تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: من أجل حداثة أدبية إسلامية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي من أجل حداثة أدبية إسلامية

    من أجل حداثة أدبية إسلامية 1/3





    د. خالد ناصر الدين

    إن الانخراط الإيجابي في زمن العولمة يقتضي من بين ما يقتضيه، الانتباه إلى الحمولات الفكرية والمرجعيات الحضارية التي تميز مختلف المفاهيم المتداولة، ذلك أن سعي “الغرب” لبسط سيطرته على كل شعوب العالم لا يقتصر على الجانب المادي العسكري فقط بل يطال كل الجوانب بما فيها جانب الأفكار والقيم، وجانب المصطلحات والمفاهيم، وهذا ما لا يتم الانتباه إليه في الغالب، ويكفي أن نستحضر مفاهيم مثل: “الحرب العالمية الأولى”، و”الحرب العالمية الثانية”، و”عصر الأنوار”، و”عصر الظلمات” أو “القرون الوسطى”… وغيرها من المصطلحات ليتأكد لنا أمر هذا التلبيس المفاهيمي الممارس من طرف الغرب بشكل فيه الكثير من المكر و الخداع و المراوغة، فكل هذه المفاهيم خاصة بالمنظومة الغربية (الأوروبية) تاريخا، وفكرا، وحضارة… ومع ذلك يتم تعميمها على كل الشعوب، وعلى كل الأمم، مما يؤكد أن ما يسمى بـ”العولمة” لا يخرج في نهاية المطاف عن مقولة ” المركزية ” الأوروبية التي دافع عنها كثير من المستشرقين والمفكرين الغربيين.
    الأمر نفسه يقال بالنسبة لمصطلح “الحداثة” الذي أسال الكثير من المداد، فقد انطلت الحيلة على كثير من الباحثين والمفكرين من بني جلدتنا، فراحوا يوظفون هذا المفهوم في دراساتهم وأبحاثهم -غير منتبهين إلى خلفيته التاريخية والحضارية- منادين “بضرورة الحداثة والتحديث كطريق وحيد للخروج من المأزق التاريخي، وتحقيق الوثوب الحضاري. متغافلين عن حقيقة أساسية وهي: أن الحداثة الغربية كانت وليدة تطور تاريخي _ اجتماعي، لا يمكننا تجاوزه”(1)، ذلك أن الحداثة في الغرب لم تأت من فراغ بل إنها شكلت نتيجة لصيرورة تاريخية – اجتماعية، وصل إليها بعد اجتياز مرحلة النهضة، ولذلك فلا غرابة أن تظل كل ثمار الحداثة، وكل تمظهراتها العلمية والفكرية والأدبية موسومة بسمات الحضارة الغربية.
    لذلك سأعمد إلى توظيف مصطلح “الحداثة” بكثير من الحذر، كما أنني سأقتصر على مناقشة تمظهرتها الأدبية، على اعتبار الأهمية القصوى التي يحظى بها الأدب، كما أنني سأربطها بالمرجعية الإسلامية، محاولا الإجابة عن أسئلة ملحة تفرض نفسها فرضا: لماذا توظيف مصطلح “الحداثة” بالذات دون غيره؟ ما حدود أصالة وموضوعية هذه الصياغة اللغوية؟ لماذا الحديث عن الحداثة الأدبية بالتحديد؟ ما مسوغات ربط الحداثة بالمرجعية الإسلامية؟ هل يحق لنا هذا الربط فعلا؟ أليست الحداثة مولودا غربيا مما يحتم إبقاءه داخل حدود المنظومة القيمية والفكرية الغربية؟ ما هي أسس ومرتكزات هذه الحداثة الأدبية الإسلامية؟ ما الجديد الذي يحمله هذا المشروع؟ هل فيه نفي وإقصاء للآخر، أم أنه يعترف بالآخر ويحتويه ويتفاعل معه؟
    1- الإشكال الاصطلاحي: “حداثة” أم “حداثية” أم “مودرنيزم”؟!
    الحداثة لغة مشتقة من فعل “حَدُثَ”، “يَحْدُثُ”، “حُدُوثًا”، “وحَدَاثَةً” و: “الحديث نقيض القديم، والحدوث نقيض القُدْمة. حدث الشيء يحدُثُ حدوثا وحداثة، وأحدثه هو، فهو محدث وحديث، وكذلك استحدثه”(1)، ورغم وضوح دلالة الكلمة في المعاجم العربية فإن تحديدها اصطلاحيا يطرح إشكالات نبه إليها الكثير من الباحثين، فالدكتور خضر عريف مثلا يفرق في كتابه (الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة) بين مصطلح الحداثة والتجديد والمعاصرة، ويعتبر أن هذا الاضطراب المصطلحي راجع إلى الخلط بين مصطلح الحداثة (modernism)، والمعاصرة (modernity)، والتحديث (modernization)، وجميع تلك المصطلحات كثيرا ما تترجم إلى “الحداثة”، على الرغم من اختلافها شكلا ومضمونا وفلسفة وممارسة”(3)، ولعل هذا ما جعل الأستاذ عبد العالي مجذوب يرفض هذه الترجمة المتداولة الشائعة، و يحتفظ بنفس المصطلح الأعجمي (modernism) في كتابه (المودرنيزم وصناعة الشعر)، ويبرر ذلك بقوله أن ” الفرق بين كلمة modernisme وكلمة modernité في الصياغة اللفظية، وتبعا لها، في الدلالة المعنوية، هو أوضح من أن يُبين أو يُناقش. واللاحقة “إيزم isme” في الصياغة اللغوية الأجنبية، تفيد الدلالة على المذهبية العقدية، أو السياسية، أو الفلسفية، أو الاقتصادية أو غيرها من المذهبيات، كالماركسية marxisme، والوجودية existentialisme، واليهودية judaisme، والليبرالية libéralisme… إلخ
    ويقابل هذه الصياغة الأجنبية في اللغة العربية بناءُ ما يُسمى في علم الصرف بالمصدر الصناعي، ويتم بزيادة ياء مشددة بعدها هاء في آخر الاسم، كالوطنية في الوطن، والإنسانية في الإنسان، والقيصرية في القيصر.
    وتطبيقا لهذه القاعدة فإن نقل كلمة modernisme إلى العربية ينبغي أن يكون على مثال المصدر الصناعي من اسم الحداثة، وهو “الحداثية””(4)، ويتضح جليا أن المبررات التي يقدمها الباحث منطقية وموضوعية وعلمية، مما يجعلنا نؤكد أنه يعتبر من السباقين إلى ضرورة المحافظة على المصطلح الأجنبي كما هو (موديرنيزم / modernisme)، أو على الأقل ترجمته ترجمة تراعي خلفيته المذهبية / العقدية، ومرجعيته الحضارية والفلسفية… “الحداثية”.
    أما من الناحية الاصطلاحية، فإنه يصعب الإحاطة بمختلف التعريفات التي قدمت لـ”المودرنيزم” ، فقد عرفها المعجم الفرنسي (petit robert 1) بأنها “حركة قامت في الوسط النصراني، تطالب بتبني تفسير جديد للمعتقدات والأصول اللاهوتية التقليدية وفق أساليب التأويل الحديث.”(5)، كما عرفت بأنها “اتجاه جديد يشكل ثورة كاملة على كل ما كان، وما هو كائن في المجتمع”(6)، وبأنها “تبني العلم والتكنولوجيا والعقل كآليات وحيدة للتعامل مع الواقع”(7)، و بأنها “حالة أو موقف من الحالة الفكرية أو الثقافية التي تسبق الحالة التالية، وهي لا تخص زمنا معينا أو بيئة معينة. فالإسلام مثلا يمثل حالة حداثة بالنسبة إلى المرحلة التي سبقته من الجاهلية، ومثله الأديان الأخرى، وموقف أوربا في عصر (التنوير) حالة حداثة، لأنه موقف من الكنيسة والإقطاع والدين نفسه…”(8)، إن معيار الصحة والخطأ غير مطروح البتة في هذا التحديد، فالمسألة تتعلق بالزمن أساسا، وكما تختلف الحداثة بتعاقب الأزمنة، فإنها تختلف وتتعدد أيضا باختلاف البيئات والفضاءات، فلكل بيئة حداثتها التي تتميز بخصوصياتها وسماتها المميزة.
    2_ “المودرنيزم” البداية والمميزات:
    اختلف النقاد والمفكرون الغربيون أنفسهم في تحديد بداية حركة “المودرنيزم” فمنهم من يرجع بدايتها إلى ” عصر النهضة في إيطاليا مع الإصلاح الديني، أو من بداية تطور الظواهر العلمية والرياضية في القرن السابع عشر إلى الثورات السياسية في أواخر القرن الثامن عشر”(9)، ومنهم من يرجعها إلى “ظهور بعض الأعمال البارزة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كأوراق العشب (1855) للوتمان، وأزهار الشر لبودلير، ومدام بوفاري لفلوبير (1857)، وأصل الأنواع لداروين (1875) الذي يعده الناقد الشهير (نور ثروب فراي) بداية للقرن الحديث، أو سنة 1870 وغيرها من التواريخ والأحداث، على نحو يدل على استحالة تحديد بداية الحداثة تحديدا دقيقا”(10)، وهناك من “يمد المفهوم (أوروبيا) من بدايات القرن السادس عشر (1513م) تاريخ ظهور البروتستانتية حتى يومنا الحاضر. وبذلك يشمل المفهوم بين دفتيه ثورة الكنائس ضد الكنائس، اللاهوت المعقلن ضد اللاهوت غير المعقلن، ثورة العلوم الطبيعية في عصر النهضة الأوروبية (كوبرنيكوس _ غاليلو _ نيوتن)، والثورات الفلسفية (هوبز _ بيكون _ ديكارت _ سبينوزا _ كانط) والثورات الصناعية والثورات السياسية)(11).
    ويمكن تحديد أهم مميزات المودرنيزم في ثلاثة أصول رئيسة(12):
    أولها: اللائكية اللادينية، أي نبذ المرجعيات المطلقة والأحكام الغيبية الإيمانية، وما إلى ذلك، مما يسمونه “متعاليات” ميتافيزيقية.
    ثانيها: الإنسان بما هو المركز وقطب المدار: الإنسان / الإله، الإنسان / المطلق المتعالي، الإنسان / الجوهر، الإنسان / السوبرمان، الإنسان / العقل، الذي يصنع حياته، ويطور نمط عيشه، ويضع قوانينه، ويستنبط أخلاقه وشريعته. في جملة، الإنسان الذي هو المبدأ والمعاد.
    ثالثها: الرؤية “الطليعية” التجريبية التي لا تؤمن بالمثال السابق، ولا تؤمن بالثبات أو الرجوع أو النظر إلى أصل، أو نموذج، أو مبدأ، أو اعتقاد له وجود قبلي، إنما الأمر تغيير، وتجاوز، وهدم، ونقض مستمر.
    —————————— ————–
    (1) _ (الإسلام، الغرب وحوار المستقبل) 47.
    (2) _ (لسان العرب) / مادة “حدث”.
    (3) _ (الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة) / خضر عريف، نقلا عن: (الحداثة: مفهومها، نشأتها، روادها) مسعد محمد زياد / مقالة منشورة على شبكة الأنترنيت.
    (4) _ (الموديرنيزم وصناعة الشعر) 85.
    (5) _ , edition, 1984, p 1212 Petit robert 1 نقلا عن: (المودرنيزم وصناعة الشعر) 86.
    (6) _ (الحداثة في الأدب المعاصر _ هل انفض سامرها) محمد مصطفى هدارة / مجلة الحرس الوطني / ربيع الآخر 1410 هـ.
    (7) _ (الحداثة المنفصلة عن القيمة: الأخلاق والأزياء والرياضة) / عبد الوهاب المسيري / مقالة منشورة على شبكة الأنترنيت.
    (8) _ (في مفهوم الحداثة) / د شلتاع عبود / (الأدب الإسلامي) / ع: 33 / 1423 هـ – 2002 م/ ص: 54 _ 55.
    (9) _ (الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة) 6.
    (10) _ (المودرنيزم وصناعة الشعر) 203.

    (11) _ (الإسلام، الغرب وحوار المستقبل) 31
    (12) _ (المودرنيزم وصناعة الشعر) 211.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: من أجل حداثة أدبية إسلامية

    من أجل حداثة أدبية إسلامية 2/3





    د. خالد ناصر الدين



    _ الحداثية الأدبية لماذا؟


    صحيح أن أوجه الحداثية متعددة ومختلفة، وصحيح أيضا أنها طالت كل جوانب الحياة بدءا بنظام الحكم وانتهاء بأدق خصوصيات حياة الإنسان، غير أنها تبقى في كل الأحوال مشتقة من منبع فكري وحضاري واحد، فتكون علاقتها بهذا المنبع أشبه ما تكون بعلاقة فروع الشجرة بالجذع الذي يلم شمل هذه الفروع، بل بالمنبت الذي فيه نبتت، ومنه انبثقت، لذلك لا نستغرب وجود بصمات اللائكية واللادينية والعقلانية والرؤية التجريبية حاضرة بشكل أو بآخر في كل ثمار الحداثية الغربية أدبا وعلما وتكنولوجيا وفكرا وفلسفة & ورغم تكامل وتداخل كل هذه “التمظهرات”، فإنني أعتبر أن الحداثية الأدبية تكتسي أهمية خاصة ومتميزة، لأنها مسؤولة أكبر من غيرها على تصوير أعمق خلجات وأصدق مشاعر وأحاسيس الإنسان، كما أنها قادرة على التقاط أدق تفاصيل حياة المرء في كل الفضاءات الاجتماعية التي تجمعه بالآخرين سواء داخل الأسرة، أو في ميدان عمله، كما أنها تتجاوز الواقع المدرك بالحواس لتسبح في عالم الخيال، فتستطيع بهذه القدرة التخيّلية تجاوز ما هو كائن، والدعوة إلى ما تعتبره الأفضل والأحسن، وغير خاف أنها تحتوي البعد الفكري _ الفلسفي وتتجاوزه، لأن كل المدارس والاتجاهات الأدبية إنما تكون في نهاية المطاف تعبيرا عن فلسفات واتجاهات فكرية وفلسفية معينة.

    ويكتسب الحديث عن “الحداثة الأدبية الإسلامية ” مشروعيته انطلاقا مما يصطلح الدكتور طه عبد الرحمن على تسميته بآليات
    ”التنسيب” و”التعديد” و”التمكين”(2)، ذلك أن الأولى تقتضي أن تكون لكل أمة الحداثة التي تنسب إليها نسبة، فللغرب حداثته الخاصة به المنبثقة من معطياته الحضارية، والمنسجمة مع خصوصياته الفكرية والعقدية والشعورية والاجتماعية … من ثمة يجب أن تكون لأمة الإسلام حداثتها المناسبة لخصوصياتها العقدية والثقافية والحضارية والفكرية … والثانية تسمح بالحديث عن “حداثات” متعددة لا عن حداثة واحدة، ومن شأن ذلك أن نصير أمام حداثة أولى وثانية وثالثة … وهكذا دواليك ” إذا وجد [الإنسان العربي المسلم] أن الحداثة الأولى فشلت، يمكن أن يبدع حداثة جديدة، ليست من صلب الحداثة ذاتها، أما الثالثة فتفترض أن تكون الحداثة أمرا ” ممكنا ” لا ” قدرا منزلا “، ذلك أنه إذا حدث أن تكلم المفكر العربي عن أمر ” الحداثة “، مثلا، فإنه “ليس من الضروري أن يأتي حديثه عنها على الوجه الذي أتي به عند المنقول عنه [الغرب]، فيجوز أن يستحدث بصددها قيما ومعاني توجه خروجنا من التخلف من غير أن تكون هذه القيم والمعاني هي التي أخرجت الغرب إلى الحداثة، ولا أن يكون معمولا بها في مجتمعاتهم”، ولأن الأمة الإسلامية تختلف منطلقا ومسارا وأهدافا وغايات عن الغرب، وجب أن تكون لنا حداثتنا الأدبية الخاصة بنا، حداثية تراعي خصوصيات الإسلام لا باعتباره عقيدة تهم علاقة الفرد بربه فقط كما هو الشأن بالنسبة للمسيحية الكنسية، بل باعتباره دستورا كاملا متكاملا، وباعتباره مشروعا أحاط بكل جوانب حياة الفرد منذ ما قبل الميلاد إلى ما بعد الوفاة، حياة برزخية وبعثا وحشرا وحسابا وعقابا أو جزاء … مرورا بمحطات النمو المختلفة طفولة فشبابا فكهولة فشيخوخة، كما أنه قدم تصوره السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمع الذي ينشده … فشكل بذلك خطابا شاملا متكاملا ومتوازنا، ومراعيا لأدق خصوصيات المرء باعتباره عبدا مؤتمنا ومسؤولا أمام الله عز وجل.


    وفي ظل واقع التبعية والتخلف العلمي والتكنولوجي الذي تعيشه أمة الإسلام اليوم، بحيث إنها تكتفي باستهلاك ما ينتجه الغرب، مما حولها إلى أسواق استهلاكية واسعة، فإن مسؤولية تصحيح المسار، وإيقاظ الضمير المسلم، وإعادة الثقة في قيم الإسلام وثوابته مسؤولية لن يتحملها إلا الغُرّ المحجّلون أصحاب الأيادي المتوضئة ممن آمنوا بدور الكلمة المضيئة الطاهرة التقية الورعة في التغيير، إنهم رجال الأدب، الذين سيعزفون على وتر البعد الجمالي، مادامت ظروف اللحظة الحضارية الحرجة التي تعيشها الأمة لا تسمح لها بفرض ذاتها على مستوى البعد الجلالي.

    من أين سنبدأ إذا؟ من كشف حقيقة الحداثيين من أبناء جلدتنا الذين سخروا أنفسهم للدفاع عن الغرب، فشككوا في ثوابت الأمة وقيمها، وتهجموا على المقدسات، وسخروا منها؟ أم سنبدأ من حيث يجب أن نبدأ، ندعوهم للنبش في مصادر ومنابع الحداثية الغربية (تاريخا، وفكرا، وثقافة، وحضارة) لعلهم يرجعون عن غيهم وضلالهم، ويغيرون نظّارات الإعجاب التي يرتدونها وهم يقرؤون لأساتذتهم الغربيين؟ أم سنصحح المفاهيم، ونوضح الفروق العميقة بين الغرب وبين الإسلام؟ أم سنكون مضطرين لنعيش ثلاثة عشر سنة من الدعوة إلى نفس ما دعا إليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”؟ هل أصبح الناس يفهمون معنى ” لا إله إلا الله ” كما كان يفهمها أبو جهل وأبو لهب والوليد بن المغيرة، أم أننا أصبحنا غرباء عن اللغة العربية وصرنا أمام أجيال تردد كلاما لا تفهم منه شيئا؟ مهام صعبة، ثقيلة، تنتظر الصادقين من رجال الدعوة، ممن اختار جهاد الكلمة السابحة في بحر الأدب ليكون من الغرباء الذين استحقوا ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم: ” طوبى للغرباء ” …

    نعم ” طوبى للغرباء ” …

    طوبى لمن عضّ على الحق بنواجذه، لم تنل من يقينه الأغلفة الملونة، ولا الكلمات الرنانة، ولا الحفلات الصاخبة، ولا مؤتمرات توزيع جوائز نوبل …

    طوبى لمن ظل متشبثا بقرآن ربه، وبسنة نبيه، ولم يحفل بجعجعة “المجعجعين”، ولا بكلام المستهترين، ولا بغمزات الساخرين المستهترين … طوبى لهم وحسن مآب…!!

    4 _ أسس ومرتكزات الحداثة الأدبية الإسلامية:

    إن توظيف مصطلح ” الحداثة ” يبقى أمرا مفروضا علينا، لأننا لم نَصُغْ بعد مفهوما نابعا من ذاتنا الحضارية والفكرية والتاريخية، ثم لأننا ملزمون بالتواصل مع المتغربين من بني جلدتنا ومع الآخر، انطلاقا من كون هذا الآخر وصل في إطار صيرورته التاريخية والحضارية إلى مرحلة الحداثة، بل إنه تجاوزها وأصبح يعيش مرحلة ما بعد الحداثة التي بدأت في الخمسينات أو منذ الثلاثينيات من القرن العشرين ” ويبدو أن هذا يتزامن مع انتقال المجتمع الغربي من تقنية الصناعات الثقيلة إلى الصناعات الدقيقة، أي انتقاله من مجتمع الحداثة إلى مجتمع ما بعد الحداثة في حالة التفريق بين المصطلحين. “(1) .

    غير أن توظيف المصطلح نفسه لا يعني بتاتا أن ندور في فلك الثقافة والحضارة الغربيتين، وأن ننسى خصوصياتنا العقدية والحضارية والفكرية والثقافية، لذلك فإنني أتصور أن حداثتنا الأدبية الإسلامية لابد أن تقوم على أسس ومرتكزات عدة:

    أ _ ” فاعلم أنه لا إله إلا الله “

    أولى القواعد وأهمها على الإطلاق توحيد الله عز وجل، لن يستحق إنتاجنا الأدبي صفة الإسلامية إن لم ينطلق من هذا المبدإ، وإن لم يقف في وجه الإنتاجات والتيارات الأدبية الهدامة القائمة على الوثنية الموروثة عن الأدب اليوناني والأدب الروماني … أدباؤنا ملزمون بتمثل معاني هذه العبارة شعرا ومسرحا وقصة ورواية … ملزمون أيضا بشرحها لأجيال غارقة في دنيا الفسق واللذة والهوى، أجيال وقفت رطانة اللغات الأعجمية سدا منيعا بينها وبين لغة القرآن، فلم تعد قادرة على فهم، بله تذوق، هذه اللغة المعجزة الجميلة …

    مطلوب من أدب الصحوة الإسلامية أن يجدد فهم ” لا إله إلا الله “، وأن يرسخها في قلوب الناشئة من أبناء المسلمين، وأن يستحضرها في كل وقت وحين، إذ عليه مدار الأمر كله، كان المسلمون “عندما يتلقونها بعباراتهم القرآنية الجليلة، يتفاعلون معها تفاعلا عجيبا، إذ يتحولون بسرعة، وبعمق كبير من بشر عاديين، مرتبطين بعلائق التراب، إلى خلائق سماوية تنافس الملائكة في السماء! وما هم إلا بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق! ولذلك حقق الله بهم المعجزات في الحضارة والتاريخ. “(2) … ما أشبه اليوم بالبارحة، حول الكعبة كان لكل قبيلة صنم، فبلغ عدد الأصنام ثلاثمائة وستين صنما… أما اليوم فقد تضاعف عدد الأصنام، تغيرت الأسماء والأشكال والألوان، ولكن الجوهر لم يتغير: ضلال وتيه وغفلة عن ذكر الله…

    ب _ ” يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك “

    الإبداع الأدبي في المنظور الإسلامي ليس ترفا، ينتجه من يشاء كيفما اتُّفق ويتوجه به إلى جمهور المتلقين للتسلية وتزجية الوقت، بل هو رسالة نبيلة سامية، أشبه ما تكون برسائل الأنبياء عليهم السلام، بل إنها امتداد لتلكم الرسائل، واستمرار لها…

    لن يستحق أدب الصحوة الإسلامية صفة ” الحداثية ” إلا إذا اقتفى أثر الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا إذا سار أصحابه في موكب المجددين الذين ” يبعثهم ” الله تعالى على رأس كل مائة سنة لتجديد أمر الدين… رسالة الأدب الحق أن يفتح الآذان الصم لسماع الآذان في كل لحظة يذكرها في كل وقت وحين بضرورة تجديد العهد مع رب السماء والأرض وما بينهما، أن يزيح الغبش عن العيون العمي لكي تتأمل خلق الله المذهل المعجز … أن يصقل القلوب التي اسودّت من كثرة الذنوب والمعاصي والغفلة عن الله تعالى، فيدعوها للاغتسال بمياه الاستغفار والتوبة والإنابة والأوبة … رسالة الأدب هي التبليغ عن الله وعن رسوله الأكرم صلى اله عليه وسلم…

    قال الله عز وجل: “هذا بلاغ للناس ” ( إبراهيم/ 54 ).

    قال الله عز وجل: “بلاغ، فهل يهلك إلا القوم الفاسقون” (الأحقاف/ 34).

    وقال: ” وما علينا إلا البلاغ المبين” ( يس/ 16 ).

    وقال: ” فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ” (الرعد/41 ).

    وقال: ” أبلغكم رسالات ربي ” (الأعراف/61 ).

    حملة الأقلام المبدعة ملزمون بالبلاغ عن الله عز وجل وعن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين، إنقاذا لمن سقط منهم في مستنقع الأهواء والغوايات والضلالات
    …وتحذيرا للآخرين من مغبة الانخداع بالأضواء البراقة الخادعة التي تخفي الكثير من البشاعة والفسق والضياع والفجور ….حملة الأقلام ملزمون بتبليغ الرسالة، رسالة طاعة الله عز وجل، تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، السعي الحثيث لنيل رضاه ودخول جنته والنظر إلى وجهه الكريم، ملزمون بتذكير الإنسان في كل وقت وأوان بالموت وسكراته، بالقبر وظلماته، بالحشر وأهواله، بالصراط وشداته… مواضيع يعتبرها الأديب الحداثي اللائكي الليبرالي ظلاما وخرابا ومضيعة للوقت، ويعتبرها الحداثي الشيوعي هروبا سلبيا من الواقع، ويربأ بها السلفي المتشدد عن أن تُتَنَاوَلَ في قالب أدبي شعرا أو سردا أو مسرحا … إنه ” لا خير في أدب يجول في عرْصة الدنيا وعُرْسها يداعب أهواء الناس وتداعبه، يثير مشاعر الناس وتثيره، يؤجج مشاعر الناس وتؤججه غافلا مغفلا عن المآل، عاجزا مثبطا لعزمات الرجال. ” (1) ، بل لا خير فيه إن هو لم يزايل الآداب الدوابية السادرة في دنيا الغفلة والإعراض عن الله عز وجل، المتمسكة بفتات الحياة الدنيا وزينتها، الغارقة في دنيا الشهوة واللذة والهوى… الأديب الإسلامي ملزم بأن “يبلغ الإنسان ببلاغ القرآن، ولغة القرآن، وبيان النبوة، بشارة أن الإنسان مخلوق لغاية، ميت غدا، مبعوث محاسب مجازى في يوم لا ريب فيه”(2)


    ج _(الرحمن، علّم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان)

    يصعب وصف القرآن الكريم بأنه “إبداع أدبي”، كما يستحيل إخضاعه لمناهج النقد البشري النسبية القاصرة، غير أنه يبقى بالنسبة للأديب الإسلامي القدوة والمثل الأعلى… ولما كان هذا القرآن من الوضوح والبيان بحيث كان كفار قريش يتهيبون من سماعه، لأنه أُنْزِلَ بلغتهم، فكان يهز الواحد منهم من الأعماق، ليغير في لحظات نظرته لنفسه وللآخرين وللكون أجمع، وجب أن يكون أدب الحداثية الإسلامية واضحا بينا، مؤهلا للوصول إلى قلوب الناس وعقولهم على السواء، متجنبا ما وقعت فيه الإبداعات اللاهثة وراء سراب الحداثة الغربية من غموض وإبهام تجد مبرراتها في مختلف الفلسفات (الرومانسية والرمزية والدادية والسريالية) التي تشكل بالنسبة لها الأصل والمرجع …





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: من أجل حداثة أدبية إسلامية



    من أجل حداثة أدبية إسلامية 3/3






    بقلم: د. خالد ناصر الدين


    حري جدا بأدباء الحداثية الإسلامية، أن يستحضروا ما فعله القرآن الكريم بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعدما سمع أخته فاطمة تقرأ سورة “طه”، وما فعله بالوليد بن المغيرة الذي “فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يوثر، إن هذا إلا قول بشر…”، وما فعله بغيرهما… إنه البيان المعجز… كذلك يجب أن يكون أدب الصحوة الإسلامية، واضحا، بينا، ممتلكا كل المؤهلات الفنية التواصلية التي تخول له الدخول إلى قلوب الناس وعقولهم من غير استئذان…

    د _ ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا، وقولوا انظرنا، واسمعوا وللكافرين عذاب أليم… )

    يجب أن يكون لأدب الصحوة الإسلامية معجمه الخاص به، المستمد من ينابيعه الربانية الصافية: القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا ما يجد تأصيله الشرعي من خلال الآية الكريمة، فالمقصود بالخطاب أنتم أيها المؤمنون: شعراء، وروائيون، ومسرحيون .. “لا تقولوا “… و “قولوا” … إنه نهي صريح عن التشبه بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك “أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله، فإن أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: ( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون سمعنا وعصينا، واسمع غير مسمع، وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين، ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا )، وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بوعليكم، وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا… “(1) ، ومن الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “لا تقولوا للعنب الكرم ، ولكن قولوا الجَبَلة، ولا تقولوا عبدي، ولكن قولوا فتاي”. وفيه دليل قوي على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على انتقاء الألفاظ والمصطلحات التي ينبغي أن يوظفها الإنسان المسلم العادي، فما بالك إذا كان أديبا ممثلا لأمته، مسؤولا عن التعبير عن هويتها، مُسْتَأمنا على ثوابتها ومقدساتها، وأعتقد أن هذا الأمر من الأهمية بمكان خاصة في اللحظة التاريخية الحرجة التي تعيشها الأمة وقد أجلب عليها الغرب الحاقد بخيله ورجله، مُمَارِسا عليها أشرس أشكال التدمير العسكري، ومختلف أنواع التشويه والإفساد الثقافي من استتباع وتخريب وتنميط وتلبيس(2)، ذلك أن حرب المصطلحات والمفاهيم لا تقل خطورة عن المعارك العسكرية اليومية التي صارت الأرض الإسلامية مسرحا لها في إطار النظام الدولي الجديد الذي يسعى جاهدا لأمركة كل شعوب العالم ، خاصة تلك التي أبدت رفضها لفكره الاثنيني ولوقاحة إنكاره.



    ج _ ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )

    يحلو لحداثيينا المتغربيين أن يطلقوا العنان لأقلامهم تكتب ما تشاء من الألفاظ والعبارات الفاحشة الساقطة، كما يحلو لهم أن يركزوا على اللقطات الفاضحة المكشوفة الإباحية وهم يتحدثون عن “المرأة”، ويحلو لهم أن يقتحموا قارة المحرمات أو “الطابوهات” كما يسمونها في أدبياتهم، بجرأة تثير أكثر من تساؤل، وتفترض أكثر من وقفة!! هكذا صار إطلاق الكلام على عواهنه، وكيفما اتفق أمرا مستحبا ومطلوبا، كما صار جسد المرأة مستباحا بشكل غريب في الأدب الحداثي، و صار تجريح المقدسات ( الأنبياء، المعتقدات، الشعائر الدينية… ) عنوان العقلانية والتجريبية التي تعتبر أهم أسس حركة “الحداثية” عموما…

    التصور الإسلامي للأدب، يفترض أن يكون الأديب المبدع مسؤولا عن كل كلمة يكتبها، وينشرها بين الناس، مسؤول مسؤولية كبرى لأنه سيسأل ذات يوم عندما سيقف بين يدي علام الغيوب، الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس له به نفسه، سيسأل لأنه عز وجل “ما يلفظ من قول إلى لديه رقيب عتيد”… الحداثية الإسلامية تقتبس من القرآن الكريم جلال اللفظ، وسحر التركيب، وعظمة البناء، وإعجاز الصياغة وقدسية العبارة، التصور الإسلامي لا يقصي الرغبات الجنسية، بل يعتبرها أمرا فطريا طبيعيا، لذلك فإنه يدعو إلى تنظيم العلاقات الجنسية إكراما للرجل وللمرأة على السواء، وارتفاعا بهما من حضيض البهيمية الدوابية. كما أنه لا يمنع من التعبير عن تلك الرغبات وتلك الميولات، بل إنه يعطي أروع النماذج التعبيرية وهو يتحدث عن أدق وأعمق الخلجات والمشاعر الإنسانية، فنحن نقرأ قصة يوسف عليه السلام، وهي قصة مدارها على الرغبة الجنسية الجامحة، دون أن نجد في السورة بكاملها ما يخدش الحياء، أو يثير التقزز والاشمئزاز، أو ينبو عن الفطرة الأصيلة، أو يعارض الذوق السليم، هذه لقطات من أحرج اللحظات التي عاشها يوسف الصديق عليه السلام: ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب، وقالت هيت لك، قال معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين، واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب، قالت ما جزاء ما أراد بأهلك سوءا، إلا أن يسجن أو عذاب أليم، قال هي راودتني عن نفسي، وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دُبُر فكذبت وهو من الصادقين”، “وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، قد شغفها حبا، إنا لنراها في ضلال مبين، فلما سمعت بمكرهن، أرسلت إليهن، وأعتدت لهن متكأ، وآتت كل واحدة منهن سكينا، وقالت اخرج عليهن، فلما رأينه، أكبرنه، وقطعن أيديهن، وقلن حاشا لله ما هذا بشرا، ما هذا إلا ملك كريم، قالت فذلكن الذي لمتنني فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوننا من الصاغرين”، هكذا جمعت الآيات بين الجمال والجلال والقدسية والسحر والإعجاز والجاذبية والكمال في قالب واحد… أو يحق لنا بعد كل هذا أن نتهم التصور الإسلامي بأنه يعتبر التعبير عن الحاجات الطبيعية والرغبات الفطرية من المحرمات؟~! أو يحق لنا أن نبحث عن بديل نستقي منه ألفاظنا وتراكيبنا وصورنا وأفكارنا؟ المشكل يكمن في ضرورة استعادة الثقة في ثوابت الأمة، هذه الثقة هي التي ضاعت منا، أو بالأحرى أضاعوها منا… لابد من استعادتها إذا.

    هـ _ “ألم ذلك الكتاب، لا ريب، فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة…”

    تقرأ مئات الصفحات مما يكتبه أدباء الحداثة: روايات، قصص، دواوين شعرية، مسرحيات… لا تكاد تجد ولو إشارة عابرة لعالم “الغيب”، بكل ما يحيل عليه من: ملائكة، وجن، وحياة برزخية، وبعث، وحشر، وحساب، وعقاب، وجزاء، وجنة، ونار… خجل يعتري الأديب “المسلم” وهو يتحدث عن هذا العالم، خجل ممزوج بخوف من أن يتهم ب “الظلامية” و “الرجعية” ، أمؤمن هو بذاك العلم أم غير مؤمن؟ إن كنتَ مؤمنا فقدم عربون إيمانك، وإن كنتَ شاكا حائرا، فاقرأ ما أنزله الله لعلك تخرج من حيرتك، وتتخلص من شكك، وغيك وضلالك…

    لقد أصبح الإنسان في منظور الحداثة الأدبية الداروينية دابة تولد، وتعيش، ثم تموت، وينتهي الأمر… أصبح “دهريا” في طبعة جديدة “وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر” الجاثية/24 … كافرا بكل ما غاب عن بصره “ق والقرآن المجيد، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، فقال الكافرون هذا شيء عجيب، أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما ذلك رجع بعيد”، مستغربا، ومستبعدا هذا الأمر الغريب: أمر البعث “يقولون أئنا لمردودون في الحافرة إذا كنّا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة” النازعات/10 _ 11 _ 12، موقنا أن عظامه ستتحول إلى تراب لتنتهي الرحلة بسلام : “أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوي بنانه” القيامة 3 _ 4، لم يكلف هذا الإنسان نفسه عناء السؤال عن الأسئلة المحرجة: من الخالق؟ ولم خلقت؟ وماذا بعد الموت؟!! إذ لم يعد له متسع من الوقت للتفكير في ذلك وهو يعيش في “قرية صغيرة” قوامها السرعة الخارقة المذهلة في كل شيء: الطعام الفوري ” instant food”، والقهوة النسكافية “instant coffee” ، وعشاء التلفزيون “t .v dinner” والجنس العرضي “casual sex” والجنس الفوري “instant

    sex”(1)…

    مطلوب من أدباء الصحوة الإسلامية أن يعيدوا القسم بما أقسم به رب السماوات والأرض بأن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، مطلوب منهم أن يقسموا ب” الذاريات، والحاملات، والجاريات، والمقسمات، والطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، والحاقة، وبيوم القيامة، والنفس اللوامة، والمرسلات، والعاصفات، والناشرات، والفارقات، والملقيات، والنازعات، والناشطات، والسابحات، والسابقات، والمدبرات…”، ستختلف صيغ القسم وأشكاله يقينا، ولكن الهدف واحد، أن يوقن هذا الإنسان أنه لم يخلق عبثا، وأنه مسؤول ومؤتمن… وأن يتذكر حداثييونا أن ما يشيع في الإبداع الحداثي الغربي نابع من تصورهم للحياة الدنيا، مستمد من فلسفاتهم المادية الملحدة، الضالة، الشاكة في كل شيء ( ديكارت، كانط، نيتشه، داروين… )… لهم دينهم، ولنا دين…!!



    ز _ “ولا تطع الكافرين، وجاهدهم به جهادا كبيرا” الفرقان: 52

    أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد الكافرين بالقرآن الكريم جهادا كبيرا، رسالة “القرآن الكريم” إذا هي الجهاد وهي الرسالة نفسها التي يجد الأديب المسلم نفسه ملزما بتبليغها وبالالتزام بها، ومعلوم أن من المعاني اللغوية لكلمة “الجهاد” : الجد والتعب، وبذل الوسع، والطاقة والاستطاعة… وهي المعاني التي يجب أن تشكل هواجس تسكن الأديب الإسلامي وهو ينظم قصيدة، أو يكتب قصة أو رواية أو مسرحية أو خاطرة…

    وإذا استحضرنا أن الآية الكريمة مكية حيث لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجهاد السيف بعد، أدركنا أن المقصود بالجهاد جهاد الحجة والبيان والإعجاز، وهو الجهاد الذي يتحقق بالقرآن الكريم، وهو نفسه الجهاد المطلوب تمثله وتحقيقه من طرف الأدباء الإسلاميين في زمن العولمة، حيث تعمل الأقلام الآثمة المأجورة ليل نهار لنشر ثقافة التشكيك في الثوابت والاستخفاف بالمقدسات باسم حرية التعبير تارة، وباسم الإبداع الفني تارة أخرى. وقد بلغت هذه الحملة المسعورة على رموز الإسلام ومقدساته حدا لا يتصور بحيث طالت رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، كما طالت القرآن الكريم، وهذا ما يستوجب شحذ الطاقات وبذل الجهود من أجل محاجة هؤلاء المتهجمين الحاقدين، ومن أجل تصحيح تصوراتهم عن الإسلام عقيدةً وشريعةً ومبادئاً وتاريخاً ومنهاج حياة….

    ح _ “أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم، فأعرض عنهم، وعظهم، وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا” النساء: 62

    الأدب الإسلامي ملزم بأن يكون وسيلة من وسائل التربية بمفهومها الرباني الشامل، تربية تربط العبد بخالقه ربطا مستمرا بحيث يستحضره في كل وقت، وفي كل أوان، ليقينه المطلق بأنه أقرب إليه من حبل الوريد. ولن تتحقق هذه الغاية الشريفة إلا إذا كان الأديب المسلم على وعي تام بأن الكلمة مسؤولية كبرى، وأمانة عظيمة جسيمة “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا” ، كما أنها ليست مجرد أداة للتسلية وبضاعة للاستهلاك.

    “القول البليغ” هي مهمة الأديب المؤمن المؤتمن على رسالة “الدعوة إلى الله عز وجل”، تذكير مستمر بالهدف من خلق الإنسان “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، وبأن وجوده في هذه الحياة الدنيا مجرد ابتلاء “هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا”، وبأنه لم يُخْلق عبثا “أحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون”، وأنه لا بد من يوم عصيب قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: “لو أن رجلا خر على وجهه من يوم ولد، إلى يوم يموت في طاعة الله عز وجل لحقره ذلك اليوم” ، إنه يوم الحساب “يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته التي تؤويه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه”… الأدب البليغ إذا هو المبلغ عن رب السماوات والأرض، المذكر بحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة والموت والبعث والحشر والنشور والحساب… حقائق يخجل الأديب الحداثي المبتدئ من ذكرها، بينما يعتبرها المتغرب المتشبع بالثقافة الغربية أوهاما وأباطيل وخرافات… الأدب البليغ أيضا هو الأدب الرباني الذي يُبَشر ولا يُنَفر، يُيَسر ولا يُعَسر، يهيئ الآذان والقلوب لتلقي كلمات الحق والنور، ويفتح باستمرار أبواب الهداية والتوبة، بل يذكر بأنها مفتوحة باستمرار، وبأن الله عز وجل يحب التوابين ويحب المتطهرين… إنه الأدب الذي يجعل التربية نصب عينيه “تربية مبلغة قوية هادفة هاجمة تكنس من طريق أجيال الإيمان فلسفات خانقة حانقة مدمرة، غامرة بتيارها جارفة، تعلم أن الإنسان خزان غرائز، ومعدن شهوات، وشبكة نوابض، وآلة عجيبة للذة واقتناصها، تعلم الدهرية الشهوانية أن الإنسان دابة لها ذاكرة وواعية ومحمول وراثي كما يحمل الحمار أسفارا. ويتعزى شاعر عربي مسلم في مأتم شاعر عربي مسلم بأننا نحيى ونموت جميعا، وبأن عزاءنا الوحيد أننا سرعان ما ننسى الموت لنسبح في نهر الحياة، وبأن الشاعر منا ناي، يموت الناي ويخلد لحنه، وتغني نغمته جمال الحياة.”(1)

    _ خاتمة:

    إن التحدي الأول الذي يُطرح عند مناقشة موضوع “الحداثة” يتعلق بالإشكال الاصطلاحي أساسا، لذلك وجب الحسم في أمر ترجمة مصطلح “modernisme” ترجمة تراعي حمولته الحضارية والثقافية، وتأخذ بعين الاعتبار مرجعيته الفلسفية والفكرية، ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أؤيد الاقتراح الذي تبناه الأستاذ عبد العالي مجذوب الذي احتفظ بصورة المصطلح اللفظية والصوتية “موديرنيزم”، أو على الأقل دعا إلى ترجمة تراعي مرجعيته المذهبية والفكرية وهذا ما تناسبه صيغة المصدر الصناعي.

    ويكتسب الحديث عن “حداثية أدبية إسلامية” مشروعيته انطلاقا من حقائق متعددة:

    _ إن الغرب الاستعماري لم يكتف باحتلال الأرض، واستنزاف الثروات، بل سعى جاهدا إلى طمس هوية الأمة، وإلى التشكيك في ثوابتها، وقد كان الإبداع الأدبي وما يزال أحد أهم الأسلحة المدمرة الفتاكة التي تم اعتمادها، خاصة وقد تدخل بشكل قوي لتغيير برامج ومناهج التعليم، حيث رفع من قيمة لغاته ورموزه الثقافية والفكرية والأدبية، في حين همش كل المواد الدراسية التي تمس هوية الأمة في الصميم، وعلى رأسها المواد الإسلامية واللغة العربية، ولذلك وجب أن يكون السلاح المعتمد في الدفاع، هو نفسه السلاح الذي اعتمد في الهجوم.

    _ إن للإبداع الأدبي قدرة خارقة ومتميزة على مخاطبة أدق وأخص خصوصيات الإنسان، بحكم ما يميزه من نزعة تخييلية تتجاوز ما هو كائن، إلى ما يتصوره الأديب بأنه ما يجب أن يكون، وعندما يطلق الأديب العنان لخياله، فإنه يتجاوز الواقع الذي يعيشه بنقائصه وعيوبه وأخطائه، فيبني عالما خياليا يستمد مقوماته وعناصر وجوده من الخلفية الفلسفية والمرجعية الفكرية التي ينطلق منها، ولأن الأدب يخاطب القلوب قبل العقول، ويمتلك كل آليات التأثير على النفوس، فإن تأثيره يكون عميقا وقويا، خاصة عندما يستطيع الأديب وضع يده على مواطن الخلل ومواطن الداء، ويستطيع بحسه المرهف، وبذوقه المبدع رصد حاجيات مجتمعه الذي يعيش فيه. ومادام الأدب الحداثي قد عاث فسادا في ذوق الأمة وفي هويتها، وفي كل ثوابتها ومقدساتها، فإن أدب الحداثية الإسلامية ملزم بالتصدي له ولرموزه، بإعادة الاعتبار لكل مقومات الأمة عقيدة وتاريخا وحضارة وثقافة.

    _ إن الهزيمة التي تعيشها الأمة على مستوى البعد الجلالي متمثلا في الصناعة والتكنولوجيا وأبحاث الفضاء وغيرها، يفرض عليها إيلاء كل اهتمامها للبعد الجمالي متمثلا في الإبداع الأدبي شعرا وسردا ومسرحا… ولعلها بهذا البعد تستطيع إعادة الثقة في ثوابتها، كما تستطيع التذكير بخصوصياتها المميزة لها عقيدة وتاريخا وثقافة وحضارة، خاصة وأنها أصبحت تعيش في زمن غربي معولم يسعى جاهدا لنفي الثوابت والخصوصيات، ولإلغاء الحدود والفروق، تكريسا للهيمنة الغربية التي تعتبر نفسها محورا وما عداها مجرد هامش، كما تعتبر نفسها أصلا وما عداها مجرد فروع…


    إن مشروع الحداثية الأدبية الإسلامية ينطلق من هذا المعطى، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، لذلك فإنه لا يتورع عن توظيف ومراعاة ثوابت الثقافة والحضارة الإسلاميتين، متمثلة في “القرآن الكريم” و”السنة النبوية الشريفة”، انطلاقا من حقيقة مفادها أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها، ومن أننا كنا “قوما أذلة، فأعزنا الله بالإسلام، فإذا أردنا العزة في غير ما أنزله الله، أذلنا الله” كما قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
    منقول بتصرف



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •