الأمانة - آية الأخلاق وعلامة الاستقامة


د.أحمد الجسار




قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء 58)، وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال 27)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» (رواه أحمد).

ذلك أنَّ أداءَ الأمانةِ من صفاتِ المؤمنين، وأما الخيانةُ فهي من صفات المنافقين. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (متفق عليه)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» (رواه أحمد). ولذلك فقد اهتم الفضلاء برعاية الأمانة؛ لأنها آيَةُ الأخلاقِ والديانة، وعلامةُ الاستقامةِ والرزانة. قال كعبُ بنُ زهير:
أرعى الأمانةَ لا أخونُ أمانتي
إن الخؤونَ على الطريقِ الأنكبِ
الدنيا تقوم على الأمانة
إن الدنيا تقوم على الأمانة، فهل تُتَصورُ حياةٌ بلا أمانة؟ فمن أراد تزويج ابنتِهِ حَرَصَ على أفضلِ الرجالِ حفظا لهذه الأمانة، وإذا أراد الرجلُ الزواجَ حرص على ذات الديانةِ والأمانةِ التي يأمنها على عِرضه وأولاده وبيته، والتاجر إذا أراد شريكا في تجارته حَرَصَ على الشريك الأمين، ومن أراد استعمالَ أجير فإنه يحرص على الأمين، كما قالت المرأة الصالحة لأبيها عن موسى -عليه السلام-: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص 26).
غياب الأمانة يفسد الحياة
وكلما قلت الأمانة فسدت الحياة، والعياذ بالله. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن زمان تندر فيه الأمانةُ، فقال: «فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا» (رواه البخاري). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُم ْ» (رواه ابن ماجه). فإذا ضُيِّعت الأمانةُ لم تصلح الدنيا للحياةِ، فتقومُ الساعة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ»، قيلَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ» (رواه البخاري).
التقوى والأمانة
وأعظم الناس قياما بالأمانة هم أتقاهم لله، ولذلك كانت الأمانةُ من أخص صفات الحاملين لأعظم أمانة، وهي أمانةُ التبليغِ عن الله -تبارك وتعالى-. فالله يختار أأمنَ خلقه على ذلك، فالوحي {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}، وهو أمينُ الوحيِ جِبرائيلُ -عليه السلام-، والله يبعث في أهل القرى الأُمناءَ منهم، كما في سورة الشعراء، يقول كلُّ رسولٍ لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}، وكذلك كان رسولُ اللهِ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في قومه قبل الرسالة وبعدَها معروفًا بالأمانة، فكان الناس يحفظون ودائعهم عنده، لأنه كان أعظمَ الناسِ أمانةً.
علامةُ الأتقياء
فعليكم بالأمانةِ، فإنها علامةُ الأتقياء {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء 49)، فالأمانةَ خطرُها عظيم، قال -تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب 72). فمن لم يؤد الأمانة كان له من هذا الوصفِ (وصفِ الظلمِ والجهلِ) بِـحَسَبِه، ومن قام بالأمانة فقد انتفى عنه هذا الوصفُ بإذن الله.

حُـمِّلْتَ أمانةً فَكُنْ مِنْ حِسابها
على وَجَلٍ واذكُرْ مُناقشةَ الفَرْدِ
فإنَّ السماء والأرضَ أعْرَضْنَ خِيفَةً
وأشْفَقْنَ مِنْ حَـمْلِ الأمانةِ والعهدِ