الأدلة الشرعية من حيث النقل والعقل
محمد بن حسن الجيزاني

انقسام الأدلة الشرعية إلى نقلية وعقلية
السمع أصل لجميع الأدلة
بيان موافقة المعقول للمنقول
مكانة العقل عند أهل السنة
انقسام الأدلة الشرعية إلى نقلية وعقلية:
الدليل إما أن يكون شرعيًا، أو غير شرعي(1).
فالدليل(2) الشرعي(3): هو ما أمر به الشرع، أو دل عليه، أو أذن فيه. وبذلك يعلم أن الدليل الشرعي على أقسام ثلاثة:
الأول: ما أثبته الشرع وجاء به مما لا يعلم إلا بطريق السمع والنقل، ولا يعلم بطريق العقل، فهذا دليل شرعي سمعي.
وذلك كالخبر عن الملائكة والعرش، وتفاصيل أمور العقيدة، وتفاصيل الأوامر والنواهي، فهذا لا سبيل إلى معرفته بغير خبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
الثاني: ما دل عليه الشرع ونبه عليه، وأرشد فيه إلى الأدلة العقلية والأمثلة المضروبة، فهذا دليل شرعي عقلي.
وذلك مثل إثبات التوحيد ونفي الشرك، وإثبات النبوة، والبعث، وسيأتي بيان الأمثلة على ذلك(4).
الثالث: ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل تحت هذا ما أخبر به الصادق - صلى الله عليه وسلم -، وما دل عليه القرآن ونبه عليه، وما دلت عليه الموجودات وعرف بالتجربة؛ وهذا مثل الأمور الدنيوية، كالطب والحساب، والفلاحة والتجارة.
إذا علم ذلك فإن الدليل الشرعي يتصف بالآتي(5):
أ- أنه لا يكون إلا حقًا، إذ كونه شرعيًا صفة مدح.
ب- أنه يقدم على غيره، فالدليل الشرعي لا يجوز أن يعارضه دليل غير شرعي، فإن شرعة الله مقدمة على غير شرعته.
جـ- أن الدليل الشرعي قد يكون سمعيًا، وقد يكون عقليًا.
د- أن الدليل الشرعي يقابله الدليل غير الشرعي، أو الدليل البدعي، وكونه بدعيًا صفة ذم، ولا يقابل الدليل الشرعي بكونه عقليًا.
وإذا علم ذلك فالواجب معرفة الأدلة الشرعية ما يدخل فيها وما لا يدخل، فبعض الناس يدخل في الأدلة الشرعية ما ليس منها، وبعضهم يخرج منها ما هو داخل فيها(6).
السمع أصل لجميع الأدلة:
الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله العقلي والخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا.
إذ هو الفرقان بين الحق والباطل والهدى والضلال، وهو طريق السعادة والنجاة، فهو الحق الذي يجب اتباعه.
وما سواه من كلام الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل(7).
ذلك أن لفظ العقل والسمع صار من الألفاظ المجملة، فكل من وضع شيئًا برأيه سماه عقليات، والآخر يبين خطأه فيما قاله ويدعي أنه العقل، ويذكر أشياء أخرى تكون أيضًا خطأً.
وهذا نظير من يحتج في السمع بأحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو ثابتة لكن لا تدل على مطلوبه، فلا بد إذن من معرفة صريح العقل وصحيح النقل(8).
بيان موافقة المعقول للمنقول:
وذلك من وجوه(9):
أ- أن الدليل العقلي لا يمكن أن يستدل به على باطل أبدًا:
وبيان ذلك أن الحجج السمعية مطابقة للمعقول، والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح؛ بل هما أخوان نصيران وصل الله بينهما وقرن أحدهما بصاحبه، وأقام بهما حجته على عباده، فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلاً.
فالكتاب المنزل والعقل المدرك؛ حجة الله على خلقه(10).
ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا قال أحد منهم: قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديم العقل على النقل(11).
فالمقصود أن السلف كانوا متفقين جميعًا على(12):
- أن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح.
- أن العقل الصريح موافق للنقل الصحيح.
- أن العقل المعارض للنقل الصحيح باطل ولا يكون صحيحًا.
ب- أن العلوم ثلاثة أقسام(13):
منها ما لا يعلم إلا بالأدلة العقلية، وذلك كثبوت النبوة وصدق الخبر، وأحسن هذه الأدلة ما بينه القرآن وأرشد إليه.
ومنها ما لا يعلم إلا بالأدلة السمعية، وذلك كتفاصيل الأمور الإلهية وتفاصيل العبادات، وذلك إنما يكون بطريق خبر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- المجرد.
ومنها ما يعلم بالسمع والعقل، وذلك مثل كون رؤية الله ممكنة أو ممتنعة.
جـ- أن ما جاء به السمع لا يخلو من أمرين(14):
إما أن يدركه العقل، فلا بد والحالة كذلك أن يحكم بجوازه وصحته، وإما ألا يدركه العقل فيعجز عن الحكم عليه بنفي أو إثبات، فيبقى العقل حائرًا، والواجب عليه والحالة كذلك التسليم لما جاء به السمع.
د- أن ما يدركه العقل لا يخلو من أمرين(15):
إما أن يثبته السمع ويدل عليه، وإما أن يأذن فيه ويسكت عنه، وبذلك يعلم أن السمع والعقل لا يتعارضان أبدًا.
مكانة العقل عند أهل السنة:
للعقل عند أهل السنة مكانته اللائقة به، وهم في ذلك وسط بين طرفين(16).
الطرف الأول: من جعل العقل أصلاً كليًا أوليًا، يستغني بنفسه عن الشرع.
الطرف الثاني: من أعرض عن العقل، وذمه وعابه، وخالف صريحه، وقدح في الدلائل العقلية مطلقًا.
والوسط في ذلك:
أ- أن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، لذلك كان سلامة العقل شرطًا في التكليف فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، وقد أمر الله باستماع القرآن وتدبره بالعقول "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ" [النساء: 82]، و[محمد: 24]، "أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ" [المؤمنون: 68]. فالعقل هو المدرك لحجة الله على خلقه(17).
ب- أن العقل لا يستقل بنفسه، بل هو محتاج إلى الشرع الذي عرفناه ما لم يكن لعقولنا سبيل إلى استقلالها بإدراكه أبدًا، إذ العقل غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار.
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها(18).
جـ- أن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به دال على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - دلالة عامة مطلقة، فالعقل مع الشرع كالعامي مع المفتي، فإن العامي إذا علم عين المفتي ودل غيره عليه وبين له أنه عالم مفتٍ، ثم اختلف العامي الدال والمفتي، وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفتٍ فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض، قدحت في الأصل الذي به علمت أنه مفتٍ، قال له المستفتي: أنت لما شهدت بأنه مفتٍ ودللت على ذلك، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، وموافقتي لك في قولك إنه مفتٍ، لا يستلزم أن أوافقك في جميع أقوالك، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ.
هذا مع أن المفتي يجوز عليه الخطأ، أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه معصوم في خبره عن الله - تعالى -لا يجوز عليه الخطأ، فتقديم قول المعصوم على ما يخالفه من استدلال عقلي، أولى من تقديم العامي قول المفتي على قول الذي يخالفه.
وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه(19).
د- أن الشرع دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها(20).
وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه، التي قال فيها: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ" [الروم: 58]، فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية، فمن ذلك إثبات التوحيد بقوله - تعالى -: "هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ" [لقمان: 11]، وإثبات النبوة بقوله - تعالى -: "قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ" [يونس: 16]، وإثبات البعث بقوله - تعالى -: "قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ" [يس: 79].
والناس في الأدلة العقلية التي بينها القرآن وأرشد إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على طرفين(21):
فمنهم من يذهل عن هذه الأدلة ويقدح في الأدلة العقلية مطلقًا؛ لأنه قد صار في ذهنه أنها هي الكلام المبتدع الذي أحدثه المتكلمون.
ومنهم من يعرض عن تدبر القرآن وطلب الدلائل اليقينية العقلية منه؛ لأنه قد صار في ذهنه أن القرآن إنما يدل بطريق الخبر فقط.
والذي عليه أهل العلم والإيمان(22):
أن الأدلة العقلية التي بينها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أجل الأدلة العقلية وأكملها وأفضلها.
ه- أن العقل لا يمكن أن يعارض الكتاب والسنة، فالعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح أبدًا، فلا يصح أن يقال: إن العقل يخالف النقل، ومن ادعى ذلك فلا يخلو من أمور(23):
أولها: أن ما ظنه معقولاً ليس معقولاً، بل هو شبهات توهم أنه عقل صريح وليس كذلك.
ثانيها: أن ما ظنه سمعًا ليس سمعًا صحيحًا مقبولاً، إما لعدم صحة نسبته، أو لعدم فهم المراد منه على الوجه الصحيح.
ثالثها: أنه لم يفرق بين ما يحيله العقل وما لا يدركه، فإن الشرع يأتي بما يعجز العقل عن إدراكه، لكنه لا يأتي بما يعلم العقل امتناعه.
----------------------------------------
(1) الدليل غير الشرعي: خلاف الدليل الشرعي. وهو قد يكون راجحًا تارة، وقد يكون مرجوحًا تارة أخرى، وقد يكون دليلاً صحيحًا تارة، ويكون شبهة فاسدة تارة أخرى، كما أنه قد يكون عقليًا أو سمعيًا. فمن الأدلة غير الشرعية ما جاء في الكتاب والسنة النهي عنه، مثل القول على الله بلا علم: "ولا تقف ما ليس لك به علم" [الإسراء: 36] والجدل في الحق بعد ظهوره: "يجادلونك في الحق بعدما تبين" [الأنفال: 6]. انظر: "درء التعارض" (1/46 48، 199 200، 3/309، 310).
(2) الدليل هنا بمعنى المدلول.
(3) انظر: "درء التعارض" (1/198، 199)، و"مجموع الفتاوى" (19/228 234).
(4) انظر (ص 96) فقرة (د) من هذا الكتاب.
(5) انظر: "درء التعارض" (1/198، 200).
(6) انظر: "درء التعارض" (1/200).
(7) انظر: "مجموع الفتاوى" (13/135، 136)، و"شرح العقيدة الطحاوية" (224، 225).
(8) انظر: "مجموع الفتاوى" (16/469، 470).
(9) انظر استكمالاً لهذه الوجوه إن شئت الأدلة على موافقة القياس الصحيح لنصوص الشريعة وذلك فيما يأتي (ص189) من هذا الكتاب.
(10) انظر: "الصواعق المرسلة" (2/457، 458).
(11) انظر: "مجموع الفتاوى" (13/28، 29، 30).
(12) انظر المصدر السابق (16/463)، و"الصواعق المرسلة" (3/992).
(13) انظر: "مجموع الفتاوى" (13/137 139).
(14) انظر: "درء التعارض" (1/147).
(15) انظر: "درء التعارض" (1/198، 199).
(16) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/338).
(17) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/338، 339)، و"الصواعق المرسلة" (2/458).
(18) انظر: "مجموع الفتاوى" (3/339)، و"الصواعق المرسلة" (2/458، 459).
(19) انظر: "درء التعارض" (1/138، 139، 141)، و"الصواعق المرسلة" (3/808، 809)، و"شرح العقيدة الطحاوية" (219).
(20) انظر: "درء التعارض" (1/28، 29)، و"الصواعق المرسلة" (2/460 497).
(21) انظر: "مجموع الفتاوى" (13/137، 138).
(22) انظر: "درء التعارض" (1/28)، و"مجموع الفتاوى" (13/137).

(23) انظر:"درء التعارض" (1/78، 194)، و"مجموع الفتاوى" (3/339)، و"الصواعق المرسلة" (2/459).