الموازنة بين المصالح والمفاسد
هاني بن عبد الله بن محمد الجبير

جاء التشريع الإسلامي بتحصيل المصالح العامة وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، إذ مبناها على الإتيان بما فيه صلاح البشر، في العاجل والآجل في جميع ما أمرت به، وهذه القاعدة لا إشكال فيها، وعلى تقريرها وضع العز بن عبد السلام كتابه المشهور.
وكثير من البشر يعرفون المصلحة من المفسدة والخير من الشر والنفع من الضر ويمكنه في كثير من الحالات أن يعرف ذلك بدون تردد مما يجعله يتمكن من رؤية مقصد التشريع وغرضه حالاً، وأن يقوم بما يطلب منه مستشعراً المعنى، ولذا قد يحصل السؤال عن بعض الأشياء التي لا تظهر الحكمة منها، وقد يذكر العلماء ما عُدِل به عن سنن القياس لخفاء بعض هذه الأشياء.
ولذا ولكون أن الأصل فيها الظهور فقد أحال الجويني في كتابه "غياث الأمم" إليها عند تعذر وجود المفتي.
وكذلك عند اجتماع المصالح والمفاسد فإن الشارع يرجح خير الخيرين ويدفع أعظم المفسدتين، إلا أن هذا الباب أشد خفاء من سابقه، وأشد صعوبة في استخراجه مع أن التطبيقات والشواهد عليه كثيرة جدا.
فقد قارن الله - تعالى -بين مفسدة صد المشركين عن فتنة المؤمنين، وبين مفسدة القتال في الأشهر الحرم واحتمل أدنى المفسدتين ودفع أعلاهما. قال - تعالى -: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرم وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل).
فما دام قد اجتمع محرمان لا يمكن تركهما، بل لابد من الوقوع في أحدهما فارتكب أقلهما مفسدة.
وكذلك في قوله - تعالى -: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعها).
وقد دلت النصوص وتطبيقات التشريع أن المفاسد إذا تعارضت ارتكب المكلف أيسرها لدفع أشدها، وأن المصالح إذا ازدحمت يفعل المكلف أرجحها ولو فات أدناها، وعند ازدحام المصلحة والمفسدة يرجح بينها بعد أن يوازن المصلحة والمفسدة.
ومن كمال التشريع أن المصلحة المتروكة والمفسدة المرتكبة نتيجة لأعمال الموازنات السابقة لا حرج فيها، يقول ابن تيمية: "إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الأخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم لمصلحة".
وهذه الموازنة الترجيحية عملية صعبة ليست بيسيرة خاصة في هذا الزمان لتداخل المصالح والمفاسد واختلاطها واشتباه الواقع بالمتوقع والعكس، وللاختلاف في الرؤى المستقبلة في قول ابن تيمية: "هذا باب واسع جدا، لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة البنوة فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم وأقوام ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمنت سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات ويرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون ينظرون للأمرين وقد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم ولا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء، فينبغي للعالِم أن بتدبر أنواع هذه المسائل".
وما ذكر شيخ الإسلام هو ما نعيشه في حراكنا الفقهي عند مناقشة أي قضية فقهية مبناها المصلحة ككثير من القضايا التي تشغل وسطنا الثقافي مثل ما يرتبط بقضايا المرأة التي لا نص فيها مثلاً.
ويمكن للفقيه أن يحاول الوصول للترجيح من خلال مرجحات وموجهات منها: -
1- أن المصالح والمفاسد لا تعرف إلا بالتقريب لا بالتحديد، فلا يمكن أن يجزم فيها الإنسان لشيء يقيني في الغالب لارتباطها في المستقبل وارتباطاته واشتباكاته المتعددة ولذا قال العز بن عبد السلام: "أكثر المصالح تعرف تقريباً لعزة الوقوف على تحديدها".
2- الترجيح بين المصالح والمفاسد من موارد الاجتهاد التي يختلف النظر فيها لكن يدور بين الأجر والأجرين.
قال العز بن عبد السلام: "قد يخفى ترجيح بعض المصالح على بعض وترجيح بعض المفاسد على بعض، وقد يخفى مساواة بعض المصالح لبعض ومساواة بعض المفاسد لبعض، فيجب البحث عن ذلك بطرقه الموصلة إليه والدالة عليه، ومن أصاب ذلك فقد فاز بقصده، وبما ظفر به، ومن أخطأ أثيب على قصده، وعفي عن خطئه رحمة من الله - سبحانه - ورفقاً بعباده" فإذا خالف الفقيه غيره اجتهاداً فليعامله على مقتضى هذه القاعدة.

3- التحفظ قدر الاستطاعة، والاستعانة بالله، واستشارة أهل الخبرة وإخلاص القصد، فإن الباب مزلة أقدام ومدحضة أفهام، وكثيراً ما يقع فيه الاشتباه وليتحر النظر في المآلات وعموم المفاسد والمصالح وخصوصها، وتناولها للضرورات أو للحاجيات ونحو ذلك حتى يصل لنتيجة الاجتهاد التي تبرأ بها ذمته، والله المستعان.