تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: موقعة أُحُد.. حيث في الهزيمة دروس وعبر

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي موقعة أُحُد.. حيث في الهزيمة دروس وعبر

    موقعة أُحُد.. حيث في الهزيمة دروس وعبر
    أحمد الشجاع


    من سنن الله الشرعية وكذلك الكونية أن يمر الناس بحالات القوة والضعف والنصر والهزيمة والسعادة والشقاء والفرح والترح.. وغيرها من الظروف التي يمر بها الإنسان..
    وبحسب ما يمارسه الإنسان من سلوك في حياته تتحدد نوعية الحالة التي يمر بها ومقدار ما يناله منها..
    وقد وضع الله تعالى شرائع للناس تربطهم بخالقهم وتنير لهم طريق الفلاح والسعادة وأنزل رسله وأنبياءه لهذا الهدف..
    فأصبح الشرع هو الأساس والمصدر الوحيد لضبط سلوك الإنسان وتصحيح مسار حياته.. ووضع لذلك القواعد التي على إنجاح هذا الأمر..
    وهذا ما جاء به الإسلام؛ ومن هنا أصبح المسلم يتميز عن غيره بتعاليم الدين الصحيح من خلال النص الشرعي وما ترتبط به من أحداث ووقائع جعل الشرع منها وسائل لفهم مقاصده.
    ومن تلك الأحداث معركتي (بدر) و(أحد) بما فيهما من معاني ودلالات أراد الشرع أن تكون مرجعاً للأمة الإسلامية في فهم حقيقة النصر والهزيمة.
    وقد تحدثنا في تقرير سابق عن الدلالات التي جاءت بها معركة بدر وكلها كانت حول النصر: لماذا وكيف؟.. وفي هذا التقرير نستعرض ما جاءت به معركة أحد من دلالات أدت إلى هزيمة المسلمين أمام أعدائهم؛ لتكتمل بذلك الصورة بحالتيها المتناقضتين.
    وقائع المعركة:
    لما قتل الله أشراف قريش ببدر وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها، وترأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم، وجاء إلى أطراف المدينة في غزوة (السويق) ولم ينل ما في نفسه؛ أخذ يؤلب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين ويجمع الجموع. فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم؛ لئلا يفروا وليحاموا عنهن.
    ثم أقبل بهم نحو المدينة فنزل قريباً من جبل أحد بمكان يقال له (عينين) وذلك في شوال من السنة الثالثة واستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟، وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي وكان هو الرأي، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر وأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك. وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة وتابعه على ذلك بعض الصحابة فألح أولئك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك وقالوا: أكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج، فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه].
    فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف من الصحابة واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، وكان رسول الله رأى رؤيا - وهو بالمدينة - رأى أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقراً تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة؛ فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
    فخرج يوم الجمعة فلما صار بالشوط بين المدينة وأُحد رجع عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر، وقال: تخالفني وتسمع من غيري، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم وسبهم، وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى.
    ونفذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم. فلما أصبح يوم السبت تعبأ للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبد الله بن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم وألا يفارقوه ولو رأى الطير تتخطف العسكر، وكانوا خلف الجيش، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.
    فظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين درعين يومئذ وأعطى اللواء مصعب بن عمير، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو. واستعرض الشباب يومئذ فرد من استصغره عن القتال، وكان منهم عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزم.
    وأجاز من رآه مطيقاً وكان منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل: أجاز من أجاز لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ورد من رد لصغره عن سن البلوغ، وقالت طائفة: إنما أجاز من أجاز لإطاقته ورد من رد لعدم إطاقته، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك، قالوا: وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر: فلما رآني مطيقا أجازني.
    وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل. ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب.
    وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق واسمه عبد عمرو بن صيفي، وكان يسمى (الراهب) فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – (الفاسق)، وكان رأس الأوس في الجاهلية فلما جاء الإسلام أعرض عنه وجاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعداوة.
    فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحضهم على قتاله ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه، فكان أول من لقي المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم، فقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً، وكان شعار المسلمين يومئذ (أمت).
    وأبلى يومئذ أبو دجانة الأنصاري وطلحة بن عبيد الله وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وأنس بن النضر وسعد بن الربيع.
    وكانت الدُوُلة أول النهار للمسلمين على الكفار فانهزم عدو الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه، وقالوا: يا قوم الغنيمة، فذكرهم أميرُهم عهدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة فذهبوا في طلب الغنيمة وأخلو الثغر، وكر فرسان المشركين فوجدوا الثغر خالياً قد خلا من الرماة فجازوا منه وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة وهم سبعون.
    وتولى الصحابة وخلص المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته اليمنى وكانت السفلى وهشموا البيضة على رأسه، ورموه بالحجارة حتى وقع لشقه وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وكان الذي تولى أذاه - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص، وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهري عم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري هو الذي شجه. وقتل مصعب بن عمير بين يديه فدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح، وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه وامتص مالك بن سنان - والد أبي سعيد الخدري - الدم من وجنته وأدركه المشركون يريدون ما الله حائل بينهم وبينه فحال دونه نفر من المسلمين نحو عشرة حتى قتلوا ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، وترس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردها عليه بيده وكانت أصح عينيه وأحسنهما. وصرخ الشيطان بأعلى صوته: إن محمداً قد قتل؛ ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وفر أكثرهم وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
    ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟، فقالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟، قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثم استقبل الناس ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد. فقاتل حتى قتل ووجد به سبعون ضربة. وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحواً من عشرين جراحة.
    وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو المسلمين، وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار إليه أن اسكت واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم، فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بن خلف على جواد له يقال له (العوذ) زعم عدو الله أنه يقتل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما اقترب منه تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها فجاءت في ترقوته فكر عدو الله منهزماً، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون.
    وكان يعلف فرسه بمكة ويقول: أقتل عليه محمداً، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: [بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى]، فلما طعنه تذكر عدو الله قوله: أنا قاتله، فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح، فمات منه في طريقه إلى مكة.
    وجاء علي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماء ليشرب منه فوجده آجناً فرده وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلو صخرة هنالك فلم يستطع لما به فجلس طلحة تحته حتى صعدها وحانت الصلاة فصلى بهم جالساً وصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم تحت لواء الأنصار.
    وشد حنظلة الغسيل وهو حنظلة بن أبي عامر على أبي سفيان فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد بن الأسود فقتله وكان جنباً؛ فإنه سمع الصيحة وهو على امرأته فقام من فوره إلى الجهاد فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن الملائكة تغسله. ثم قال: [سلوا أهله ما شأنه؟]، فسألوا امرأته فأخبرتهم الخبر. وجعل الفقهاء هذا حجة أن الشهيد إذا قتل جنباً يغسل اقتداء بالملائكة.
    وقتل المسلمون حامل لواء المشركين فرفعته لهم عمرة بنت علقمة الحارثية حتى اجتمعوا إليه وقاتلت أم عمارة، وهي نسيبة بنت كعب المازنية، قتالاً شديداً، وضربت عمرو بن قمئة بالسيف ضربات فوقته درعان كانتا عليه وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحاً شديداً على عاتقها.
    وكان عمرو بن ثابت المعروف بالأصيرم من بني عبد الأشهل يأبى الإسلام فلما كان يوم أحد قذف الله الإسلام في قلبه للحسنى التي سبقت له منه، فأسلم وأخذ سيفه ولحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقاتل فأثبت بالجراح، ولم يعلم أحد بأمره، فلما انجلت الحرب طاف بنو عبد الأشهل في القتلى يلتمسون قتلاهم، فوجدوا الأصيرم وبه رمق يسير، فقالوا: والله إن هذا الأصيرم ما جاء به لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه ما الذي جاء بك؟، أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟، فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله ثم قاتلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: [هو من أهل الجنة]، قال أبو هريرة: ولم يصل لله صلاة قط.
    ولما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد؟ـ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟، فلم يجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟، فلم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قوام الإسلام بهم.
    فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوءك. فقال: قد كان في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ثم قال: أُعلُ هبل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [ألا تجيبونه؟]، فقالوا: ما نقول؟، قال: [ قولوا: الله أعلى وأجل]. ثم قال سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، قال رسول الله: [ألا تجيبونه؟]، قالوا: ما نقول؟، قال: [قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم].
    فأمرهم بجوابه عند افتخار أبي سفيان بآلهته وبشركه تعظيماً للتوحيد وإعلاماً بعزة من عبده المسلمون وقوة جانبه، وأنه لا يغلب ونحن حزبه وجنده، ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟. بل قد روي أنه نهاهم عن إجابته وقال: لا تجيبوه؛ لأن كلمهم لم يكن برد بعد في طلب القوم ونار غيظهم بعد متوقدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، حمى عمر بن الخطاب واشتد غضبه، وقال: كذبت يا عدو الله. فكان في هذا الإعلام من الإذلال والشجاعة وعدم الجبن والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم، وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم، وقد أبقى الله لهم ما يسوؤهم منهم. وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة بعد ظنه وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة وغيظ العدو وحزبه والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحداً واحداَ؛ فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو وكيده. فصبر له النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استوفى كيده ثم انتدب له عمر فرد سهام كيده عليه، وكان ترك الجواب أولاً عليه أحسن، وذكره ثانياً أحسن، وأيضاً فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانة له وتصغيراً لشأنه، فلما منته نفسه موتهم، وظن أنهم قد قتلوا وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل كان في جوابه إهانة له وتحقير وإذلال، ولم يكن هذا مخالفاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تجيبوه، فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمد؟ أفيكم فلان؟ أفيكم فلان؟، ولم ينهه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء فقد قتلوا. وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولاً ولا أحسن من إجابته ثانياً.
    ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فأجابه عمر فقال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
    وقال ابن عباس: ما نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موطن نصره يوم أحد، فأنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبين من ينكر كتاب الله، إن الله يقول: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} (آل عمران: 152). قال ابن عباس: والحس: القتل، ولقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب المشركين سبعة أو تسعة..
    وأنزل الله عليهم النعاس أمنة منه في بدر وأحد، والنعاس في الحرب وعند الخوف دليل على الأمن، وهو من الله، أما في الصلاة ومجالس الذكر والعلم فهو من الشيطان.
    وقاتلت الملائكة يوم أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيحين: عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد.
    وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال: [من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة]، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه فقال: [من يردهم عنا وله الجنة] أو [هو رفيقي في الجنة]، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ما أنصفنا أصحابنا]، وهذا يروى على وجهين: بسكون الفاء ونصب أصحابنا على المفعولية، وفتح الفاء رفع أصحابنا على الفاعلية.
    ووجه النصب: أن الأنصار لما خرجوا للقتال واحداً بعد واحد حتى قتلوا، ولم يخرج القرشيان، أي: ما أنصفت قريش الأنصار.
    ووجه الرفع: أن يكون المراد بالأصحاب الذين فروا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفرد في النفر القليل فقتلوا واحداً بعد واحد، فلم ينصفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثبت معه.
    وفي صحيح ابن حبان عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: "لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنت أول من فاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت: كن طلحة فداك أبي وأمي كن طلحة فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [دونكم أخاكم فقد أوجب]".
    وفي الصحيحين عن أبي حازم أنه سئل عن جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان يسكب الماء، وبما دووي. كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم".
    وفي الصحيح: "أنه كسرت رباعيته وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه، ويقول: [كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم]، فأنزل الله عز و جل: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} (آل عمران: 128).
    ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر، وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني المسلمين)، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعنى المشركين). ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال: أين يا أبا عمر؟، فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد. ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم.
    ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل؟، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} الآية (آل عمران: 142).
    وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت؟، فقال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء. قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟، قال: بلى. فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: [هذه الشهادة يا أبا جابر].
    وقال خيثمة أبو سعد - وكان ابنه استشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم يوم بدر -: لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصاً حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً. وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبر سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقتل بأحد شهيداً.
    وكان عمرو بن الجموح أعرجاً شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا. فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد]، وقال لبنيه: [وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز و جل أن يرزقه الشهادة]، فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل يوم أحد شهيداً.
    بعد الحرب
    ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال، فشق ذلك عليهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: [اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة. وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم فيها].
    قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة. ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف على المسلمين أبو سفيان ثم ناداهم: موعدكم الموسم ببدر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [قولوا: نعم قد فعلنا]، قال أبو سفيان: فذلكم الموعد.
    ثم انصرف هو وأصحابه فلما كان في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم، وقال: [لا يخرج معنا إلا من شهد القتال]، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟، قال: لا. فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القرح الشديد والخوف، وقالوا: سمعاً وطاعة.
    واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته، فأذن لي أسير معك. فأذن له فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد.
    وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟، فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال: ما تقول؟، فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة، فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل فإني لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة.
    ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة، فقال: هل لك أن تبلغ محمداً رسالة وأوقر لك راحلتك زبيباً إذا أتيت إلى مكة؟، قال: نعم، قال: أبلغ محمداً أنّا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه. فلما بلغهم قوله قالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} (آل عمران: 174).
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: موقعة أُحُد.. حيث في الهزيمة دروس وعبر

    موقعة أُحُد.. حيث في الهزيمة دروس وعبر
    أحمد الشجاع

    الدروس والعبر
    كان المسلمون قد انتصروا في غزوة بدر انتصاراً مبيناً، فرقاناً بين الحق والباطل. وبعد ذلك في معركة أحد انهزم المسلمون وقتل منهم سبعون من خيارهم، وحصلت هزيمة عظيمة، وشج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلت منه الدماء، ودفع المسلمون ثمن الهزيمة باهظاً من الأرواح والمعنويات التي فقدوها في تلك الغزوة.. واشتد النفاق بعد معركة أحد بالذات ما لم يشتد قبل ذلك.
    ومن هم أولئك المسلمون؟، إنهم الصفوة المختارة التي قادها أعظم نبي ظهر في البشرية على الإطلاق وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السبب طبعاً: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (آل عمران:152)؛ الفشل والتنازع والمعصية وحب الدنيا، أربعة أسباب رئيسية ذكرتها الآية.. أسباب لهزيمة المسلمين في معركة أحد، حسب قول
    والله سبحانه وتعالى قد وعد عباده المؤمنين يوم أُحد بالنصر: }وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ{.
    وقد جاء هذا الوعد على لسان نبيه في قوله للرماة:[اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم]، فقد وعدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصر يومئذ إن التزموا أمره. لولا أنهم فشلوا وتنازعوا؛ فحقت عليهم الهزيمة.
    وذكر ابن القيم الجوزية جملة من الدروس والعبر:
    - منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم} (آل عمران: 152)، فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان.
    - ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة؛ فإنهم لو انتصروا دائماً دخل معهم المؤمنون وغيرهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انتصر عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة. فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة.
    - ومنها: أن هذا من علامات الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟، قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟، قال: سجال يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة.
    - ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب؛ فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنةً ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبآتهم، وعاد تلويحهم تصريحاً.
    وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. قال الله تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} (آل عمران: 179)؛ أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أحد: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء فإنهم متميزون في غيبه وعلمه. وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة. وقوله: {ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب سوى الرسل فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه كما قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 27)، فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظم الأجر والكرامة.
    - ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقاً وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية
    - ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائماً وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبداً لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته إنه بهم خبير بصير.
    - ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار قال تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} (آل عمران: 123)، وقال : {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا} (التوبة: 25)، فهو - سبحانه - إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولاً ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره.
    - ومنها: أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.
    - ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة. وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في محبته ومرضاته ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو
    - ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم. وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (آل عمران: 139، 140) فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وهممهم وبين حسن التسلية وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} (آل عمران: 140)، فقد استويتم في القرح والألم وتباينتم في الرجاء والثواب كما قال: { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } (النساء: 104)، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.
    ثم ذكر حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه، وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب وإنما يترتب الثواب والعقاب على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً في الحس.
    ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم وهو تمحيص الذين آمنوا وهو تنقيتهم وتخليصهم من الذنوب ومن آفات النفوس وأيضاً فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين فتميزوا منهم فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوهم.
    قال ابن عباس: ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة رغبوا في الشهادة فتمنوا قتالاً يستشهدون فيه فيلحقون إخوانهم فأراهم الله ذلك يوم أحد وسببه لهم فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم فأنزل الله تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون}.
    - ومنها: أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم أن مات رسول الله - صلى الله عليه و سلم - أو قتل بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه أو يقتلوا؛ فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت. فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به فكل نفس ذائقة الموت وما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ليخلد لا هو ولا هم بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد فإن الموت لا بد منه سواء مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقي؛ ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان: إن محمداً قد قتل فقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } (آل عمران: 144)، والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتد من ارتد على عقبيه وثبت الشاكرون على دينهم؛ فنصرهم الله وأعزهم وظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم.
    ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلاً لا بد أن تستوفيه ثم تلحق به فيرد الناس كلهم حوض المنايا مورداً واحداً وإن تنوعت أسبابه.
    ثم أخبر سبحانه عما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على أعدائهم فقال: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين} (آل عمران: 147) لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق أو تجاوز لحد وأن النصرة منوطة بالطاعة، قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا. ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا ولم ينتصروا فوفوا المقامين حقهما: مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب والإسراف.
    ثم حذرهم سبحانه من طاعة عدوهم، وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة وفى ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد.
    ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين وهو خير الناصرين فمن والاه فهو المنصور.
    ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم، وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم، وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله وعلى قدر الشرك يكون الرعب؛ فالمشرك بالله أشد خوفاً ورعباً والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح والمشرك له الخوف والضلال والشقاء.
    ثم ذكرهم بحالهم وقت الفرار مصعدين أي جادين في الهرب والذهاب في الأرض أو صاعدين في الجبل لا يلوون على أحد من نبيهم ولا أصحابهم، والرسول يدعوهم في أخراهم: إلي عباد الله أنا رسول الله، فأثابهم بهذا الهرب والفرار غماً بعد غم: غم الهزيمة والكسرة، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمداً قد قتل.
    وقيل: جازاكم غماً بما غممتم رسوله بفراركم عنه وأسلمتموه إلى عدوه فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه.
    ويرجح ابن القيم القول الأول لوجوه:
    أحدها: أن قوله: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم} تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح فنسوا بذلك السبب وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.
    الثاني: أنه مطابق للواقع فإنه حصل لهم غمُ فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح التي أصابتهم، ثم غم القتل، ثم غم سماعهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل، فوقهم. وليس المراد غمين اثنين خاصة بل غماً متتابعاً لتمام الابتلاء والامتحان.
    الثالث: أن قوله: (بغمٍ) من تمام الثواب لا أنه سبب جزاء الثواب، والمعنى: أثابكم غماً متصلاً بغم جزاءً على ما وقع منهم من الهروب وإسلامهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وترك استجابتهم له وهو يدعوهم ومخالفتهم له في لزوم مركزهم وتنازعهم في الأمر وفشلهم.
    وكل واحد من هذه الأمور يوجب غماً يخصه فترادفت عليهم الغموم كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها، ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر، ومن لطفه بهم ورأفته ورحمته أن هذه الأمور التي صدرت منهم كانت من موجبات الطباع وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة فقيض لهم بلطفه أسباباً أخرجها من القوة إلى الفعل فترتب عليها آثارها المكروهة؛ فعلموا حينئذ أن التوبة منها والاحتراز من أمثالها ودفعها بأضدادها أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به فكانوا أشد حذراً بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها.
    ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا فكانت أعمالهم جنداً عليهم ازداد بها عدوهم قوة؛ فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه، ولا بد فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه. فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله بعثه له الشيطان واستزله به.
    ثم أخبر سبحانه: أنه عفا عنهم؛ لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضاً عفا الله عنه فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها. ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} (آل عمران: 165)، وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية فقال: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى: 30)، وقال : {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء: 79) فالحسنة والسيئة ها هنا: النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله منّ بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك، فالأول فضله والثاني عدله. والعبد يتقلب بين فضله وعدله جار عليه فضله ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه. وختم الآية الأولى بقوله: {إن الله على كل شيء قدير} بعد قوله: {قل هو من عند أنفسكم} إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادل قادر، وفى ذلك إثبات القدر والسبب، فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفي الجبر والثاني ينفي القول بإبطال القدر فهو يشاكل قوله: {لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} ( التكوير: 30).
    ثم عزى الله تعالى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضى بما قضاه، فقال: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ( آل عمران: 169 - 170)؛ فجمع لهم إلى الحياة الدائمة منزلة القرب منه وأنهم عنده وجريان الرزق المستمر عليهم وفرحهم بما آتاهم من فضله وهو فوق الرضى بل هو كمال الرضى واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته. وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة ولم يبق لها أثر البتة وهي منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله إلى الهدى ومن الشقاء إلى الفلاح ومن الظلمة إلى النور ومن الجهل إلى العلم، فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جداً في جنب الخير الكثير، كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير.
    فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوا ويتكلوا ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم لئلا يتهموه في قضائه وقدره وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدراً وأعظم خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته لينافسوهم فيه ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
    وثمة دروس فقهية في هذه الغزوة، منها:
    - منها: أن الجهاد يلزم بالشروع فيه حتى إن من لبس لأمته وشرع في أسبابه وتأهب للخروج ليس له أن يرجع عن الخروج حتى يقاتل عدوه.
    - ومنها: أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه بل يجوز لهم أن يلزموا ديارهم ويقاتلوهم فيها إذا كان ذلك أنصر لهم على عدوهم كما أشار به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم يوم أحد.
    - ومنها: جواز سلوك الإمام بالعسكر في بعض أملاك رعيته إذا صادف ذلك طريقه وإن لم يرض المالك.
    - ومنها: أنه لا يأذن لمن لا يطيق القتال من الصبيان غير البالغين بل يردهم إذا خرجوا كما رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر ومن معه.
    - ومنها: جواز الغزو بالنساء والاستعانة بهن في الجهاد.
    - ومنها: أن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بهم قاعداً وصلوا وراءه قعوداً كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم 0 في هذه الغزوة واستمرت على ذلك سنته إلى حين وفاته.
    - ومنها: جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه كما قال عبد الله بن جحش: "اللهم لقني من المشركين رجلاً عظيماً كفره شديداً حرده فأقاتله فيقتلني فيك ويسلبني ثم يجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك فقلت: يا عبد الله بن جحش فيم جدعت؟ قلت: فيك يارب.
    - ومنها: أن المسلمين إذا قتلوا واحداً منهم في الجهاد يظنونه كافراً فعلى الإمام ديته من بيت المال؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة فامتنع حذيفة من أخذ الدية وتصدق بها على المسلمين.
    الخلاصة
    هكذا نجد القوة والضعف والنصر والهزيمة بيد الله تعالى وحده، وأن الله ينصر من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
    والمسلم - الذي عرف الله وآمن به – يدرك أن تحقيق النصر له شروط وضعها الله، وأهمها اللجوء إليه والتوكل عليه وطلب النصر منه.. ثم يأتي الجانب المادي المطلوب.
    وفي النصر معان يجب فهم حقائقها والاستفادة منها حتى لا يتحول إلى خسران في الدنيا والآخرة.. كذلك يمكن تحويل الهزيمة من ذل وهوان إلى عزة وكرامة، وفي غزوة أحد وقبلها بدر بيان وتفصيل كل ذلك..
    وكلما حرص المسلم على تحقيق تلك الشروط، وعمل بالأسباب كلما كان إلى النصر والعزة والقوة والمنعة أقرب.
    أما إذا ركن المسلم إلى الجوانب المادية وغفل عن الجانب الروحي الشرعي فإن ميزان النصر والهزيمة يميل – عادة - للكفة التي ترجحها الوسائل مادية فقط.
    ـــــــــــــــ ــــــــــــ
    المصادر
    - (جامع البيان في تأويل القرآن)، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر.
    - (زاد المعاد في هدي خير العباد)، ابن القيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2008
    المشاركات
    874

    افتراضي رد: موقعة أُحُد.. حيث في الهزيمة دروس وعبر

    .......
    أخى أبو وليد البحيرى .. غزوة أحد لم ينتصر فيها المسلمون ( ولكنهم لم ينهزمزا ) ..ليس إلا ..
    .....
    لقد كشف الله فيها قلوب أهل النفاق من المسلمين . وأظهر أمرهم وأخرج خفايا قلوبهم..
    فحين أجمع الكفار بعد هزيمتهم يوم بدر على الخروج إلى المدينة لحرب رسول الله وأصحابه يقودهم أبو سفيان بن حرب وزوجته هند بنت عتبة ( قبل إسلامهما ) ومعهم عكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية ( قبل إسلامهما ) والغلام الحبشى وحشى وجبير بن مطعم وعبد الله بن أبى ربيعة وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد ( قبل إسلامهم ) ..
    علم نبى الله ورسوله بخروجهم ..
    فتجهز صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون ولبسوا
    عدة نزالهم لملاقاتهم قبل وصولهم إلى المدينة ..
    تخاذل أهل النفاق والشقاق عن التأهب والإستعداد وادّعوا عدم قدرتهم على القتال وقالوا بأفواههم ماليس فى قلوبهم لإحباط المسلمين وتثبيطهم ..
    تعللوا بأسباب واهية إفكاً وبهتاناً وران الرجس والرجز على قلوبهم وقالوا لإخوانهم : لو خرجنا إليهم لأصابوا منا . ولو جاءوا علينا لأصبنا منهم ..قالوا ما قالوه ضعفاً وكذبا ونفاقاً..

    {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاك ُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }.

    مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ونزلوا عند الوادى من جبل أحد .. وكان من خلفهم جبل صغير يسمى " جبل عينين "
    وهو مايطلق عليه حالياً " جبل الرماة " ..
    نظّم رسول الله صفوف أصحابه وبوأ لهم مواضعهم وأنزلهم منازلهم وجعل عدداً منهم على حافة الجبل لحماية ظهور المقاتلين من المسلمين أثناء الحرب والقتال ..
    وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: ( إلزموا مكانكم واحموا ظهورنا إن كانت النوبة لنا أو علينا )
    يقول جل شأنه : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ }.
    التقى الجمعان وبدأ النزال والقتال ..
    حسّ المسلمون الكفار بسيوفهم وضربوا أعناقهم وبانت مصارعهم واستوسقت قتلاهم وأضحى الكفار مهزومين ..
    قُتل حامل لواء المشركين طلحة بن أبى طلحة وأخيه نافع وابنه الحارث وقُتل أرطأة بن شرحبيل وسباع بن عبد العزى وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحى وأبو يزيد بن عمير وعثمان بن عبدالله بن المغيرة المخزومى وقُتل أبى بن خلف رماه النبى صلى الله عليه وسلم بحربته فأرداه قتيلاً ..
    {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ.......}.

    ما أن رأى الرماة نصر المسلمين وما حلّ بالكفار من إثخان وقتل .. تنازعوا واختلفوا ..

    {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }
    أيلزمون أماكنهم ولايبرحون مواضعهم التى أنزلها لهم رسول الله .. أم يقبلون على الغنائم والأسلاب والأنفال ..تفرقت كلمتهم ولم يعتصموا ..
    منهم من أطاعوا أمر نبى الله ورسوله وأطاعوا أمر أميرهم عبد الله بن جبير .. ولم يبرحوا أماكنهم ومواضعهم .. .
    ومنهم من أرادوا الدنيا وانشغلوا بجمع الغنائم والأنفال .. وتركوا أماكنهم وانصرفوا عن حماية المحاربين وأخْلوا ظهور المقاتلين ..
    كرّ المشركون عليهم وانكفأت خيل المسلمين وتداخلت بعضها البعض وتفرق ركبهم وركابهم وأصيبوا بالكرب والبلاء والإبتلاء ودخل المغفر فى وجْنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وجهه الكريم ) ..

    يقول عليه الصلاة والسلام : ( اشتد غضب الله على قوم دَمُوا وجه رسول الله ) رواه الطبرانى .

    وأكرم الله حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وحنظلة بن أبى عامر ونعيم بن مالك بالشهادة فى سبيل الله .. وأصيب سعد بن معاذ وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن عباده وأسيد بن حضير والطفيل بن النعمان وقتادة بن النعمان بالجرح والقرح رضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين .
    ......
    بان أمر المنافقين وظهر نفاقهم
    وأخرج الله مافى صدورهم .. قالوا : لقد اغتر المسلمون بدينهم ونصرهم فى يوم بدر ..
    {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ }.

    وقالوا : لو أنهم أطاعونا وقعدوا كما قعدنا لما أصابهم ما أصابهم من القتل والقرح والجرح ..

    { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا .. قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .

    ......
    صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهداء يوم أحد .. وأمر بدفنهم ومواراتهم بدمائهم وجراحهم .. ( مثواهم يوجد فى مواجهة جبل الرماة بجوار جبل أحد ) .. استغفر الرماة وآبوا وتابوا إلى الله وطلبوا الصفح والمغفرة من الله .. وغفر الله لهم وعفا عنهم .. يقول عز وجل : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ .. وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }
    فى صبيحة اليوم التالى ليوم أحد : أمر الله نبيه ورسوله أن يخرج بمن كان معه من الصحابة قبل أن يضمدوا جراحهم لملاحقة الكفار وقتالهم .. تأهب رسول الله وتأهبت الصحابة على ما فيهم من جرح وقرح ولبسوا عدة نزالهم وتوجهوا لتعقب المشركين وقتالهم . بلغ المسلمون فى ملاحقتهم إلى موضع يسمى " حمراء الأسد " .. ولاذ الكفار بالفرار وتمنّعوا فى الكهوف وبين الجبال ..
    { الَّذِينَٱسْتَج َابُوا لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَٱتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
    حذر الله نبيه ورسوله وعباده المؤمنين من هؤلاء المنافقين وأمثالهم .. فهؤلاء يثبطون المسلمين ويحبطونهم .. لم يعوا أن الله هو الذى يذيقنا الموت وهو الذى يَهب لنا الحياة .. هؤلاء يؤثرون راحتهم وسلامة أنفسهم.. جهلوا أنهم لايستطيعون درء الموت أو القتل عن أنفسهم وأن الخلق يموتون أو يُقتلون بأعمارهم التى قدّرها الله لهم وسمّاها لآجالهم .. ........

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •