طلقت وأريد الابتعاد عن أهلي


السؤال:

الملخص:
شابة طُلِّقت مرتين، تعيش مع إخوتها وأمها، ولا تُطيق التعامل مع إخوتها، وتريد أن تبتعد عن أهلها للعمل، وتسأل: هل يجوز هذا؟
التفاصيل:
أنا في الثامنة والعشرين من عمري، طُلِّقتُ مرتين، أعيش حاليًّا مع أمي وإخوتي، أعاني سوءَ تعامل إخوتي معي، فهم يقذفون كلامًا لا أُطيقه، فأحاول مجانبتهم قدر استطاعتي، ولم أعُدْ أشعر تجاههم بشيء من حبٍّ أو كرهٍ، ووجودهم وعدمهم سواء بالنسبة لي، أما أمي، فهي طيبة وحنونة، لكنها أحيانًا تقول كلامًا يُوجعني، فلا أُطيق له احتمالًا وأنفعل عليها، وأحيانًا أخرى أصبر وأتغافل، سؤالي: إذا وجدت فرصة للعمل في محافظة أخرى بعيدًا عن أهلي، فهل يجوز لي السفر أو لا؟ وما الرأي في معاملتي لإخوتي، هل سيحاسبني الله على أنني لا أحب الاختلاط بهم؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لنا ولكِ الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: الذي يظهر لي من خلال كلامكِ عن إخوتكِ وأمِّكِ أن كلامهم بدافع الخوف والحرص؛ حتى لا تعجبكِ حياتكِ من غير زواج، فكثير من العائلات يفعلون ذلك، وإن كان هذا مؤلمًا للمرأة، ولكن ربما يُحمد لهم بهذا الدافع؛ لذا أنصحكِ بالصبر على تصرفاتهم، ومحاولة إزالة الخلاف بينكم بالحوار الهادئ.
وقد حثنا الإسلام على صلة الرحم، والعفو عن المسيء، بل وبمقابلة إساءته بالإحسان؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].
قال السعدي: "يقول تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾؛ أي: لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تُسخطه ولا تُرضيه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق، ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها؛ ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، ثم أمر بإحسان خاصٍّ، له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك؛ فقال: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾؛ أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حقٌّ كبير عليك؛ كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصِلْهُ، وإن ظلمك، فاعفُ عنه، وإن تكلم فيك، غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعفُ عنه، وعامله بالقول اللين، وإن هجرك، وترك خطابك، فطيِّب له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة؛ ﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾؛ أي: كأنه قريب شفيق، ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا ﴾؛ أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟ فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله، لا يفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضعٍ قدرَهُ، بل من تواضع لله رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك متلذذًا مستحليًا له، ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35]؛ لكونها من خِصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق".
وفي صحيح مسلم (2558) عن أبي هريرة: ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ؟ فقال: لئن كنتَ كما قلت، فكأنما تُسِفُّهُمُ المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم، ما دمتَ على ذلك)).
ثالثًا: يُكره لكِ السكن بمفردكِ في مكان بعيد عن أهلكِ ومحارمكِ، إذا أمِنتِ الفتنة على نفسكِ، وكان السكن آمنًا، وبإذن وليِّكِ، وإلا فيحرُم عليك السكن بمفردكِ، وإذا كان المكان الذي تودين الذهاب إليه سفرًا، فلا يجوز لكِ الذَّهاب والمجيء منه إلا برفقة أحد من محارمكِ؛ كأخيكِ، أو عمكِ أو خالكِ، أو ابن أختكِ أو ابن أخيكِ؛ لحديث البخاري (1729)، ومسلم (2391)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي مَحْرَمٍ، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: اخرج معها)).
ولا أنصحكِ أبدًا بالسفر، أو البعد عن أهلكِ، حتى وإن كان السكن آمنًا؛ لأن المخاطر في السفر أكثر منها في بلد الإقامة، فإنه في بلدكِ لو حدث لكِ شيء، أو احتجتِ من يُغيثكِ، لوجدتِ من يساعدكِ، ويخشى أهل الشر والفساد من الاعتداء عليكِ وأنتِ بعيدة عن بيتكِ وأهلكِ، ما لا يخشَون وأنتِ مع أهلكِ.
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.