بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيرا أخي المغربي على إثارتك لهذا الموضوع لا سيما ونحن بصدد هذه الليلة المباركة التي نسأل الله عز وجل ألا يحرمنا خيرها.
ولكن لي على كلامك بعض الملاحظات أرجو أن تقبلها مني بصدر رحب.
قولك : ( تكاد تجمع التيارات السلفية على القول ببدعية تخصيص ليلة النصف من شعبان بصلاة أو عبادة )
أقول : أخي المغربي هذه المسألة التي أثرتها هي مسألة فقهية بحتة ولا علاقة لها بالسلفية لا من قريب ولا من بعيد لأن السلفية ليست مذهبا فقهيا وإنما هي منهج دعوي متكامل.
فإذا تكلمت في مسألة فقهية مثلا لا تقول : المذهب السلفي في هذه المسألة هو كذا ، ولكن تقول : المذهب المالكي في هذه المسألة كذا أو المذهب الشافعي هو كذا وهكذا.
فلو عدَّلت من كلامك وقلت مثلا : كثير من العلماء في هذا العصر قالوا بكذا أو كثير من طلبة العلم ذهبوا إلى كذا لكان أولى وأفضل.
_ قولك : ( يقول شيخ الإسلام بن تيمية _نور الله ضريحه_:( ومن هذا الباب ليلة النصف من شعبان فقد روى في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة ...
لكن الذي عليه كثير من أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها وعليه يدل نص أحمد لتعدد الأحاديث الواردة فيها وما يصدق ذلك من الآثار السلفية وقد روى بعض فضائلها في المسانيد والسنن وإن كان قد وضع فيها أشياء أخر )اقتضاء الصراط المستقيم.)
أقول : نعم قد ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث يشد بعضها بعضا وهي صحيحة بمجموعها كما حقق ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (1144).
ونص الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يطلع الله تبارك و تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ).
وقد روي هذا الحديث عن عدد من الصحابة و هم معاذ بن جبل و أبو ثعلبة الخشني و عبد الله بن عمرو و أبي موسى الأشعري و أبي هريرة و أبي بكر الصديق و عوف بن مالك و عائشة .
فالقول بثبوت فضل هذه الليلة لا يشك فيه أحد ممن صحح هذا الحديث ، لكن ينبغي أن يُفهم هذا الفضل كما ورد في الحديث ولا نتعدى ذلك إلى غيره.
بمعنى آخر : الحديث نص على أمرين اثنين وهما :
1- أن الله تبارك وتعالى يطَّلع إلى جميع خلقة في هذه الليلة.
2- أن الله تبارك وتعالى يغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن.
فلا ينبغي أن نفهم هذا الحديث على غير ما ورد فيه ، بمعنى آخر : لا ينبغي لنا أن نثبت فضلا خاصا بهذه الليلة لم يرد ذكره في الحديث.
وهذا الذي ذكرتُه هو الذي مشى عليه أكثر السلف ، بل هو الذي عناه شيخ الاسلام ابن تيمية في الكلام الذي تفضلت بنقله عنه حين قال مستدركا :( لكن الذي عليه كثير من أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها وعليه يدل نص أحمد لتعدد الأحاديث الواردة فيها...).
وأنا هنا لا أنكر أن طائفة من السلف فهموا من هذا الحديث أكثر مما ذكرنا ، كما ذكر ذلك شيخ الاسلام ابن تيمية أيضا في الكلام الذي نقلته عنه حين قال : ( وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها ).
وهذا منقول عن طائفة من التابعين من اهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم.
لكن أنكر ذلك أكثر علماء الحجاز ، كما نقل ذلك الحافظ ابن رجب في كتابه " لطائف المعارف "، وقد قام الأخ صالح المقبلي وفقه الله بنقل كلام الحافظ ابن رجب كاملا في رده فلا أرى إعادة ذكره هنا تفاديا للتكرار.
لكن سأقوم هنا بنقل كلام بعض العلماء المتأخرين في حكم تخصيص هذه الليلة بصيام أو صلاة أو نحو ذلك.
قال الامام أبو بكر الطرطوشي في كتابه " الحوادث والبدع " : ( وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال : ما أدركنا أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول ، ولا يرون لها فضلا على ما سواها.
وقيل لابن أبي مليكة : إن زيادا يقول : إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر ، فقال : لو سمعته وبيدي عصا لضربته ). انتهى
وإن كانت لي ملاحظة على النقل الأول عن زيد بن أسلم ؛ لأنه يُفهم من كلامه أنه لم يرد في فضل ليلة النصف من شعبان حديث صحيح ، وهو الذي قصده بقوله :( ولا يلتفتون إلى حديث مكحول ).
ومكحول إنما رواه عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل.
وهذا الإسناد بمفرده ضعيف منقطع ؛ لأن مكحولا لم يلق مالك بن يخامر ، كما ذكر ذلك الحافظ الذهبي ، ولذلك قال الشيخ الألباني :( و لولا ذلك لكان الإسناد حسنا ، فإن رجاله موثوقون ).
ولكن سبق وأن ذكرنا بأن هذا الحديث قد روي عن عدد من الصحابة ، ولذلك فهذا الإسناد يتقوى بغيره.
والغرض من هذا النقل عن زيد بن اسلم هو بيان أن هناك من السلف من أنكر فضل هذه الليلة بالكلية فضلا عن أن يثبت لها خصوصية لبعض العبادات.
وأما إنكار ابن أبي مليكة وهو من علماء الحجاز على زياد فلأجل أنه ساواها بليلة القدر ، وهذا يقل به فيما علمت غير زياد.
والفرق بين الليلتين واضح : فإن ليلة القدر قد ثبت فيها فضل من قامها إيمانا واحتسابا ، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ).
ومثل هذا لم يرد في ليلة النصف من شعبان ، فتأمل.
ولأجل هذا أنكر ابن أبي مليكة على زياد قوله بالتسوية ، وهذا لا يعني بأنه ينكر فضل ليلة النصف من شعبان ، بل يثبت لها الفضل الوارد في الحديث دون تخصيصها بعبادة.
وقال العلامة الشوكاني في " الفوائد المجموعة " : ( حديث : " من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرا في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات إلا قضى الله له كل حاجة.." هو موضوع وفي ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الثواب ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه ورجاله مجهولون ، وقد روي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل ، وقال في المختصر : حديث صلاة نصف شعبان باطل ، ولابن حبان من حديث علي : " إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها " ، ضعيف ، وقال في اللآلئ : مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات مع طول فضله للديلمي وغيره موضوع وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء ، قال : واثنتا عشر ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة موضوع وأربع عشرة ركعة موضوع.
وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء كصاحب الإحياء وغيره ، وكذا من المفسرين ، وقد رويت صلاة في هذه الليلة أعني ليلة النصف من شعبان على أنحاء مختلفة ، كلها باطلة موضوعة ، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع ، ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا وأنه يغفر لأكثر من عدة شعر غنم كلب ، فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه.) انتهى
أقول : فهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي ذكرها الإمام الشوكاني ربما هي مستند من ذهب من السلف إلى تخصيص هذه الليلة بالصلاة.
وأنت إذا تأملت كلام الإمام الشوكاني جيدا وجدته يفرق بين القول بإثبات الفضل لليلة النصف من شعبان وبين القول بوجود خصوصية وفضل لعبادة من العبادات في هذه الليلة دون غيرها من الليالي.
وهذا تجده في قوله السابق : ( ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع ، ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا وأنه يغفر لأكثر من عدة شعر غنم كلب ، فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة ).
على أن حديث عائشة المذكور رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو في " ضعيف الجامع " برقم (754).
وقد ضعفه الشوكاني نفسه بعد ذلك مباشرة حين قال : ( على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع ).
وكذلك حديث علي عند ابن حبان الذي ذكره فقد رواه ابن ماجه وغيره وهو في "ضعيف الجامع" برقم (294) وفي "السلسلة الضعيفة" برقم (2132).
وقال الحافظ العراقي : ( حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه ).انتهى
وقال الامام النووي : ( الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب ، وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب ، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان ، ولا يُغتر بذكرهما في كتاب "قوت القلوب" و"إحياء علوم الدين" ، ولا بالحديث المذكور فيهما ، فإن كل ذلك باطل ، ولا يُغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك ).انتهى
قولك : (والنقل عن الإمام أحمد الذي أشار إليه شيخ الإسلام هو ماروه ابنه عبد الله في السنة: ( عن عبَّاد بن العوام قال : قدم علينا شريك فسألناه عن الحديث : إنَّ الله ينزل ليلة النصف من شعبان ، قلنا : إنَّ قوماً ينكرون هذه الأحاديث
قال : فما يقولون ؟ قلنا : يطعنون فيها
قال : إنَّ الذين جاءوا بهذه الأحاديث هم الذين جاءوا بالقرآن ، وبأنَّ الصلوات خمس، وبحج البيت ، وبصوم رمضان ، فما نعرف الله إلا بهذه الأحاديث).السنة لعبد الله بن أحمد.)
أقول : هذا الحديث الذي سئل عنه شريك سبقت الإشارة إليه ، وهو حديث رواه الترمذي وابن ماجه عن عائشة قالت : ( فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافع رأسه إلى السماء، فقال : يا عائشة أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ قالت : قد قلت وما بي ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك ، فقال : إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب ).
وهذا الحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (739) وضعيف ابن ماجه (1389) وضعيف الجامع (754).
قولك : (فهل يمكن ان نقول بعد هذا أن الإحياء بدعة؟ حتى لو رجحنا قول المضعفين لكل تلك الاحاديث،واخترن ا عدم الإحياء،فالفاعل له سلف من الائمة المتبوعين.
علما أن الشيخ الالباني صحح حديث فضل ليلة النصف كما في الصحيحة 1144،وتحقيق السنة لابن أبي عاصم.
أما أقوال الفقهاء في استحباب تخصيص هذه الليلة بالعبادة فكثيرة،ومن أرادها جئناه بها.
والله الموفق.)[/QUOTE]
أقول : قد ثبت بالبيان المتقدم أنه لم يرد في فضل إحياء ليلة النصف من شعبان حديث صالح للإحتجاج به ، وكل ما ورد في ذلك إما ضعيف أو موضوع.
وعليه فإننا نقول : خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فالتذرع بعمل بعض التابعين المخالف للسنة الصحيحة لأجل القيام بعبادة لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سبيل إلى الإبتداع في الدين.
ولذلك سأضع بين يديك وبين يدي القارئ الكريم هذه القاعدة الذهبية التي سطرها شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه النفيس "اقتضاء الصراط المستقيم" حيث قال : ( إن العمل بأي جزئية من الدليل العام لم يكن عليه عمل السلف الصالح سبيل إلى الإبتداع في الدين ).
وقال أيضا : ( ليس كل عموم يُعمَل به إذا كان السلف الصالح أعرض عنه ).
وهنا أريد التنبيه على أمرين اثنين وهما :
1- قد يقول قائل : وهؤلاء التابعون الذين أحيوا ليلة النصف من شعبان أليسوا من السلف الصالح ؟
فأقول : بلى ، ولكن سبقهم من هم أفضل منهم بكثير ، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، ولم يثبت عن واحد منهم ما فعله من جاء بعدهم ، والخير كل الخير في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثم إني أقول : بل لو ثبت أن واحدا من الصحابة خالف النبي صلى الله عليه وسلم في سنة لم يُلتَفت إلى قوله ووجب العمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمها على قول الصحابي.
ويشهد لهذا ما قاله ابن عباس لما اعترض عليه معترض في قضية التمتع ، فقال : ( يوشك أن تسقط عليكم حجارة من السماء ، أقول لكم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون : قال أبو بكر وعمر ).
2- ينبغي أن نفرق بين المبتدع وبين من وقع في بدعة ، فإن الخلط في هذا الباب يوقع الإنسان في متاهات عظيمة لا يخرج منها إلا إذا فقه هذه القاعدة وهي : ليس كل من وقع في البدعة فهو مبتدع ، كما أنه ليس كل من وقع في الكفر فهو كافر ، ولهذه القاعدة شرح طويل لا يتسع المقام لذلك.
وبناء على ما تقدم : فلا يمكن أن يُصنَّف هؤلاء التابعين الذين أحيوا ليلة النصف من شعبان في خانة المبتدعة لاحتمال أن يكون قد استندوا في ذلك إلى بعض تلك الأحاديث التي سبق ذكرها ولم يتبين لهم ساعتها ضعفها أو وضعها.
ونفس الكلام يقال عمن قلدهم ممن جاء بعدهم بشرط ألا يكون قد وصله بالحجة والبرهان ما يدل على ضعف ما استند إليه وإلا كان حينئذ معاندا ومخالفا.
وعلى كل حال فإن هذه المسألة تحتاج إلى أكثر من هذا البيان ولكن حسبي أن أكون قد أضأت إضاءات لمن يأتي بعدي ممن يريد التعمق أكثر.والله تعالى أعلى واعلم
وأشكر الأخ المغربي مرة أخرى على إثارته لهذا الموضوع وأشكر له كذلك طول صبره لقراءة هذه الأسطر.
والشكر أيضا موصول لجميع الإخوة والأخوات ممن اطلعوا على هذه المشاركة.
وإلى لقاء آخر ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته