الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية - النّاظر والمتولّي الوقفَ من الأمناء

عيسى القدومي




باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه؛ ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع خصوصا، ثم من القواعد الفقهية الكلية، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف، وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضوابط المتعلّقة بالولاية على الوقف ومع الضابط السادس وهو (النّاظر والمتولّي من الأمناء).

يُعبِّر الفقهاء في الغالب عن صورة الولاية التي تكون للإنسان على المال بـ (اليد)، سواء كانت ولايته على المال متفرِّعةً عن الملْك أو الإذن في التصرُّف، أو العدوان على المال كالغصب، وهو نوع من الكناية؛ لأن اليد هي أداة التصرُّف من الإنسان غالباً، وبناء على ذلك فقد قسّموا (اليد) إلى: يد ضمان، ويد أمانة.

يد الضّمان: هي يد الحائز الذي حاز الشيء بقصد تمَلُّكه، أو حازه لمصلحة نفسه، كالغاصب والمشتري، والقابض على سَوْم الشّراء، أو ببيعٍ فاسدٍ، والمرتهن بمقدار الدَّيْن.

وقد تُعرَّف على نحو شامل بأنها: كلُّ يد لا تستند إلى إذن من الشارع أو المالك، وكذلك كل يد تستند إلى ولاية شرعية ودلّ دليلٌ على تضمين صاحبها.

ويد الأمانة: هي اليد التي تُخلف يد المالك ما تتعدّى. أو: «هي يد الحائز الذي حاز الشيء لا بقصد تملُّكه، بل باعتباره نائباً عن المالك، كالوديع والمستأجر والوكيل والشريك والمضارِب والأجير الخاصّ وناظر الوقف».

فهي اليد التي تحلُّ محلّ يد المالك الأصيل، سواء بإذنه كالوكالة، أم بإذن الشارع كالولاية على مال اليتيم والمجنون، فهي يد أمانة طالما لم تتعدَّ، والتعدّي يكون بالإفراط أو التفريط.

والإفراط: فعلُ ما لا يجوز فعلُه ممّا يؤدّي إلى ضياع المال أو تلفه، فـ «أفرطَ إفراطًا: أسرفَ وتجاوز الحدّ».

والتفريط: ترك ما يجب لحفظ المال وصيانته، فـ«فرَّطَ في الأمر تفريطًا: قصّر فيه وضيّعه».

معنى الضابط

النّاظر: هو الذي يَلِي الوقف وحفظَه، وحفظ ريعه، وتنفيذ شرط واقفه.

المتولِّي: من فُوّض إليه التصرف في مال الوقف.

قال ابن عابدين: «القيّم والمتولّي والنّاظر بمعنىً واحد، وفي (الخيرية): إنْ كان النّاظر بمعنى المشرف، فقد صرّحوا بأنّ الوصيّ لا يتصرّف إلا بعلم المشرف. وفيها: سئل في وقف له ناظرٌ ومتولٍّ، هل لأحدهم التصرف بلا علم الآخر؟ أجاب: لا يجوز، والقيّم والمتولّي والنّاظر في كلامهم بمعنى واحدٍ». اهـ

قلت: هذا ظاهرٌ عند الإفراد، أمّا لو شرط الواقف متولِّيًا وناظراً عليه كما يقع كثيراً، فيُراد بالنّاظر المشرِف، وعن هذا أجبتُ في حادثة بأنّه ليس للمتولِّي الإيجارُ بلا علم الناظر خلافاً لما في (الفتاوى الرحيمية) من أنّه لو آجر المتولّي إجارةً شرعيةً بأجرة المثل لا يملك الناظر معارضته لأنه في معنى المشرف، تأمّل.

فالمقصود أنّ الوقف إذا كان يقوم عليه شخصٌ واحدٌ بشرط الواقف، ولم يتدخل القاضي في إقامة آخر عليه أو معه، فحينئذ تكون تسميته متولِّيًا أو ناظراً كلاهما صحيحةً ولا فرق، ويكون كلام الفقهاء في النّاظر والمتولِّي والقيّم والوصيّ نازلاً عليه.

المألوف في لغة الفقهاء

أمّا إذا جُعل للوقْف ناظرٌ ومتولٍّ، فإنّ الانفكاك بين نظر الوقف والولاية عليه متصوّر، لأنّ المألوف في لغة الفقهاء كما قرّره ابن عابدين أن يكون النّاظر عندها هو المشرِف والمراقب، والمتولِّي هو الذي يباشر التصرُّفات المتعلّقة بالوقف، من الحفظ والصّرف وغير ذلك، وقد يكون نصب النّاظر على المتولِّي بشرط الواقف ابتداءً، وقد يكون بحكم القاضي إذا خيفت من المتولِّي خيانةٌ، أو وقعت منه فعلاً.

وعلى هذا الفصل بين الشخصيتين عرّفهما في (ترتيب الصنوف)، فقال:

المتولِّي هو: الشخص المعيّن لرؤية مصالح الوقف وإدارة أموره، وفق شروطه، وضمن الأحكام الشرعية.

وناظر الوقف هو: من يشرف على تصرُّفات المتولِّي في الوقف، ويرجع إليه المتولِّي في أمور الوقف.

وعليه فالمعنى: يدُ النّاظر والمتولِّي يد أمانةٍ، لا ضمان عليها إلّا بثبوت التعدّي أو التقصير عليهما.

ويدلُّ على هذا على نحوٍ واضحٍ إلحاق الفقهاء النّاظرَ والمتولِّي بالأجير تارةً، وبالوكيل تارةً، في عدد لا يُحصى من الصور، والأجير والوكيل كلاهما يدُه يدُ أمانةٍ.

قال برهان الدين الطرابلسي: «لو أنكر المتولِّي الوقف وادّعى أنه ملكه يصير غاصباً له، ويخرج من يده لصيرورته خائناً بالإنكار، ثمّ إنْ كان الواقفُ حيًّا فهو خصمُه في إخراجه من يده، ثمّ هو بالخيار؛ إن شاء أبقاه في يدِ نفسِه وإنْ شاء دفعَه إلى من يثق به وجعله والياً عليه، وإنْ نقصت الأرضُ ضَمِنَ النّقصان الحاصل بعد الجحود لا ما قبله، لصيرورته غاصباً لها من ذلك الوقت، وكذلك إذا انهدم شيءٌ من الدار بعد إنكار وقفيّتها فإنّه يضمنه، ويبني به ما انهدم منها...».

فهذا الضّابط إذن، هو -على وجه التقريب- مفهوم المخالفة لقولهم في القاعدة الفقهيّة: (المفرِّط ضامن)؛ لأنّ غير المفرّط من الأمناء لا يضمن، وهو موافقٌ للقاعدة الأخرى التي نصّ عليها جماعةُ الفقهاء: (كلُّ أمينٍ فالقولُ قولُه في الردّ على من ائتمنه).

تطبيقات القاعدة

- ناظر الوقف إن ادّعى صرف غلّة الوقف المعتادة على الموقوف عليهم، ثمّ ادَّعَوْا أنّ الغلّة أكثر من ذلك، فالقولُ قولُه، إلّا أن تكذّب العادة ذلك، كأن يُفاجأ الموقوف عليهم بوصول 10% إليهم من المعتاد، ويدّعي أنّ هذا كلّ ما أنتجه الوقف، ولا قرينة تؤيّد ذلك.

- إذا استبدل النّاظر الوقف بغيره في الظروف التي يجوز فيها ذلك، أو أجّره بقيمةٍ ما، ثمّ ادّعى عليه الموقوف عليهم أنّه فرّط في ذلك، وأنّه كان بإمكانه أفضل ممّا فعل، فالقول قولُه حتى يثبت عليه التقصير ببيّنة معتبرة.

- إذا باع النّاظر غلّة الوقف بأقلّ من ثمن المثل تقصيراً منه في الاحتياط للوقف، فهو ضامنٌ ما خسره الوقف من ماله.

- إذا باع النّاظر غلّة الوقف، فضاع منه الثمن قبل أن يوزّعه على المستحقين، فلا ضمان عليه -على الأصل-، لأنّه من الأمناء لا يضمن إلا بالتعدّي أو التقصير.

- إذا تبرّع النّاظر بالعين الموقوفة، فهو ضامنٌ على الصحيح، سواء في ذلك أكان النّاظر هو نفس الواقف أم غيره، وذلك لأنّ التبرُّع بالعين متفرِّعٌ عن تملُّكها تملُّكاً صحيحاً أو الإذن في التصرُّف فيها، وقد سبق تقرير أنّ الوقف لا يُملَك، ويزول ملك الواقف عنه لا إلى مالكٍ، وإنّما يصير لله -تعالى-، وعليه فمن تبرّع بالعين الموقوفة كان متعدّياً في ذلك إذ تبرّع بما لا يملك، فيكون ضامناً على الوجه الذي يلزم.


- إذا كانت العين موقوفةً للإعارة بشرط استحقاقها، كأن يكون الوقف آلات حرب تُعار للغازي في سبيل الله، أو حُليًّا لنساء المسلمين، أو كتباً لطالب علمٍ، فأعارها النّاظر لمستحقٍّ فتلفت، فإنّ النّظر في ضمانها يكون على المستعير لا على النّاظر، لأنّ ما أنشأه النّاظر تصرُّفٌ صحيحٌ جائزٌ، لكنّه يضمن إذا تلفت في يد مستعيرٍ من غير المستحقّين لها، لأنّ ذلك يكون من تفريطه.