عوامل نجاح الفتوحات الإسلامية ( بحث مختصر)
للنصر أو الفوز شروط وصفات متلازمة وملازمة في كل مجالات المواجهة والتنافس، وتشمل الجوانب المعنوية والمادية.
ومعرفة الشروط وصفات النصر تكون من خلال منهج سليم صحيح يلتزم به المؤمنون، وكذلك من خلال التجارب الشخصية والنظر في تجارب الآخرين.
وهذا ما يمتاز به المسلمون عن الآخرين؛ حيث المنهج الرباني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم التاريخ العظيم لمسيرة النصر الإسلامي التي قام بها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، واتصفوا بكل صفات العزة والقوة والتزموا بشروط النصر ديناً ودنيا.
ثم – من جهة مضادة – للمسلمين تاريخ مهين وفاشل أوقعوا أنفسهم فيه بعد أن تراجعوا وتركوا ما كان عليه أسلافهم العظماء؛ فاستحقوا كل أنواع البلاء الذي ما زلنا نعاني منه إلى الآن (وما أصابتكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم).
وللنظر في بعض دروس التاريخ في هذا الجانب سوف أختار معركة القادسية وهي معركة عظيمة انتصر فيها المسلمون على أعدائهم بعد أن توفرت فيهم كل الشروط والصفات الدينية والدنيوية التي مكنتهم من حسم الأمر لصالح الإسلام وفتحت طريق نشره نحو المشرق كما هو حال معركة اليرموك في بلاد الشام التي مهدت لنشر الإسلام غرباً.
وسوف أركز هنا على عوامل النصر دون الدخول في وقائع ومجريات المعركة، وكيف كانت أحوال الجيش الذي توجه لتلك المعركة وعلاقته بدينه، وكيف كان ينظر المسلمون إلى الحرب وأهدافها.. وأبدأ الحديث عن الفتوحات الإسلامية وبعض أهدافها وأسبابها.
لماذا الفتوحات الإسلامية؟
وصفت الموسوعة العربية الفتوحات الإسلامية بأنها "حركة نشر الإسلام عن طريق الدعوة والقدوة أو عن طريق القتال لمن صدَّ وأبى وأظهر العداوة. ويقصد بها أيضاً افتتاح دار الحرب، والانتصار على محاربيها..".
كان من أهداف هذه الفتوحات حماية الدعوة من عدوان خصومها، سواء أكانوا من عرب الجزيرة نفسها، أم من خارجها كالفرس والروم.
وكانت الفتوح الإسلامية في بدايتها حرباً دفاعية، حارب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فيها كفار قريش؛ لأنهم رفضوا أن يتركوا له ولأصحابه حرية العبادة والدعوة، واعتدوا عليه وعلى أصحابه بشتى أنواع الاعتداء وال***** حتى استشهد عدد منهم تحت ال*****، وتآمروا على *** الرسول ليلة الهجرة إلى المدينة.
ثم كانت بعد ذلك حروب الردة في عهد الخليفة الأول - أبي بكر الصديق رضي الله عنه - والتي لم تكن إلا دفاعاً عن كيان الدولة الإسلامية الذي هدده المرتدون.
ثم جاءت بعد ذلك حروب فارس والروم، التي ترجع أسبابها إلى مبادرة هؤلاء القوم بإيذاء المسلمين، وتمثل ذلك في عدة وقائع وأحداث تاريخية، ومثال ذلك تهديد كسرى للرسول – صلى الله عليه وسلم - عندما مزَّق الرسالة التي بعث بها إليه الرسول – صلى الله عليه وسلم- يدعوه فيها إلى الإسلام، وأعان المرتدين في شرقي الدولة الإسلامية الناشئة، وحمى الفارين منهم من وجه الجيوش الإسلامية إلى سواد العراق، وألَّب الفرس والروم القبائل العربية المتاخمة لحدودهم على المسلمين. ولذا نرى هذه القبائل (المناذرة والغساسنة) تحارب جنباً إلى جنب مع الفرس والروم ضد المسلمين العرب.
وأمر هرقل ـ ملك الروم ـ ب*** كل من أسلم من أهل الشام، وافتتح هجومه على الإسلام ب*** فروة بن عمرو الجذامي، عامل الروم على مَعَان (في الأردن حالياً) لاعتناقه الإسلام ومراسلته لرسول الله. ومضى يُعد عدته لمجابهة دولة الإسلام بالمدينة.
وكانت موقعة ذات السلاسل نتيجة لاعتداء جماعة من الفرس على بعثة نبوية يرأسها عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ولم تكن سرية مؤتة إلا بسبب ما علمه رسول الله من تجمعات العدو الرومي وعَزْمه على غزو المدينة عاصمة الدولة الإسلامية.
وكذلك كان من أسباب غزوة تبوك أن هرقل جمع جموعاً من الروم وقبائل العرب الموالية له، فعزم على قتالهم.
وجُهَّز جيش أسامة - قُبيل وفاة النبي - لرد عدوان الروم وتأمين الحدود الشمالية للجزيرة العربية. وأصر أبو بكر على إنفاذ هذا الجيش بعد وفاة الرسول، وشارك العرب الذين يقعون تحت نفوذ الروم في الاعتداء على المسلمين.
توخَّت تلك الفتوحات أيضاً تخليص الشعوب من طغاتها الظالمين ومن أوضاعها الدينية والاجتماعية السيئة. وقضت على الحق الذي كان يزعمه الملوك والرؤساء لأنفسهم من أن مشيئتهم هي مشيئة الله وأن الخضوع لهم خضوع لله.
أرادت الأمة الإسلامية أن تنقل مُثُلَها العليا إلى الشعوب المضطهدة، تلك المُثل التي نلمحها في قول واحد من عامة الناس لعمر بن الخطاب وعلى ملأ من الناس: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقَّومناه بسيوفنا"• وقيل مثل هذا لأبي بكر من قبل. وقال آخر لعمر: "لا نسمع ولا نطيع"؛ وذلك حين رأى عليه ثوباً لم يعلم مصدره، بل ظن أنه من مال الدولة، ولم يترفع عمر عن بيان مصدر ثوبه الثاني.
ولو كان حكام المسلمين مثل حكام الروم لما أمر عمر بأن يقتصّ ابن قبطي مصري من ولد واليه على مصر ـ عَمْرو بن العاص ـ وفي ملأ من الناس، وطلب من الغلام القبطي المظلوم أن يضرب ابن عَمْر على صلعته؛ لأن ابنه تجرأ على الظلم لمكانة والده، وخاطب عَمْرًا بكلمات خالدة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟"..
ويعترف المستشرق هو توماس آرنولد - في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) – حسب ما أوردته الموسوعة العربية - بأن القبائل النصرانية اعتنقت الإسلام عن اختيار وإرادة حرة، ويذكر أن النصارى كتبوا إلى المسلمين العرب يقولون لهم: "يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أرأف بنا وآنف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا".
لقد كانت الفتوحات الإسلامية حروباً أخلاقية تقيدت بمبادئ الحق والعدالة والرحمة مع المغلوبين والمحاربين. وتمثل شيء من ذلك في عمر بن عبد العزيز فإنه حين وُلِّيَ الخلافة، وفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا إليه أن قتيبة ابن مسلم دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين بغير حق، فكتب عمر إلى عامله بأن ينصِّب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين، أخرجوا، فنصَّب لهم جميع بن حاضر الباجي قاضياً، فحكم بإخراج المسلمين، على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك، وينابذهم وفقًاً لمبادئ الحرب في الإسلام. ولكن أهل سمرقند كرهوا الحرب، وأقروا المسلمين للإقامة بين أظهرهم.
ولم يستغل الفاتحون سلطانهم لقهر الأمم التي غلبوها. وعندما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين بعهودهم معهم وحسن سيرتهم فيهم، أصبحوا عيوناً للمسلمين على أعدائه.
واعترفوا بالفارق بين الحضارتين الإسلامية والرومية عندما أمر أبو عبيدة برد الجزية التي أخذها من أهل حمص حين أيقن بعجزه عن حمايتهم من الروم.
ويقول المستشرق روبنسون: "إن أتباع محمد وحدهم هم الذين جمعوا بين معاملة الأجانب بالحسنى، وبين محبتهم لنشر دينهم، وكان من أثر هذه المعاملة الحسنة أن انتشر الإسلام بسرعة، وعلا قدر رجاله الفاتحين بين الأمم المغلوبة، وأدت هذه المعاملة إلى انحسار ظل النصرانية عن شمالي إفريقيا".
ويقول دوابر: "إن العرب عاملوا اليهود في الأندلس أحسن معاملة. وعندما طرد النصارى العرب من الأندلس لم يطيقوا إبقاء اليهود، فدبروا لهم تهماً، وأحرقوا عشرة آلاف يهودي في مدى عشر سنوات. واعترف البطريرك النسطوري إبشوياف الثالث إلى سيمون أسقف آردشير، بأن العرب لم يهاجموا العقيدة النصرانية، وأنهم يعطفون على دينهم، ويكرمون قِدِّيسيهم، ويساعدون الكنائس والأديرة".
كما كانت الفتوحات الإسلامية أيضاً حروباً تهدف إلى نشر الدين الإسلامي بالحسنى، ومن منطلق سامٍ، بعيداً عن الماديات، وذلك بدلالة ما وقع في أحداث الفتح الإسلامي من قضايا التّعفّف عند الغنيمة وأداء الأمانات والإخلاص لله ما يعجز التاريخ البشري عن إبراز نظائره.
ودخل الفاروق عمر ذات يوم على أبي عبيدة – فاتح الشام - فلم ير في منزله إلا لبَداً (حشايا من شعر أو صوف) وإناء وقربة ماء بالية، وسأله طعاماً، فأخرج له من سلة منشأة بالجلْد صغيرة كُسَيْرات، فبكى عمر وقال: "غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة"• والذي يقف على سيرة عمر في الزهد يعرف دلالة عبارته لأبي عبيدة.
وأرسل إليه عمر أربعمائة دينار، وسأل من أرسله أن يقف على ما يفعل بها، فجاءه الخبر بأنه وزعها كلها على المحتاجين، وأرسل مثلها إلى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فوزَّعها إلا القليل منها، أعطاه زوجته لحاجتها. فقال عمر لما أخبر بهذا: "الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا".
وعندما أرسل المقوقس ـ حاكم مصر ـ بعض رجاله ليتعرفوا له على أحوال الجيش الإسلامي الذي يحاصر حصن بابليون بمصر، عادوا ليقولوا له: "رأينا قوماً الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرِّفْعة.. ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة ولا نهمة. جلوسهم على التراب، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف كبيرهم من صغيرهم، ولا السيد فيهم من العبد"•
بهرت مثل هذه المواقف والأحوال بعض المنصفين من المستشرقين، بل يقول بعض متعصّبيهم لغير الإسلام، وهو ستانلي - في كتابه (العرب في أسبانيا)-: "إنَّ تحمس العرب للفتوح كان يؤجِّجه عنصر قوي من الرغبة في نشر الدين".
معركة القادسية (سنة 14هـ)
لما علم الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الفرس يعدون العدة ويتجمعون لاستئصال القوة القليلة من المسلمين المتبقية في العراق أمر بالتجنيد الإجباري؛ لأن الحالة تقتضي ذلك. ولذلك أمر المثنى أن ينظر فيما حوله من القبائل ممن يصلح للقتال ويقدر عليه فيأتي به طائعاً أو غير طائع وهذا هو التجنيد الإجباري الذي رآه عمر، وكان أول من عمل به في الإسلام. وأرسل الفاروق إلى عماله أن لا يدعوا أحداً له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا أرسلوه إليه، يأمرهم بالتجنيد الإجباري ويطلب منهم أن يرسلوا المجندين الجدد إليه ليرسلهم إلى العراق.
إن الموقف في بلاد فارس قد تغير مع مجيء يزدجرد للحكم، فقد أصبح موقف الفرس كالتالي:
- استقرار داخلي تمثل في تنصيب يزدجرد واجتماعهم عليه، واطمأنت فارس واستوثقوا، وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته.
- تجنيد عام شمل كل ما استطاع الفرس أن يجندوه، وتوزيع الفرق في كل أنحاء الأرض التي فتحها المسلمون.
- وأخيراً إثارة السكان وتأليبهم على المسلمين، حتى نقضوا عهدهم وكفروا بذمتهم وثاروا عليهم.
كما تغير موقف المسلمين وأصبح كالتالي:
- الانسحاب: خروج المثنى والقواد الآخرين من الأرض التي فتحوها من بين ظهراني العجم.
- التراجع والتفرق في المياه التي تلي الأعاجم على حدود الأرض العربية والأرض الفارسية، وقد نزل المثنى في ذي قار، ونزل الناس الطَّف؛ فشكلوا في العراق مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويغيث بعضهم بعضاً عند الحاجة.
- مقابلة التجنيد الإجباري عند الفرس بالتجنيد الإجباري لدى المسلمين.
تأمير سعد بن أبي وقاص على العراق
هذه هي المرحلة الثالثة في فتوحات العراق وتبدأ بتأمير سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - على الجهاد في العراق سنة 14هـ، فقد استهلت هذه السنة وعمر - رضي الله عنه - يحث الناس ويحرضهم على جهاد الفرس، وركب - رضي الله عنه - أول يوم من المحرم في هذه السنة في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له صِرَار فعسكر به عازماً على غزو العراق بنفسه واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، واستصحب معه عثمان بن عفان وسادات الصحابة. ثم عقد مجلساً لاستشارة الصحابة فيما عزم عليه ونودي الصلاة جامعة، وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقوه على الذهاب إلى العراق إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه قال له: "إني أخشى إن كُسِرتَ أن يَضْعف المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلاً وترجع أنت إلى المدينة فاستصوب عمر والناس عند ذلك رأي ابن عوف".
فقال عمر: "فمن ترى أن نبعث إلى العراق؟"، فقال: "قد وجدته"، قال: "ومن هو؟"، قال: "الأسد في براثنه، سعد بن مالك الزهري"، فاستجاد قوله وأرسل إلى سعداً.
لما قدم سعد إلى المدينة أمّره عمر على حرب العراق وقال له: "يا سعد.. لا يغرنّك من الله أن قيل خال رسول الله، وصاحب رسول الله؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيء بالسيء ولكنه يمحو السيء بالحسن، فإن الله تعالى ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله منذ بُعث إلى أن فارقنا فالزمْه فإنه الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها كنت من الخاسرين".
وعلق الصلابي على هذه الوصية بقوله: إنها لموعظة بليغة من خليفة راشد عظيم، فقد أدرك عمر - رضي الله عنه - جانب الضعف الذي يمكن أن يؤتى سعد من قِبله وهو أن يُدلي بقرابته من النبي؛ فيحمله ذلك على شيء من الترفع على المسلمين، عن المبدأ الإسلامي العام الذي يعتبر مقياساً لكرامة المسلم في هذه الحياة، حيث قال: الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة. فقوله: يتفاضلون بالعافية، يعني بالشفاء من أمراض النفوس فكأنه يقول يتفاضلون بالبعد عن المعاصي والإقبال على طاعة الله تعالى. وهذه هي التقوى التي جعلها الله سبحانه ميزاناً للكرامة بقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، وهو ميزان عادل رحيم بإمكان كل مسلم بلوغه إذا جَدَّ في طلب رضوان الله تعالى والسعادة الأخروية.
ثم ذكره عمر في آخر الموعظة بلزوم الأمر الذي كان عليه رسول الله، وهذا يشمل الالتزام بالدين كله وتطبيقه على الناس.
ثم إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أوصى سعد بن أبي وقاص مرة أخرى لما أراد أن يبعثه بقوله: "إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يُخلِّص منه إلا الحق، فعوِّد نفسك ومن معك الخير، واستفتح به، واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على ما أصابك أو نابك تجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة، وللقلوب حقائق ينشؤها الله إنشاء، منها السر ومنها العلانية، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامّه في الحق سواء، وأما السر فيُعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس، فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبداً حبَّبه، وإذا أبغض عبداً بغَّضه، فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس، ممن يشرع معك في أمرك".
خطبة عمر رضي الله عنه
وسار سعد إلى العراق ومعه أربعة آلاف مجاهد، وقيل في ستة آلاف، وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص، ثم قام في الناس خطيباً فقال: "إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرّف لكم القول ليحيي به القلوب فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله، من علم شيئاً فلينتفع به. وإن للعدل أمارات وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهَيْن واللَّيْن، وأما التباشير فالرحمة. وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسَّر لكل باب مفتاحاً، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له، بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قِبَلَه حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحداً، واكتف بما يكفيك من الكفاف، فإن من لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء. وإني بينكم وبين الله وليس بيني وبينه أحد، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه، فأنهُوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يُبلِّغناها نأخذ له الحق غير مُتَعْتَع".
وسار سعد بجيشه حتى نزل بمكان يقال له (زَرُود) من بلاد نجد وأمدّه أمير المؤمنين بأربعة آلاف، واستطاع سعد أن يحشد سبعة آلاف آخرين من بلاد نجد، وكان المثنى بن حارثة الشيباني ينتظره في العراق ومعه اثنا عشر ألفاً.
وأقام سعد بزرود استعداداً للمعركة الفاصلة مع الفرس وانتظاراً لأمر أمير المؤمنين، وقد كان عمر عظيم الاهتمام بهذه المعركة فلم يدع رئيساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سلطة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس.
وبينما كان سعد مقيماً بجيشه في زرود مرض المثنى مرضاً خطيراً، يقول الرواة: إن الجراحة التي جرحها يوم الجسر انتقضت عليه، واستشعر دنو أجله واشتد وجعه واستخلف على من معه بشير بن الخصاصية، وطلب المثنى أخاه المعنى وأفضى إليه بوصيته وأمره أن يعجل به إلى سعد، ثم أسلم المثنى الروح إلى بارئها..
وقد جاء في وصيته لسعد: "أن لا يقاتل عدوه وعدوهم إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مردة من أرض العجم، فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم، وإن تكن الأخرى فأووا إلى فئة، ثم يكونون أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم، إلى أن يرد الله الكرة عليهم".
ولما انتهى إلى سعد رأيُ المثنى ووصيته ترَّحم عليه وأمّر المعنى بن حارثة على عمله، وأوصى بأهل بيته خيراً، ومما يلفت النظر في هذا الخبر أن المثنى قد أوصى بزوجته سلمى بنت خصفة التيمية إلى سعد بن أبي وقاص، وحملها معه المعنى، ثم خطبها سعد بعد انتهاء عدتها وتزوجها. فهل أراد المثنى أن يَبَّر زوجته بعد رحيله بضمها إلى بطل عظيم من أبطال الإسلام شهد له رسول الله بالجنة؟، إنه نوع من الوفاء نادر المثال. أم أنها كانت ذكية وعاقلة وقد تكون لديها خبرة من حروب زوجها، فأراد أن ينتفع المسلمون بها؟. كل ذلك محتمل، وهو غيض من فيض مما تحلى به ذلك الجيل الراشد من الفضائل.
وصية عظيمة
جاء الأمر من عمر أمير المؤمنين إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما بالرحيل من (زرود) إلى العراق استعداداً لخوض المعركة الفاصلة مع الفرس وأوصاه بالوصية التالية:
"أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله عز وجل أفضل العدة على العدو، وأقوى العدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدَّ احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عُدَّتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ولا تقولوا إن عدونا شر منَّا ولن يسلط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قوم سلط عليهم شرٌّ منهم كما سلط على بني إسرائيل - لما عملوا بمساخط الله - كفرة المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولا. اسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشِّمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم، والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، جامِّ الأنفس والكراع. وأقم بمن معك كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة، يجمعون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم. ونحَّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلنها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا ترزأ أحداً من أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فوفوا لهم، ولا تنتصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدق في بعض، والغاش عين عليك وليس عيناً لك. وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع، وتبثّ السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عورتهم. وانتق الطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول من تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجلاد. ولا تخص أحداً بهوى؛ فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه ضيعة ونكاية. فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوك كصنيعته بك. ثم أذك حراسك على عسكرك، وتحفظ من البيات جهدك، ولا تؤتى بأسير ليس له عهد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدوك وعدو الله. والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم، والله المستعان".
الاستعانة بمن تاب من المرتدين
لم يستعن أبو بكر الصديق رضي الله عنه - في حروب الردة ولا في حركة الفتوحات - بمرتد، وأما عمر رضي الله عنه فقد استنفرهم بعد أن تابوا وصلح حالهم وأخذوا قسطاً من التربية الإسلامية إلا أنه لم يول منهم أحداً. وقد جاء في رواية أنه قال لسعد بن أبي وقاص في شأن طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي: "استعن بهما ولا تولينهما على مائة".
فنستفيد من سنة الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، أن من ارتد عن الإسلام ثم تاب ورجع إليه فإن توبته مقبولة ويكون معصوم الدم والمال، وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم غير أنه لا يولى شيئاً من أمور المسلمين المهمة وخاصة الأعمال القيادية، وذلك لاحتمال أن تكون توبته نفاقاً، وإذا كانت كذلك وتولى قيادة المسلمين المهمة وخاصة الأعمال القيادية، فإنه يفسد في الأرض ويقلب موازين الحياة فيقرب أمثاله من المنافقين ويبعد المؤمنين الصادقين ويحوّل المجتمع الإسلامي إلى مجتمع تسوده مظاهر الجاهلية، فكانت هذه السنة الراشدة من الخليفتين الراشدين لحماية المجتمع الإسلامي من تسلل المفسدين إلى قيادته وتوجيهه، ولعل من حكم هذه السنة أيضاً ملاحظة عقوبة المرتدين بنقيض قصدهم، الذين يرتدون من أجل الحصول على الزعامات والقيادات، إذا أظهروا التوبة، وعادوا إلى الإسلام يحرمون من هذه القيادات عقوبة لهم، وردعاً لكل من تسول له نفسه أن يخرج عن الخط الإسلامي، ويبحث عن الزعامة في معاداة الإسلام وموالاة أعدائه، حسب تعليق الصلابي.
وصل إلى سعد بن أبي وقاص كتاب من أمير المؤمنين وهو نازل في شراف على حدود العراق يأمره فيه بالمسير نحو فارس. وقد جاء في هذا الكتاب: "أما بعد فسر من شراف نحو فارس، بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله واستعن به على أمرك كله. واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع - وإن كان سهلاً - كؤود لبحوره وفيوضه ودأدائه، إلا أن توافقوا غيضاً من فيض. وإذا لقيتم القوم أو أحداً منهم فابدؤوهم العتيد والضرب، وإياكم والمناظرة لجموعهم (يعني الانتظار بعد المواجهة)، ولا يخدعنكم فإنهم خدعة ماكرة، أمرهم غير أمركم، إلا أن تجادوهم (يعني تأخذوهم بالجد). وإذا انتهيت إلى القادسية، فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر، على حافات الحجر وحافات المدر، والجراع بينهما، ثم ألزم مكانك فلا تبرحه فإنهم إن أحسوك رموك بجمعهم.. فإن أنتم صبرتم لعدوكم، واحتبستم لقتاله ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبداً، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن".
وهذه الوصية في اختيار المكان الذي يستقر فيه الجيش تشبه وصية المثنى لسعد حيث اتفق رأي عمر والمثنى في اختيار المكان، وكانت تلك الوصية من المثنى نتيجة خبرة أكثر من ثلاث سنوات في حرب الفرس، وهذا دليل على براعة عمر - رضي الله عنه - في التخطيط الحربي مع أنه لم تطأ قدماه أرض العراق. وتتضمن هذه الوصية إبقاء الجيش بعيداً عن متناول الأعداء، ثم رميهم بالسرايا التي تنغص عليهم حياتهم وتثير عليهم أتباعهم حتى يتمكن المسلمون من منازلتهم في المكان الذي تم اختياره.
عم وأسباب النصر المعنوية
كتب عمر إلى سعد - رضي الله عنهما - يذكره بأسباب النصر المعنوية وهي التي تأتي في المقام الأول، وقد جاء في كتابه:
"أما بعد فتعاهد قلبك وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما والصبر الصبر، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية والأجر قدر الحسبة، والحذر الحذر على ما أنت عليه وما أنت بسبيله واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله". واكتب إليَّ أين بلغ جمعكم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؟ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفةً كأني أنظر إليها.. وخف الله وارجه، ولا تُدِل بشيء، واعلم أن الله قد وعدكم، وتوكل لهذا الأمر بما لا خُلف له، فاحذر أن تصرفه عنك، ويستبدل بكم غيركم".
ففي هذا الكتاب يوصي عمر - رضي الله عنه - بتعاهد القلوب، فإن القلب هو المحرك لجميع أعضاء الجسم والحاكم عليها فإذا صلح صلح الجسم كله، ثم يوصيه بموعظة جنده وتذكيرهم بالإخلاص لله تعالى واحتساب الأجر عنده، ويبين أن نصر الله مترتب على ذلك، ويحذره من التفريط في المسؤولية التي تحملها وما يستقبله من الفتوح، ويذكرهم بوجوب ارتباطهم بالله تعالى وأن قوتهم من قوته ويوصي قائد المسلمين بأن يكون بين مقام الخوف من الله تعالى والرجاء لما عنده، وهو مقام عظيم من مقامات التوحيد وينهاه عن الإدلال على الله بشيء من العمل أو ثناء الناس، ويذكره بما سبق من وعد الله تعالى بانتصار الإسلام وزوال ممالك الكفر، ويحذره من التهاون في تحقيق شيء من أسباب النصر، فيتخلف النصر عنهم ليتم على يد غيرهم ممن يختارهم الله تعالى.
وكتب سعد إلى عمر - رضي الله عنهما - يصف له البلدان التي يتوقع أن تكون ميداناً للمعركة الفاصلة، إلى أن قال: "وأن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلي (إلب) لأهل فارس قد خضعوا لهم واستعدوا لنا، وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال له منهم، فهم يحاولون إنغاضنا وإقحامنا، ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم، وأمر الله بعدُ ماضٍ، وقضاؤه مسلّم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله خير القضاء وخير القدر في عافية".
فكتب إليه عمر: "قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع حتى تقحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله". ومن خلال رسالة عمر يتبين أنه اتخذ القرار المناسب وهو:
- أن يثبت سعد في مواقعه فلا يبارحها.
- أن لا يبادر العدو بالقتال بل يترك له أمر هذه المبادرة.
- أن يعمد إلى استثمار النصر ويطارد العدو حتى المدائن، فيفتحها عليه.
ومع الأخذ بالأسباب المادية التي لا بد منها في إحراز النصر لم يترك الفاروق الجوانب المعنوية وشن حرب نفسية على الخصوم في عقر دراهم، وعز ملكهم، وقوة سطوتهم، فأرسل إلى سعد: "إني ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو غلبتموهم، فمتى لاعب أحد منكم أحداً من العجم بأمان وإشارة أو لسان كان عندهم أماناً، فأجروا له ذلك مجرى الأمان والوفاء فإن الخطأ بالوفاء بقية، وإن الخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم".
يتبع