل {الصراط المستقيم} الذي أمرنا الله بسؤال هدايته؛ فإنه قد وصف بأنه الإسلام ووصف بأنه اتباع القرآن ووصف بأنه طاعة الله ورسوله ووصف بأنه طريق العبودية؛ ومعلوم أن كل اسم من هذه الأسماء يجب اتباع مسماه، ومسماها كلها واحد وإن تنوعت صفاته؛ فأي صفة ظهرت وجب اتباع مدلولها فإنه مدلول الأخرى. وكذلك أسماء الله تعالى وأسماء كتابه وأسماء رسوله هي مثل أسماء دينه.
    وكذلك قوله تعالى. {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} قيل: حبل الله هو دين الإسلام وقيل: القرآن وقيل: عهده وقيل: طاعته وأمره وقيل جماعة المسلمين؛ وكل هذا حق. وكذلك إذا قلنا: الكتاب والسنة والإجماع فمدلول الثلاثة واحد فإن كل ما في الكتاب فالرسول صلى الله عليه وسلم موافق له والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب وكذلك كل ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن يأمر باتباعه فيه والمؤمنون مجمعون على ذلك. وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا يكون إلا حقا موافقا لما في الكتاب والسنة؛ لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فينزل عليه وحي القرآن ووحي آخر هو الحكمة كما قال صلى الله عليه وسلم {ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه}.

    وقال حسان بن عطية: {كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن}. فليس كل ما جاءت به السنة يجب أن يكون مفسرا في القرآن؛ بخلاف ما يقوله أهل الإجماع؛ فإنه لا بد أن يدل عليه الكتاب والسنة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله في أمره ونهيه وتحليله وتحريمه؛ والمقصود ذكر الإيمان.
    ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم {لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر}. وقوله: {آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار}. فإن من علم ما قامت به الأنصار من نصر الله ورسوله من أول الأمر وكان محبا لله ولرسوله؛ أحبهم قطعا فيكون حبه لهم علامة الإيمان الذي في قلبه ومن أبغضهم لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه. وكذلك من لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه الله ورسوله من الكفر والفسوق والعصيان؛ لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه فإن لم يكن مبغضا لشيء من المحرمات أصلا؛ لم يكن معه إيمان أصلا كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وكذلك من لا يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه؛ لم يكن معه ما أوجبه الله عليه من الإيمان فحيث نفى الله الإيمان عن شخص؛ فلا يكون إلا لنقص ما يجب عليه من الإيمان ويكون من المعرضين للوعيد ليس من المستحقين للوعد المطلق.

    (فصل آخر)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وقال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
    وكان عمر بن عبد العزيز يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيرا قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله ومعونة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله تعالى ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
    والشافعي رضي الله عنه لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع كما كان هو وغيره ومالك ذكر عن عمر ابن عبد العزيز والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مستحق للوعيد ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره.
    وهنا للناس ثلاثة أقوال: قيل: اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرد مخالفة الرسول المذكورة في الآية. وقيل: بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم وقيل: بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية لكن هذا لا يقتضي مفارقة الأول بل قد يكون مستلزما له فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين وهذا كما في طاعة الله والرسول فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم وهما متلازمان فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
    وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أطاعني فقد أطاع الله؛ ومن أطاع أميري فقد أطاعني؛ ومن عصاني فقد عصى الله؛ ومن عصى أميري فقد عصاني} وقال: {إنما الطاعة في المعروف} يعني: إذا أمر أميري بالمعروف فطاعته من طاعتي وكل من عصى الله فقد عصى الرسول؛ فإن الرسول يأمر بما أمر الله به بل من أطاع رسولا واحدا فقد أطاع جميع الرسل ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع ومن عصى واحدا منهم فقد عصى الجميع ومن كذب واحدا منهم فقد كذب الجميع؛ لأن كل رسول يصدق الآخر ويقول: إنه رسول صادق ويأمر بطاعته فمن كذب رسولا فقد كذب الذي صدقه ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته. ولهذا كان دين الأنبياء واحدا كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد}.

    وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين} {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}. ودين الأنبياء كلهم الإسلام كما أخبر الله بذلك في غير موضع.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #232
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 230)

    من صــ 151 الى صـ 160





    (فصل)
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    والآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع؛ فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين وهذا لا نزاع فيه؛ أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول وهذا لا نزاع فيه؛ أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة وهذا لا نزاع فيه؛ فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النزاع. وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقا وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية.
    والقول الثالث الوسط: أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا كما تقدم لكن لا ينفي تلازمهما كما ذكر في طاعة الله والرسول. وحينئذ نقول: الذم إما أن يكون لاحقا لمشاقة الرسول فقط؛ أو باتباع غير سبيلهم فقط؛ أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر؛ أو بكل منهما لكونه مستلزما للآخر.

    والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعا لا فائدة فيه وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعا؛ فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه؛ ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية؛ فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع. بقي القسم الآخر وهو أن كلا من الوصفين يقتضي الوعيد لأنه مستلزم للآخر كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار ومثله قوله: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره فمن كفر بالله كفر بالجميع ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرا بالله إذ كذب رسله وكتبه وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرا. وكذلك قوله: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} ذمهم على الوصفين وكل منهما مقتض للذم وهما متلازمان؛ ولهذا نهى عنهما جميعا في قوله:

    {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق. فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا؛ فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد فدل على أنه وصف مؤثر في الذم فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول فالمخالف لهم مخالف للرسول كما أن المخالف للرسول مخالف لله ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول؛ وهذا هو الصواب.
    فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع. فيستدل به كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص وهو دليل ثان مع النص كالأمثال المضروبة في القرآن وكذلك الإجماع دليل آخر كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.
    وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش؛ فإن الأغلب كان عليهم التجارة وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك والسنة: قوله وفعله وإقراره. فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.
    والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ويعتمد عليه الفقهاء لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربا فجعله مضاربة وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة. وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص لكن كان النص عند غيرهم.
    وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول مع قولهم بصحة القياس. ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع وكما يكون في المسألة نص خاص.

    وقد استدل فيها بعضهم بعموم كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}
    وقال ابن مسعود: سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى أي: بعد البقرة؛ وقوله: {أجلهن أن يضعن حملهن} يقتضي انحصار الأجل في ذلك فلو أوجب عليها أن تعد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها وعلي وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود. وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها: هل لها مهر المثل؟ أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك وقد خالفه علي وزيد وغيرهما فقالوا: لا مهر لها.
    فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على إنه لا نص فيها؛ بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص أولئك احتجوا بنص كالمتوفى عنها الحامل وهؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها والآخرين قالوا: إنما يدخل في آية الحمل فقط وأن آية الشهور في غير الحامل كما أن آية القروء في غير الحامل. وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله: {لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
    (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123)

    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الألم التي هي عذاب فإن ذلك يكفر الله به خطاياه كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه}..
    وفي المسند {لما نزلت هذه الآية: {من يعمل سوءا يجز به} قال أبو بكر: يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا فقال: يا أبا بكر ألست تحزن ألست يصيبك الأذى} فإن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، كما قال تعالى: {طبتم فادخلوها خالدين} وفي الحديث الصحيح: {أنهم إذا عبروا على الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة}.
    (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125)
    قال المفسرون وأهل اللغة: معنى الآية: أخلص دينه وعمله لله وهو محسن في عمله.
    وقال الفراء في قوله: {فقل أسلمت وجهي لله} [سورة آل عمران: 20] أخلصت عملي. وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله. وهو كما قالوا، كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر.
    وهذا المعنى يدور عليه القرآن ; فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه، وعبادته فعل ما أمر، وترك ما حظر. والأول هو إخلاص الدين والعمل لله. والثاني هو الإحسان، وهو العمل الصالح. ولهذا كان عمر يقول في دعائه: " اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا ".
    وهذا هو الخالص الصواب، كما قال الفضيل بن عياض في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
    قال أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل: حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.

    والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغي به وجه الله، وأن يكون مطابقا للأمر.
    وفي الحديث: " «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليما بما يأمر به ; عليما بما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه» ". فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم بعد الأمر ; فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان عالما ولم يكن رفيقا، كان كالطبيب الذي لا رفق فيه، فيغلظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد.
    وقد قال تعالى لموسى وهارون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [سورة طه: 44].

    ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم. كما قال تعالى: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [سورة: لقمان 17].
    وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به. وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا. ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي.
    وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة ; فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلا سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله. ويذموا من لم يذمه الله ورسوله. وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله.
    وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا، وبلغة المغل: هذا بال، هذا باغ، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله.
    ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس. قال الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [سورة الأنفال: 39]، فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة.
    وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
    فصل:
    قال الله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} فنفى أن يكون دين أحسن من هذا الدين وأنكر على من أثبت دينا أحسن منه؛ لأن هذا استفهام إنكار وهو إنكار نهي وذم لمن جعل دينا أحسن من هذا. قال قتادة والضحاك وغيرهما: إن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله تعالى منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} الآية.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #233
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 231)

    من صــ 161 الى صـ 170



    وروى سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: لما نزلت هذه الآية: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء حتى نزلت {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} الآية. ونزلت فيهم أيضا {ومن أحسن دينا} الآية. وقد روي عن مجاهد قال قالت قريش: لا نبعث أو لا نحاسب وقال أهل الكتاب: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} فأنزل الله عز وجل: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} وهذا يقتضي أنها خطاب للكفار من الأميين وأهل الكتاب؛ لاعتقادهم أنهم لا يعذبون العذاب الدائم والأول أشهر في النقل وأظهر في الدليل؛ لأن السورة مدنية بالاتفاق فالخطاب فيها مع المؤمنين كسائر السور المدنية.

    وأيضا: فإنه قد استفاض من وجوه متعددة أنه لما نزل قوله تعالى {من يعمل سوءا يجز به} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن مصائب الدنيا من الجزاء وبها يجزى المؤمن؛ فعلم أنهم مخاطبون بهذه الآية لا مجرد الكفار.
    وأيضا قوله بعد هذا: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} الآية. وقوله: {ومن أحسن دينا}يدل على أن هناك تنازعا في تفضيل الأديان لا مجرد إنكار عقوبة بعد الموت.

    وأيضا: فما قبلها وما بعدها خطاب مع المؤمنين وجواب لهم فكان المخاطب في هذه الآية هو المخاطب في بقية الآيات. فإن قيل: الآية نص في نفي دين أحسن من دين هذا المسلم لكن من أين أنه ليس دين مثله؟ فإن الأقسام ثلاثة: إما أن يكون ثم دين أحسن منه. أو دونه أو مثله وقد ثبت أنه لا أحسن منه فمن أين في الآية أنه لا دين مثله؟ ونظيرها قوله:
    {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} قيل: لو قلنا في هذا المقام: إن الآية لم تدل إلا على نفي الأحسن لم يضر هذا؛ فإن الخطاب له مقامات قد يكون الخطاب تارة بإثبات صلاح الدين إذا كان المخاطب يدعي أو يظن فساده ثم في مقام بأن يقع النزاع في التفاضل فيبين أن غيره ليس أفضل منه. ثم في مقام ثالث يبين أنه أفضل من غيره. وهكذا إذا تكلمنا في أمر الرسول ففي مقام نبين صدقه وصحة رسالته. وفي مقام بأن نبين أن غيره ليس أفضل منه وفي مقام ثالث نبين أنه سيد ولد
    آدم؛ وذلك أن الكلام يتنوع بحسب حال المخاطب.
    ثم نقول: يدل على أن هذا الدين أحسن وجوه:
    " أحدها " أن هذه الصيغة وإن كانت في أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل فإنه كثيرا ما يضمر بعرف الخطاب يفضل - المذكور المجرور بمن مفضلا عليه في الإثبات فإنك إذا قلت: هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلا عليه والأول مفضلا فإذا قلت لا أحسن من هذا أو من أحسن من هذا؟ أو ليس فيهم أفضل من هذا أو ما عندي أعلم من زيد أو ما في القوم أصدق من عمرو أو ما فيهم خير منه فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم؛ بل قد صارت حقيقة عرفية في نفي فضل الداخل في أفعل وتفضيل المجرور على الباقين وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم وضمنت معنى الاستثناء كأنك قلت: ما فيهم أفضل إلا هذا أو ما فيهم المفضل إلا هذا كما أن (إن) إذا كفت بما النافية صارت متضمنة للنفي والإثبات.
    وكذلك الاستثناء. وإن كان في الأصل للإخراج من الحكم فإنه صار حقيقة عرفية في مناقضة المستثنى منه فالاستثناء من النفي إثبات،ومن الإثبات نفي واللفظ يصير بالاستعمال له معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع. وكذلك يكون في الأسماء المفردة تارة ويكون في تركيب الكلام أخرى ويكون في الجمل المنقولة كالأمثال السائرة جملة فيتغير الاسم المفرد بعرف الاستعمال عما كان عليه في الأصل إما بالتعميم وإما بالتخصيص وإما بالتحويل؛ كلفظ الدابة والغائط والرأس. ويتغير التركيب بالاستعمال عما كان يقتضيه نظائره كما في زيادة حرف النفي في الجمل السلبية وزيادة النفي في كاد وبنقل الجملة عن معناها الأصلي إلى غيره كالجمل المتمثل بها كما في قولهم: " يداك أوكتا وفوك نفخ " و " عسى الغوير أبؤسا ".

    " الوجه الثاني " أنه إذا كان لا دين أحسن من هذا فالغير إما أن يكون مثله أو دونه ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن الدين إذا ماثل الدين وساواه في جميع الوجوه كان هو إياه وإن تعدد الغير لكن النوع واحد فلا يجوز أن يقع التماثل والتساوي بين الدينين المختلفين فإن اختلافهما يمنع تماثلهما؛ إذ الاختلاف ضد التماثل فكيف يكونان مختلفين متماثلين؟ واختلافهما اختلاف تضاد لا تنوع؛ فإن أحد الدينين يعتقد فيه أمور على أنها حق واجب والآخر يقول إنها باطل محرم. فمن المحال استواء هذين الاعتقادين.

    وكذلك الاقتصادان فإن هذا يقصد المعبود بأنواع من المقاصد والأعمال والآخر يقصده بما يضاد ذلك وينافيه وليس كذلك تنوع طرق المسلمين ومذاهبهم؛ فإن دينهم واحد كل منهم يعتقد ما يعتقده الآخر ويعبده بالدين الذي يعبده ويسوغ أحدهما للآخر أن يعمل بما تنازع فيه من الفروع فلم يختلفا؛ بل نقول أبلغ من هذا أن القدر الذي يتنازع فيه المسلمون من الفروع لا بد أن يكون أحدهما أحسن عند الله فإن هذا مذهب جمهور الفقهاء الموافقين لسلف الأمة على أن المصيب عند الله واحد في جميع المسائل فذاك الصواب هو أحسن عند الله وإن كان أحدهما يقر الآخر. فالإقرار عليه لا يمنع أن يكون مفضولا مرجوحا وإنما يمنع أن يكون محرما. وإذا كان هذا في دق الفروع فما الظن بما تنازعوا فيه من الأصول؟ فإنه لا خلاف بين المسلمين ولا بين العقلاء أن المصيب في نفس الأمر واحد وإنما تنازعوا في المخطئ هل يغفر له أو لا يغفر وهل يكون مصيبا بمعنى أداء الواجب؟ وسقوط اللوم لا بمعنى صحة الاعتقاد؟ فإن هذا لا يقوله عاقل: أن الاعتقادين المتناقضين من كل وجه يكون كل منهما صوابا.

    فتلخيص الأمر أن هذا المقام إنما فيه تفضيل قول وعمل على قول وعمل فالأقوال والأعمال المختلفة لا بد فيها من تفضيل بعضها على بعض
    عند جمهور الأمة؛ بل ومن قال بأن كل مجتهد مصيب قد لا ينازع أن أحدهما أحسن وأصوب ولا يدعي تماثلهما. وإن ادعاه فلم يدعه إلا في دق الفروع مع أن قوله ضعيف مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف. وأما الحل فلم يدع مدع تساوي الأقسام فيه وهذا بخلاف التنوع المحض مثل قراءة سورة وقراءة سورة أخرى وصدقة بنوع وصدقة بنوع آخر. فإن هذا قد يتماثل؛ لأن الدين واحد في ذلك من كل وجه وإنما كلامنا في الأديان المختلفة وليس هنا خلاف بحال.

    وإذا ثبت أن الدينين المختلفين لا يمكن تماثلهما لم يحتج إلى نفي هذا في اللفظ لانتفائه بالعقل. وكذلك لما سمعوا قوله: {ولا تكن كصاحب الحوت} كان في هذا ما يخاف انتقاصهم إياه. هذا مع أن نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة شاهدة بتفضيل بعض النبيين على بعض وبعض الرسل على بعض قاضية لأولي العزم بالرجحان شاهدة بأن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الخلق على ربه؛ لكن تفضيل الدين الحق أمر لا بد من اعتقاده؛ ولهذا ذكره الله في الآية.
    وأما تفضيل الأشخاص فقد لا يحتاج إليه في كل وقت فالدين الواجب لا بد من تفضيله؛ إذ الفضل يدخل في الوجوب وإذا وجب الدين به دون خلافه فلأن يجب اعتقاد فضله أولى. وأما الدين المستحب فقد لا يشرع اعتقاد فعله إلا في حق من شرع له فعل ذلك المستحب وإلا فمن الناس من يضره إذا سلك سبيلا من سبل السلام الإسلامية أن يرى غيره أفضل منها؛ لأنه يتشوف إلى الأفضل فلا يقدر عليه والمفضول يعرض عنه. وكما أنه ليس من مصلحته أن يعرف أفضل من طريقته إذا كان يترك طريقته ولا يسلك تلك فليس أيضا من الحق أن يعتقد أن طريقته أفضل من غيرها؛ بل مصلحته أن يسلك تلك الطريقة المفضية به إلى رحمة الله تعالى فإن بعض المتفقهة يدعون الرجل إلى ما هو أفضل من طريقته عندهم وقد يكونون مخطئين فلا سلك الأول ولا الثاني وبعض المتصوفة المريد يعتقد أن شيخه أكمل شيخ على وجه الأرض وطريقته أفضل الطرق.
    وكلاهما انحراف؛ بل يؤمر كل رجل أن يأتي من طاعة الله ورسوله بما استطاعه ولا ينقل من طاعة الله ورسوله بطريقته وإن كان فيها نوع نقص أو خطأ ولا يبين له نقصها إلا إذا نقل إلى ما هو أفضل منها وإلا فقد ينفر قلبه عن الأولى بالكلية حتى يترك الحق الذي لا يجوز تركه ولا يتمسك بشيء آخر.
    وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استقصاؤه وهو مبني على أربعة أصول: " أحدها " معرفة مراتب الحق والباطل والحسنات والسيئات والخير والشر؛ ليعرف خير الخيرين وشر الشرين. " الثاني " معرفة ما يجب من ذلك وما لا يجب وما يستحب من ذلك وما لا يستحب ". الثالث " معرفة شروط الوجوب والاستحباب من الإمكان والعجز وأن الوجوب والاستحباب قد يكون مشروطا بإمكان العلم والقدرة. " الرابع " معرفة أصناف المخاطبين وأعيانهم؛ ليؤمر كل شخص بما يصلحه أو بما هو الأصلح له من طاعة الله ورسوله وينهى عما ينفع نهيه عنه ولا يؤمر بخير يوقعه فيما هو شر من المنهي عنه مع الاستغناء عنه.
    وهذا القدر الذي دلت عليه هذه الآية - من أن دين من أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم هو أحسن الأديان أمر متفق عليه بين المسلمين - معلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛بل من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. ولكن كتاب الله هو حاكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه ومبين وجه الحكم؛ فإنه بين بهذه الآية وجه التفضيل بقوله: {أسلم وجهه لله} وبقوله: {وهو محسن} فإن الأول بيان نيته وقصده ومعبوده وإلهه وقوله: {وهو محسن} فانتفى بالنص نفي ما هو أحسن منه وبالعقل ما هو مثله فثبت أنه أحسن الأديان.

    " الوجه الثالث " أن النزاع كان بين الأمتين أي الدينين أفضل؟ فلم يقل لهما: إن الدينين سواء ولا نهوا عن تفضيل أحدهما؛ لكن حسمت مادة الفخر والخيلاء والغرور الذي يحصل من تفضيل أحد الدينين؛ فإن الإنسان إذا استشعر فضل نفسه أو فضل دينه يدعوه ذلك إلى الكبر والخيلاء والفخر؛ فقيل للجميع: {من يعمل سوءا يجز به} سواء كان دينه فاضلا أو مفضولا؛ فإن النهي عن السيئات والجزاء عليها واقع لا محالة، قال تعالى {والذاريات ذروا} إلى قوله: {لواقع}.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #234
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 232)

    من صــ 171 الى صـ 180


    فلما استشعر المؤمنون أنهم مجزيون على السيئات ولا يغني عنهم فضل دينهم وفسر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء قد يكون في الدنيا بالمصائب بين بعد ذلك فساد دين الكفار من المشركين وأهل الكتاب بقوله: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى} الآية. فبين أن العمل الصالح إنما يقع الجزاء عليه في الآخرة مع الإيمان وإن كان قد يجزى به صاحبه في الدنيا بلا إيمان فوقع الرد على الكفار من جهة جزائهم بالسيئات ومن جهة أن حسناتهم لا يدخلون بها الجنة إلا مع الإيمان ثم بين بعد هذا فضل الدين الإسلامي الحنفي بقوله: {ومن أحسن دينا} فجاء الكلام في غاية الإحكام.
    ومما يشبه هذا من بعض الوجوه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل بين الأنبياء التفضيل الذي فيه انتقاص المفضول والغض منه كما قال صلى الله عليه وسلم {لا تفضلوا بين الأنبياء} وقال: {لا تفضلوني على موسى} بيان لفضله وبهذين يتم الدين. فإذا كان الله هو المعبود وصاحبه قد أخلص له وانقاد وعمله فعل الحسنات فالعقل يعلم أنه لا يمكن أن يكون دين أحسن من هذا؛ بخلاف دين من عند غير الله وأسلم وجهه له أو زعم أنه يعبد الله لا بإسلام وجهه؛ بل يتكبر كاليهود ويشرك كالنصارى أو لم يكن محسنا بل فاعلا للسيئات دون الحسنات وهذا الحكم عدل محض وقياس وقسط دل القرآن العقلاء على وجه البرهان فيه.
    وهكذا غالب ما بينه القرآن فإنه يبين الحق والصدق ويذكر أدلته وبراهينه؛ ليس يبينه بمجرد الإخبار عن الأمر كما قد يتوهمه كثير من المتكلمة والمتفلسفة أن دلالته سمعية خبرية وأنها واجبة لصدق المخبر؛ بل دلالته أيضا عقلية برهانية وهو مشتمل من الأدلة والبراهين على أحسنها وأتمها بأحسن بيان لمن كان له فهم وعقل؛ بحيث إذا أخذ ما في القرآن من ذلك وبين لمن لم يعلم أنه كلام الله أو لم يعلم صدق الرسول أو يظن فيه ظنا مجردا عن ما يجب من قبول قول المخبر كان فيه ما يبين صدقه وحقه ويبرهن عن صحته.

    (فصل في معنى الخليل)
    والخليل هو الذي تخللت محبة خليله قلبه، فلم يكن فيه مسلك لغيره كما قيل:
    قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
    وقد قيل: إنه مأخوذ من الخليل، وهو الفقير، مشتق من الخلة بالفتح. كما قيل:

    وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
    والصواب أنه من الأول، وهو مستلزم للثاني فإن كمال حبه لله هو محبة عبودية وافتقار، ليست كمحبة الرب لعبده، فإنها محبة استغناء وإحسان.
    ولهذا قال - تعالى -: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [سورة الإسراء: 111].
    فالرب لا يوالي عبده من ذل، كما يوالي المخلوق لغيره، بل يواليه إحسانا إليه، والولي من الولاية، والولاية ضد العداوة. وأصل الولاية الحب، وأصل العداوة البغض، وإذا قيل: هو مأخوذ من الولي، وهو القرب. فهذا جزء معناه، فإن الولي يقرب إلى وليه، والعدو يبعد عن عدوه. ولما كانت الخلة تستلزم كمال المحبة واستيعاب القلب، لم يصلح للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخالل مخلوقا، بل قال: " «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» ".

    (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ... (127)

    وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    عن صغيرة دون البلوغ مات أبوها: هل يجوز للحاكم أو نائبه أن يزوجها أم لا؟ وهل يثبت لها الخيار إذا بلغت أم لا؟
    فأجاب:
    إذا بلغت تسع سنين فإنه يزوجها الأولياء - من العصبات والحاكم ونائبه - في ظاهر مذهب أحمد وهو مذهب أبي حنيفة وغيرهما كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} وأخرجا في الصحيحين عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله عز وجل: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} قالت؛ يا ابن أختي هذه اليتيمة في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها؛ فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها؛ فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن على سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
    قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن؛ فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} الآية. قالت عائشة والذي ذكر الله أنه {يتلى عليكم في الكتاب} الآية الأولى التي قالها الله عز وجل؛ {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حيث تكون قليلة المال والحال. وفي لفظ آخر: إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها في إكمال الصداق؛ وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال رغبوا عنها؛ وأخذوا غيرها من النساء.
    قال: فكما يتركونها حتى يرغبوا عنها؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها؛ إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها من الصداق. فهذا يبين أن الله أذن لهم أن يزوجوا اليتامى من النساء إذا فرضوا لهن صداق مثلهن؛ ولم يأذن لهم في تزويجهن بدون صداق المثل؛ لأنها ليست من أهل التبرع؛ ودلائل ذلك متعددة. ثم الجمهور الذين جوزوا إنكاحها لهم قولان: " أحدهما " وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين: أنها تزوج بدون إذنها؛ ولها الخيار إذا بلغت.
    و " الثاني " وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره: أنها لا تزوج إلا بإذنها؛ ولا خيار لها إذا بلغت.
    وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة كما روى أبو هريرة؛ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تستأذن اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت فهو إذنها؛ وإن أبت فلا جواز عليها} رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنت؛ وإن أبت فلا جواز عليها}.
    فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال أنها تزوج؛ خلافا لمن قال: إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير " يتيمة ". والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك؛ إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضى بدون صداق المثل؛ ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته ولأن ما بعد البلوغ وإن سمي صاحبه يتيما مجازا فغايته أن يكون داخلا في العموم.

    وأما أن يكون المراد باليتيمة البالغة دون التي لم تبلغ: فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال. والله أعلم.
    (فصل: الظلم نوعان)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    والظلم نوعان: تفريط في الحق وتعد للحد. فالأول ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون وسائر الأمانات وغيرها من الأموال. والثاني الاعتداء عليه مثل القتل وأخذ المال وكلاهما ظلم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع} فجعل مجرد المطل الذي هو تأخير الأداء مع القدرة ظلما فكيف بالترك رأسا. وقد قال تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} إلى قوله: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}. قالت عائشة رضي الله عنها هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيريد أن يتزوجها بدون أن يقسط لها في مهرها. فسمى الله تكميل المهر قسطا؛ وضده الظلم.
    وهذا في الجملة ظاهر متفق عليه بين المسلمين: أن العدل قد يكون أداء واجب وقد يكون ترك محرم وقد يجمع الأمرين وأن الظلم أيضا قد يكون ترك واجب وقد يكون فعل محرم وقد يجمع الأمرين. فإذا عرف هذا؛ وقد عرف أن العدل والظلم يكون في حق نفس الإنسان ويكون في حقوق الناس - كما تقدم وقد كتبت فيما تقدم من " القواعد " وفي آخر " مسودة الفقه " كلاما كليا في أن جميع الحسنات تدخل في العدل وجميع السيئات تدخل في الظلم.
    (ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ... (135)
    يقال: لوى يلوي لسانه: فيخبر بالكذب. والإعراض: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه - فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم أن يكونوا يدا واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد؛ ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه. فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده. وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم؛ فإن الله تعالى يقول: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}.

    (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145)

    وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين لأنهم استسلموا ظاهرا؛ وأتو بما أتوا به من الأعمال الظاهرة بالصلاة الظاهرة والزكاة الظاهرة والحج الظاهر والجهاد الظاهر كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر واتفقوا على أنه من لم يكن معه شيء من الإيمان فهو كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وفيها قراءتان (درك ودرك قال أبو الحسين ابن فارس: الجنة درجات والنار دركات. قال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعض.
    والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض فصار المظهرون للإسلام بعضهم في أعلى درجة في الجنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث الصحيح: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقوله: صلى الله عليه وسلم {وأرجو أن أكون} مثل قوله: {إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده} ولا ريب أنه أخشى الأمة لله وأعلمهم بحدوده. وكذلك قوله: {اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا}.
    وقوله: {إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة} وأمثال هذه النصوص وكان يستدل به أحمد وغيره على الاستثناء في الإيمان كما نذكره في موضعه.
    والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة والمنافقون في الدرك الأسفل من النار وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهرا تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة؛ فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى مسلما إذ ليس هو دون المنافق المحض وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان بل اسم المنافق أحق به فإن ما فيه بياض وسواد وسواده أكثر من بياضه هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض كما قال تعالى: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وأما إذا كان إيمانه أغلب ومعه نفاق يستحق به الوعيد لم يكن أيضا من المؤمنين الموعودين بالجنة وهذا حجة لما ذكره محمد بن نصر عن أحمد ولم أره أنا فيما بلغني من كلام أحمد ولا ذكره الخلال ونحوه.
    وقال محمد بن نصر: وحكى غير هؤلاء عن أحمد أنه قال: من أتى هذه الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم ولا أسميه مؤمنا ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمنا ناقص الإيمان فإن صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر فما أتى بالإيمان الواجب ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك.

    (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148)

    وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه، لأن قرى الضيف واجب، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك، وقد أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقبهم بمثل قراه في زرعهم ومالهم، وقال: " نصره واجب على كل مسلم " لأنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " «انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت: يا رسول الله، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه» ".
    وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة، كما ثبت في الصحيح أنها «قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف. فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» " أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة، فلم ينكر عليها قولها، وهو من جنس قول المظلوم.
    وأما النصيحة فمثل «قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت: خطبني أبو جهم ومعاوية. فقال: " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " وفي لفظ: " يضرب النساء "، " انكحي أسامة» " فلما استشارته حتى تتزوج ذكر ما تحتاج إليه.
    وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله. والنصيحة مأمور بها ولو لم يشاوره ; فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «الدين النصيحة، الدين النصيحة» " ثلاثا. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
    وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعمد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم. وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية ; فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق.

    وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين. ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا، وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه، وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما، كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة.
    ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم، فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان، لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة.

    لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا. وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم.
    فإن قيل: فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم.
    قيل: ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة ; فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن أنواعا كثيرة، كقوله: " «لعن الله الخمر وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها» " و " «لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه» "، و " «لعن الله من غير منار الأرض» " وقال: " «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ".
    وقال: " «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» " وقال: " «لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء» " وقال: " «من ادعى إلى غير أبيه،أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ".

    وقال الله تعالى في القرآن: {أن لعنة الله على الظالمين - الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} [سورة الأعراف: 44 - 45].

    فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم، تحذيرا من ذلك الفعل، وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد.
    ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة، وكفروا من لم يوافقهم عليها، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة، الذين يعلمون أن الظلم محرم، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة.
    فقال: في الخوارج: " «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم» ".
    وقال في بعضهم: " «يقتلون أهل الإيمان: ويدعون أهل الأوثان» ".
    (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    والأنبياء كلهم دينهم واحد وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم وكذلك التكذيب والمعصية: لا يجوز أن يكذب نبي نبيا بل إن عرفه صدقه وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقا وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته. ولهذا كان من صدق محمدا فقد صدق كل نبي؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي ومن كذبه فقد كذب كل نبي؛ ومن عصاه فقد عصى كل نبي قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} {أولئك هم الكافرون حقا} وقال تعالى:
    {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}. ومن كذب هؤلاء تكذيبا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع؛ ولهذا يقول تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين}

    ولم يرسل إليهم قبل نوح أحدا وقال تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم}. وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنا في جنس الرسل كما قدمنا بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه فهو مكذب لجميع الرسل كالذين قال فيهم: {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون} {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} {في الحميم ثم في النار يسجرون} وقال تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين} {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} وقال تعالى عن الوليد: {إنه فكر وقدر} {فقتل كيف قدر} {ثم قتل كيف قدر} {ثم نظر} {ثم عبس وبسر} {ثم أدبر واستكبر} {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} {إن هذا إلا قول البشر}.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #235
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 233)

    من صــ 186 الى صـ 200

    وأهل الكتاب منهم من يؤمن بجنس الرسالة لكن يكذب بعض الرسل كالمسيح ومحمد فهؤلاء لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقا وكثير من الفلاسفة والباطنية وكثير من أهل الكلام والتصوف لا يكذب الرسل تكذيبا صريحا ولا يؤمن بحقيقة النبوة والرسالة بل يقر بفضلهم في الجملة مع كونه يقول: إن غيرهم أعلم منهم؛ أو أنهم لم يبينوا الحق أو لبسوه؛ أو إن النبوة هي فيض يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم ولا يقر بملائكة مفضلين ولا بالجن ونحو ذلك فهؤلاء يقرون ببعض صفات الأنبياء دون بعض؛ وبما أوتوه دون بعض ولا يقرون بجميع ما أوتيه الأنبياء وهؤلاء قد يكون أحدهم شرا من اليهود والنصارى الذين أقروا بجميع صفات النبوة لكن كذبوا ببعض الأنبياء؛ فإن الذي أقر به هؤلاء مما جاءت به الأنبياء أعظم وأكثر؛ إذ كان هؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ويقرون بقيام القيامة ويقرون بأنه تجب عبادته وحده لا شريك له ويقرون بالشرائع المتفق عليها. وأولئك يكذبون بهذا وإنما يقرون ببعض شرع محمد صلى الله عليه وسلم.
    ولهذا كان اليهود والنصارى أقل كفرا من الملاحدة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلاء فقد جمع نوعي الكفر؛ إذ لم يؤمن بجميع صفاتهم ولا بجميع أعيانهم وهؤلاء موجودون في دول الكفار كثيرا كما يوجد أيضا في المنتسبين إلى الإسلام من هؤلاء وهؤلاء إذ كانوا في دولة المسلمين. وأهل الكتاب كانوا منافقين فيهم من النفاق بحسب ما فيهم من الكفر والنفاق يتبعض والكفر يتبعض ويزيد وينقص كما أن الإيمان يتبعض ويزيد وينقص قال الله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} وقال: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} وقال: {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا} وقال: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} وقال: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} وقال: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا}.

    وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون: إنه يعلم بالعقل مثل تثليث النصارى ومثل تكذيب محمد ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن؛ فإن الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك والقرآن مملوء من ذلك؛ إذ كان الكفر والإيمان يتعلق بالرسالة والنبوة فإذا تبين ما خالفوا فيه الأنبياء ظهر كفرهم.

    وأولئك المتكلمون لما أصلوا لهم دينا بما أحدثوه من الكلام كالاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام ظنوا أن هذا هو أصول الدين ولو كان ما قالوه حقا لكان ذلك جزءا من الدين فكيف إذا كان باطلا؟ وقد ذكرت في الرد على النصارى من مخالفتهم للأنبياء كلهم مع مخالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر.
    [فصل: الرد على النصارى في قولهم السنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها من يدي الرسل الأطهار]
    وأما قولكم: السنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها من يدي الرسل الأطهار، على ما تسلموها هم من المسيح عليه السلام.
    فيقال: لو كنتم على تلك السنة لم تغيروها، لم ينفعكم المقام عليها إذا كذبتم الرسول النبي الأمي الذي بعث إليكم وإلى سائر الخلق بسنة أخرى أكمل من السنن التي كانت قبله، كما لم ينفع اليهود، ولو تمسكوا بسنة التوراة، ولم يتبعوا سنة المسيح الذي أرسل إليهم، بل من كذب برسول واحد فهو كافر.
    كما قال تعالى:
    {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} [النساء: 150].
    فإنه، وإن كانت السنة التي جاء بها المسيح عليه السلام حقا، وكل من كان متبعا له فهو مؤمن مسلم من أولياء الله، من أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما قال تعالى:
    {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62].
    وقال تعالى:
    {كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14].
    فمن اتبع المسيح كان مؤمنا، ومن كفر به كان كافرا.
    وقال تعالى:
    {ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} [آل عمران: 55] (55) {فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين} [آل عمران: 56] (56) {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين} [آل عمران: 57].
    لكن غيرتموها وبدلتموها قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، (فصرتم كفارا بتبديل شريعة المسيح، وتكذيب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم)، كما كفرت اليهود بتبديل شريعة التوراة، وتكذيب شريعة الإنجيل، ثم كفروا بتكذيب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى سائر رسل الله أجمعين.

    فإن المسيح لم يسن لكم التثليث والقول بالأقانيم، ولا القول بأنه رب العالمين، ولا سن لكم استحلال الخنزير وغيره من المحرمات، ولا ترك الختان، ولا الصلاة إلى المشرق، ولا اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ولا الشرك واتخاذ التماثيل والصليب، ودعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وسؤالهم الحوائج، ولا الرهبانية، وغير ذلك من المنكرات التي أحدثتموها، ولم يسنها لكم المسيح، ولا ما أنتم عليه هي السنة التي تسلمتموها من رسل المسيح.

    بل عامة ما أنتم عليه من السنن أمور محدثة مبتدعة بعد الحواريين، كصومكم خمسين يوما زمن الربيع، واتخاذكم عيدا يوم الخميس والجمعة والسبت، فإن هذا لم يسنه المسيح ولا أحد من الحواريين، وكذلك عيد الميلاد والغطاس، وغير ذلك من أعيادكم.
    بل عيد الصليب إنما ابتدعته (هيلانة) الحرانية القندقانية أم قسطنطين، فأنتم تقولون: إنها هي التي أظهرت الصليب وصنعت لوقت ظهوره عيدا، وذلك بعد المسيح والحواريين بمدة طويلة زمن الملك قسطنطين بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة.
    وفي ذلك الزمان أحدثتم الأمانة لنصوص الأنبياء في غير موضع، وأظهرتم استحلال الخنزير وعقوبة من لم يأكله، وابتدعتم في ذلك الزمان تعظيم الصليب، وغير ذلك من بدعكم، وكذلك كتب القوانين التي عندكم جعلتموها سنة وشريعة فيها شيء عن الأنبياء والحواريين، وكثير مما فيها ابتدعه من بعدهم لا ينقلونه لا عن المسيح ولا عن الحواريين، فكيف تدعون أنكم على السنة والشريعة التي كان عليها المسيح عليه السلام وهذا مما يعلم بالاضطرار والتواتر أنه كذب بين.
    (وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155)
    و " الغلف ": جمع أغلف وهو ذو الغلاف الذي في غلاف مثل الأقلف كأنهم جعلوا المانع خلقة أي خلقت القلوب وعليها أغطية فقال الله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} و {طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}.

    (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)
    [فصل: رد عقيدة النصارى في الصلب والفداء]

    ومعلوم أن إبراهيم كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنب أبيه فكيف يؤاخذه بذنب آدم وهو أبوه الأبعد، هذا لو قدر أن آدم لم يتب فكيف وقد أخبر الله عنه بالتوبة؟ ثم يزعمون أن الصلب الذي هو من أعظم الذنوب والخطايا به خلص الله آدم وذريته من عذاب الجحيم وبه عاقب إبليس مع أن إبليس ما زال عاصيا لله مستحقا للعقاب من حين امتنع من السجود لآدم ووسوس لآدم إلى حين مبعث المسيح والرب قادر على عقوبته وبنو آدم لا عقوبة عليهم في ذنب أبيهم فمن كان قولهم مثل هذه الخرافات التي هي مضاحك العقلاء والتي لا تصلح أن تضاف إلى أجهل الملوك وأظلمهم فكيف يدعون مع هذا أنهم يصفون الله بالعدل ويجعلون من عدله أنه لا يأمر الإنسان بتعلم ما يقدر على تعلمه وفيه صلاح معاشه ومعاده ويجعلون مثل هذا موجبا لتكذيب كتابه ورسله والإصرار على تبديل الكتاب الأول وتكذيب الكتاب الآخر وعلى أنه يتضمن مخالفة موسى وعيسى وسائر الأنبياء والرسل؟.
    والنصارى يقولون: إن المسيح الذي هو عندهم اللاهوت والناسوت جميعا إنما مكن الكفار من صلبه ليحتال بذلك على عقوبة إبليس قالوا: فأخفى نفسه عن إبليس لئلا يعلم ومكن أعداءه من أخذه وضربه والبصاق في وجهه ووضع الشوك على رأسه وصلبه وأظهر الجزع من الموت وصار يقول يا إلهي لم سلطت أعدائي علي ليختفي بذلك عن إبليس فلا يعرف إبليس أنه الله أو ابن الله ويريد إبليس أن يأخذ روحه إلى الجحيم كما أخذ أرواح نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين فيحتج عليه الرب حينئذ ويقول بماذا استحللت يا إبليس أن تأخذ روحي؟ فيقول له إبليس: بخطيئتك فيقول: ناسوتي لا خطيئة له كنواسيت الأنبياء، فإنه كان لهم خطايا استحقوا بها أن تؤخذ أرواحهم إلى جهنم وأنا لا خطيئة لي.
    وقالوا فلما أقام الله الحجة على إبليس جاز للرب حينئذ أن يأخذ إبليس ويعاقبه ويخلص ذرية آدم من إذهابهم إلى الجحيم وهذا الكلام فيه من الباطل ونسبة الظلم إلى الله ما يطول وصفه فمن هذا قوله: فقد قدح في علم الرب وحكمته وعدله قدحا ما قدحه فيه أحد وذلك من وجوه.
    أحدها: أن يقال إبليس إن كان أخذ الذرية بذنب أبيهم فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره وإن كان بخطاياهم فلم يأخذهم بذنب أبيهم وهم قالوا إنما أخذهم بذنب آدم.
    الثاني: أن يقال من خلق بعد المسيح من الذرية كمن خلق قبله فكيف جاز أن يمكن إبليس من الذرية المتقدمين دون المتأخرين وكلهم بالنسبة إلى آدم سواء وهم أيضا يخطئون أعظم من خطايا الأنبياء المتقدمين فكيف جاز تمكين إبليس من عقوبة الأنبياء المتقدمين ولم يمكن من عقوبة الكفار والجبابرة الذين كانوا بعد المسيح؟.
    الوجه الثالث: أن يقال أخذ إبليس لذرية آدم وإدخالهم جهنم إما أن يكون ظلما من إبليس وإما أن يكون عدلا، فإن كان عدلا فلا لوم على إبليس ولا يجوز أن يحتال عليه ليمتنع من العدل الذي يستحقه بل يجب تمكينه من المتأخرين والمتقدمين.
    وإن كان ظلما فلم لا يمنعه الرب منه قبل المسيح؟.
    فإن قيل لم يقدر فقد نسبوه إلى العجز وإن قيل قدر على دفع ظلم إبليس ولم يفعله فلا فرق بين دفعه في زمان دون زمان إن جاز ذلك جاز في كل زمان وإن امتنع امتنع في كل زمان.

    الوجه الرابع: أن إبليس إن كان معذورا قبل المسيح فلا حاجة إلى عقوبته ولا ملام عليه وإن لم يكن معذورا استحق العقوبة ولا حاجة إلى أن يحتال عليه بحيلة تقام بها الحجة عليه.
    الوجه الخامس: إنه بتقدير أنه لم يقم عليه الحجة قبل الصلب فلم يقم عليه حجة بالصلب، فإنه يمكنه أن يقول أنا ما علمت أن هذا الناسوت هو ناسوت الرب وأنت يا رب قد أذنت لي أن آخذ جميع ذرية آدم فأوديهم إلى الجحيم فهذا واحد منهم وما علمت أنك أو ابنك اتحد به ولو علمت ذلك لعظمته، فأنا معذور في ذلك فلا يجوز أن تظلمني.

    الوجه السادس: أن نقول: أن إبليس يقول حينئذ يا رب فهذا الناسوت الواحد أخطأت في أخذ روحه لكن سائر بني آدم الذين بعده لي أن أحبس أرواحهم في جهنم كما حبست أرواح الذين كانوا قبل المسيح إما بذنب أبيهم وإما بخطاياهم أنفسهم وحينئذ، فإن كان ما يقوله النصارى حقا فلا حجة لله على إبليس.
    الوجه السابع: أن يقال هب أن آدم أذنب وبنوه أذنبوا بتزيين الشيطان فعقوبة بني آدم على ذنوبهم هي إلى الله أو إلى إبليس؟ فهل يقول عاقل أن إبليس له أن يغوي بني آدم بتزيينه لهم ثم له أن يعاقبهم جميعا بغير إذن من الله في ذلك وهل هذا القول إلا من قول المجوس الثنوية الذين يقولون إن كل ما في العالم من الشر من الذنوب والعقاب وغير ذلك هو من فعل إبليس لم يفعل الله شيئا من ذلك ولا عاقب الله أحدا على ذنب.
    ولا ريب أن هذا القول سرى إلى النصارى من المجوس لهذا لا ينقلون هذا القول في كتاب منزل ولا عن أحد من الحواريين ولهذا كان المانوية دينهم مركبا من دين النصارى والمجوس وكان رأسهم ماني نصرانيا مجوسيا فالنسب بين النصارى والمجوس بل وسائر المشركين نسب معروف.
    الوجه الثامن: أن يقال إبليس عاقب بني آدم وأدخلهم جهنم بإذن الله أو بغير إذنه.
    إن قالوا: بإذنه فلا ذنب له ولا يستحق أن يحتال عليه ليعاقب ويمتنع وإن كان بغير إذنه فهل جاز في عدل الله أن يمكنه من ذلك أم لم يجز، فإن جاز ذلك في زمان جاز في جميع الأزمنة وإن لم يجز في زمان لم يجز في جميع الأزمنة فلا فرق بين ما قبل المسيح وما بعده.
    الوجه التاسع: أن يقال هل كان الله قادرا على منع إبليس وعقوبته بدون هذه الحيلة وكان ذلك عدلا منه لو فعله أم لا، فإن كان ذلك مقدورا له وهو عدل منه لم يحتج أن يحتال على إبليس ولا يصلب نفسه أو ابنه ثم إن كان هذا العدل واجبا عليه وجب منع إبليس وإن لم يكن واجبا جاز تمكينه في كل زمان فلا فرق بين زمان وزمان.
    وإن قيل لم يكن قادرا على منع إبليس فهو تعجيز للرب عن منع إبليس وهذا من أعظم الكفر باتفاق أهل الملل من جنس قول الثنوية الذين يقولون لم يكن يقدر النور أن يمنع الظلمة من الشر ومن جنس قول ديمقراطيس والحنانين الذين يقولون لم يمكن واجب الوجود أن يمنع النفس من ملابسة الهيولي بل تعلقت النفس بها بغير اختياره.
    الوجه العاشر: أن ما فعله به الكفار اليهود الذين صلبوه طاعة لله أو معصية، فإن كان طاعة لله استحق اليهود الذين صلبوه أن يثيبهم ويكرمهم على طاعته كما يثيب سائر المطيعين له والنصارى متفقون على أن أولئك من أعظم الناس إثما وهم من شر الخلق وهم يستحلون من دمهم ولعنتهم ما لا يستحلونه من غيرهم بل يبالغون في طلب اليهود وعقوبتهم في آخر صومهم الأيام التي تشبه أيام الصليب وإن كان أولئك اليهود عصاة لله فهل كان قادرا على منعهم من هذه المعصية أم لا، فإن لم يكن قادرا لم يكن قادرا على منع إبليس من ظلم الذرية في الزمن المستقبل وإن كان قادرا على منعهم من المعاصي ولم يمنعهم كان قادرا على منع إبليس بدون هذه الحيلة وإذا كان حسنا منه تمكينهم من هذه المعصية كان حسنا منه تمكين إبليس من ظلم الذرية في الماضي والمستقبل فلا حاجة إلى الحيلة عليه.

    واعلم أن الوجوه الدالة على فساد دين النصارى كثيرة جدا وكلما تصور العاقل مذهبهم وتصور لوازمه تبين له فساده لكن المقصود هنا بيان تناقضهم في أنهم يقيمون عذر أنفسهم في ترك الإيمان بكتابه ورسوله ودينه لكونه سبحانه عدلا لا يأمر الناس بما يعجزون عنه وهو سبحانه لم يأمرهم إلا بما يقدرون عليه وقد نسبوا إليه من الظلم ما لم ينسبه إليه أحد من بني آدم يوضح هذا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #236
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 234)

    من صــ 201 الى صـ 215


    الوجه الحادي عشر: وهو أنه إما أن يقال في الظلم بقول الجهمية المجبرة الذين يقولون يفعل ما يشاء بلا حكمة ولا سبب ولا مراعاة عدل وإما أن يقال بقول القدرية أنه يجب عليه العدل الذي يجب على المخلوقين وإما أن يقال هو عادل منزه عن الظلم، ولكن ليس عدله كعدل المخلوق فهذه أقوال الناس الثلاثة.
    فإن قيل بالأول جاز أن يسلط إبليس على جميع الذرية بلا ذنب وأن يعاقبهم جميعا بلا ذنب ولا حاجة حينئذ إلى الحيلة على إبليس.
    وإن قيل بالثاني: فمعلوم أن الواحد من الناس لو علم أن بعض مماليكه أمر غيره بذنب يكرهه السيد ففعله كان العدل منه أن يعاقب الآمر والمأمور جميعا.
    وأما تسليطه للآمر على عقوبة المأمور فليس من العدل وكذلك تسليط الآمر الظالم على جميع ذرية المأمور الذين لم يذنبوا ذنب أبيهم ليس من العدل.
    وإن قيل: بل هو استحق أن يستعبدهم لكون أبيهم أطاعه قيل: فحينئذ يستحق أن يأسر الأولين والآخرين فلا يجوز أن يمنع من حقه بالاحتيال عليه.
    وإن قيل: إنما يستحق أخذهم خطاياهم قيل فله أن يأخذ الأولين والآخرين.
    وإن قيل: هو لما طلب أخذ روح ناسوت المسيح منع بهذا الذنب قيل: هذا إن كان ذنبا فهو أخف ذنوبه، فإنه لم يعلم أنه ناسوت الإله وإذا استحق الرجل أن يسترق أولاد غيره فطلب رجلا ليسترقه لظنه أنه منهم ولم يكن منهم لم يكن هذا ذنبا يمنع استرقاق الباقين.
    وإن قيل إن عدل الرب ليس كعدل المخلوقين بل من عدله أن لا ينقص أحدا من حسناته ولا يعاقبه إلا بذنبه لم يجز حينئذ أن يعاقب ذرية آدم بذنب أبيهم ولم يجز أن يعاقب الأنبياء الذين ليس لهم ذنب إلا ذنب تابوا منه بذنب غيرهم، فإن الأنبياء معصومون أن يقروا على ذنب فكل من مات منهم مات وليس له ذنب يستحق عليه العقوبة فكيف يعاقبون بعد الموت بذنب أبيهم إن قدر أنه مات مصرا على الذنب مع أن هذا تقدير باطل ولو قدر أن الأنبياء لهم خطايا يستحقون بها العقوبة بعد الموت وتسليط إبليس على عقوبتهم مع أن هذا تقدير باطل فمن بعد المسيح من غير الأنبياء أولى بذلك فكيف يجوز في العدل الذي يوجب التسوية بين المتماثلين عقوبة الأنبياء ومنع عقوبة من هو دونهم بل من هو من الكفار.
    الوجه الثاني عشر: أن الرب إذا قصد بهذا دفع ظلم إبليس فهلا اتحد بناسوت بعض أولاد آدم ليحتال على إبليس فيمنعه من ظلم من تقدم، فإن المنع من الشر الكثير أولى من المنع من الشر القليل أتراه ما كان يعلم أن إبليس يعمل هذا الشر كله فهذا تجهيل له أو كان يعرف وعجز عن دفعه فهذا تعجيز له ثم ما الفرق بين زمان وزمان أم كان ترك منعه عدلا منه فهو عدل في كل زمان.
    [فصل: الرد على النصارى في دعواهم بأن المسلمين يقولون أن التحريف وقع بعد مبعث النبي محمد]
    فقال الحاكي عنهم: فقلت لهم: إن قال قائل: إن التبديل والتغيير يجوز أن يكون بعد هذا القول فقالوا: إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول وذلك أنا أيضا إذا احتججنا عليهم بمثل هذا القول وقلنا: إن الكتاب الذي في أيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا؟
    قال الحاكي عنهم: فقلت لهم: هذا مما لا يجوز ولا يمكن أحدا أن يقوله، ولا يمكن أن يتغير منه إلى آخر الفصل وسيأتي بألفاظ بعد هذا.
    والجواب أن هذا السائل النصراني الذي ذكر عن المسلمين سؤالا لا يقولونه وعن علماء النصارى جوابه هو وهم بنوا كلامهم على أصلين فاسدين.
    أحدهما: أن الرسول ثبت ما معهم ونفى عن كتبهم التي بين أيديهم التهم والتبديل والتغيير لها ومقصودهم بذلك لا يتم إلا إذا نفى التبديل عن لفظها ومعناها وهذا مما يعلم كل عاقل أن الرسول لم ينفه عنها بل النقل المتواتر عنه بنقيض ذلك وهم أيضا وكل عاقل يعلم أن الكتب التي بأيديهم في تفسيرها من الاختلاف والاضطراب بين فرق النصارى وبين النصارى واليهود ما يوجب القطع بأن كثيرا من ذلك مبدل محرف وكذلك وقع في تغيير شرائع هذه الكتب، فإن الكتب تضمنت أصلين: الإخبار والأمر. والإيمان بها لا يتم إلا بتصديقها فيما أخبرت وإيجاب طاعتها فيما أوجبته.

    وأهل الكتاب يكذبون بكثير مما أخبرت ولا يوجبون طاعتها في كثير مما أوجبته وأمرت به وكل فرقة منهم تشهد على الفرقة الأخرى بمثل ذلك.
    والنصارى لهم سبع مجامع مشهورة عندهم وهم في كل مجمع يلعنون طائفة منهم كبيرة ويكفرونهم ويقولون عنهم أنهم كذبوا ببعض ما في تلك الكتب ولم يوجبوا طاعة بعض أمرها وتلك الطائفة تشهد على الأخرى بأنها كذبت ببعض ما فيها، ثم فرقهم الثلاثة المشهورة النسطورية والملكية واليعقوبية كل طائفة تكفر الأخرى وتلعنها وتشهد عليها أنها مكذبة ببعض ما في النبوات غير موجبة لطاعة بعض ما فيها بل اختلافهم في نفس التوحيد والرسالة فزعم كل فريق منهم أن المسيح جاء بما هم عليه والمسيح - عليه السلام - وجميع الرسل بريئون من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وبريئون ممن يقول على الله غير الحق أو يقول على الله ما لا يعلم وبريئون من كل قول باطل يقال على الله - عز وجل - وإن كان قائله مخطئا لم يتعمد الكذب.

    وفي مقالات النصارى من هذه الأنواع ما يطول وصفه وقد بسط في غير هذا الموضع.
    وإذا عرفت أن جميع الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى يشهدون أنه قد وقع في هذه الكتب تحريف وتبديل في معانيها وتفاسيرها وشرائعها فهذا القدر كاف وهم من حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - صار كل من لم يؤمن به كافرا بخلاف حال النصارى قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان فيهم من هو متبع لدين المسيح والمسلمون وإن كان فيهم من حرف الدين وبدله فجمهورهم خالفوا هؤلاء فلا يزال فيهم طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى تقوم الساعة بخلاف النصارى، فإنهم كفروا جميعهم ; كما كفرت اليهود بتكذيب المسيح.
    والمسلمون يثبتون بالدلائل الكثيرة أنهم بدلوا معاني التوراة والإنجيل والزبور وغيرهم من نبوات الأنبياء وابتدعوا شرعا لم يأت به المسيح ولا غيره ولا يقول عاقل مثل زعمهم أن جميع بني آدم من الأنبياء والرسل وغيرهم كانوا في الجحيم في حبس الشيطان لأجل أن أباهم آدم أكل من الشجرة وأنهم إنما تخلصوا من ذلك لما صلب المسيح.
    فإن هذا الكلام لو نقله ناقل عن بعض الأنبياء لقطعنا بكذبه عليهم فكيف وهذا الكلام ليس منقولا عندهم عن أحد من الأنبياء وإنما ينقلونه عمن ليس قوله حجة لازمة، فإن كثيرا من دينهم مأخوذ عن رؤوسهم الذين ليسوا بأنبياء.
    فإذا قطعنا بكذب من ينقله عن الأنبياء فكيف إذا لم ينقله عنهم وذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - يخبرون الناس بما تقصر عقولهم عن معرفته لا بما يعرفون أنه باطل ممتنع فيخبرونهم بمحيرات العقول لا محالات العقول وآدم - عليه السلام - وإن كان أكل من الشجرة فقد تاب الله عليه واجتباه وهداه.
    قال - تعالى -: {وعصى آدم ربه فغوى - ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [طه: 121 - 122] وقال - تعالى -: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37] وليس عند أهل الكتاب في كتبهم ما ينفي توبته وإنما قد يقول قائلهم إنا لا نعلم أنه تاب أو ليس عندنا توبته وعدم العلم بشيء ليس علما بعدمه وعدم وجود الشيء في كتاب من كتب الله لا ينفي أن يكون في كتاب آخر ففي التوراة ما ليس في الإنجيل وفيهما ما ليس في الزبور وفي الإنجيل والزبور ما ليس في التوراة وفي سائر النبوات ما لا يوجد في هذه الكتب والقرآن لو كان دون التوراة والإنجيل والزبور والنبوات أو كان مثلها لأمكن أن يكون فيه ما ليس فيها فكيف إذا كان أفضل وأشرف وفيه من العلم أعظم مما في التوراة والإنجيل وقد بين الله تعالى فضله عليهما في غير موضع كقوله - تعالى -: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه} [الزمر: 23]

    وقال - تعالى -: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3] وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48] وسواء تاب آدم أو لم يتب فكيف يجوز أن يكون رسل الله الذين هم أفضل منه محبوسين في حبس الشيطان في جهنم بذنبه؟ وإبراهيم خليل الرحمن كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنبه فكيف يجعله في جهنم في حبس الشيطان بسبب ذنب أبيه الأقصى آدم؟ مع أنه كان نبيا ونوح - عليه السلام - قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأغرق الله أهل الأرض بدعوته وجعل ذريته هم الباقين فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان لأجل ذنب آدم؟.

    وموسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما وأظهر على يديه من البراهين والآيات ما لم يظهر مثله على يدي المسيح وقتل نفسا لم يؤمر بقتلها فغفر الله له ذلك وله من المنزلة عند الله والكرامة ما لا يقدر قدره فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان.
    ثم أي مناسبة بين الصلب الذي هو من أعظم الذنوب سواء صلبوا المسيح أو المشبه به وبين تخليص هؤلاء من الشيطان، فإن الشيطان إن فعل ذلك بالذرية كان ظالما معتديا والله - عز وجل - قادر على منعه من ظلمهم بل وعلى عقوبته إذا لم ينته عن ظلمهم.
    فلماذا أخر منعه من ظلمهم إلى زمن المسيح؟ وهو سبحانه ولي المؤمنين وناصرهم ومؤيدهم وهم رسله الذين نصرهم على من عاداهم بل أهلك أعداءهم الذين هم جند الشيطان فكيف لا يمنع الشيطان بعد موتهم أن يظلمهم ويجعل أرواحهم في جهنم هذا إن قدر أن الشيطان كان قادرا على ذلك وكيف يجوز أن يجعل الشيطان بعد موت أنبيائه وأوليائه وسقوط التكليف عنهم واستحقاقهم كرامته وإحسانه وجنته بحكم وعده ومقتضى حكمته فجعله مسلطا على حبسهم في جهنم؟!.
    وإن قالوا: الرب - عز وجل - ما كان يقدر على تخليصهم من الشيطان مع علمه بأنه ظالم معتد عليهم بعد الموت إلا بأن يحتال عليه بإخفاء نفسه ليتمكن الشيطان منه ; كما يزعمون فهذا مع ما فيه من الكفر العظيم وجعل الرب سبحانه عاجزا ; كما جعلوه أولا ظالما فيه من التناقض ما يقتضي عظيم جهلهم الذي جعلوا به الرب جاهلا، فإنهم يقولون أنه احتال على الشيطان ليأخذه بعدل ; كما احتال الشيطان على آدم بالحية فاختفى منه لئلا يعلم أنه ناسوت الإله وناسوت الإله لم يعمل خطيئة قط بخلاف غيره.
    فلما أراد الشيطان أخذ روحه ليحبسه في جهنم كسائر من مضى وهو لم يعمل خطيئة استحق الشيطان أن يأخذه الرب ويخلص الذرية من حبسه.
    وهذا تجهيل منهم للرب - سبحانه وتعالى - عما يقولون مع تعجيزه وتظليمه، فإنه إن كان هو سلط الشيطان على بني آدم كما يقولون. فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره إذ الجميع بني آدم، وأيضا فإذا قدر أن الناسوت يدفع الشيطان عن نفسه بحق، فإنهم يقولون أنه دخل الجحيم وأخرج منه ذرية آدم.
    فيقال: إن كان تسلط الشيطان على حبسهم في الجحيم بحق لأجل ذنوبهم مع ذنب أبيهم لم يجز إخراجهم لأجل سلامة ناسوت المسيح من الذنب وإن كانوا مظلومين مع الشيطان وجب تخليصهم قبل صلب الناسوت ولم يجز تأخير ذلك فليس في مجرد سلامة المسيح من الذنوب ما يوجب سلامة غيره وإن قالوا إنه كان بدون تسلطه على صلبه عاجزا عن دفعه فهو مع تسلطه على صلبه أعجز وأعجز.
    الأصل الثاني: الفاسد الذي بنوا عليه سؤالهم الذي جعلوه من جهة المسلمين وجوابهم ظنهم أن المسلمين يقولون: إن هذه الكتب حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة منها بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    وهذا مما لا يقوله المسلمون، ولكن قد يقول بعضهم: أنه حرف بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ بعض النسخ، فإن الجمهور الذين يقولون إن بعض ألفاظها حرفت منهم من يقول كان هذا قبل المبعث.

    ومنهم من يقول كان بعده ومنهم من يثبت الأمرين أو يجوزهما، ولكن لا يقول: إنه حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة في مشارق الأرض ومغاربها، كما حكاه هذا الحاكي عنهم، ولكن علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب متفقون على وقوع التحريف في المعاني والتفسير.
    وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني.
    وأما ألفاظ الكتب فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظها لم تبدل ; كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب.

    وذهب كثير من علماء المسلمين وأهل الكتاب إلى أنه بدل بعض ألفاظها.
    وهذا مشهور عند كثير من علماء المسلمين وقاله أيضا كثير من علماء أهل الكتاب.
    حتى في صلب المسيح ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه إنما صلب الذي شبه بالمسيح ; كما أخبر به القرآن وإن الذين أخبروا بصلبه كانوا قد أخبروا بظاهر الأمر، فإنه لما ألقي شبهه على المصلوب ظنوا أنه هو المسيح أو تعمدوا الكذب، ثم هؤلاء منهم الذين يقولون: إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل.
    وفيهم من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيرا منهما وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما لا سيما الإنجيل، فإن الطعن فيه أكثر وأظهر منه في التوراة.
    ومن هؤلاء من يسرف حتى يقول: أنه لا حرمة لشيء منهما بل يجوز الاستنجاء بهما.
    ومنهم من يقول الذي بدلت ألفاظه قليل منهما وهذا أظهر.
    والتبديل في الإنجيل أظهر، بل كثير من الناس يقول هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله إلا القليل.
    والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل.
    (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159)
    [فصل: تكريم الإسلام للمسيح عبد الله ورسوله]
    قالوا: ولما تقدم به القول لأنه غير لائق عند ذوي الألباب أن نهمل روح القدس وكلمة الله الذي شهد لهما في هذا الكتاب بالعظائم، فقال عن كلمة الله:
    {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} [النساء: 159].
    والجواب:
    إن الله - تعالى - لم يبعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بإهمال ما يجب من حق المسيح - عليه السلام -، بل أمره بالإيمان بالمسيح وبما جاء به، كما أمره بالإيمان بموسى وبما جاء به وكما أمر المسيح بالإيمان بموسى وبما جاء به ولكنه أمر بإهمال ما ابتدع من الدين الذي لم يشرعه الله على لسان المسيح - عليه السلام -، وما نسخه الله من شرعه على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيهمل المبدل والمنسوخ كما أمر الله المسيح أن يهمل ما ابتدعته اليهود من الدين الذي لم يشرعه، وما نسخه من شرع موسى.
    فكما أمر المسيح أن يهمل المبدل والمنسوخ من التوراة التي جاء بها موسى - عليه السلام -، ولم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق التوراة وموسى - عليه السلام -، فكذلك إذا أهمل المبدل والمنسوخ من دين أهل الإنجيل، لم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق الإنجيل والمسيح، بل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل، وأن لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون كما قال - تعالى -:

    {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136].
    والنصارى كاليهود، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فأيما هو اللائق عند أولي الألباب، أن نؤمن بجميع كتب الله ورسله، أو نؤمن ببعض ونكفر ببعض وأيما هو اللائق عند أولي الألباب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، ونعبده بما شرعه على لسان رسوله، أو نبتدع من الشرك والعبادات المبتدعة ما لم ينزل به الله كتابا ولا بعث به رسولا ونضاهي المشركين عباد الأوثان؟



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #237
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 235)

    من صــ 220 الى صـ 230

    قال - تعالى -:
    {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
    وقال - تعالى -:
    {قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
    فالمسلمون لم يهملوا روح القدس، وكلمة الله، وقد قال - تعالى - عن كلمة الله:
    {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159].
    ، بل هم الذين اتبعوا دينه ودين الرسل قبله فإن دين الأنبياء - عليهم السلام - جميعهم واحد كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد.
    وقد قال - تعالى -:
    {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13].
    فدين المرسلين كلهم دين واحد، ويتنوع شرعهم ومناهجهم كتنوع شريعة الرسول الواحد، فإن دين المسيح هو دين موسى، وهو دين الخليل قبلهما، ودين محمد بعدهما، مع أن المسيح كان على شريعة التوراة ثم نسخ الله على لسانه ما نسخ منها وهو قبل النسخ وبعده دينه دين موسى ولم يهمل دين موسى.
    كذلك المسلمون هم على دين المسيح وموسى وإبراهيم وسائر الرسل وهم الذين اتبعوا المسيح ولهذا جعلهم الله فوق النصارى إلى يوم القيامة.
    والنصارى الذين بدلوا دين المسيح وكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بريئون من دين المسيح والمسيح بريء منهم، كبراءة موسى ممن بدل وغير دينه وكذب المسيح.
    والمسلمون أشد تعظيما للمسيح - عليه السلام - واتباعا له بالحق ممن بدل دينه وخالفه من النصارى، فإن المسلمين يصدقونه في كل ما أخبر به عن نفسه ولا يحرفون ما قاله عن مواضعه، ولا يفسرون كلامه بغير مراده، وكلام غيره من الأنبياء كما فعلت النصارى، فإنهم نقلوا عن المسيح أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، وهذا إذا قاله المسيح فإنه يفسر بلغته وعادته في خطابه وعادة سائر الأنبياء، (وليس في كلام المسيح ولا في كلام سائر الأنبياء ولا كلام غيرهم أن كلمة الله) القائمة بذاته سبحانه و - تعالى - تسمى ابنا، ولا روح قدس، ولا تسمى صفته القديمة ابنا، ولا روح قدس، ولا يوجد قط في كلام الأنبياء اسم الابن واقعا إلا على مخلوق.
    والمراد في تلك اللغة أنه مصطفى محبوب لله، كما ينقلونه أنه قال لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، ولداود (أنت ابني وحبيبي)، وأن المسيح قال للحواريين (أبي وأبيكم)، فجعله أبا للجميع، وهم كلهم مخلوقون فيكون اسم الابن واقعا على المسيح الذي هو ناسوت مخلوق، فعمد هؤلاء الضلال فجعلوا اسم الابن واقعا على اللاهوت، قديم أزلي مولود غير مخلوق.
    وزعموا أن الابن يراد به الابن بالوضع، وهو المخلوق، وهو الابن بالطبع، وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق، وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمى القديم الأزلي ابنا، ولا جعل له ابنا قديما مولودا غير مخلوق، ولا سمى شيئا من صفات الله قط ابنا.
    وكذلك لفظ روح القدس موجود في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - لا يراد بهذا قط حياة الله ولا صفة قائمة به.
    وإنما يراد به ما أيد الله به الأنبياء والأولياء، ويجعله في قلوبهم من هداه ونوره ووحيه وتأييده، ومما ينزل بذلك من الملائكة، وهذا الذي تسميه الأنبياء روح القدس لم يختص به المسيح، باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل قد أنزله على غيره من الأنبياء والصالحين كما هو موجود في كتبهم: إن روح القدس كانت في داود وغيره، وكانت أيضا عندهم في الحواريين.

    وهكذا خاتم الرسل، كان يقول لحسان بن ثابت: «إن روح القدس معك ما دمت تدافع عن نبيه»، ويقول «اللهم أيده بروح القدس».
    وقد قال الله - تعالى - عن عباده المؤمنين:
    {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].

    فروح القدس لا اختصاص للمسيح - عليه السلام - بها، بل ما يفسر به اسم الابن واسم روح القدس، وغير ذلك مما وصف به المسيح فهو مشترك بينه وبين غيره من الرسل، وإذا فسروا الحلول بظهور نور الله وعلمه وهداه في الأنبياء فهذا حق وهو مشترك بين المسيح وغيره.
    فأما نفس ذات الله فلم تحل في أحد من البشر.
    والمسلمون مع شهادتهم للمسيح بأنه عبد الله ورسوله يقولون: إنه مؤيد منصور عصمه الله من أعدائه وطهره منهم، ولم يسلطهم عليه.
    والنصارى يدعون أن اسم المسيح اسم اللاهوت والناسوت وأنه إله تام وإنسان تام، وهذا يمتنع شرعا وعقلا ثم يصفونه بالصفات المتناقضة، يصفونه بأن طائفة من أشرار اليهود وضعوا الشوك على رأسه وبصقوا في وجهه، وأهانوه وصلبوه وفعلوا به ما لا يفعل بأخس الناس، ويقولون مع هذا: إنه رب السماوات والأرض وما بينهما.
    (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160)
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وكذلك من قال من العلماء: إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه. فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم؛ بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله؛ كالدم والميتة؛ والمنخنقة والموقوذة؛ والمتردية والنطيحة؛ وأكيلة السبع؛ وما أهل به لغير الله وكانوا - بل خيارهم - يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه وقال: {لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه} وقال مع هذا: " إنه ليس بمحرم " وأكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه: " لا آكله ولا أحرمه ". وقال جمهور العلماء: الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعا لآكله في دينه والخبيث ما كان ضارا له في دينه. وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته فما أورث الأكل بغيا وظلما حرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع. لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان.

    وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب فإذا اغتذى منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر. ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة؛ إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء لا يعاف شيئا والله لم يحرم على أمة محمد شيئا من الطيبات وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب كما قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقال تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون}.

    وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث كالدم المسفوح فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر؛ ولهذا عفا جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولى أن يعفى عنه.
    (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق-:
    وقد فرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى وبين تكليمه لموسى في قوله تعالى {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} إلى قوله: {حجة بعد الرسل} فرق سبحانه بين تكليمه لموسى وبين إيحائه لغيره ووكد تكليمه لموسى بالمصدر وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} إلى قوله: {بروح القدس} وقال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} إلى آخر السورة. فقد بين سبحانه أنه لم يكن لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد الأوجه الثلاثة: إما وحيا وإما من وراء حجاب وإما أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء؛ فجعل الوحي غير التكليم والتكليم من وراء حجاب كان لموسى.
    وقد أخبر في غير موضع أنه ناداه كما قال: {وناديناه من جانب الطور} الآية. وقال: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن} الآية. و " النداء " باتفاق أهل اللغة لا يكون إلا صوتا مسموعا فهذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم. وأهل الكتاب يقولون: إن موسى ناداه ربه نداء سمعه بأذنه وناداه بصوت سمعه موسى والصوت لا يكون إلا كلاما والكلام لا يكون إلا حروفا منظومة وقد قال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقال: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وقال: {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}
    فقد بين في غير موضع أن الكتاب والقرآن العربي منزل من الله. وهذا معنى قول السلف: منه بدأ قال أحمد بن حنبل رحمه الله منه بدأ أي هو المتكلم به فإن الذين قالوا إنه مخلوق قالوا خلقه في غيره فبدا من ذلك المخلوق فقال السلف: منه بدأ أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلاما لذلك المحل الذي خلقه فيه فإن الله تعالى إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين فإذا خلق طعما أو لونا في محل كان ذلك المحل هو المتحرك المتلون به وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علما أو كلاما في محل كان ذلك المحل هو المريد القادر العالم المتكلم بذلك الكلام ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين وإنما يتصف الرب تعالى بما يقوم به من الصفات لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات فهو الحي العليم القدير السميع البصير الرحيم المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني.

    ومن جعل كلامه مخلوقا لزمه أن يقول المخلوق هو القائل لموسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وهذا ممتنع لا يجوز أن يكون هذا كلاما إلا لرب العالمين وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن والتوراة وغير ذلك من الكتب بمعانيها وألفاظها المنتظمة من حروفها لم يكن شيء من ذلك مخلوقا؛ بل كان ذلك كلاما لرب العالمين. وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل: إن فلانا يقول لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر فقال: هذا كفر. فأنكر على من قال إن الحروف مخلوقة؛ لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقا لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقا وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة مخالف للأدلة العقلية والسمعية كما قد بسط في غير هذا الموضع.

    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه: " منها " أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قد كتب التوراة لموسى بيده فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه وتعالى فيه فإن كان محمد أخذه عن جبريل وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلى من محمد بدرجة. وكذلك من قال إنه ألقى إلى جبريل المعاني وأن جبريل عبر عنها بالكلام العربي فقوله يستلزم أن يكون جبريل ألهمه إلهاما وهذا الإلهام يكون لآحاد المؤمنين.
    كما قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} وقال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} وقد أوحى إلى سائر النبيين فيكون هذا الوحي الذي يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلى من أخذ محمد القرآن عن جبريل؛ لأن جبريل الذي علمه لمحمد هو بمنزلة الواحد من هؤلاء؛ ولهذا زعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وقال: لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول من معدن واحد وادعى أن أخذه عن الله أعلى من أخذ الرسول للقرآن ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر وأن هذا القول من جنسه.
    وأيضا فالله تعالى يقول: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} إلى قوله: {وكلم الله موسى تكليما} ففضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم وهذا يدل على أمور: على أن الله يكلم عبده تكليما زائدا عن الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص فإن
    لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى عام وخاص فالتكليم هو المقسوم في قوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا} والتكليم المطلق هو قسيم الوحي الخاص ليس هو قسما منه وكذلك لفظ الوحي قد يكون عاما فيدخل فيه التكليم الخاص كما في قوله لموسى: {فاستمع لما يوحى} وقد يكون قسيم التكليم الخاص كما في سورة الشورى وهذا يبطل قول من يقول الكلام معنى واحد قائم بالذات فإنه حينئذ لا فرق بين التكليم الذي خص به موسى والوحي العام الذي يكون لآحاد العباد. ومثل هذا قوله في الآية الأخرى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فإنه فرق بين الإيحاء وبين التكليم من وراء الحجاب وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء فدل على أن التكليم من وراء حجاب - كما كلم موسى - أمر غير الإيحاء.
    وأيضا فقوله: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقوله: {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} وقوله: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره. وكذلك قوله {بلغ ما أنزل إليك من ربك} فإنه يدل على إثبات أن ما أنزل إليه من ربه وأنه مبلغ مأمور بتبليغ ذلك.

    وأيضا فهم يقولون: إنه معنى واحد فإن كان موسى سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله وإن سمع بعضه فقد تبعض وكلاهما ينقض قولهم؛ فإنهم يقولون: إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض فإن كان ما يسمعه موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله كان كل منهم علم جميع كلام الله وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله أو أنزل عليه شيئا من كلامه عالما بجميع أخبار الله وأوامره وهذا معلوم الفساد بالضرورة. وإن كان الواحد من هؤلاء إنما يسمع بعضه فقد تبعض كلامه وذلك يناقض قولهم.

    وأيضا فقوله: {وكلم الله موسى تكليما} وقوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} وقوله: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} وقوله: {فلما أتاها نودي يا موسى} {إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى} {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} الآيات. دليل على تكليم سمعه موسى. والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ومن قال إنه يسمع فهو مكابر ودليل على أنه ناداه والنداء لا يكون إلا صوتا مسموعا ولا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازا.
    وأيضا فقد قال تعالى: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين} وقوله: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} وقال: {هل أتاك حديث موسى} {إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى} وقال: {فلما أتاها نودي يا موسى} {إني أنا ربك} وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي ولم يناد قبل ذلك؛ ولما فيها من معنى الظرف كما في قوله: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} ومثل هذا قوله: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} فإنه وقت النداء بظرف محدود فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه.
    ومثل هذا قوله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} وقوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته؛ بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته. ثم من هؤلاء من قال إنه معنى واحد؛ لأن الحروف والأصوات متعاقبة يمتنع أن تكون قديمة.
    ومنهم من قال: بل الحروف والأصوات قديمة الأعيان وأنها مترتبة في ذاتها متقاربة في وجودها لم تزل ولا تزال قائمة بذاته والنداء الذي سمعه موسى قديم أزلي لم يزل ولا يزال. ومنهم من قال: بل الحروف قديمة الأعيان بخلاف الأصوات وكل هؤلاء يقولون: إن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم؛ بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعا لما كان موجودا قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيرا لما كان موجودا قبل رؤيته من غير إحداث شيء منفصل عن الأعمى.

    فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي. ولهذا يقولون: إنه يسمع كلامه لخلقه يدل عن قول الناس إنه يكلم خلقه وهؤلاء يردون على الخلقية الذين يقولون القرآن مخلوق ويقولون عن أنفسهم إنهم أهل السنة الموافقون للسلف الذين قالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وليس قولهم قول السلف؛ لكن قولهم أقرب إلى قول السلف من وجه وقول الخلقية أقرب إلى قول السلف من وجه. أما كون قولهم أقرب فلأنهم يثبتون لله كلاما قائما بنفس الله وهذا قول السلف؛ بخلاف الخلقية الذين يقولون: ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره فإن قول هؤلاء مخالف لقول السلف.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #238
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 236)

    من صــ 231 الى صـ 245


    وأما كون قول الخلقية أقرب فلأنهم يقولون إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وهذا قول السلف وهؤلاء عندهم لا يقدر الله على شيء من كلامه وليس كلامه بمشيئته واختياره بل كلامه عندهم كحياته وهم يقولون: الكلام عندنا صفة ذات لا صفة فعل. والخلقية يقولون صفة فعل لا صفة ذات ومذهب السلف أنه صفة ذات وصفة فعل معا فكل منهما موافق للسلف من وجه دون وجه. واختلافهم في كلام الله تعالى شبيه اختلافهم في أفعاله تعالى ورضاه وغضبه وإرادته وكراهته وحبه وبغضه وفرحه وسخطه ونحو ذلك. فإن هؤلاء يقولون هذه كلها أمور مخلوقة بائنة عنه ترجع إلى الثواب والعقاب. والآخرون يقولون بل هذه كلها أمور قديمة الأعيان قائمة بذاته.
    ثم منهم من يجعلها كلها تعود إلى إرادة واحدة بالعين متعلقة بجميع المخلوقات. ومنهم من يقول: بل هي صفات متعددة الأعيان لكن يقول: كل واحدة واحدة العين قديمة قبل وجود مقتضياتها كما قالوا مثل ذلك في الكلام والله تعالى يقول: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} فأخبر أن أفعالهم أسخطته قال تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} أي أغضبونا. وقال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} إلى أمثال ذلك مما يبين أنه سخط على الكفار لما كفروا ورضي عن المؤمنين لما آمنوا.
    [فصل: بيان معنى قوله وكلم الله موسى تكليما]
    قالوا: وقال أيضا: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164].
    فيقال لهم: وأي حجة لكم في هذا، وإنما هو حجة عليكم، فإنه قد ثبت أن الله كلم موسى تكليما، وكلام الله الذي سمعه منه موسى عليه السلام، ليس هو المسيح فعلم أن المسيح ليس هو كلام الله، وعندهم هو كلمة الله، وهو علم الله، وهو الله.
    ومعلوم أن كلام الله كثير كالتوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك من كلامه، وليس المسيح شيئا من ذلك، والمسيح عندهم خالق، ولو كان المسيح نفس كلام الله لم يكن خالقا ولا معبودا، فإن كلام الله لم يخلق السماوات والأرض، ولا كلام الله هو الإله المعبود، بل كلامه كسائر صفاته مثل حياته وقدرته، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ولا يا كلام الله اغفر لي، وإنما يعبد ويدعى الإله الموصوف بالعلم، والقدرة، والكلام الذي كلم به موسى تكليما.
    (ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وأما قوله - تعالى -: {ولا تقولوا ثلاثة} [النساء: 171] وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73].
    فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالآب والابن والروح القدس وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله.
    قال السدي في قوله - تعالى -:

    {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73].
    قال: قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] قال: هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم المريميون يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله.
    وأما الأول فمتوجه، فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال - تعالى -: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171] فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

    وقال: {فآمنوا بالله ورسله} [النساء: 171] ثم قال {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171]لم يذكر هنا أمه. وقوله - تعالى -: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] قال: معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم هو قوله: كن فكان.
    وكذلك قال: قتادة ليس الكلمة صار عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى.
    وكذلك قال: الإمام أحمد في مصنفه الذي صنفه في كتابه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال: أحمد ثم إن الجهم ادعى أمرا فقال: إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا: أي آية قال: قول الله {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته} [النساء: 171] فقلنا: إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى - عليه السلام - تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن ; لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال عيسى؟ ولكن المعنى في قوله - جل ثناؤه - {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال: له كن فكان عيسى بـ كن وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان فالكن من الله قوله: وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته ; لأن الكلمة مخلوقة.
    وقالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة.
    قال أحمد وأما قوله - جل ثناؤه - {وروح منه} [النساء: 171] يقول من أمره كان الروح فيه كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية: 13] يقول من أمره، وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقهم الله كما يقال: عبد الله وسماء الله، وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله.
    وقال: الشعبي في قوله - تعالى -:

    {وكلمته ألقاها إلى مريم} [النساء: 171] الكلمة حين قال: له كن فكان عيسى بـ " كن " وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان.
    وقال: ليث عن مجاهد روح منه قال: رسول منه يريد مجاهد قوله: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] (17) {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] (18) {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19]

    والمعنى أن عيسى خلق من الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة ; لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ; لأنه كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب، وهذا غلط منهم، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس، بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث.
    وقد قال - تعالى -: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] وقال - تعالى -: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12] فهذا يوافق قوله - تعالى -: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19].
    [فصل: بيان المعنى الصحيح لروح الله]
    قالوا: وقوله: على لسان أيوب الصديق روح الله خلقني وهو يعلمني.
    فيقال هذا لا حجة فيه لأنكم ادعيتم أن الأنبياء سمت حياة الله روح القدس، وهذا لم يقل روح القدس، بل قال روح الله.
    وروح الله يراد بها الملك الذي هو روح اصطفاه الله فأحبها، كما قال في القرآن:
    {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] (17) {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] (18) {قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} [مريم: 19].
    فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا، وتبين أنه رسوله.
    فعلم أن المراد بالروح ملك، هو روح اصطفاها فأضافها إليه، كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها.
    كقوله: {ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13].

    وقوله: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج: 26].
    وقوله: {عينا يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6].
    والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق كالعلم والقدرة والكلام والحياة، كان صفة له، وإن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة لغيره، كالبيت والناقة والعبد والروح، كان مخلوقا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه، ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره، حتى استحق الإضافة، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله)، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها روح الله.
    بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار، فإنها مخلوقة لله، ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة، كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة، ولا نوق الناس، كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته.

    كما قال - تعالى -: {هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: 73].
    وإذا كان كذلك فهذا اللفظ إن كان ثابتا عن النبي وترجم ترجمة صحيحة، فقد يكون معناه أن الملك صورني في بطن أمي، وهو يعلمني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أو أنثى، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقول ربك ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزاد على أمر ولا ينقص» رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري.
    وقد يقال: من هذا قوله في الزبور في مزمور الخليقة: ترسل روحك فيخلقون، وفي المزمور أيضا هو قال: فكانوا وأمر فخلقوا فقد يضاف الخلق إلى الملك.
    ومن هذا الباب قوله - تعالى -:
    {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله} [آل عمران: 49].
    فأخبره أنه يخلق من الطين كهيئة الطير طيرا بإذن الله، وكذلك الملك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله.
    ولا يجوز أن يريد به أن حياة الله خلقتني وتعلمني، فإن الصفة لا تخلق ولا تعلم، إنما يخلق ويعلم الرب الموصوف الذي خلق الإنسان من علق، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، ولكن هو سبحانه يخلق بواسطة الملائكة، فإن الملائكة رسل الله في الخلق، فجاز أن يضاف الفعل إلى الوسائط تارة، وإلى الرب أخرى، وهذا موجود في الكتب الإلهية في غير موضع كما في القرآن:
    {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42].
    وفي موضع آخر:
    {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61].
    وفي موضع ثالث:
    {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} [السجدة: 11].
    والجميع حق، فإذا وجد لفظ له معنى في كلام بعض الأنبياء، ولم يوجد له معنى يخالف ذلك من كلامهم، كان حمله على ذلك المعنى أولى من حمله على معنى يخالف كلامهم، ولا يوجد في كلامهم أن حياة الله تسمى روحا، ولا أن صفات الله تخلق المخلوقات.
    [فصل: بيان المعنى الصحيح لكلمة الله]
    قالوا: وقوله: على لسان أشعيا النبي: (ييبس القتاد، ويجف العشب، وكلمته باقية إلى الأبد).
    فيقال: إما أن يريد بكلمة الله علمه، أو كلمة معينة، أو تكون كلمة الله اسم جنس، وعلى التقديرات الثلاثة لا حجة لكم في ذلك، فإنه إن كان كلمة الله اسم جنس لكل ما تكلم الله به كما قال:
    {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} [التوبة: 40].
    وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: - «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
    ولهذا جمعها في قوله - تعالى -:
    {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115].
    وفي قوله:
    {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: 109].
    فالمراد بذلك أن ما قاله الله فهو حق ثابت لا يبطل.
    كما قال - تعالى -:
    {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137].
    يعني بتمامها نفاذ ما وعدهم به من النصر على فرعون، وإهلاكه، وإخراجهم إلى الشام.
    وقال - تعالى -:
    {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115].
    ومنه قوله:
    {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته} [الكهف: 27].



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #239
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 237)

    من صــ 246 الى صـ 260

    وقوله:
    {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} [الفتح: 15].
    ومن هذا الباب قول المسيح السماء والأرض يزولان، وكلامي لا يزول، فإن أراد علم الله، فعلم الله باق سواء أراد به علمه القائم بذاته أو معلومه الذي أخبر ببقائه فلا حجة لكم فيه، وكذلك إن أراد كلمة معينة فإن المسيح عندكم ليس كلمة معينة من كلامه، بل هو عندكم هو الكلمة وهو الله الخالق وليس في هذا اللفظ ما يدل على أنه أراد بالكلمة المسيح والمسيح عندكم أزلي أبدي لا يوصف بالبقاء دون القدم ولو قدر أنه أراد بالكلمة المسيح فنحن لا ننكر أنه يسمى بالكلمة، لأنه قال له: كن فكان، كما سيأتي بيان ذلك، ويريد بذلك إما بقاؤه إلى أن ينزل إلى الأرض، وإما أن يريد بقاء ذكره والثناء عليه، ولسان صدق له إلى آخر الزمان.
    ومما يوضح هذا وأنه ليس المراد به ما يدعونه، أنه قال: وكلمة الله باقية إلى الأبد فوصفها بالبقاء دون القدم.
    وعندهم أن الكلمة المولودة من الأب قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ومثل هذا لا يحتاج أن يوصف بالدوام والبقاء، بخلاف ما وعد به من النعيم والرحمة والثواب، فإنه يوصف بالبقاء والدوام كما في القرآن: {أكلها دائم} [الرعد: 35] وقوله: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} [ص: 54].
    وفي الزبور: اعترفوا للرب، فإنه صالح، وإنه إلى الأبد رحمته.
    [فصل: نقض دعواهم أن القرآن أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت]
    قالوا: وقد جاء في هذا الكتاب الذي جاء به هذا الإنسان يقول:
    {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171]
    . وهذا يوافق قولنا: إذ قد شهد أنه إنسان مثلنا، أي بالناسوت الذي أخذ من مريم، وكلمة الله وروحه المتحدة فيه، وحاشا أن تكون كلمة الله وروحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين، وأيضا قال في سورة النساء:
    {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157]
    . فأشار بهذا القول إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله التي لم يدخل عليها ألم ولا عرض، وقال أيضا:
    {ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} [آل عمران: 55]
    . وقال في سورة المائدة عن عيسى أنه قال:
    {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117].
    فأعنى بموته عن موت الناسوت الذي أخذ من مريم العذراء.
    وقال أيضا في سورة النساء:
    {وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء: 157].
    فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة، وعلى هذا القياس نقول: إن المسيح صلب وتألم بناسوته، ولم يصلب ولا تألم بلاهوته.
    والجواب من وجوه:
    أحدها: أن يقال: دعواهم على محمد صلى الله عليه وسلم أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت، كما يزعمه هؤلاء النصارى فيه، هو من الكذب الواضح المعلوم على محمد صلى الله عليه وسلم الذي يعلم من دينه بالاضطرار، كما يعلم من دينه تصديق المسيح عليه السلام وإثبات رسالته، فلو ادعى اليهود على محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يكذب المسيح ويجحد رسالته، كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول: إنه رب العالمين، وأن اللاهوت اتحد بالناسوت، ومحمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر فيما بلغه عن الله عز وجل بكفر من قال ذلك، وبما يناقض ذلك في غير موضع كقوله تعالى:
    {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17].

    وقوله تعالى:
    {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار - لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم - أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم - ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون - قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم - قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 72 - 77]

    . وقال تعالى:
    {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون - يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون - هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون - ياأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة: 30 - 34].
    وقال تعالى:
    {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون - وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون - إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل - ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون - وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم - ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين - ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون - إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم - فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} [الزخرف: 57 - 65]
    وقال تعالى:
    {وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب - ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 116 - 117]
    فأخبر عن المسيح أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به، بقوله: أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكان عليهم شهيدا ما دام فيهم، وبعد وفاته كان الله هو الرقيب عليهم، فإذا كان بعضهم قد غلط في النقل عنه أو في تفسير كلامه، أو تعمد تغيير دينه لم يكن على المسيح عليه السلام من ذلك درك، وإنما هو رسول عليه البلاغ المبين.
    وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن أول ما تكلم به المسيح أنه قال:
    {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا - وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا - وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا} [مريم: 30 - 32].
    ثم طلب لنفسه السلام فقال:
    {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 33].
    والنصارى يقولون: (علينا منه السلام) كما تقوله الغالية فيمن يدعون فيه الإلآهية كالنصيرية في علي، والحاكمية في الحاكم.
    الوجه الثاني: أن يقال: إن الله لم يذكر أن المسيح مات ولا قتل إنما قال:
    {ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55]
    وقال المسيح:
    {فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117]
    وقال تعالى:

    {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا - وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما - وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا - بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما - وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا - فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا - وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} [النساء: 155 - 161].
    فذم الله اليهود بأشياء منها: قولهم على مريم بهتانا عظيما ; حيث زعموا أنها بغي، ومنها: قولهم: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157].
    قال تعالى:
    {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157].
    وأضاف هذا القول إليهم وذمهم عليه.
    ولم يذكر النصارى ; لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود، ولم يكن أحد من النصارى شاهدا هذا معهم، بل كان الحواريون خائفين غائبين، فلم يشهد أحد منهم الصلب، وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح، والذين نقلوا أن المسيح صلب من النصارى وغيرهم، إنما نقلوه عن أولئك اليهود وهم شرط من أعوان الظلمة، لم يكونوا خلقا كثيرا يمتنع تواطؤهم على الكذب.
    قال تعالى:
    {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157]. فنفى عنه القتل، ثم قال:
    {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159].
    وهذا عند أكثر العلماء معناه قبل موت المسيح، وقد قيل قبل موت اليهودي وهو ضعيف، كما قيل: أنه قبل موت محمد صلى الله عليه وسلم وهو أضعف، فإنه لو آمن به قبل الموت لنفعه إيمانه به، فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
    وإن قيل: المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة، لم يكن في هذا فائدة، فإن كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده فلا اختصاص للمسيح به، ولأنه قال قبل موته، ولم يقل بعد موته، ولأنه لا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد صلوات الله عليهما وسلامه واليهودي الذي يموت على اليهودية يموت كافرا بمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام ولأنه قال:

    {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159]
    وقوله: {ليؤمنن به} [النساء: 159]
    فعل مقسم عليه، وهذا إنما يكون في المستقبل، فدل ذلك على أن هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا، ولو أريد به قبل موت الكتابي لقال: وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن به، لم يقل: {ليؤمنن به} [النساء: 159]
    وأيضا فإنه قال " وإن من أهل الكتاب " وهذا يعم اليهود والنصارى فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول الله ليس كاذبا كما تقول اليهود ولا هو الله كما تقوله النصارى.
    والمحافظة على هذا العموم أولى من أن يدعى أن كل كتابي ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابي، فإن هذا يستلزم إيمان كل يهودي ونصراني، وهذا خلاف الواقع، وهو لما قال:
    وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته

    دل على أن المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو، علم أنه أريد بالعموم عموم من كان موجودا حين نزوله ; أي لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به، لا إيمان من كان منهم ميتا.
    وهذا كما يقال: إنه لا يبقى بلد إلا دخله الدجال إلا مكة والمدينة، أي من المدائن الموجودة حينئذ، وسبب إيمان أهل الكتاب به حينئذ ظاهر، فإنه يظهر لكل أحد أنه رسول مؤيد ليس بكذاب ولا هو رب العالمين.
    فالله تعالى ذكر إيمانهم به إذا نزل إلى الأرض، فإنه تعالى لما ذكر رفعه إلى الله بقوله:
    {إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55]
    وهو ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويموت حينئذ أخبر بإيمانهم به قبل موته، كما قال تعالى في آية أخرى:
    {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل - ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون - وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم - ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين - ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون - إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم - فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} [الزخرف: 59 - 65].
    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، وإماما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية». " وقوله تعالى:
    {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا - بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 157 - 158].
    بيان أن الله رفعه حيا وسلمه من القتل، وبين أنهم يؤمنون به قبل أن يموت.
    وكذلك قوله:
    ومطهرك من الذين كفروا.
    ولو مات لم يكن فرق بينه وبين غيره.
    ولفظ التوفي في لغة العرب معناه: الاستيفاء والقبض، وذلك ثلاثة أنواع: أحدها: توفي النوم، والثاني: توفي الموت، والثالث: توفي الروح والبدن جميعا، فإنه بذلك خرج عن حال أهل الأرض الذين يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس والنوم، ويخرج منهم الغائط والبول، والمسيح عليه السلام توفاه الله وهو في السماء الثانية إلى أن ينزل إلى الأرض، ليست حاله كحالة أهل الأرض في الأكل والشرب واللباس والنوم، والغائط والبول، ونحو ذلك.
    الوجه الثالث: قولهم: إنه عني بموته عن موت الناسوت، كان ينبغي لهم أن يقولوا على أصلهم: عني بتوفيته عن توفي الناسوت، وسواء قيل موته أو توفيته فليس هو شيئا غير الناسوت، فليس هناك شيء غيره لم يتوف، والله تعالى قال:{إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55]
    فالمتوفى هو المرفوع إلى الله، وقولهم: إن المرفوع هو اللاهوت، مخالف لنص القرآن، لو كان هناك موت فكيف إذا لم يكن، فإنهم جعلوا المرفوع غير المتوفى، والقرآن أخبر أن المرفوع هو المتوفى. وكذلك قوله في الآية الأخرى:
    {وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء: 157].
    هو تكذيب لليهود في قولهم:

    {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157].
    واليهود لم يدعوا قتل لاهوت، ولا أثبتوا لله لاهوتا في المسيح، والله تعالى لم يذكر دعوى قتله عن النصارى حتى يقال: إن مقصودهم قتل الناسوت دون اللاهوت، بل عن اليهود الذين لا يثبتون إلا الناسوت.
    وقد زعموا أنهم قتلوه، فقال تعالى:
    {وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء: 157].
    فأثبت رفع الذي قالوا إنهم قتلوه، وإنما هو الناسوت، فعلم أنه هو الذي نفي عنه القتل. وهو الذي رفع، والنصارى معترفون برفع الناسوت، لكن يزعمون أنه صلب، وأقام في القبر إما يوما وإما ثلاثة أيام، ثم صعد إلى السماء، وقعد عن يمين الرب الناسوت مع اللاهوت.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #240
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,495

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    الحلقة( 238)

    من صــ 261 الى صـ 280

    وقوله تعالى:
    {وما قتلوه يقينا} [النساء: 157]
    معناه: أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه، بخلاف الذين اختلفوا فإنهم في شك منه من قتله وغير قتله فليسوا مستيقنين أنه قتل ; إذ لا حجة معهم بذلك.
    ولذلك كانت طائفة من النصارى يقولون: لم يصلب، فإن الذين صلبوا المصلوب هم اليهود، وكان قد اشتبه عليهم المسيح بغيره، كما دل عليه القرآن، وكذلك عند أهل الكتاب أنه اشتبه بغيره فلم يعرفوا من هو المسيح من أولئك حتى قال لهم بعض الناس: أنا أعرفه فعرفوه، وقول من قال: معنى الكلام ما قتلوه علما بل ظنا قول ضعيف.
    الوجه الرابع: أنه قال - تعالى:
    {إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55].
    فلو كان المرفوع هو اللاهوت، لكان رب العالمين قال لنفسه أو لكلمته: " إني أرفعك إلي "، وكذلك قوله: بل رفعه الله إليه فالمسيح عندهم هو الله.
    ومن المعلوم أنه يمتنع رفع نفسه إلى نفسه، وإذا قالوا: هو الكلمة فهم يقولون مع ذلك إنه الإله الخالق، لا يجعلونه بمنزلة التوراة والقرآن ونحوهما، مما هو من كلام الله الذي قال فيه:
    {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]
    بل عندهم هو الله الخالق الرازق رب العالمين، ورفع رب العالمين إلى رب العالمين ممتنع.
    الوجه الخامس: قوله: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} [المائدة: 117] دليل على أنه بعد توفيته لم يكن الرقيب عليهم إلا الله دون المسيح، فإن قوله كنت أنت يدل على الحصر، كقوله: {إن كان هذا هو الحق} [الأنفال: 32] ونحو ذلك، فعلم أن المسيح بعد توفيته ليس رقيبا على أتباعه، بل الله هو الرقيب المطلع عليهم المحصي أعمالهم المجازي عليها، والمسيح ليس برقيب فلا يطلع على أعمالهم ولا يحصيها ولا يجازيهم بها.
    سورة المائدة
    وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
    فصل:

    سورة المائدة أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي؛ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {هي آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها} ولهذا افتتحت بقوله: {أوفوا بالعقود} والعقود هي العهود وذكر فيها من التحليل والتحريم والإيجاب ما لم يذكر في غيرها والآيات فيها متناسبة مثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}. وقد اشتهر في التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب الذين أرادوا التبتل من الصحابة مثل عثمان بن مظعون والذين اجتمعوا معه. وفي الصحيحين {حديث أنس في الأربعة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر.
    وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام. وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني} فيشبه والله أعلم أن يكون قوله: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} فيمن حرم الحلال على نفسه بقول أو عزم على تركه مثل الذي قال: لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم وهي الرهبانية المبتدعة فإن الراهب لا ينكح ولا يذبح.
    وقوله: {ولا تعتدوا} فيمن قال: أقوم لا أنام وقال أصوم لا أفطر؛ لأن الاعتداء مجاوزة الحد فهذا مجاوز للحد في العبادة المشروعة كالعدوان في الدعاء في قوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}.
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم {سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور} فالاعتداء في " العبادات وفي الورع " كالذين تحرجوا من أشياء ترخص فيها النبي صلى الله عليه وسلم وفي " الزهد " كالذين حرموا الطيبات وهذان القسمان ترك فقوله: " {ولا تعتدوا} " إما أن يكون مختصا بجانب الأفعال العبادية وإما أن يكون العدوان يشمل العدوان في العبادة والتحريم وهذان النوعان هما اللذان ذم الله المشركين بهما في غير موضع حيث عبدوا عبادة لم يأذن الله بها وحرموا ما لم يأذن الله به فقوله: {لا تحرموا} {ولا تعتدوا} يتناول القسمين.
    والعدوان هنا كالعدوان في قوله: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} إما أن يكون أعم من الإثم وإما أن يكون نوعا آخر وإما أن يكون العدوان في مجاوزة حدود المأمورات واجبها ومستحبها ومجاوزة حد المباح وإما أن يكون في ذلك مجاوزة حد التحريم أيضا فإنها ثلاثة أمور: مأمور به ومنهي عنه ومباح. ثم ذكر بعد هذا قوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته} الآية ذكر هذا بعد النهي عن التحريم ليبين المخرج من تحريم الحلال إذا عقد عليه يمينا بالله أو يمينا أخرى وبهذا يستدل على أن تحريم الحلال يمين.
    ثم ذكر بعد ذلك ما حرمه من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فبين به ما حرمه فإن نفي التحريم الشرعي يقع فيه طائفة من الإباحية كما يقع في تحريم الحلال طائفة من هؤلاء يكونون في حال اجتهادهم ورياضتهم تحريمية ثم إذا وصلوا بزعمهم صاروا إباحية وهاتان آفتان تقعان في المتعبدة والمتصوفة كثيرا وقرن بينهما حكم الأيمان فإن كلاهما يتعلق بالفم داخلا وخارجا كما يقرن الفقهاء بين كتاب الأيمان والأطعمة وفيه رخصة في كفارة الأيمان مطلقا خلافا لما شدد فيه طائفة من الفقهاء من جعل بعض الأيمان لا كفارة فيها فإن هذا التشديد مضاه للتحريم فيكون الرجل ممنوعا من فعل الواجب أو المباح بذلك التشديد وهذا كله رحمة من الله بنا دون غيرنا من الأمم التي حرم عليهم أشياء عقوبة لهم ولا كفارة في أيمانهم ولم يطهرهم من الرجس كما طهرنا فتدبر هذا فإنه نافع.
    (ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (1)
    وقال - رحمه الله -:
    في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} قد قيل: إنها ما أمر الله به ورسوله. فإن هذه الآية كتبها النبي صلى الله عليه وسلم في أول الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم لما بعثه عاملا على نجران وكتاب عمرو فيه الفرائض والديات والسنن الواجبة بالشرع. وقوله للمؤمنين: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا} وقد ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها مبايعته للأنصار ليلة العقبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم واثقهم على ما هو واجب بأمر الله من السمع له والطاعة وذكرهم الله ذلك الميثاق ليوفوا به مع أنه لم يوجب إلا ما كان واجبا بأمر الله. وهذه الآية أمرهم فيها بذكر نعمته عليهم وذكر ميثاقه. فذكر سببي الوجوب؛ لأن الوجوب الثابت بالشرع ثابت بإيجاب الربوبية وهي إنعامه عليهم؛ ولهذا جاء في الحديث: {أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه}. ولهذا كان عادة المصنفين في " أصول الدين " أول ما يذكرون أول نعمة أنعمها الله على عباده وأول ما وجب على عباده ويذكرون " مسألة وجوب شكر المنعم " هل وجب مع الشرع بالعقل أم لا ولهذا كانت طريقة القرآن تذكير العباد بآلاء الله عليهم فإن ذلك يقتضي شكرهم له وهو أداء الواجبات الشرعية.
    وقوله: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا} الآية. إلى قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} والميثاق على ما هو واجب عليهم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل وتعزيرهم. وقد أخبر أنه بنقضهم ميثاقهم لعناهم وأقسى قلوبهم؛ لا بمجرد المعصية للأمر فكان في هذا أن عقوبة هذه الواجبات الموثقة بالعهود من جهة النقض أوكد. وقوله: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به} والأمر فيهم كذلك. وقوله تعالى {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} فإن كونه في الصالحين واجب والصدقة المفروضة واجبة وقد روي أنها هي المنذورة. وهذا نص في أنه يجب بالنذر ما كان واجبا بالشرع فإذا تركه عوقب لإخلاف الوعد الذي هو النذر فإن النذر وعد مؤكد هكذا نقل عن العرب وهذه الآية تسمى النذر وعدا.
    وقوله: {لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} ورده إلى أبيه كان واجبا عليهم بلا موثق. ومن الحرب المباحة دفع الظالم عن النفوس والأموال والأبضاع المعصومة. وإنما جاءت الرخصة في السلم والحرب خاصة لأن هذين الموطنين مبناهما على تأليف القلوب وتنفيرها فإذا تألفت فهي المسالمة وإذا تنافرت فهي المحاربة والتأليف والتنفير يحصل بالتوهمات كما يحصل بالحقائق؛ ولهذا يؤثر قول الشعر في التأليف والتنفير بحيث يحرك النفوس شهوة ونفرة تحريكا عظيما وإن لم يكن الكلام منطبقا على الحق؛ لكن لأجل تخييل أو تمثيل. فلما كانت المسالمة والمحاربة الشرعية يقوم فيها التوهم لما لا حقيقة له مقام توهم ما له حقيقة ولم يكن في المعارض إلا الإيهام بما لا حقيقة له والناطق لم يعن إلا الحق صار ذلك حقا وصدقا عند المتكلم وموهما للمستمع توهما يؤلفه تأليفا يحبه الله ورسوله أو ينفره تنفيرا يحبه الله ورسوله بمنزلة تأليفه وتنفيره بالأشعار التي فيها تخييل وتمثيل وبمنزلة الحكايات التي فيها الأمثال المضروبة. فإن الأمثال المنظومة والمنثورة إذا كانت حقا مطابقا فهي من الشعر الذي هو حكمة وإن كان فيها تشبيهات شديدة وتخييلات عظيمة أفادت تأليفا وتنفيرا.
    (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2)
    (فصل: هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة)
    قال الشيخ - رحمه الله -:
    وأما قوله: هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟ فهذه " المسألة " وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزاعا كليا وإما حاليا. فحقيقة الأمر: أن " الخلطة " تارة تكون واجبة أو مستحبة والشخص الواحد قد يكون مأمورا بالمخالطة تارة وبالانفراد تارة. وجماع ذلك: أن " المخالطة " إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات: كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله.

    وكذلك الاختلاط بهم في الحج وفي غزو الكفار والخوارج المارقين وإن كان أئمة ذلك فجارا وإن كان في تلك الجماعات فجار وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانا: إما لانتفاعه به وإما لنفعه له ونحو ذلك. ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه؛ إما في بيته، كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته. فاختيار المخالطة مطلقا خطأ واختيار الانفراد مطلقا خطأ.
    وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم.
    وكذلك " السبب وترك السبب ": فمن كان قادرا على السبب ولا يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به مع التوكل على الله وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال، وسبب مثل هذا عبادة الله، وهو مأمور أن يعبد الله ويتوكل عليه فإن تسبب بغير نية صالحة أو لم يتوكل على الله فهو غير مطيع في هذا وهذا، وهذه غير طريق الأنبياء والصحابة.
    وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فهذا إما أن يكون عاجزا عن الكسب أو قادرا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع لله من الكسب ففعل ما هو فيه أطوع هو المشروع في حقه وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس.
    وقد تقدم أن الأفضل يتنوع " تارة " بحسب أجناس العبادات كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. و " تارة " يختلف باختلاف الأوقات كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة. و " تارة " باختلاف عمل الإنسان الظاهر كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف. و " تارة " باختلاف الأمكنة: كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.
    و " تارة " باختلاف مرتبة جنس العبادة: فالجهاد للرجال أفضل من الحج وأما النساء فجهادهن الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها؛ بخلاف الأيمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها. و " تارة " يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه: فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ويتبعون أهواءهم. فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك. والله بعث محمدا بالكتاب والحكمة وجعله رحمة للعباد وهديا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له فعلى المسلم أن يكون ناصحا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له.
    وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية - كالصلاة والصيام - أفضل له والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا. فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

    (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ... (3)
    وسئل - رحمه الله -:
    عن " الغنم والبقر " ونحو ذلك إذا أصابه الموت وأتاه الإنسان هل يذكي شيئا منه وهو متيقن حياته حين ذبحه وأن بعض الدواب لم يتحرك منه جارحة حين ذكاته: فهل الحركة تدل على وجود الحياة وعدمها يدل على عدم الحياة أم لا؟ فإن غالب الناس يتحقق حياة الدابة عند ذبحها وإراقة دمها ولم تتحرك فيقول: إنها ميتة فيرميها؟ وهل الدم الأحمر الرقيق الجاري حين الذبح يدل على أن فيها حياة مستقرة والدم الأسود الجامد القليل دم الموت أم لا؟ وما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " {ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا}؟

    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم}. وقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} عائد إلى ما تقدم: من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع: عند عامة العلماء؛ كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم فما أصابه قبل أن يموت أبيح. لكن تنازع العلماء فيما يذكى من ذلك. فمنهم من قال: ما تيقن موته لا يذكى كقول مالك ورواية عن أحمد. ومنهم من يقول: ما يعيش معظم اليوم ذكي. ومنهم من يقول: ما كانت فيه حياة مستقرة ذكي كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد. ثم من هؤلاء من يقول: الحياة المستقرة ما يزيد على حركة المذبوح.
    ومنهم من يقول: ما يمكن أن يزيد على حياة المذبوح. والصحيح: أنه إذا كان حيا فذكي حل أكله ولا يعتبر في ذلك حركة مذبوح؛ فإن حركات المذبوح لا تنضبط؛ بل فيها ما يطول زمانه وتعظم حركته. وقد قال صلى الله عليه وسلم " {ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا} فمتى جرى الدم الذي يجري من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله. والناس يفرقون بين دم ما كان حيا ودم ما كان ميتا؛ فإن الميت يجمد دمه ويسود؛ ولهذا حرم الله الميتة؛ لاحتقان الرطوبات فيها؛ فإذا جرى منها الدم الذي يخرج من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله؛ وإن تيقن أنه يموت؛ فإن المقصود ذبح ما فيه حياة فهو حي وإن تيقن أنه يموت بعد ساعة. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه تيقن أنه يموت وكان حيا جازت وصيته وصلاته وعهوده.
    وقد أفتى غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم بأنها إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها أو ركضت برجلها بعد الذبح؛ حلت؛ ولم يشرطوا أن تكون حركتها قبل ذلك أكثر من حركة المذبوح. وهذا قاله الصحابة لأن الحركة دليل على الحياة والدليل لا ينعكس فلا يلزم إذا لم يوجد هذا منها أن تكون ميتة؛ بل قد تكون حية وإن لم يوجد منها مثل ذلك. والإنسان قد يكون نائما فيذبح وهو نائم ولا يضطرب وكذلك المغمى عليه يذبح ولا يضطرب وكذلك الدابة قد تكون حية فتذبح ولا تضطرب لضعفها عن الحركة وإن كانت حية؛ ولكن خروج الدم الذي لا يخرج إلا من مذبوح وليس هو دم الميت دليل على الحياة. والله أعلم.
    [فصل: ما ذبح على النصب]
    وأيضا، فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب، وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله تعالى.
    وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم؛ هل تشترط في ذبيحة الكتابي؟ على روايتين: وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط، فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين. فلما تعارض العموم الحاظر، وهو قول الله تعالى: {وما أهل به لغير الله} [البقرة: 173] والعموم المبيح، وهو قوله:
    {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5] اختلف العلماء في ذلك.
    والأشبه بالكتاب والسنة: ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر، وإن كان من متأخري أصحابنا من لم يذكر هذه الرواية بحال؛ وذلك لأن عموم قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] عموم محفوظ لم تخص منه صورة، بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، ولأن غاية الكتابي: أن تكون ذكاته كالمسلم، والمسلم لو ذبح لغير الله، أو ذبح باسم غير الله لم يبح، وإن كان يكفر بذلك، فكذلك الذمي؛ لأن قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} [المائدة: 5] سواء، وهم وإن كانوا يستحلون هذا، ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه حل ولأنه قد تعارض دليلان، حاظر ومبيح، فالحاظر: أولى. ولأن الذبح لغير الله، وباسم غيره، قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام، فهو من الشرك الذي أحدثوه، فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم، منتف في هذا. والله أعلم.
    فإن قيل: أما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا: باسم المسيح ونحوه، فتحريمه ظاهر، أما إذا لم يسموا أحدا، ولكن قصدوا الذبح للمسيح،أو للكوكب ونحوها، فما وجه تحريمه؟
    قيل: قد تقدمت الإشارة إلى ذلك. وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب، وذلك يقتضي تحريمه، وإن كان ذابحه كتابيا، لأنه لو كان التحريم لكونه وثنيا، لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها، ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب، دل على أن طعام المشركين حرام، فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة.
    وأيضا: فإنه ذكر تحريم ما ذبح على النصب، وما أهل به لغير الله؛ وقد دخل فيما أهل به لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب، فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس، فهو مذبوح على النصب، ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته، فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه، وهذه الأنصاب قد قيل: هي من الأصنام، وقيل: هي غير الأصنام.
    قالوا: كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا، كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويشرحون اللحم عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة، ويعبدونها، ويذبحون عليها، وكانوا إذا شاءوا بدلوا هذه الحجارة بحجارة هي أعجب إليهم منها.
    ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه: "حتى صرت كالنصب الأحمر " يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •