تعدد ضياع عقد عائشة في غزوتين مختلفتين:
فقد ضاع العقد في غزوة بني المصطلق في حادثة الإفك.
ثم ضاع مرة ثانية في غزوة أخرى قيل هي غزوة ذات الرقاع حيث أمر النبي عليه الصلاة والسلام رجلا فوجد العقد ونزلت آية التيمم.
أما في قصة الإفك فعائشة رضي الله عنها هي التي وجدته بعد انصراف الجيش ولم ينزل القرآن شهرا ثم نزلت آيات من سورة النور.
وفي قصة ذات الرقاع طعن أبو بكر في خاصرتها وقال أسيد بن حضير ما نزل بك أمرا تكرهينه فلا ريب أنه يتكلم عن حادثة الإفك التي كانت قبل ذلك.
وهذا هو الذي جزم به محمد بن حبيب الأخباري واختاره ابن القيم في الزاد ومال إليه الحافظ في الفتح.


وأفضل من جمع بين الروايات إبراهيم بن إبراهيم قريبي في "مرويات غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع" .


قلت: مما سبق يتبين فقد عقد عائشة مرتين.
فأما الضياع الأول فكان في غزوة بني المصطلق في حادثة الإفك:
ففي صحيح البخاري رقم 2661 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ... وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيه... فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الهَوْدَجِ، فَاحْتَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَد...فَجَلَسَ ْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ،...فَوَال َّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ، حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ... فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي...


وأما الضياع الثاني فكان في غزوة أخرى يقال إنها ذات الرقاع:
ففي صحيح البخاري 336: عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَوَجَدَهَا، «فَأَدْرَكَتْهُ مُ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ» فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِي نَ فِيهِ خَيْرًا


وفي سنن النسائي رقم 310 عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ ذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَمَا مَنَعَنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، "فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ" فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ


وقد أوضح ذلك ابن القيم في زاد المعاد (3/ 231) فقال:
وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ " مِنْ حَدِيثِ محمد بن إسحاق عَنْ يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة قَالَتْ: ( «وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِقْدِي مَا كَانَ، قَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ أُخْرَى، فَسَقَطَ أَيْضًا عِقْدِي حَتَّى حَبَسَ الْتِمَاسُهُ النَّاسَ، وَلَقِيتُ مِنْ أبي بكر مَا شَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّةُ فِي كُلِّ سَفَرٍ تَكُونِينَ عَنَاءً وَبَلَاءً، وَلَيْسَ مَعَ النَّاسِ مَاءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ فِي التَّيَمُّمِ» ) ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ الْعِقْدِ الَّتِي نَزَلَ التَّيَمُّمُ لِأَجْلِهَا بَعْدَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنْ فِيهَا كَانَتْ قِصَّةُ الْإِفْكِ بِسَبَبِ فَقْدِ الْعِقْدِ وَالْتِمَاسِهِ، فَالْتَبَسَ عَلَى بَعْضِهِمْ إحْدَى الْقِصَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى


وقال الحافظ في الفتح (1/ 434):
وفي رواية هشام بن عروة الآتية في الباب الذي يليه فوالله ما نزل بك من أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه خيرا وفي النكاح من هذا الوجه إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة وهذا يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك فيقوى قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الإخباري فقال سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق


وفي مرويات غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع تأليف إبراهيم بن إبراهيم قريبي (ص: 340-341)
قلت: الذي يظهر: أن التيمم وإن كان سببه هو ضياع عقد عائشة، إلا أن ذلك كان في غزوة أخرى غير غزوة بني المصطلق، وإنما اشتبه على بعض العلماء فصرح بأن ذلك في غزوة بني المصطلق، وذلك لاتحاد السبب بين قصة الإفك ورخصة التيمم، إذ كل منهما كان سببه ضياع العقد.
وفيما يأتي توجيه ذلك:
أ- قال ابن القيم بعد أن نقل قول ابن سعد: ذكر الطبراني في (معجمه) من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قلت: "لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضا عقدي، حتى حبس التماسه الناس، ولقيت من أبي بكر ما شاء، وقال لي: يا بنية في كل سفر تكونين عناء وبلاء، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة في التيمم. ثم قال: فهذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهر ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى".
ب- وسبقه إلى هذا ابن سيد الناس فإنه بعد أن أورد حديث الطبراني، قال عقبه: "فهذه الرواية تقتضي أن الواقعتين كانتا في غزوتين".
ج- وقال ابن حجر: "اعتمد بعضهم في تعدد السفر على رواية الطبراني وهي صريحة في ذلك، ثم ساق الحديث وفي آخره "فقال أبو بكر لعائشة: إنك لمباركة ثلاثا"" ثم قال ابن حجر: "وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال".
قلت: وإن كان في ابن حميد من الكلام ما قد يؤدي إلى سقوطه عن درجة الاحتجاج فإنه توجد قرائن أخر تؤيد ما دل عليه هذا الحديث بغض النظر عن الاستدلال به. وهذه القرائن هي:
قول أسيد بن حضير في حديث الباب "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر". فإنه صريح في أنها مسبوقة بغيرها من البركات، وأعظم بركة عرفت لعائشة هي نزول القرآن ببراءتها من مقالة أهل الإفك، ولا يمكن حمل قوله: "ما هي بأول بكتكم" على غزوة بني المصطلق، إذا كان يراد بالبركة السابقة نزول القرآن ببراءة عائشة من حادثة الإفك، لأن نزول القرآن ببراءتها كان في المدينة والقوم في "حضر" ونزول آية التيمم كان في سفر، والقوم محبوسون على غير ماء.
في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: "أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير لعائشة: "جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعل الله ذلك لك، وللمسلمين فيه خيرا" لفظ البخاري.
وفيه أيضا من هذا الوجه "فوالله ما نزل بك أمر قط، إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة".
وعند أبي داود فقال أسيد بن حضير: "يرحمك الله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعله الله للمسلمين ولك فيه فرجا"
وأعظم أمر نزل بعائشة تكرهه وكادت الأمة تهلك بسببه، ثم جاء الفرج بعد ذلك هي قصة الإفك، وفيها أعظم بركة هي نزول آيات تتلى إلى يوم القيامة، وهذه الروايات تصرح بأن شيئا مكروها لعائشة سبق آية التيمم، ولا ريب أن أعظم مكروه مر بها هو حادثة الإفك.
ولذا قال ابن حجر عقب رواية هشام بن عروة "إلا جعل الله لك منه مخرجا"الخ: "فهذا يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوى قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباري، فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق".