أيام في طشقند وسمرقند وبخارى (1)
محمد بن موسى الشريف



لقد كان الأمل يراودني منذ مدة طويلة في الذهاب إلى جمهورية أوزبكستان، وذلك لأنها دُرَّة فاخرة، وكنز ثمين، ففيها ديار الإسلام العظام ومدنه التاريخية الجليلة: "طشقند" وتُعرف قديماً ببلاد الشاش ومنها: "القفال الشاشي" الفقيه الشافعي المشهور، و"ترمذ": ومنها الإمام محمد بن عيسى الترمذي صاحب السنن المشهورة، والحكيم الترمذي صاحب "نوادر الأصول"..
و"بخارى": ومنها الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح الكتاب الذي ليس له نظير في الدنيا، و"سمرقند": ومنها أبو الليث السمرقندي الزاهد، وأُلُغ بك حفيد تيمورلنك السلطان العالم صاحب المدرسة المشهورة، وفرغانة، وأنديجان، وأوش، وقوقند، ونسف، وخوارزم، في مدن وقرى كثيرة جداً بعضها قائم وأكثرها زال وباد..
وخرج من تلك المدن والبلدات خلق لا يحصيهم إلا الله - تعالى - كان لهم أثر جليل في إنشاء الحضارة الإسلامية ورفع بنيانها، وأثر في الجهاد في سبيل الله - تعالى -، وفي تعليم العلوم الشرعية ونشرها، ولا يمكنني في هذه العجالة أن آتي على أعمالهم، ولا أن أُورد ولو طرفاً من جهودهم، فهي أعظم من أن يحصرها البشر أو يأتي عليها العادّون، ولقد قرأت أن هناك موسوعة تُطبع في القاهرة قد حصرت ما علمته من علماء تلك المناطق، فخرجت بثلاثة آلاف عالم، وأرى والله - تعالى - أعلم أن العدد أضعاف ذلك مرات وكرات، قد طوى كثيراً منهم النسيانُ والإهمال، ودرست آثارهم بسبب الحروب الضخمة التي مرت بها المنطقة، من اجتياح مغولي.. إلى تدمير روسي قيصري.. إلى فظائع ووحشيات الغزو الشيوعي البلشفي، مما ضيّع كثيراً من ذلك التراث الرائع، وذهب به أدراج الرياح، فيالله! أين تلك المصنفات الملاح، وأصحابها السادة الأقحاح؟! ذهب معظم ذلك، وفني أكثر ما هنالك، صدق أبو العتاهية، - يرحمه الله -:
إلى ديّانِ يومِ الدينِ نمضي ** وعندَ اللهِ تجتمعُ الخصومُ
جاء الفرج!: وأعود فأقول: كان الأمل يراودني في الذهاب إلى تلك المغاني، وإمتاع عيني برؤية طلل تلك المباني، والتجوال في هاتيك الآثار، التي انقضت لبنائها الأعمار، وفنيت فيها أجيال تلو أجيال، ولقد حاولت ذلك عندما كنت في "ألماتا" العاصمة السابقة لجمهورية قزقستان (كازاخستان) سنة 1423ه-2003م فلم أظفر بشيء، ثم عدت السنة الماضية سنة 1427ه-2006م إلى قزقستان فلم أستطع، حتى جاء الله - تعالى - بالفرج..
إذ أخبرني أخي العامل الفاضل الدكتور الاقتصادي صالح بادحدح أنه رتب لإقامة مؤتمر عن الحضارة الأوزبكية مع بعض أهل الخير تحت رعاية "الإيسيسكو"، وهي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومقرها "الرباط"، وطلب مني المشاركة ببحث، ولا أكتمكم أني فرحت بذلك فرحاً لم أعهده من نفسي، وليس هو من طرائقي ورسمي، لكنه الهوى الغالب، وهو كما تعلمون للقلوب جالب، فأعددت البحث وهو عن مدن جمهورية أوزبكستان التاريخية التي بقيت إلى اليوم، وعرجت على بعض مشهور ما اندثر منها، وشاركت مع باحثين من مصر والمغرب وتركيا والعراق وأوزبكستان.

دموع المحبّين
وشددت الرحال وأنا ممتلئ حبوراً وسعادة، وذلك لقصدي أوزبكستان، ثم لأنها ستكون عبر مدينة إسطنبول التي لابد من المكث فيها قرابة ثنتي عشرة ساعة قبل أن يحين موعد رحلة طشقند، وإسطنبول هي المدينة التي أحببت، وإليها ترددت، وعليها عرّجت عشرات المرات، ولم أزرها في مرة إلا وانهمرت مني دموع، وراودتني أحاسيس ومشاعر لا أعرف كيف أصفها، ولا أدري بم أوقفها، وذلك لأنها غالباً ما تكون أمام الناس، وهذا أمر لا أحبه لنفسي، لكن ما الحيلة ودموع المحبين لا سبيل عليها ولا طريق لمنعها، وغالباً ما تكون هذه الدموع في الفاتح، ذلك الجامع العظيم، والمبنى الجليل، لا لعمارته ففي إسطنبول من الجوامع البواهر ما يفوقه بكثير، لكن ربما لعظمة بانيه ولجلالة الفتح، ومن أراد تذكّر عزة الإسلام والاغتراف من تلك الذكريات العظام فلا غنى له أبداً عن التعريج على إسطنبول، والارتشاف من تلك الغيول، (والغيل عند العرب مجتمع الماء).

قلة قليلة!
ولا أدري ما الذي دهى كثيراً من موظفي الأتراك الذين أخالطهم في المطارات والفنادق والمجامع الرسمية؛ فأكثرهم مكفهر الوجه، نادر البسمة، ليس بموطأ الأكناف، ولا بحسن الأخلاق، قد رأيت فيهم ذلك حتى اعتدته، وعرفت منهم ذلك إلى أن ألفته، نعم إن أكثر من رأيته من الأتراك من إخواننا الذين نألفهم ويألفوننا ومن غيرهم تعلو ملامحهم الهيبة ويغلب عليه الجد الممزوج أحياناً بالشدة، لكني أتحدث عن الموظفين الرسميين والعاملين في المطارات والفنادق والمطاعم، فعلى كثرة ما ذهبت إلى ذلك البلد العزيز إلى نفسي والأثير لدي والقريب إلى قلبي لم أجد إلا قلة قليلة ترحب بالغريب كترحاب العرب، وتؤنسه وتسر به كما يحدث في ديارنا، فلا أدري، أهذا أثر من آثار تلك المرحلة الأتاتوركية السوداء التي غشيتهم قرابة تسعين عاماً، أم أن هذا أمر مغروس في طبائع أكثرهم، لكن هذا ما لمسته في زياراتي الكثيرة ل"إسطنبول" و"طرابزون" و"يلوا" و"بورصة" و"أويلات" وغيرها، وأرجو ألا أكون قد قسوت عليهم أو غمطتهم حقهم، إذ إني أتحدث عن أكثر من رأيت، ولقد رأيت فيهم قلة من الإخوان يخالفون هذا الذي ذكرت، ويجانبون ما وصفت، لكنهم قلة قليلة على كل حال.
سراج الجامع: ولما هبطت مطار إسطنبول كان الوقت فجراً، فأُخذت بعد لأي إلى فندق على حساب الخطوط التركية، ففوجئت برداءة الفندق والمنطقة التي هو فيها، وكل شيء فيه سوى النوم لابد من أن أؤدي ثمنه، فعجبت من هذا التصرف الذي يخالف فعل كل شركات الطيران الكبيرة في العالم، لكني لم آبه بذلك إذ كنت مشتاقاً للصلاة في الفاتح..
فجاءني بعد الظهر أخي في الله أبي بشر أسامة الخطيب، وأخذني إلى جامع الفاتح فأدركته وقت العصر، فجمعت
معلم في طشقند.. الفرضين ونلت الغرضين: العبادة وقضاء لباتي، وجلست في الجامع بعد الصلاة قليلاً، فقرأ الإمام أحزابهم على العادة التي جروا عليها قروناً، والقوم مطرقون مستمعون لم يغادر منهم أحد إلا أقل من القليل، وفيهم صبر عجيب على تلك الأحزاب والأوراد لا يقوم أكثرهم حتى يفرغ الإمام منها وقد يطول بعضها..
وبعد الفراغ صافحت الإمام وعانقته فقد عرفته قبل ذلك، وسألته عن الشيخ أمين سراج، فأخبرني بوجوده وذهب بي إليه في غرفته في الجامع، والشيخ أمين هو سراج الجامع؛ فهو المدرس فيه منذ زمن طويل، وقد قارب التسعين، وهو ممن أدرك الهالك مصطفى كمال، أدركه شاباً، وقد هلك سنة 1358ه-1938م، فرحب بي الشيخ وفرح بمقدمي جزاه الله خيراً، وهو من القلائل الذين وصفتهم آنفاً، وكان الدكتور حمدي أرسلان هنالك، وقد تحدثت عنه في إحدى حلقات "أيام في إسطنبول" ولما أخبرت الشيخ بمقصدي سُرَّ، وتمنى لو كان معي فهو لم يزر تلك البلاد قط، وأخبرني أنه سيذهب معي دكتور باحث تركي وهو أحمد طوران أرسلان من كلية الإلهيات في جامعة إسطنبول، وهاتفه وأنا جالس عنده وجعلني أحدثه، واتفقنا أن نتقابل ليل ذلك اليوم في المطار، ثم خرجت فأولم لي أخي المفضال أبو بشر في مطعم فاخر حسن الطعام جداً، ثم أخذني إلى المطار حيث قابلت الدكتور أحمد طوران أرسلان ومعه مجموعة من الباحثين الأتراك والمصريين والمغاربة، وتعارفنا، ومن ثم أقلتنا الطائرة إلى مطار طشقند في قرابة أربع ساعات ونصف الساعة لنصل قبل الفجر هنالك.

طشقند
و"طشقند" عاصمة جمهورية أوزبكستان، فيها قرابة ثلاثة ملايين نسمة، وأوزبكستان سكانها قرابة ثلاثين مليوناً فهي أكبر جمهوريات تركستان الغربية من حيث عدد السكان أما أكبر الجمهوريات مساحة فهي قزقستان (كازاخستان)، إذ هي أكبر بلد إسلامي في العالم ومساحتها ثلاثة ملايين إلا ربع المليون من الأميال المربعة، ويأتي بعدها السودان ثم الجزائر ثم المملكة السعودية..
وتركستان الغربية تتألف من خمس جمهوريات استقلت عن الاتحاد السوفييتي الهالك سنة 1413ه-1993م، وهي أوزبكستان وقزقستان وطاجيكستان وتركمانستان وقيرغيزيا، أما تركتسان الشرقية فما زالت تحت نير الاحتلال الصيني البغيض، ولما استقلت تلك الجمهوريات سارع إليها اليهود والنصارى لاقتسام ثرواتها ولاغتنام كنوزها، وتأخر المسلمون كعادتهم فلم يفلحوا في استثمار تلك الفرصة السانحة، لكن لكل أجل كتاب، والله - تعالى - يخلق ما يشاء ويختار، جل جلاله وعز في عليائه وسلطانه.