عقبة بن الحجاج السلولي

ولاية عبد الملك بن قطن الفهري 114-116هـ
وصلت أنباء فاجعة بلاط الشهداء واستشهاد عبد الرحمن الغَافِقِيّ -رحمه الله- إلى عبيدة بن عبد الرحمن القيسي والي إفريقية، فبعث إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك -رحمه الله- يُخبره بولاية عبد الملك بن قَطَن على الأندلس فأقَرَّه الخليفة عليها، وكان ذلك في رمضان وقيل: شوال عام 114هـ=732م [1].
ظلم وجهاد
كان همُّ عبد الملك بن قطن تثبيت أمر المسلمين في المناطق الفرنسية، التي بدأت تتهاوى بعد بلاط الشهداء، وقد نجح في ذلك بعزمه، وبانفضاض سكان الجنوب عن الولاء لشارل مارتل -الذي كان يُعاملهم بظلم وعسف ويطلق فيهم يد جنوده- وبغزوات قائده في أرْبُونَة يوسف الفهري[2]، ومع جهاده هذا إلاَّ أنه كان ظلومًا جائرًا عنيفًا سيِّئ السياسة، فلم يجد والي إفريقية عبيد الله بن الحبحاب بُدًّا من عزله؛ بعد أن كثرت شكاوى الأندلسيين منه، فكان عزله في رمضان 116هـ=734م، بعد سنتين من ولايته الأولى[3].
عقبة بن الحجاج 116-123هـ:
اختار عبيد الله بن الحبحاب لولاية الأندلس مجاهدًا فذًّا يُسَمَّى عقبة بن الحجَّاج السلولي -رحمه الله، الذي تولَّى من سنة 116هـ=734م إلى سنة 123هـ=741م [4].
وقد خُيِّر عقبة بين إمارة إفريقية بكاملها كل الشمال الإفريقي وبين إمارة الأندلس، ففَضَّلَ إمارة الأندلس؛ لأنَّها أرض جهاد؛ لملاصقتها لبلاد النصارى[5]. قال ابن عذاري: «أقام عقبة بالأندلس بأحسن سيرة وأجملها، وأعظم طريقة وأعدلها»[6]. وقال المقَّرِي: «وَوَليَ عقبة بن الحجاج السَّلُولي من قِبَل عبيد الله بن الحبحاب، فأقام خمس سنين محمودَ السيرة، مجاهدًا مظفَّرًا»[7].
فتوحاته
وقد قام عقبة بن الحجاج -رحمه الله- خلال سنوات إمارته السبع بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، وكان ينزل إلى الأسرى بنفسه يُعَلِّمهم الإسلام؛ حتى إنه أسلم على يديه ألف من الأسرى[8]، وقد قال رسول الله: «لأَنْ يَهْدِي اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»[9]. فكيف بألفٍ؟!
بدأ عقبة بن الحجاج -رحمه الله- يُعيد أمجاد الجهاد الإسلامي في بلاد فرنسا، فثبَّت أقدام المسلمين في بروفانس -جنوب شرقي فرنسا، وأقام فيها الرباطات[10]، واستولى عقبة على بلاد الدوفينيه -شرقي ليون، وفتح مدينة سان بول[11]، وفتح –رحمه الله- مدينة أرْبُونَة عاصمة مقاطعة سبتمانيا، وقرقشونة إحدى مدنها[12]، واتسعت فتوحات المسلمين حتى وصلت إلى مقاطعة بيدمونت بشمال إيطاليا[13].
وواصل عقبة جهاده لإقرار الفتح في المدن الأندلسية لا سيما في الشمال الغربي في أرض جيليقية، التي لم تكن فُتحت حتى الآن، وبلغ في ذلك غاية ما يستطيع، إلاَّ أنه واجه -والحق يقال- بسالة نادرة، حتى ليروي صاحب «أخبار مجموعة» أنه «لم تبقَ في جيليقية قرية لم تُفتح غير الصخرة، فإنه لاذ بها ملك يقال له: بِلاي، فدخلها في ثلاثمائة رجل، فلم يزل يقاتلونه ويغاورونه حتى مات أصحابه جوعًا، وترامت طائفة منهم إلى الطاعة، فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلاً ليست معهم عُشْر نَسوة[14] فيما يقال، إنما كان عيشهم بالعسل، ولاذوا بالصخرة فلم يزالوا يتقوتون بالعسل معهم جِبَاح النحل[15] عندهم في خروق الصخرة. وأعيا المسلمين أمرُهم، فتركوهم وقالوا: ثلاثون عِلْجًا ما عسى أن يكون أمرهم، واحتقروهم، ثم بلغ أمرهم إلى أمر عظيم»[16].
ولقد ظلَّ عقبة بن الحجاج -رحمه الله- مجاهدًا حسن السيرة بين جنده إلى أن استشهد سنة 123هـ=741م [17]، وباستشهاده تكون قد انتهت الفترة الأولى من عهد الولاة.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
[1]) مجهول: أخبار مجموعة ص31، والحميدي: جذوة المقتبس 7/287 وفيه أنه تولى سنة 115هـ، وابن عذاري: البيان المغرب 2/28، والمقري: نفح الطيب 1/236، 3/18.
[2] المقري: نفح الطيب 1/236، وعن غزواته انظر: شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط ص92، وحسين مؤنس: فجر الأندلس 230-233.
[3] المقري: نفح الطيب 1/236، 3/19.
[4] مجهول: أخبار مجموعة ص33، 34، وابن عذاري: البيان المغرب 2/29، 30، والمقري: نفح الطيب 1/236.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص33.
[6] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/29.
[7] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/236.
[8] ابن عذاري: البيان المغرب 2/29، والمقري: نفح الطيب 3/19.
[9] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب... 3498) عن سهل بن سعد، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة y، باب من فضائل علي بن أبي طالب t 2406).
[10] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص233.
[11] الأمير شكيب أرسلان: غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط 105، 106، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص233.
[12] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص204، 205.
[13] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص234.
[14] نَسوة: جرعة الشراب، والجرعة من اللبن. ابن منظور: لسان العرب، مادة نسا 15/321، والمعجم الوسيط 2/920.
[15] الجباح: جمع الجبح وهو مواضع النحل في الجبل. ابن منظور: لسان العرب، مادة جبح 2/419.
[16] مجهول: أخبار مجموعة ص34.
[17] تاريخ ابن خلدون 3/141، والمقري: نفح الطيب 1/236، 3/19، وقيل: إن أهل الأندلس خلعوه في صفر 123هـ. وقيل: إن عقبة استخلف ابن قطن الفهري حين حانت وفاته سنة 121هـ، كما في ابن عذاري: البيان المغرب 2/30، وقيل: أخرجه ابن قطن الفهري سنة 121هـ. كما في أخبار مجموعة ص35.