المجاعات في الأندلس
فخري الوصيف
عانت الأندلس مثل غيرها من البلدان الإسلامية في العصور الوسطى من ويلات المجاعات؛ ويقصد بالمجاعة حالة شُحّ الغذاء أو عدمه التي تعانيها جماعة بشرية معينة وما قد ينجم عنها من موت أو مرض، وكذلك ما قد تؤدي إليه من آثار سياسيـة واقتصادية واجتماعية.
وللمجاعات كما هو معلوم أسباب متعددة، طبيعية وبشرية، وأهم أسبابها الطبيعية القحط، أي انحباس المطر أو تأخره عن موسم البذار، مما ينتج عنه شح الغذاء وارتفاع سعر المعروض منه إلى ما فوق إمكانيات غالبية الناس، وقد تتفاقم الأزمة من جراء عوامل طبيعية أخرى مثل سقوط البَرَد والجليد وهبوب العواصف، أو هجوم الجراد وتدميره للزروع والمحاصيل، أو انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة، بيد أن توالي المحل يظل العامل الأساس الذي ينتج عنه المجاعة.
وأما الأسباب البشرية فيقصد بها الحروب والثورات والفتن، والممارسات الظالمة من جانب السلطة القائمة. ولكي ندرس تاريخ المجاعات في الأندلس على نحو تفصيلي، وجدنا أنه من المناسب أن نبدأ بعرض لأخبار المجاعات على مدى تاريـخ هذا البلد، وهو ليس بالأمر الهين خاصة وأن المصادر بهذا الشأن قليلة مقارنة بموارد ذات الموضوع في تاريخ بلدان أخرى مصر أو العراق في العصور الوسطى.
1- قبل الفتح الإسلامي
تتردد في المصادر الإسلامية روايات ذات طابع أسطوري تتحدث عن توالي القحط في شبه جزيرة إيبريا مما أدى إلى هلاك الكثير من سكانها وفرار مـَنْ قدر منهم إلى الساحل الإفريقي، وبقيت البلاد مقفرة مدة قرن ثم أخصبت مرة أخرى وعادت إلى الازدهار والاعتمار[1].
وبغض النظر عن تلك الروايات الأسطورية، فالثابت أن شبه الجزيرة شهدت دورات من القحط والمجاعات والأوبئة على طول تاريخها القديم وباكر عصرها الوسيط، فعانت اسبانيا القوطية مثل هذه الكوارث في سنواتها الستين السابقة على الفتح الإسلامي، فعلى ما تذكر المدونات اللاتينية أصاب الجوع والمرض البلاد في سنة 647م على عهد الملك القوطي شينداسفينتو Chindasvinto (642-653م)، ويقال أن الخراب الحادث من جراء ذلك حال حينئذ دون حضور عدد من رجال الدين والأمراء حفل تنصيب ابنه لولاية العهد[2].
وفي عهد الملك ارفيجيو Ervigio (680-687م) حدثت مجاعة شديدة سنة 683م خربت البلاد[3]، حتى همّ سكانها بالخروج عنها[4]، واضطر الملك إلى إبراء الرعية من دفع الأقساط المتأخرة من الجباية المستحقة[5].
واتخذ نفس الإجراء خلـَفـُه اخيكا Egica (687-702م) عام 691م عندما عصفت مجاعة شديدة بالبلاد[6].
وبعد عامين، في عام 693م، فتك طاعون بالكثيرين[7].
وعلى عهد الملك القوطي قبل الأخير غيطشة Witiza (702-710م) وقعت مجاعة شديدة فيما بين عامي 707م و710م، انضم إليها تفشّي الوباء، فمات عدد هائل من السكان، كما نفقت أعداد كبيرة من الماشية[8].
ولقد أثرت هذه المجاعات والأوبئة، خاصة الأخيرة، في قوة دولة القوط الغربيين، وأدت إلى تدهور اقتصادي واجتماعي وتخلخل سكاني ساعد مع عوامل أخرى على نجاح المسلمين في فتح الأندلس حسبما ترى بعض النظريات الخاصة بهذا الموضوع[9].
2- عصر الولاة والدولة الأموية
يشير ابن عذاري منفردا إلى حدوث غلاء في الأندلس عام 129هـ (= 746-747م)، ولا شك أن ذلك كان بسبب الفتن القبلية التي كانت قائمة حينئذ بالأندلس، ولعل هذا ما يـُلمـِّح إليه في قوله: "وفيها كانت حروب ووقائع وغلاء في السعر"[10].
ومع ذلك، فإن أول مجاعـة عامة في تاريخ الأندلس، طبقا للمصادر، تلك التي وقعت سنة 131هـ (= 748-749م)، وتمادت إلى سنة 136هـ (= 753-754م)، إذ وقع محل عامّ بالأندلس سنة 131، تبعته المجاعة التي تواصلت إلى العام التالي باستمرار القحط، وفي عام 133 (= 750-751م) استعادت البلاد بعض الصلاح بسقوط المطر، غير أن القحط لم يلبث أن رجع وتوالى إلى بعض عام 136، فاشتد الجوع وخرج الناس إلى ساحل العدوة المغربية، وكان عبورهم من منطقة شذونة Sidona جنوب الأندلس في المنطقة المعروفة بوادي برباط Berbate، ولهذا سميت المجاعة بسنة برباط، أو سني برباط[11].
وقد تردد في بعض المصادر أن أهل الأندلس لجؤوا إلى منطقة وادي برباط لخصوبتها ووفرتها، فاحتملتهم سـِني المجاعة أو بعضها[12]، مما قد يفهم منه أن الأندلسيين لم يخرجوا إلى العدوة المغربية وأنهم ظلوا بمنطقة برباط، وهذا أمر ضعيف الاحتمال، فبرباط نهر صغير لا يمكن أن تحتمل ربوعه أعدادا كبيرة من الأندلسيين ولعدة سنوات إلا إذا كان قد اتخذ كنقطة عبور لحين المجاز إلى الشاطئ المغربي. ويرى ليفي بروفنسال أن الذين عبروا إلى العدوة المغربية بسبب المجاعة كانوا عدة آلاف من البربر[13]، وهو المرجح نظرا لغالبيتهم في الأندلس ولأنهم الأقرب إلى مواطنهم الأصلية في شمال إفريقيا.
ولهذه المجاعة اعتبار في تاريخ الأندلس، فقد جاءت في سياق تطور سياسي اجتماعي على قدر كبير من الأهمية، إذ حدثت في أعقاب موقعة شقندةSecunda 130هـ (= 747-748م) بين الفريقين السياسيين المتنازعين في الأندلس: اليمنية والقيسية، والتي على إثرها تحول الفريق الأول إلى حزب مناوئ للسلطة القائمة، وكان البربر حينئذ ناقمين على العرب، وذلك في ظل حكومة أندلسية ضعيفة رغم تمتع البلاد بقدر كبير من الاستقلال السياسي عن دولة الخلافة، وهذه بدورها كانت حينئذ تمر بفترة انتقالية بين سقوط السلطة الأموية وقيام العباسية.
وقد ازداد الوضع غير المستقر سوءا من جراء شدة المجاعة وتفاقمها. واستغل هذه الأوضاع نصاري الشمال بقيادة ألفونسو الأول ملك أشتورياس Asturias فاستولوا على جليقية Galicia واستورقة Astorga، ودفعوا بحدود الدولة الأندلسية جنوبا إلى ماردة Mérida أو إلى حدود ما عـرف بـ"الثغر الجوفي"[14].
وفي سنة 137هـ (= 754-755م) انقشعت الغـُمـَّة، وفي تاليها 138 (= 755-756م) انصلح حال البلاد، فكانت "سنة خـَلـْف"[15]، وهي السنة التي دخل فيها عبد الرحمن بن معاوية، الداخل فيما بعد، الأندلس وأسس الدولة الأموية الأندلسية.
وتكاد تخلو المصادر الأندلسية من الحديث عن حدوث أمحال في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل (138-172هـ = 756-788م)، غير أن كتاب "ذكر بلاد الأندلس" ينفرد بذكر وقوع "محل شديد" بالأندلس والعدوة في عام 139هـ (= 756-757م)[16]؛ كما يشير إلى أنه في عام 147هـ (= 764-765م) كان "قحط عظيم عامّ في جميع الأرض"[17]، وإن صدق ذلك الخبر[18] فإن هذا يعني أن القحط قد لحق أيضا الأندلس؛ وكذلك على حد قوله وقع "قحط عظيم" بالأندلس والمغرب عام 161هـ (= 777-778م)[19].
ومع ذلك لم يشر المصدر المذكور إلى حدوث مجاعات نتيجة لهذه الأمحال، مما يجعلنا نرجح أنها إما لم تكن شديدة التأثير، أو أن الأمير عبد الرحمن الداخل نجح بتدبيره في تلافي أخطارها. وكذلك يمر عهد ابنه الأمير هشام (172-180هـ = 788-796م) دون ذكر لقحط أو مجاعة.
وفي سنة 197هـ (= 812-813م)، إبـَّان عهد الحكم الرَبَضي (180-206هـ = 796-822م)، "عمّت أرضَ الأندلس أجمعها" مجاعةً شديدة[20]، وبلفظ المؤرخ ابن حيان القرطبي "الشدة"، وعند آخرين "غلاء" و"أزمة".
وبلغ من شدة البلاء أن ضِعاف الناس كانوا يكرّون الأيام دون أن يتعلّلوا بلقيمات، ومات كثير من الخلق خاصة بشرق الأندلس على حد قول صاحب "ذكر بلاد الأندلس"، وأجاز بعضهم البحر إلى أرض العـُدوة إذ كانت مخصبة. ومن المرجح أن تفاقم الشدة على هذا النحو سببه دوام القحط طوال موسم المطر أو أكثر من موسم مما أضر بالزرع، أي أن حدوث القحط إنما وقع على الأرجح في السنة السابقة على المجاعة، أو في السنتين السابقتين عليها، بمعنى أن القحط بدأ في سنة 196هـ أو 195هـ.
ولعله من الملائم بهذا الصدد تصحيح تأريخ المجاعة الوارد في "البيان المغرب"، وهو 199هـ[21]، إلى عام 197هـ المذكور بإجماع المصادر، فضلا على أنه يلاحظ أن نص ابن عذاري الذي يذكر الأحداث حوليا ينتقل مباشرة من عام 196هـ إلى عام 199هـ، كما أنه يذكر أن في هذا العام المذكور أغزى الأمير الحكم الغزوة المشهورة على برشلونة[22]، وهو أمر لا يستقيم مع الحالة السيئة للبلاد بسبب المجاعة، ومن ثمّ يتأكد أن المجاعة كانت في عام 197هـ وأن غزوة برشلونة حدثت في عام 199هـ.
وفي مواجهة الأزمة أكثر الأمير الحكم من مواساة أهل الحاجة، وفرَّق الأموال الكثيرة على الضعفاء والمساكين وعابري السبيل، وهو ما كان محل إشادة ومديح من الشاعر عباس بن ناصح، فقال في شعر له:
نكد الزمان فأمنت أيامــــه *** من أن يكون بعصره عسر
طلع الزمان بأزمة فجلا له *** تلك الكريهة جوده الغمـــر
كما دُعي لإقامة صلاة الاستسقاء، غير أن الحديث عنها فيه خلط بيـّن، فتارة ينسب خبر الصلاة إلى مجاعة أخرى تالية الذكر وقعت في أول عهد الأمير عبد الرحمن الثاني، وتارة أخرى يختلف في اسم الذي تولى القيام بصلاة الاستسقاء[23].
وكانت المجاعة التي حدثت سنة 207هـ (= 822-823م)[24] أعنف وأشد مجاعة عرفتها الأندلس حتى ذلك الوقت، إذ ذهب ضحيتها خلق كثير إلى حد وصف عيسى بن أحمد الرازي لها بأنها "المجاعة الأولي"، وارتفع المُدّ (مكيال القمح، ويبلغ حوالي 368 كغرام) في بعض الكور إلى 30 دينارا، وهذا يعني غلاء فاحشا لا يقدر عليه إلا القادرون، ولهذا تكفل الأمير عبد الرحمن الثاني (206-238هـ = 822-852م) بإطعام الضعفاء والمساكين من أهل قرطبة، وأما خارجها فلا نتوفر على معلومات، بيد أنه لا يمكن أن نتوقع أن حال الناس كان أفضل.
ومما يلفت النظر في أخبار المجاعة المذكورة ما قيل إن سببها انتشار الجراد بالأرض ولحسه الغلات وهجومه على الجهات، إلى جانب توقف الغيث واستمراره، فخرج الناس لصلاة الاستسقاء عدة مرات.
وفي الربع الأخير من عهد عبد الرحمن الثاني قحطت الأندلس قحطا عظيما شمل البلاد عام 232هـ (= 846-847م)[25]، ودام القحط معظم السنة، فلم يزرع الناس شيئا، كما هلكت المواشي واحترقت الكروم والأشجار، وكثر الجراد فزاد من حدة الأزمة وضيق المعيشة. وحسب صاحب "روض القرطاس" كان الأندلسيون خلال هذا القحط يجلبون "الميرة" من العدوة المغربية، وهذا أمر معقول وكثيرا ما كان يتكرر وقت الأزمات في الأندلس. وتضيف الرواية المشرقية (ابن الأثير والنويري) أنه هلك خلق كثير من الناس، غير أن هذا القول لا يجد دعما في المصادر الأندلسية والمغربية المذكورة التي اكتفت بالإشارة إلى ضيق المعيشة وغلاء الأسعار.
وربما تجد الرواية الأندلسية المغربية سندا لها في خبر ساقه ابن دحية الكلبي[26] مفاده أن الأمير عبد الرحمن الثاني في أواخر أيامه ولـَّى الشاعر يحيى بن حكم الغزال (ت في حدود سنة 250هـ = 864-865م) مسؤولية قبض الأعشار واختزانها في الأهراء، وعندما ارتفع السعر بسبب القحط وهو المشار إليه على الأرجح باع كل ما كان عنده من الطعام في الأهراء، وحينما علم الأمير أنكر ما صنع الغزال وقال "إنما تـُعدّ الأعشار لنفقات الجند والحاجة إليها في الجهد"، فلو كان الأمر قد وصل إلى حد المجاعة لأنفق الطعام المخزون في الأهراء كصنيعه في مجاعة 207هـ سابقة الذكر.
وتتمة الخبر أن الأمير أمر أن تؤخذ من الغزال الأموال التي باع بها ويشترى بها طعام ويودع في الأهراء إلى وقت الحاجة إليه، فرفض الشاعر رد الثمن نقدا وقال أنه يرد مقدار الطعام الذي باعه كيلا، أي أنه يشتري قدر ما باعه ويرده إلى الأهراء، وكما انخفض السعر فإنه سيحتفظ بالفرق الحاصل بين البيع والشراء، "وبين العددين بونٌ كبير نَحـْوٌ من ثلاثين ألفا" حسب كلمات الغزال، فأمر الأمير فحبسه، فقال الغزال:
إن تـُرد المال فإني امرؤ *** لم أجَمع المالَ ولم أكسِب
إذا أخذتَ الحق منـِّي فلا *** تـَلتمِس الربح ولا تـَرغب
قد أحسنَ الله إلينا معا *** إن كان رأس المال لم يذهب
ورُفـِع الشعر إلى الأمير، فأعجب به، وكذلك نال استحسان الحاضرين، ثم عفا عنه وأمر بإطلاقه.
وفي عام 236هـ (= 850-851م)، في أواخر إمارة عبد الرحمن الثاني، لحق المحل بكورة تدمير بشرق الأندلس، والظاهر أن تأثيره لم يكن هينا، إذ من المرجح أن الإدارة المركزية توقفت عن تحصيل الجباية من هذه الكورة عن العام المذكور على ما يفهم من نص ابن حيـّان[27].
وعاد القحط ليضرب البلاد في عام 253هـ (= 867-868م)[28] على عهد الأمير محمد ابن عبد الرحمن (238-273هـ = 852-886م)، كما أصاب أيضا العدوة المغربية حسبما يذكر صاحب روض القرطاس[29].
بيد أن ابن عذاري يشير إلى أن ذلك العام شهد "مجاعة عظيمة متوالية"[30]، والظاهر أنه يقصد حدوث القحط في ذلك العام، وأن استمراره إلى العام التالي، 254هـ (= 868م)، أدى إلى حدوث المجاعة، فيذكر ابن حيان[31] أن القحط اشتد في العام المذكور، وبلغ من شدته أن ازداد غؤور الماء ونضوبه بآبار قرطبة وعيونها، فكان أكثر شرب أهلها من نهرهم الأكبر، ويذكر أيضا أن قاضي الجماعة سليمان بن أسود كان قد برز للاستسقاء في شهر مارس، فلم ينزل الغيث في الشهر المذكور ولا في تاليه، ثم نزل فأقام بعض الزرع.
وهذا معناه فـَقـْد الجزء الأكبر من محصول الحبوب، وبطبيعة الحال أدَّى هذا، بالإضافة إلى ضعف المحصول في العام الماضي، أدى إلى الغلاء.
وقد استمر الحال على هذا المنوال عدة سنوات، وإن اختلف المؤرخون في تاريخ بدء هذه الفترة ومدة استمرارها، فابن الأثير يذكر أوليتها في سنة 251هـ (= 865-866م)، وأنها استمرت حتى سنة 255هـ (= 869م)[32]، بينما يذهب ابن أبي زرع إلى أن القحط توالى إلى سنة 265هـ (= 878-879م)، أي أن مدة القحط في زعمه استمرت ثلاثة عشر موسما، وهذا يخالف ما أورده ابن حيان[33] حين يذكر أن على الأندلس توالت "الأعوام الجَداعة"، أي الشديدة، في "عقدة الخمسين" حتى أردفتها مجاعة سنة 260هـ (= 873-874م)، وبعبارة أخرى فإن القحط استمر ثمانية أعوام وكان العام الأخير منها أكثرها شدة وضراوة في شح الأقوات فـ"عزت الخلق، ومات أكثرهم، وجرى المثل بها على ألسنة الناس دهرا: سنة ستين"[34].
ولم تكن ضراوة المجاعة في السنة المذكورة راجعا فقط إلى توالي القحط عدة سنين قبلها، ولكن أيضا إلى أن القحط شمل أيضا كل بلاد المغرب حتى إفريقية (تونس)، فتعذّر على الأندلسيين استيراد الغذاء، بل شمل الغلاء عامة بلاد الإسلام كما يذكر الطبري وغيره من المؤرخين المشارقة[35].
وزاد من الفاجعة حدوث وباء في الأندلس وبلاد المغرب حصد أرواح الكثير[36].
وانقشعت الغمة في السنة التالية 261هـ (= 874-875م)، فكانت "سنة خـَلـْف عقب سنة ستين الحالقة"[37].
وذكرت المصادر أن في عام مجاعة 260هـ طلب الأمير محمد المشورة من الوزراء وأهل المشورة بشأن فرض العشور على الغلات وجـَمْعـِها من الرعية، فكلهم رأوا وجوب ذلك على الناس وأن يعطوها من مذخور أطعمتهم ويشترونها من حيث ظهر لهم، ولم يخرج عن هذا الرأي إلا والي المدينة وليد بن عبد الرحمن بن غانم الذي نصح الأمير بأن يقبل معذرة الرعية لأنهم لم يزدرعوا هذا العام، فـ"إنما العشور على الغلات، إذا وجبها الله وجب أداء فرضه فيها، وإذا اجتثت أصولها فلا زكاة على من حرمها"، وحثه على ذلك مبينا له أن ملوك الروم في روما والقسطنطينية كانوا يفعلون ذلك، وأنه أولى بفعل ذلك. غير أن الأمير محمد رأى أنه ليس من الحزم فعل ذلك، وأصر أن يؤخذ منهم بعض ما عليهم وطلب منه أن يقوم بذلك، فرفض والي المدينة، فاستعفاه وولّى مكانه حمدون بن بسيـل المعروف بالأشهب وكان من المشهورين بالقسوة، واجتهد في جمع نصف عشور الناس مستخدما كل ضروب الشدة والفظاظة فما حصل على الربع[38].
وفي مدة الأمير المنذر بن محمد، على قصرها (273-275هـ = 886-888م)، قحطت الأندلس سنة 274هـ (= أواخر مايو / أيار887 منتصف مايو / أيار 888م)، ولكن كان القحط في الحقيقة راجعا إلى تأخر موعد سقوط المطر، واستمر هكذا الحال طوال شهر يناير، واستسقى الناس مرارا فلم تجـُدْ السماء إلا بثلج، ثم نزل المطر بعد دخول فبراير بأيام، "فسُقِي الناس وارتفع البأس"[39].
ومن المرجح أن هطول الغيث سبقته صلاة استسقاء أخرى قام بها الفقيه المشاوَر حينئذ بقرطبة أحمد بن زياد اللخمي بتكليف من الأمير المنذر[40].
وأما عهد الأمير عبد الله (275-300هـ = 888-912م) فقد اتسم بالاضطراب السياسي وتآكل سلطة الدولة بقرطبة، مما أضعف بطبيعة الحال من الموارد الاقتصادية للدولة، وبالتالي من قدرتها على التصدي للكوارث مثل مواجهة القحط، كما أن ضعف الدولة أدي إلى انعدام الأمن، وقلة الإنتاج، خاصة الزراعي والحيواني، واشتداد الأسعار، ولهذا ذكر أبو عمر يوسف بن يحيى المغامي (ت 288هـ = 901م)، راوي "كتاب التاريخ" لابن عبد الملك بن حبيب، فيما أضافه على نص الكتاب، واصفا عهد الأمير عبد الله، أو على الأحرى متنبئا، بقوله: "تتوافر في ولايته الأحزان ويسبى فيها العيال والأموال وتكسد فيها الأسواق وتغلو فيها الأسعار"[41].
وتشير المصادر إلى تكرار صلاة الاستسقاء في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من ولاية الأمير عبد الله[42]، ويبدو أن ذلك لتأخر الغيث عن موعده، فلم يؤد القحط إلى حدوث مجاعة إبانئذ.
ولكنها وقعت بعد ذلك سنة 285هـ (= 898م) وعرفت بـ"لم أظن" والسنة "سنة لم أظن"، ولم تذكر المصادر سبب التسمية، وقد شملت تلك المجاعة الشديدة جميع بلاد الأندلس والعدوة المغربية، وفيها غلا السعر كثيرا حتى أعجز الناس[43].
وبلغ من شدة أهوالها فيما يذكر ابن أبي زرع أن "أكل الناس بعضهم بعضا"، و"أعقبها وباء ومرض وموت كثير هلك فيه من الناس ما لا يحصى، فكان يدفن في القبر الواحد أعداد من الناس لكثرة الموتى، وقلة من يقوم بهم، وكانوا يدفنون من غير غسل ولا صلاة"[44].
وربما كان في قوله مبالغة، إذ لم تشر المصادر الأندلسية إلى هذه الأهوال، أو لعله يقصد بلاد العدوة.
ولم تنته مدة حكم الأمير عبد الله حتى وقعت مجاعة أخرى سنة 297هـ (= 909-910م) عرفت بـ"سنة جوع جيان"، وكانت محنة عظيمة لحقت بالناس فمات منهم كثير وعبر آخرون منهم البحر لأرض العدوة[45].
ومما يلفت النظر أن المصادر لم تنبئنا بسبب تسمية تلك المجاعة بـ "سنة جوع جيان"، ولعل ذلك لأنها انطلقت من هذه الكورة.
وأما الأمير عبد الرحمن الثالث، الخليفة الناصر فيما بعد، فمن المعروف أنه قضى تقريبا الثلث الأول من مدة حكمه الطويل (300-350هـ = 912-961م) في تثبيت أركان الدولة والقضاء على الثائرين عليه الذين كانوا قد نجموا تقريبا في أغلب البلاد، وإلى هؤلاء انضمت الطبيعة، فلم ترأف به وأذاقته بعضا من ويلاتها. ففي سنة 302 (= 914-915م) أمحل الناس، فاستسقوا خمس مرات، فلم يسقوا، وغلت الأسعار وقل المعروض من الحنطة في الأسواق. وطلب الأمير من الناس بالبروز للاستسقاء مرة أخرى، ففعلوا ذلك في 13 شوال المقابل الأول من مايو/ آيار 915م، أي بعد فوات موسم البذار، فجادت السماء برذاذ وندى مبلل أنقذ القليل من الزرع وضاع أكثره باليبس، وتواصل القحط طوال العام وشمل الأندلس كلها، وغلت الأسعار في جميع ربوعها[46].
وأدى استمرار القحط إلى السنة التالية 303هـ (= منتصف يوليو / تموز915 أوائل يوليو 916م) إلى حدوث مجاعة شديدة بالبلاد، وأيضا في العدوة المغربية وإفريقية حسب ابن أبي زرع[47]، شبهت بمجاعة سنة ستين، "فاشتد الغلاء وبلغت الحاجة والفاقة بالناس مبلغا لم يكن لهم عهد بمثلها، وبلغ قَفيز القمح حسب ِكيل سوق قرطبة (حوالي 147، 2 كغرام) ثلاثة دنانير درهم دُخل أربعين"[48].
وقوله ثلاثة دنانير درهم أي الدنانير الذهبية المصروفة بدراهم فضة، وكان صرف الدينار ثمانية دراهم، أي أن قفيز القمح بلغ 24 درهما فضة، وهو سعر لا يقدر عليه أواسط الناس، فكيف بعامتهم؟ ورغم ذلك لم يتوقف استمرار صعوده حتى انتهى قفيز القمح إلى 12 دينارا درهم فضة[49]، أي أصبح سعر القفيز 96 درهما فضة، فلم يجد الناس ما يقتاتون به فمات الكثيرون جوعا، وعمـَّت المجاعة الأندلس كلها أغلب العام المذكور.
وزاد من عظم البلاء وقوع الوباء، ويصّرح ابن حيان بأن المَوَتان كَثر "في أهل الفاقة والحاجة حتى كاد أن يُعْجَز عن دفنهم"[50]، وأمر طبيعي أن يبدأ انتشار المرض بين ضِعاف الناس لقلة إمكاناتهم وعدم توفرهم على الشروط الصحية الملائمة، بيد أن المرض لم يلبث أن سرى بين الجميع، وطال أهل الحاضِرة والنواحي على السواء، فيقول ابن حيان "وعاث المَوَتان في هذه الأزمة فأوْدَى بخلق من وُجوه أهل قرطبة وعُلمائها وخِيارهم، قَصَر المؤرخون بيانهم لكثرتهم، إلى من مات من أشْكالهم ببلاد الأندلس البعيدة ممن لم يأخذه إحصاء ولا اتصلت عِدّة"[51].
ومما يلفت النظر أن عبد الرحمن الثالث في مواجهته الأزمة اجتهد في فرض الأمن الداخلي في قرطبة بالضرب على أيدي الخارجين عليه والسرّاق وقطاع الطرق الذين لم يكونوا يتورعون عن مهاجمة الناس وسلب التجار[52]، وكان هذا تدبيرا جديدا، أو على الأقل لم تشر إليه المصادر من قبل في حوادث المجاعات. وإلى جانب ذلك، أكثرَ الأمير من صدقاته للفقراء والمحتاجين، وتأسّى به كبار رجال دولته مثل حاجبه بدر بن أحمد[53].
وكان من تأثير الشدة أنها حالت دون "تجريد صائفة، وإغزاء جيش"، فاكتفى الأمير بضبط ثغوره وحدوده[54].
وبعد قرابة عقد من الزمان وقع قحط في عام 314هـ (= 927م) في قرطبة[55] "وما يليها"، ويفهم من هذا أن المحل لم يكن عاما في سائر ربوع الأندلس، ومن المحتمل أن تكونا منطقتا الثغر الأعلى وشرق الأندلس قد أفلتتا منه.
على كل الأحوال، كان القحط في هذه المرة تأخرا في نزول الغيث، ولكنه كان كافيا ليغلو السعر وتضيق معايش الناس، وامتنع الناصر، على ما يذكر صاحب "البيان المغرب"، من أن يخرج بنفسه للغزو ذلك العام، وإن أخرج قواده بالصوائف.
وبرز صاحب الصلاة أحمد بن بقي بن مخلد للاستسقاء، كما أمر الناصر عماله في الكور بالخروج للاستسقاء، ففعلوا ذلك مرات، ثم نزل الغيث وانكشفت الغمة.
وتشير المصادر إلى حدوث قحط سنة 317هـ (= 929-930)[56]، غير أن تأخر القيام بصلاة الاستسقاء الأولى بناء على أمر الناصر بجامع قرطبة حتى يوم الجمعة 28 من المحرم، وليس 29 كما يقول صاحب "البيان المغرب"، الموافق افتراضا 13 من مارس سنة 929م، يجعلنا نرجح أنه كان توقفا عن استمرار هطول المطر، بمعنى أنها أمطرت في أول موسم الأمطار ثم توقفت، وتكون النتيجة أن تصاب باليبس الزريعة التي زرعت في الخريف، خاصة القمح والشعير[57]، ولا يمكن زراعة ما هو موعده في مارس أو أبريل مثل الأرز[58]، وهنا نفهم عبارة ابن حيان "أمحل الناس واحتبس الغيث، ونال ضرر ذلك الزرع، وغلت الأسعار وكلح الزمان".
وأمر الناصر بإقامة صلاة الاستسقاء عدة مرات، كما كتب كتابا على نسخة واحدة إلى جميع عماله على الكور يأمرهم بالاستسقاء.
ورغم ذلك ظلت السماء على حالها من الإمساك، ودُمغ العام بالمحل والغلاء.
وهذا نص كتاب الناصر إلى جميع عماله على الكور بالاستسقاء[59]: بسم الله الرحمن الرحيم،
أمّا بَعْدُ، فإن الله - عز وجل -، إذْ بَسَطَ ِرزْقه، وأَغْدَق نِعَمه، وأَجْزَل بركاته، أحبّ أن يُشكَرَ عليها، وإذا زَواها وقبَضها، أحبّ أن يُسْألها ويُضْرَع إليه فيها، و(وهو الرزّاقُ ذو القوة المتين) و(التوّاب الرحيم)، (الذي يقبلُ التوبة عن عِبادِه ويعفو عن السيّئات ويعلمُ ما تفعلون)، (وهو الذي يُنزِّل الغيثَ من بَعْدِ ما قنطوا، وينشُرُ رحمتَهُ، وهو الولي الحميد)، فأوجبت به الرغبة إليه، عزّ وَجْهه، فيه والخنوع لعزته والاستكانة له والإلحاح في المسألة فيما احتبس به، والتوبة من الأعمال المنكرة، التي تُوجِب سُخْطه، وتبْذِل نِقَمه، وتَسْتر وَجْه رِضاه، - تعالى - جِدّه.
وقد أمرْنا الخطيب فيما قِبَلـْنا بالاستسقاء في المسجد الجامع يوم الجمعة والجمعة الثانية التي تليها، إن أبْطأت السُّقـْيا، والبُروز يومَ الاثنين بعدهما، بجماعة المسلمين عندنا إلى مُصلاهم، أوْ يأتيَ الله قَبْلَ ذلك بغيثه المَعِيّ عنه، ورحمته المُنتظرة منه، المَرْجوّة عنده. فـَمْر الخطيب بموضعك أن يحتمل على مثل ذلك ويأخُذ به من قِبَله من المسلمين، وليحْمِلْهم ذلك المحمل، ولِتكُنْ ضَراعتهم إلى الله - تعالى -ضراعة مَنْ قد اعترف بِذَنْبه ورَجا رحمة الله، والله غفور رحيم، وهو المستعان، لا شريك له، إن شاء الله.
وعلى مدى سنة 324هـ (= آخر نوفمبر/ تشرين الثاني 935 منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 936) دهم الأندلسَ مـَحـْل عامّ [60] وصف ابن حيان شدته بقوله: "لم يعهد فيه بمثله ولا سمع كاتصاله، إذ تمادت السنة على محلها، وضنّت السماء بوَبْلها، فلم تَنِضّ بقطرة، ولا بَلـَّت مَدَرة"، ورغم ذلك لم ترتفع الأسعار ولم تضق أحوال الناس، ويعزو ابن حيان ذلك إلى توالي وروود الخيرات من كل الجهات.
ورغم أن المؤرخ القرطبي لم يحدد لنا ما هي هذه الجهات، فإنه من المرجح أنه كان يشير إلى باقي جهات الأندلس التي كانت تتوفر على مخزون كبير من الطعام فكانت ترسله إلى الحاضرة قرطبة ومنطقتها، إلى جانب ذلك يمكن القول أنه كان أيضا يلمح إلى جهات خارجية، فالنفوذ الطاغي للخليفة الناصر في شبه الجزيرة وعلاقاته القوية مع جيرانه وتعاظم ثروة البلاد في هذا الوقت كان يسهِّل كثيرا من استيراد الغذاء من الخارج، كما لا نستبعد استعداد الناصر لمثل هذا الأمر بتخزين الغذاء. وظل الحال على هذا المنوال حتى دخلت السنة الجديدة وجاء معها المطر في منتصف شهر نوفمبر 936م.
ومن المثير أن في ذات هذا العام الذي قحطت فيه الأندلس أهدى الناصر[61] إلى وليه والقائم بدعوته بالعدوة المغربية موسى بن أبي العافية هدية عظيمة كان فيها قدر كبير من أنواع الطعام مثل القمح والشعير والفول والحمص وغير ذلك[62]، وما من شك أن هذا يدعم قول ابن حيان بأن القحط لم يؤثر على أحوال الناس ويدل كذلك على قوة الوضع الاقتصادي للدولة الأندلسية حينئذ.
ومن المرجح أن الأندلس عانت من قحط على أواخر عهد عبد الرحمن الناصر على ما جاء في الخبر المتواتر من خروج القاضي منذر بن سعيد البلوطي (ت في أواخر ذي القعدة سنة 355هـ = أواسط نوفمبر / تشرين الثاني 966م) للاستسقاء بناء على أمر الخليفة[63]، بيد أن سقوط الغيث فيما بعد وخلو المصادر من حديث عن مجاعة في تلك الفترة يجعلنا نظن أنه لم يترتب على القحط المشار إليه شدة خانقة في الحصول على الأقوات.
ووقعت أول مجاعة بقرطبة في عهد الخليقة الحكم المستنصر (350-366هـ =961-975م) سنة 353هـ (= افتراضا 19 يناير/ كانون الثاني 964م - 6 يناير 965م)، فتكفل الخليفة الحكم بإطعام ضعفاء ومساكين قرطبة والزهراء "بما تُقيمُ أرماقهم"، أي دون توسعة تحسبا لامتداد الأزمة، ولكن في السنة التالية، التي وافق مقدمها موسم أمطار الشتاء، نزل الغيث بقرطبة "فرويت الأرض، وطاب الحرث، وسُرَّتِ النفوس"[64].
وفي سنة 358هـ (= افتراضا 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 968م 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 969م) وقعت مجاعة أخرى بالأندلس، وأمر الخليفة الحكم بأن يـُفرّق في "ضعفاء قرطبة اثني عشر ألف خبزة في كل يوم"[65]، ولا يذكر لنا صاحب الخبر إن كان هذا الإجراء جرى العمل به أيضا في باقي الأندلس، وعلى أية حال ظلت الإعانة سارية حتى زالت الغمة.
وفي أخبار سنة 363هـ (= 973-974م) يحدثنا ابن حيان بتفصيل دقيق عن بداية فصل المطر في ذلك العام (= أكتوبر/ تشرين الأول 973م) الذي امتد إلى نهاية فبراير/ شباط 974م، وكأن الناس كانوا في انتظار الغيث، كما يذكر أن امتداد هطول المطر لمدة خمسة أيام متتالية من شهر أكتوبر وشروع الناس في الحرث كان كافيا لتوقف صعود الأسعار وكانت عالية، ولعل هذا ما يحمل إلى الاعتقاد بأن العام السابق 362 كان شحيح المطر، فقلـّت الغلات وارتفع سعر المعروض منها[66].
بعد حوالي سبع سنوات من استئثاره بالسلطة في الدولة الأموية الأندلسية، واجه المنصور محمد بن أبي عامر مجاعة استمرت ثلاث سنوات بداية من سنة 378هـ (= 21 أبريل / نيسان 988 10 أبريل 989م) إلى سنة 380هـ (= 31 مارس / آذار 990 19 مارس 991م)، وفي رواية أخرى، من 379-381هـ[67].
وإذا كانت الرواية الأولى، وهي لابن حيان، تصرّح بتاريخ بداية المجاعة، فإنها لم تذكر صراحة أنها استمرت ثلاث سنوات، واستعاضت عن ذلك باستخدام صيغة الجمع عند الحديث عن سنوات المجاعة: "واعتورته السنون الشداد المتوالية من سنة 378هـ"، بينما يصرح صاحب "ذكر بلاد الأندلس" أن المجاعة "دامت ثلاث سنين"، وهو ما يؤكده ابن أبي زرع، ويصرح أيضا بأنها بدأت سنة 379هـ. وهو قول يدعمه ابن الفرضي الذي يذكر أنه في سنتي 379هـ و380هـ أقيمت في قرطبة صلاة الاستسقاء وتولاها القاضي محمد بن يبقى بن زُرْب (ت في رمضان 381هـ = نوفمبر / تشرين الثاني ديسمبر / كانون الأول 991م)، وأنه نفسه، أي ابن الفرضي، كان من شهودها[68].
ومع ذلك لم يأت ذكر لصلاة استسقاء في سنة 381 وهو العام الذي أشار إليه ابن أبي زرع بأنه شهد "قحطا شديدا ببلاد المغرب والأندلس وإفريقية"، كما يقول أن في آخر هذا العام "أغاث الله - تعالى -الأمة وتداركهم بالرحمة ومطر الناس مطرا عاما، وأكلأت الأرض وحَطـَّت الأسعار، وحيي الناس وانتعشت البهائم والدواب".
وثمة اختلاف آخر بين الروايتين، فبينما الأولى تقصر المجاعة على الأندلس، وتذهب إلى أن شدتها في العام الثالث دفعت المنصور إلى التفكير جديا بالجواز إلى العدوة "لخصبها يومئذ"، فإن الثانية تذهب إلى أن المجاعة شملت الأندلس والمغرب وإفريقية. وعلى كل حال، فرغم شدة المجاعة، لم يعانِ أهل قرطبة الجوع، إذ أمر المنصور، الحريص أشد الحرص على استمالة عامة الناس، بعمل اثنين وعشرين ألف خبـزة يوميـا بقرطبة، كان يفرقها على الضعفاء كل يوم منذ بداية المجاعة إلى أن انقضت[69]، فأتى مثل هذا الإنفاق الكبير على مخزون الحبوب الهائل في مخازن غلال الدولة، والذي كان قد أحصاه في سنة 374 (= 984-984م) وبلغ جملته أكثر من 200000 مدي (أي حوالي 73600 طنا)[70].
يتبع