منهج السلف في التعامل مع الشبهات والرد عليها

مركز سلف للبحوث والدراسات



تمر الأمة الإسلامية اليوم بعاصفة جارفة وطوفان هائل من الشبهات والتشكيكات حول الدين الإسلامي، فلقد تداعت عليها الأمم -كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كل جانب من أديان باطلة، ومذاهب منحرفة، وفرق مبتدِعة، كلها تصوّب السهام نحو الدين الإسلامي، ولا يكاد يسلَم من هذا الطوفان أصل من أصول الدين الإسلامي، ولا معتقد من معتقدات أهل السنة والجماعة.

فالشبهات المعاصرة أشبهُ بالطوفان الكاسح الذي لا يفرق بين الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والمتعلّم والجاهل، ويصل إلى الناس في عقر بيوتهم وفي حجرات نومِهم، وتكفي ضغطة زر يسيرة لأن تقذف بالشاب أو الفتاة في بحر متلاطم من الأفكار والمذاهب والشبهات، وأمام هذا الطوفان الهائل افترق الناس في التعامل مع هذه الشبهات، وطفا في الساحة تساؤل مهمّ، وهو: كيف كان منهج السلف وأئمة الدين في التعامل مع الشبهات؟ وكيف واجهوها؟

وفي هذه الورقة العلمية نجيب عن هذا السؤال، ونبحث عن حال السلف وأئمة الهدى من بعدهم مع الشبهات على اختلاف عصورهم، بتوفيق الله وحسن عونه.

تمهيد

ليست الموجة الحالية هي الأولى في تاريخ إثارة الشبهات حول الدين الإسلامي، بل سبقتها موجات كثيرة من التشكيك والتلبيس، فلقد مر الدين الإسلامي قبله بتجارب -وإن اختلفت في القوة ومدى التأثير ووسائل البثّ ومدى الانتشار ونوعية المستهدفين بالشبهات- إلا أن الدين الإسلامي خرج من تلك الدسائس مصقولا صافيًا كالذهب الإبريز، كلما اشتدت عليه سموم النيران صفا أكثر، ومع تصاعد الصدع بالشبهات والتشكيكات يصعد الدين الإسلامي إلى أعلى المراتب، وينتصر على كل المذاهب بمن يسخِّره الله لنصرته من معتنقيه، بل ومن أعدائه أو من أصلاب أعدائه، نعم، هذا هو الحال دومًا وفي كل زمان، والقصة تتكرر في كل وقت، وإن تغيرت أسماء شخصياتها واختلفت وسائلهم، فالتاريخ يعيد نفسه كما يقال.

القرآن والرد على الشبهات

يقول ابن العربي المالكي: «خذوا مني في ذلك نصيحة مشحونة بنكت من الأدلة، وهي أن الله -سبحانه- رد على الكفار -على اختلاف أصنافهم، من ملحدة وعبدة أوثان وأهل كتاب وطبيعة وصابئة وشركية ويهودية- بكلامه، وساق أفضل أدلته، وجاء بها في أحكم نظام، وأبدع ترتيب، فعلى ذلك فعوّلوا... فهو قد أنزل كتابه على نبيه نورا محكَما، هدًى تِبيانا، لم يكن رموزا ولا كناية عما لا يتوصّل به إليه سامعه ولا يعلمه مخاطبه، وأقام عشرة أعوام أو ثلاثة عشر عاما، أو خمسة عشر عاما يجادل بالحجة جميع الكفرة، بألف من آي القرآن... فما بقي نوع من الأدلة، ولا وجه من وجوه الحجج، إلا وجاء بها على أوضح منهج، وتناولت كل حجة طائفة من الملحدة وأصحاب الطبائع والصابئة بقدرها، واليهود والنصارى والزائغين بقسطها، على نحو ما قالت كل طائفة من الشرك، ولو شاء ربنا لكفّهم عن هذه المقالات؛ وإذ أطلقها على ألسنتهم فقد نصّ كيف تنقَض أقوالهم، حسبما تقرر من الأدلة، ومن كيفية استعمال في كتابه، وعلى لسان رسوله، وذلك كله بسابقة من المشيئة ووجوه من الحكمة».

بشارات وانتصارات قادمة

فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي وعد بحفظ القرآن ودين الإسلام، فهو القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، أي: وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه، وقد صدقنا وعده وهو لا يخلف الميعاد، بل هناك ما هو أكثر من ذلك، وهو أن هذه علامات بشارات وانتصارات قادمة لدين الإسلام، فإن من أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين وبيان حقيقة أنباء المرسلين ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين... وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات أقام الله تعالى له مما يحقّ به الحق ويبطل به الباطل من الآيات البينات بما يظهره من أدلة الحقّ وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة.

تأصيل الحقّ ومعرفته بدليله

تأصيل الحقّ ومعرفته بدليله مطلبٌ مقدم على كل مطلب، فعندما يبدَأ مهندس معماريّ بتنفيذ مشروع ما من المشاريع فإنَّ من أهمّ ما يفكّر ويخطّط له الأساسَ والقاعدة التي يقيم عليها ذلك المشروع، فلا بدّ لذلك الأساس أن يكون رصينًا متينا لا يتصدَّع ولا يتأثر بعوامل الطبيعة من أمطار ورياح وغيرها؛ ذلك أن الأساس هو أصل كل مشروع.

التأصيل وبناء الأساس

وفي ديننا الإسلامي لابد من التأصيل وبناء الأساس، فلا بد من معرفة الدين الحق وأدلته قبل الخوض في ردّ الشبهات، فعلى المسلم أولا تأصيلُ نفسه في الدين عقيدة وشريعة، والإلمام بأصول المسائل وأدلتها قبل الخوض في غمار الشبهات والإشكالات؛ ذلك أن المسلم محتاج إلى معرفة ما قاله الله تعالى ورسوله في مسائل الدين، ووعيها واستيعابها على وجهها، ثم الإيمان بها واليقين بها، فحاجة المسلمين إلى هذا تسبق حاجتهم إلى ردّ الشبهات وتفنيد الإشكالات والردّ على المخالفين، فمن تأصّل في العلوم الشرعية وعرف أصول الاعتقاد وأحكم مسائل الدين اشتغل بعد ذلك بالدفاع عن ذلك الحقّ الذي علمه وآمن به واعتقده وعمل به، أما أن يبدأ بمجادلة المشكِّكين ومناظرتهم في أقوالهم قبل أن يؤصّل المسائل ويحقق الإيمان في نفسه، فهو كحال من يحافظ على الصدف ولا يدري أفي داخله جوهر أم حجر! وكمن ينشغل بحراسة الفناء عن بناء البيت.

غرس العقيدة الصحيحة

ومن هنا يتضح لنا أن غرس العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين والنشء على وجه الخصوص له الأولوية من بين كل الأمور، وغرس الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر لا بد أن يُعطَى حظَّه قبل الخوض في ميدان ردّ الشبهات وتفنيدها، ومن أراد الخوض فيها فلا بد أن يكون قد أصّل نفسه وتمكّن من العلوم الشرعية حتى يستطيع الخوض فيها دون زلل أو خلل.

يقوا ابن تيمية -رحمه الله-: «لابد أن يكون المحروس هو نفس ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر به لأمته، فأما إذا كان المحروس فيه ما يوافق خبر الرسول وفيه ما يخالفه، كان تمييزه قبل حراسته أولى من الذب عما يناقض خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن حاجة المؤمنين إلى معرفة ما قاله الرسول وأخبرهم به -ليصدقوا به، ويكذبوا بنقيضه، ويعتقدوا موجبه- قبل حاجتهم إلى الذب عن ذلك، والرد على من يخالفه، فإذا كان المتكلم الذي يقول: إنه يذب عن السنة قد كذَّب هو بكثير مما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واعتقد نقيضه كان مبتدعًا مبطلًا متكلمًا بالباطل فيما خالف فيه خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أن ما وافق فيه خبر الرسول فهو فيه متبع للسنة، محقّ يتكلم بالحق».

ترسيخ ثوابت الدين

وهذا المنهج نجده في القرآن الكريم الذي يسعى إلى ترسيخ ثوابت الدين الحنيف وأسسه من توحيد وصلاة وزكاة وصوم وحج وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، غير مبالٍ بتشكيكات المشككين وشبهات المغرضين، فالآيات المكية يغلب عليها طابع الدعوة إلى ترسيخ العقائد والأصول لتستقر في النفوس، ومع ذلك كانت الإشكالات الجوهرية قد تناولها القرآن بالرد والتفنيد؛ كدعوى كون النبي - صلى الله عليه وسلم - ساحرًا أو شاعرًا أو مجنونًا: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الحاقة: 38-43).

إشكالات المشغّبين

وأما إشكالات المشغّبين وتعريضات المعرضين، فإن القرآن الكريم كثيرا ما يأمر بالإعراض عنها كما قال -تعالى-: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94)، وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 106)، وغيرها من الآيات، وهذا ما أوصى به النبي -عليه الصلاة والسلام- حين قال: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتَّقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب».

نصوص السلف- رحمهم الله

وهذا ما نجده جليًّا واضحًا في نصوص السلف رحمهم الله عند ظهور الشبهات والبدع، ومن ذلك قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (عليكم بالعلم قبل أن يقبَض، وقبضه أن يذهب أهله، وإنكم ستجدون قوما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والبدع، وإياكم والتنطع، وإياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق).


وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة: «عليك بلزوم السنة؛ فإنها لك بإذن الله عصمة، فإن السنة إنما جعلت عصمة ليستن بها ويقتصر عليها، فإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعميق، فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبفضل لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن حدَثَ حدثٌ بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم».