"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (43)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الإسراء": (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)

اعلم أن ظاهر هذه الآية فيه إشكالان واضحان:
الأول: كيف يأمر الله بالفسق بقوله: (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)
الثاني: أن قوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) شرط, وجوابه (أمرنا مترفيها) فيقتضي أن إرادة الله إهلاكها سابقة على أمر المترفين، وهذا يعني أن إرادة الله تتعلق بإهلاك القرية ابتداء.
والمتوقع أن يكون فسوق أهل القرية هو سبب وقوع إرادة الله إهلاكهم، لا العكس.

وقد أجاب المفسرون عن الإشكال الأول ولم يتعرض أكثرهم للإشكال الثاني.

والأقرب والله أعلم أن المعنى كما هو ظاهر ومتبادر من الآية. أي: أمرناهم بالفسق أمراً كونياً قدرياً لا أمراً شرعياً ففعلوا ما قدر عليهم.
وهذه الآية كقوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)

والآن إلى ذكر اختلاف المفسرين في الآية.
فقد اختلف المفسرون في المراد بقوله: (أمرنا مترفيها) على أربعة أقوال:
القول الأول: أن المراد أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا (رجح هذا القول ابن جرير*) (وصوبه الرازي*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه الماتريدي*, وابن عاشور*) (وذكره البغوي*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن كثير*) (وضعفه الزمخشري*)

وهذا القول فيه نظر من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه لا ينحل به الإشكال الثاني فلا فائدة من التقدير إذاً.
فقوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية). هذا فعل الشرط فكيف يكون جواب الشرط "أمرناهم بالطاعة".
فيكون نظم الكلام هكذا: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرناهم بالطاعة ففسقوا.
فيكون المعنى أن الله إذا أراد أن يهلك قرية أمرهم!
لا يتصور أن يكون المعنى هكذا.
وأما تخريج ابن عاشور بأن المراد (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم).
فهو تفسير فيه بعد لا يوافق عليه كما سيأتي.

الوجه الثاني: أننا لو سألنا أصحاب هذا القول: من الذي أمر وقدر وأراد وجعل الإيمان والكفر والفسوق في الأرض إرادة كونية قدرية لقالوا جميعاً: الذي أمر بذلك وأراده هو الله فلا يكون شيء إلا بإرادته تعالى.
فلماذا إذاً نقدر في الآية محذوفاً والآية واضحة لا تحتاج إلى تقدير.

هذا الله تعالى يقول: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها).
ويقول: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)
ويقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)
ويقول: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)
ويقول: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا)
ويقول: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)
ويقول: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)

الوجه الثالث: يوضحه الزمخشري.
قال الزمخشري: "فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟
قلت: حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض.
يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب.
ولا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني، أو فلم يمتثل أمري. لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوى لأمره مأموراً به، وكأنه يقول: كان مني أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول: فلان يعطي ويمنع، ويأمر وينهى غير قاصد إلى مفعول"اهـ
قلت: لله در الزمخشري, فكلامه متين ثمين لمن فهمه.

وقال الزمخشري أيضاً: "فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت: لا يصح ذلك، لأن قوله: ففسقوا يدافعه، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعى إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه.
ونظير «أمر» شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده عليه، تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك. تريد: لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت- وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الاساءة، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة- لم تكن على سداد"اهـ

ومن العجب قول الرازي بعد أن نقل قول الزمخشري هذا: "لا أدري لم أصر صاحب «الكشاف» على قوله مع ظهور فساده، فثبت أن الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة"اهـ
قلت: بل قول الزمخشري ظاهر صوابه ولا غبار عليه.

وكذلك قال الشنقيطي: "ما زعمه الزمخشري كله ظاهر السقوط والبطلان، ولا يشك منصف عارف في بطلانه"اهـ
قلت: بل قول الزمخشري هو الصواب الخالي من الإشكال كما سبق.

القول الثاني: أن المراد جعلناهم أمراء ففسقوا (ذكره ابن جرير*, والبغوي*, والقرطبي*) (وقال ابن كثير*: "قلت: إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ (أمَّرنا مترفيها)" (بالتشديد).
(وذكره ابن جرير*, والماتريدي* والبغوي* وابن عطية*, والقرطبي* والشنقيطي* على قراءة التشديد, وهي قراءة لا يصح القراءة بها, فليست قراءة لأحد من العشرة)

ونقل ابن عطية عن أبي علي الفارسي قوله: "ولا وجه لكون «أمرنا» من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلا واحداً بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم".

القول الثالث: أن المراد أكثرنا مترفيها ففسقوا (ذكره ابن جرير*, والبغوي*, والزمخشري*, والرازي*, والقرطبي*, وابن كثير*, والشنقيطي*)
(وذكره ابن جرير* والبغوي* وابن عطية*, والقرطبي*, والشنقيطي* على قراء مد الهمزة, وهي قراءة يعقوب)

القول الرابع: أن المعنى كما هو ظاهر ومتبادر من الآية. أي: أمرناهم بالفسق أمراً كونياً قدرياً لا أمراً شرعياً ففعلوا ما قدر عليهم.
(ذكره ابن كثير*, والشنقيطي*) (ورجحه الزمخشري*)

وهذا هو القول الأقرب في المراد بالآية.
أي: قدر عليهم الكفر فلا مفرَّ من الوقوع فيما قدر عليهم.
فالمؤمن يدرك أن لا يقع كفر في الأرض ولا فسوق إلا بأمر الله القدري وإرادته.
ولا يعني هذا أن الإنسان مجبور منزوع الإرادة من كل وجه كما أنه ليس مستقلاً بإرادته.
وهذا أمر يتعلق بمسألة القدر ومذهب أهل السنة معروف مشهور وهو وسط بين القدرية نفاة القدر والجبرية سالبي العبد المشيئة جاعليه كالريشة في مهب الريح.
قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِن الله كتب مقادير الخلق قبل أَن يخلق السموات والارض بخمسين الف سنة).

قال ابن كثير: "فقيل: معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمراً قدرياً، كقوله تعالى: {أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً}، فإن الله لا يأمر بالفحشاء، قالوا: معناه: أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب".

وقال الشنقيطي: "أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له, لأن كلاً ميسر لما خلق له. والأمر الكوني القدري كقوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)، وقوله: (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين)، وقوله: (أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً)".

وقال الزمخشري: "هو مجاز، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه".

وأما الإشكال الثاني في الآية فلم يتعرض له أكثرهم كما ذكرت سابقاً.
لكن ابن عاشور تعرض له وأجاب عنه بجواب فيه بعد.

وهذا نص كلامه:
قال ابن عاشور: "واعلم أن تصدير هذه الجملة بـ(إذا) أوجب استغلاق المعنى في الربط بين جملة شرط (إذا) وجملة جوابه، لأن شأن (إذا) أن تكون ظرفاً للمستقبل وتتضمن معنى الشرط أي الربط بين جملتيها.
فاقتضى ظاهر موقع (إذا) أن قوله: (أمرنا مترفيها) هو جواب (إذا) فيقتضي أن إرادة الله إهلاكها سابقة على حصول أمر المترفين سبق الشرط لجوابه، فيقتضي ذلك أن إرادة الله تتعلق بإهلاك القرية ابتداء فيأمر الله مترفي أهل القرية فيفسقوا فيها فيحق عليها القول الذي هو مظهر إرادة الله إهلاكهم.
مع أن مجرى العقل يقتضي أن يكون فسوق أهل القرية وكفرهم هو سبب وقوع إرادة الله إهلاكهم، وأن الله لا تتعلق إرادته بإهلاك قوم إلا بعد أن يصدر منهم ما توعدهم عليه لا العكس. وليس من شأن الله أن يريد إهلاكهم قبل أن يأتوا بما يسببه، ولا من الحكمة أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم ليحقق سبباً لإهلاكهم.
وقرينة السياق واضحة في هذا"

ثم قال ابن عاشور: "فبنا أن نجعل الواو عاطفة فعل (أمرنا مترفيها) على (نبعث رسولاً)، فيكون أصل نظم الكلام هكذا: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا عن أمرنا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم.
وإنما عدل عن نظم الكلام بهذا الأسلوب إلى الأسلوب الذي جاءت به الآية لإدماج التعريض بتهديد أهل مكة بأنهم معرضون لمثل هذا مما حل بأهل القرى التي كذبت رسل الله".

قلت: ما قاله ابن عاشور رحمه الله فيه بعد.
والأقرب أن الآية على ظاهرها والله أعلم.
فلا فرق في الحقيقة بين قوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) وبين قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)
لأن المعنى هنا أردنا أن نملأ جهنم فلم نؤت بعض الأنفس هداها.
فهي تماماً مثل أردنا أن نهلك قرية فقدرنا على أهلها الفسق.
والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وفي الآية تخويف شديد وتهديد مخيف وقدرة باهرة.
وفي القرآن (آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).
والله تعالى أعلم.
للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/