أسس الإصلاح الاقتصادي في الإسلام

اللجنة العلمية في الفرقان


الاقتصاد الإسلامي نظام اقتصادي يعبر عن أيديولوجية، لديها تصورها تجاه المال والإنسان وبقية عناصر العملية الاقتصادية بوضوح، ولذلك يحكم النظام الاقتصادي الإسلامي مجموعة من القواعد والأسس المستنبطة من مصادر الشريعة الإسلامية، ومن أهم تلك المصادر القرآن الكريم، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الفقهاء والتراث الإسلامي، والنظام الاقتصادي الإسلامي يستهدف إشباع حاجات الإنسان الأصلية، وذلك في إطار من القيم والأخلاق الإسلامية والسلوكيات الحسنة التي تتفاعل مع بعضها بعضا فتولد توازناً دائماً بين الفرد والمجتمع؛ من حيث مصالح كل منهما ونشاطه.

إيقاظ الإيمان

وإذا كانت معظم الدول الإسلامية تعاني مشكلات التخلف والتضخم والغلاء، والمديونيات والفوائد الربوية، والخلل النقدي والبطالة، وكل أنواع الفساد المالي والاقتصادي، فلابد من إيقاظ الإيمان في نفوس أفراد الأمة أولا؛ فهو الحافز لإقامة تنمية حقيقية تتسم بالذاتية، ومن جانب آخر يكون السياج المانع من الاجتراء على مواردها وإهدارها فيما لا ينفع، أو في تحقيق مصالح شخصية تضر بالصالح العام، فالإيمان لا تحركه إلا العقيدة، والعقيدة في تفسيرها البسيط هي: تصور الإنسان عن الإله والكون والحياة وطبيعة العلاقة بينهم، وقد تميز الإسلام بالربط بين مكونات العقيدة الواردة في هذا المفهوم.

القيم الإسلامية

إن القيم الإسلامية لها دور بارز في زيادة الإنتاج نوعا وكما، من خلال القضاء على الانحرافات الاقتصادية، كالغش والخداع والربا والاحتكار ومن ذلك الالتزام بضوابط الإنتاج التي أكدها القرآن الكريم، ومنع الإسراف في استخدام الموارد، والعمل على إزالة الضرر، والأخذ بأولويات الإنتاج، وتجويد المنتج وإتقانه، كما أن الحس الأخلاقي هو الذي يجعل الناس يشعرون بالعمل القبيح وينفرون منه، ويشعرون بالعمل الحسن، ويقبلون عليه، وهو المانع لارتكاب الجرائم التي تؤثر في الفرد والمجتمع؛ حيث قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس».

مقومات أساسية

ومن المقومات الأساسية للاقتصاد ما يتمثل في نظام زكاة المال بمؤسساته المختلفة، وذلك إلى جانب النظم المالية الإسلامية مثل: الجزية والخراج والعشور والفيء واللقطة، ويجوز أن يطبق معه نظام الضرائب العادلة إذا لم تكف حصيلة الزكاة، ونظام ضريبة التكافل الاجتماعي على غير المسلمين المقيمين بالدول الإسلامية، ونظام الإرث والوقف والوصايا وما في حكمها، مثل الهبات والتبرعات، ونظام السوق الطاهرة النظيفة الخالية من الشوائب.

منهج القرآن في إصلاح المجتمع

ولشرح منهج القرآن في إصلاح المجتمع والخلل الذي أصابه، لابد أولا من رصد القواعد الأخلاقية التي أرساها الإسلام في التعاملات الاقتصادية، التي ركزت على جانبي الترغيب والترهيب المذكورين في القرآن، وهما أمران يحققان نوعا من العدالة الاقتصادية القائمة على اتباع أوامر الدين، ولاشك أن المادية هي سبب رئيس من أسباب الفساد الذي يتخذ ومظاهر عدة، منها: ضعف الخلق الوظيفي، وفشل التنمية في رفع مستوى المعيشة، وغياب التأديب أو العقاب الحازم للفاسدين، والوساطة والرشوة، وتقديم المصالح الخاصة على العامة، والاحتكار والغش.

منهج كامل للحياة

ويتبين من هذا أن الإسلام جاء بمنهج كامل للحياة، يهتم بالجانب المادي في حياة البشر، بقدر ما يُعنى بالجانب الروحي؛ ذلك أنه لا قوام لجانب دون آخر، وكلاهما يتأثر بالآخر ويؤثر فيه، وقد اهتم الإسلام بالمشكلة الاقتصادية المتمثلة في الفقر والتخلف من البداية، وقبل أن تتطور الأحداث وتفرض نفسها؛ حيث يجب أن توضع في الأساس وفي المقدمة، ومن قبيل ذلك أنه عَدَّ المال زينة الحياة الدنيا وقوام المجتمع، وأنه العون على تقوى الله -تعالى- وأن طلب المال الحلال فريضة وجهاد في سبيل الله بل إنه ساوى بين الفقر والكفر، ولم يستعذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شيء بقدر استعاذته من الفقر؛ حيث قال: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر» وعَدَّ الإسلام مجرد ترك أحد أفراد المجتمع ضائعة أو جائعة هو تكذيب للدين نفسه، فقال -تعالى-: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون:1-3).

قيم الاقتصاد الإسلامي

ويستهدف النظام الاقتصادي الإسلامي تنظيم المعاملات بطريقة يستطيع معها الوصول إلى مستوى معيشي كریم لأفراد المجتمع، يتصف بالنمو المطرد والمستقر، وذلك من خلال التوظيف الكامل للموارد البشرية والطبيعية، والعدالة في توزيع الدخل والثروات بما يحقق للفرد الحياة الكريمة الرغدة في الدنيا، والفوز برضا الله في الآخرة، وتتفاعل هذه المقومات مع بعضها لتسيير النظام الاقتصادي بحسب القواعد الكلية للشريعة الإسلامية المشار إليها، وطبقا للأساليب والإجراءات التي تتفق مع مقتضيات الزمان والمكان، ولقد صدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (طه:123-126).

القواعد الكلية

إن الشريعة الإسلامية تضمنت القواعد الكلية التي تحكم النشاط الاقتصادي، مثل سائر الأنشطة الأخرى، كما دعت إلى الاجتهاد في تطبيق هذه القواعد، مما يتفق مع ظروف الزمان والمكان، وبذلك يجمع الاقتصاد الإسلامي بين ثبات القواعد الكلية ومرونة التطبيق؛ من حيث الإجراءات والأساليب والأدوات، ولا يخرج النشاط الاقتصادي عن هذا الإطار العقدي، فالرغبة أو الحاجة تترجم إلى سلوك، ولهذا السلوك نتيجة، إما: إيجابية أو سلبية. فإذا ما كان الإيمان متوفرا فإن النتيجة لا شك معروفة، ويكون مردودها إيجابيا، وأما إذا غاب هذا الإيمان فإن النتيجة محكومة بالهوى الذي لا يفرق بين الحلال والحرام، ولا يعير حقوق الآخرين كثيرا من الاهتمام، وهو ما يستدعي أن تتبنى الدول وجماعات الإصلاح دعوة إيقاظ الإيمان في نفوس الأمة.

الإسلام لا يرفض الدنيا

إن الإسلام لا يرفض الدنيا، لكنه يوازن بينها وبين العمل للآخرة، وموقفه من المال ليس سلبيا؛ إذ إن النبي محمداً، - صلى الله عليه وسلم -، اتبعه الأغنياء والفقراء، ولم يأمر أتباعه بترك أموالهم، فأبو بكر - رضي الله عنه - كان صاحب مال، وعبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كان صاحب مال، وعثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان صاحب مال، لكنهم كانوا يسخرون أموالهم في سبيل الله.

الإسلام يجمع بين الدنيا والآخرة

والإسلام يريد من المسلم أن يجمع بين الدنيا والآخرة، وكان من أدعيته - صلى الله عليه وسلم -: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، واجعل الحياة زيادة لي من كل خير، فانظر دعاء الذي جمع بين خيري الدنيا والآخرة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم المال الصالح للمرء الصالح.

كلكم راع

ويتضح لنا مغزى حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، مما نشاهده -مع الأسف- من عدم الحرص على خصوصيات الأمة ومقدرات الحلال والحرام، وقد أوجد هذا الأمر أضراراً بالغة، من أهمها: توجه الكثير من المسلمين لعادات استهلاكية ترفيهية لا تتفق ومقدرتهم الذاتية؛ حيث تعاني معظم الدول الإسلامية عجزاً في موازناتها العامة، ويصنف السبب الرئيس لهذا العجز: الإنفاق غير الرشيد للأجهزة الحكومية، حتى إن بعض الاقتصاديين يصف إنفاق هذه الحكومات بالإنفاق السفيه.

تفاعل النظم الاقتصادية

ونجد أن تفاعل النظم الاقتصادية مع دعوة العولمة والنظام الاقتصادي العالمي الجديد كان شكلياً، ولم تطور معظم بلادنا نظمها الاقتصادية، وهو ما يمنعها من دخول حلقة المنافسة العالمية التي تعد لب هذا النظام، ويجعل مشاركتها مجرد حضور للفرجة، فعلى سبيل المثال: ما الرابط بين اقتصادات السوق وأن يسعى من سموا برجال الأعمال إلى تهريب أموال الأمة إلى الخارج؟ أو أن يكونوا مجرد وكلاء للمنتجين الأجانب، فلا يقيمون صناعة، ولا يطورون علما، أو أن ينفقوا على حفلاتهم الخاصة ببذخ يثير العامة والخاصة؟ ولا يحفظ ماء وجه بعض الدول الإسلامية في المحافل الدولية سوى بعض أنواع التكافل الاجتماعي التي تقوم بها المؤسسات الإسلامية والأفراد بعيدة عن الدولة، وقد دعا هذا الأمر البنك الدولي أخيراً لدراسة الزكاة بوصفها أداة مالية، لمعالجة مشكلة الفقر، وكأن البلدان الإسلامية لا ترى أو تعرف شيئا عن تلك الفريضة.

الإصلاح الاقتصادي الحقيقي

أكد د. محمد بن إبراهيم السعيدي أن الإصلاح الاقتصادي الحقيقي يبدأ من إصلاح أخلاقي في جانب التعامل مع المال، لا كثرة تقتضي الكنز والإنماء، بل بوصفها نعمة من الله -تعالى- جعلها لقيام البشرية؛ {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (النساء: 5). هذه الآية تضمنت مبادئ اقتصادية عدة منها:

المال ملك للأمة

أن المال -وإن كان ملكًا لهذا السفيه من حيث الاختصاص- فهو ملك للأمة من حيث الانتفاع؛ لذلك فلا يصح تمكين السفيه من ماله حين يعود ذلك على المال بالتلف أو على الأمة بالضرر.

المال خلق لغاية

ومنها: أن المال خلق لغاية وهي تقويم الحياة وليس للتكديس والاحتجان أو التوسع في الاستمتاع أو التوسع في تنميته لذاته؛ لذلك حرم الله تنمية المال بمال مشابه دون وسيط مغاير، وهو الربا بنوعيه: الفضل والنسيئة.

الإنسان هو القادر على إدارة المال

ومنها: أن الإنسان المالك للمال أو القادر على إدارته تجب عليه نفقة من لا يملك المال، أو يملكه لكنه عاجز عن إدارته؛ فالتكافل الاقتصادي بين الأمة من ضرورات النجاح الاقتصادي.

تدابير الإسلام في إدارة المال

ويقرر الإسلام التدابير لعدم إفضاء التجارة إلى تكدس المال في يد فئة من الناس وهم الأغنياء؛ فشرع الله قسمة الميراث والفيء والغنائم؛ وهذا أيضا عودة إلى الأخلاق الفطرية التي تَمْقُت احتكار المال وتَكَدُّسَه لدى فئة من الناس.

التوسط في الإنفاق

وأمر بالتوسط في الإنفاق {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء:29)، ومن هنا حمَّل القرآن المترفينَ مسؤولية كبرى في إفساد المجتمعات {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: 16)، ولعل سر ذلك هو أن المترفين هم من يوجِدُون في المجتمعات أخلاقًا اقتصادية منافية للفطرة من إسرافٍ وتبذيرٍ وإنفاقٍ على المحرمات، وإضاعةٍ للموارد والمقدرات، وسباقٍ على الاستهلاك، ويُشكِّلون بذلك أنموذجًا يحتذيه سائر المجتمع مما يؤدي إلى هلاكه.

أخلاق اقتصادية فطرية

هذه أمثلة على الأخلاق الاقتصادية الفطرية التي دعا القرآن إليها، وتأتي مرحلةُ تربيةِ المجتمع عليها سابقةً أو مصاحبةً لوضع أنظمة تُجَرِّم التعدي عليها؛ فالتأسيس الأخلاقي للأمة أصل في إصلاحها الاقتصادي، وهذا بعكس الاقتصاد الماركسي والرأسمالي؛ حيث لا تُشَكِّل التربية الأخلاقية أهميةً إلا بالقدر الذي تكون فيه الأخلاق جزءًا من السلعة المقدمة، ولهذا جاء في مقال صحيفة (أوبزيرفاتوري رومانو) -وهي كما يقال يملكها الفاتيكان- في عددها الصادر يوم 4/ 3/ 2009م للكاتبة (لورينزو توتارو) و(كلوديا سيجري): إن المبادئ الأخلاقية التي ينبني عليها النظام المالي الإسلامي ربما تقرب البنوك من عملائها، ومن الروح الحقيقية التي من المفترض أن تكون معلِّمًا لكل الخدمات المالية.

مشروع لدولة قوية

والحقيقة أن الاقتصاد الإسلامي فكرة لا يمكنها أن تتحقق مالم تكن مشروعًا لدولة قوية ماليًا، وتملك المنطلقات التربوية والأخلاقية التي دعا إليها الدين؛ ولذلك أجد أن تبنِّي الدول لمشروع إحيائي تطبيقي للاقتصاد الإسلامي، وتقديم الحلول الإسلامية للعالم عمليا سيكون غُرةً في جبينِ هذه الدول.

وأعلم أن هناك مثبطين ومشككين بفاعلية وواقعية مثل هذا المشروع وإمكانية إقامته، مع أنهم يعلمون جيدًا أن (آدم سميث) استطاع أن ينظِّر بكتاب (ثروة الأمم) للاقتصاد العالمي الذي نعيش اليوم ضمنه، و(كارل ماركس) و(إنجلز) استطاعا التنظير لإقامة مشروعهما في أكثر من عشرِ دُول في العالم منها اثنتان عظميتان؛ بالرغم من خرافية أفكارهما؛ فكيف لنا أن نتصور أن النظام الاقتصادي الإسلامي عصيٌّ على التطبيق؟