هديه وآدابهُ صلى الله عليه وسلم في الشُرب



وبيان ذلك من وجوه:
الأول: في اختياره الماء البائت، وإرادته الكرع بفيه صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري (5613), عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كرعنا". قال والرجل يحول الماء في حائطه قال فقال الرجل: يا رسول الله عندي ماء بائت فانطلق إلى العريش, قال: فانطلق بهما فسكب في قدح, ثم حلب عليه من داجن له, قال: فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم شرب الرجل الذي جاء معه ".
الثاني: في أحبِّ الشَّراب إليه صلى الله عليه وسلم.
روى الأمام أحمد (24146), وحسنه الأرناؤوط, عن عائشة رضي الله عنها: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الحلو البارد ".
وروى مسلم (3014), عن عبادة بن الصامت – في حديث طويل – وفيه: قال: وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في أشجاب له على حمارة من جريد.." الحديث.
الثالث: في مناولته الإناء من عن يمينه.
روى البخاري (2352),عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنها حُلِبَت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة داجنٌ, وهي في دار أنس بن مالك, وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس, فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم القدح فشرب منه, حتى إذا نزع القدح من فيه, وعلى يساره أبو بكر, وعن يمينه أعرابي, فقال عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي, أعط أبا بكر يا رسول الله عندك, فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه ثم قال:" الأيمن فالأيمن ".
وروى الشيخان عنه أيضاً قال:" أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه فحلبنا له شاة, ثم شبته من ماء بئرنا هذه، فأعطيته، وأبو بكر عن يساره، وعمر تجاهه وأعرابي عن يمينه، فلما فرغ قال عمر رضي الله تعالى عنه: هذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فأعطى الأعرابي، وقال: " الأيمنون الأيمنون"، قال أنس رضي الله تعالى عنه: فهي سنة ".
الرابع: في قوله صلى الله عليه وسلم ساقي القوم آخرهم شرباً.
روى مسلم (681), عن أبي قتادة في حديث طويل, وفيه: فقال لي: اشرب. فقلتُ: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله. قال: إنَّ ساقي القوم آخرهم شرباً ".
الخامس: شربه صلى الله عليه وسلم وتنفُّسه ثلاثاً.
روى الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفَّس إذا شرب ثلاثاً، زاد مسلم: ويقول:" إنه أروى وأمرأ ".
السادس: مضمضته صلى الله عليه وسلم إذا شرِبَ اللَّبن.
روى البخاري (211), عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبناً فدعا بماء فمضمض، فقال:" إنَّ له دسماً ".
السابع: أمره صلى الله عليه وسلم بتخمير الإناء.
روى البخاري (5605), عن جابر بن عبد الله قال: جاء أبو حميد بقدحٍ من لبنٍ من النقيع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا خمرته ولو أن تعرض عليه عوداً ".
الثامن: كراهته صلى الله عليه وسلم النفخ في الشَّراب, والشرب من ثلمة القدح:
روى أبو داود (3722), وصححه الألباني, عن أبي سعيد الخدري أنه قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح, وأن ينفخ في الشراب ".
التاسع: شربه صلى الله عليه وسلم قاعداً كثيراً وشربه قائماً :
وفيه أنواع:
الأول: في شربه قاعداً وقائماً :
روى الإمام أحمد (795) بسند حسَن, عن زاذان: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه شرب قائما فنظر إليه الناس كأنهم أنكروه فقال ما تنظرون أن أشرب قائما فقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً, وأن أشرب قاعداً, فقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشرب قاعداً ".
وروى الترمذي (1883) بسند حسن, عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يشرب قائما وقاعداً ".
وروى النسائي (1361), وصحح إسناده الألباني, عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:" رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً وقاعداً ".
الثاني: في شربه قائماً :
روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:" سقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ماء زمزم فشرب وهو قائم ".
وروى أبو يعلى (2973), وصحح محققه إسناده, عن أنس رضي الله تعالى عنه:" أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب قائماً ".
وروى الترمذي في الشمائل, وصححه الألباني, عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها :" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب قائماً ".
وروى البخاري (5615), عن النزال بن سبرة قال :" أتيَ علي بماء فشرب قائماً ثم قال: إن ناساً يكرهون الشرب قائماً, وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يشرب قائماً ".
الثالث: نهيه عن الشرب قائماً :
روى مسلم (2024), عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً ".
وروى الإمام أحمد (7990), وصحح إسناده الألباني, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه و سلم: أنه رأى رجلاٍ يشرب قائماً, فقال له: قه. قال: لمه؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر؟! قال: لا . قال: فإنه قد شرب معك مَن هو شرٌّ منه الشيطان ".
وروى الإمام أحمد (7795), وهو حديث صحيح, عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو يعلم الذي يشرب قائما ما يجعل في بطنه لاستقاء ".
تنبيـهات :
الأول: قال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" : " وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ الشّرْبُ قَاعِدًا هَذَا كَانَ هَدْيَهُ الْمُعْتَادَ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ نَهَى عَنْ الشّرْبِ قَائِمًا, وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ الّذِي شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيئَ, وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ شَرِبَ قَائِمًا.
قَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذَا نَاسِخٌ لِلنّهْيِ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ مُبَيّنٌ أَنّ النّهْيَ لَيْسَ لِلتّحْرِيمِ بَلْ لِلْإِرْشَادِ وَتَرْكِ الْأَوْلَى, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا فَإِنّهُ إنّمَا شَرِبَ قَائِمًا لِلْحَاجَةِ, فَإِنّهُ جَاءَ إلَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهَا, فَاسْتَقَى فَنَاوَلُوهُ الدّلْوَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ, وَهَذَا كَانَ مَوْضِعَ حَاجَةٍ .
وَلِلشّرْبِ قَائِمًا آفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا : أَنّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الرّيّ التّامّ, وَلَا يَسْتَقِرّ فِي الْمَعِدَةِ حَتّى يَقْسِمَهُ الْكَبِدُ عَلَى الْأَعْضَاءِ, وَيَنْزِلَ بِسُرْعَةٍ وَحِدّةٍ إلَى الْمَعِدَةِ فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبْرِدَ حَرَارَتَهَا وَيُشَوّشَهَا, وَيُسْرِعَ النّفُوذَ إلَى أَسْفَلِ الْبَدَنِ بِغَيْرِ تَدْرِيجٍ, وَكُلّ هَذَا يَضُرّ بِالشّارِبِ.
وَأَمّا إذَا فَعَلَهُ نَادِرًا, أَوْ لِحَاجَةٍ لَمْ يَضُرّهُ, وَلَا يُعْتَرَضُ بِالْعَوَائِدِ عَلَى هَذَا, فَإِنّ الْعَوَائِدَ طَبَائِعُ ثَوَانٍ وَلَهَا أَحْكَامٌ أُخْرَى, وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ".
ومن نظم الحافظ رحمه الله تعالى:
إذا رُمتَ تشرب فاقعد تقرّ بسنة صفوة أهلِ الحجازِ
وقد صحَّحوا شربهُ قائمـاً ولكنـهُ لبيانِ الجـوازِ
الثاني: قال المهلب: الحكمة في طلب الماء البائت أن يكون أبرد وأصفى.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الكرع: بالراء تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف، وإنما سمي كرعا لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها، والغالب أنها تدخل كراعها حينئذ في الماء.
الشن: بمعجمة مفتوحة والنون مشددة: القربة العتيقة.
الداجن: الشاة الملازمة للبيت.
العريش: بعين مهملة مفتوحة، فراء مكسورة، فتحتية، فمعجمة: كل ما يستظل به.
الشجب: بمعجمة فجيم فموحدة وبالسكون السقاء الذي خلق وبلى وصار شنا.
الحمارة من الجريد: هي ثلاث خشبات تسمر في رؤوسها، بعضها في بعض، وتقام ويعلق المسافر فيها قربته ومتاعه، وتسميها العامة سيباه.
السؤر: بمهملة فهمز فراء: فضلة الشراب.
الجرعة: بجيم مضمومة فراء ساكنة فعين مهملة فتاء تأنيث: اسم للشرب اليسير وبفتح الجيم الواحدة

منقول