"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (30)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الدخان" بعد أن ذكر هلاك قوم فرعون (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ)

في المراد بالآية قولان مشهوران للمفسرين.
والقول الأقرب من القولين أنه استعارة للسخرية بهم والتحقير لأمرهم, وإشارة لعدم الاكتراث بهلاكهم, فلم يأبه بهم أحد ولم يفقدهم أحد.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.

القول الأول: أن المراد البكاء حقيقة, أي أن السماء والأرض لم تبك على هلاكهم.
فليس لهم أي أعمال صالحة تعمل على الأرض أو تصعد في السماء, فلم تفقدهم وتبكي عليهم سماء ولا أرض.
(اقتصر على هذا القول ابن جرير*, والبغوي*, وابن كثير*)

وقد ورد في هذا المعنى حديثان مرفوعان وحديثان موقوفان سيأتي الكلام عليها في آخر الموضوع.

ويدخل ضمن هذا القول قول الحسن.
وهو أن في الكلام مضافاً محذوفاً, والمراد أهل السماء والأرض, فإنه ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس, بل سُرُّوا بهلاكهم.

قال الماتريدي: "قال بعضهم: أي: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض, بل سُرُّوا بذلك واستبشروا بهلاكهم, فيكون ذكر نفي البكاء لإثبات ضده وهو السرور والفرح لا لعينه، وذلك جائز في اللغة أن يذكر نفي الشيء ويراد به إثبات ضده، لا عين النفي، كقوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم)، ليس المراد إثبات نفي الربح, أي: لم يربح فحسب, بل المراد إثبات الخسران والوضيعة، أي: خسرت ووضعت, فعلى ذلك قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض) أي: ضحكت وسرت واستبشرت بهلاكهم, لأنهم جميعاً أبغضوهم وعادوهم لادعائهم ما ادعوا من الألوهية لفرعون".

القول الثاني: أنه استعارة للسخرية بهم والتحقير لأمرهم, وإشارة لعدم الاكتراث بهلاكهم, فلم يأبه بهم أحد ولم يفقدهم أحد.
(رجح هذا القول ابن عطية*) (واقتصر عليه الزمخشري*, وابن عاشور*) (وذكر القولين دون ترجيح الماتريدي*, والرازي*, والقرطبي*)
وهذا القول هو الأقرب.

وكانت العرب تقول عند موت السيد أو الرجل العظيم الشأن: بكت له السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس, وأظلمت له الدنيا، وكسفت الشمس والقمر لأجله.

ومن ذلك قول جرير :
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع

وقال جرير في رثائه للخليفة عمر بن عبد العزيز:
فالشمس طالعة ليست بكاسفة... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وقال النابغة:
بكى حادث الجولان من فقد ربه... وحوران منه خاشع متضائل

ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ:
الريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه

وقول ليلى بنت طريف ترثى أخاها الوليد
أيا شجر الخابور ما لك مورقاً... كأنك لم تجزع على ابن طريف

قال ابن عطية: "المعنى الجيد في الآية أنها استعارة باهية فصيحة تتضمن تحقير أمرهم، وأنهم لم يتغير عن هلاكهم شيء، وهذا نحو قوله تعالى: {وإن كان مكرهم لتزول} فيقال في تحقير: مات فلان فما خشعت الجبال، ونحو هذا".

وقال الزمخشري: "إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس".

قال ابن عاشور: "والكلام مسوق مساق التحقير لهم، وقريب من قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}, وهو طريقة مسلوكة وكثر ذلك في كلام الشعراء المحدثين، قال أبو بكر بن اللبانة الأندلسي في رثاء المعتمد بن عباد ملك أشبيلية:
تبكي السماء بمزن رائج غاد ... على البهاليل من أبناء عباد".

وهو تعبير يلقي ظلال الهوان، كما يلقي ظلال الجفاء .. فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء. ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء. وذهبوا ذهاب النمال، وهم كانوا جبارين في الأرض يطؤون الناس بالنعال, وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه، وهو مؤمن بربه، وهم به كافرون وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه".

تتمة:
قد روي في بكاء السماء والأرض على المؤمن حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لا يثبت.
فقد أخرج ابن جرير من طريق: صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (فما بكت عليهم السماء والأرض)، ثم قال: إنهما لا يبكيان على الكافر).
وهذا حديث مرسل.
شريح بن عبيد الحضرمي تابعي.

وكذلك روي من حديث أنس رضي الله عنه ولكنه حديث ضعيف جداً.

فقد أخرج الترمذي وغيره من طريق: موسى بن عبيدة, عن يزيد بن أبان, عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤمن إلا وله بابان، باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، فذلك قوله عز وجل: {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}
ويزيد بن أبان الرقاشي ضعيف.
وكذلك موسى بن عبيدة ضعيف, وقال فيه أحمد وأبو حاتم وغيرهما: منكر الحديث.

وورد من قول ابن عباس رضي الله عنه.
فقد روى سعيد بن جبير قال: أتى ابن عباس رجل، فقال: (أرأيت قول الله تبارك وتعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه بكى عليه, وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها، ويذكر الله فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى السماء منهم خير، قال: فلم تبك عليهم السماء والأرض). أخرجه ابن جرير وغيره.

وورد أيضاً عن علي رضي الله عنه قال: (إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء, ثم تلا (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين).
وورد هذا المعنى عن جماعة من التابعين.

فهل ما ورد عن ابن عباس وعلي يقال فيه: إنه لا يقال بالرأي وبالتالي يكون له حكم المرفوع.
أم أنه اجتهاد واستنباط من ظاهر الآية؟
الأقرب والله أعلم أنه اجتهاد واستنباط من ظاهر الآية.
ثم على فرض ثبوت ذلك مرفوعاً هل المراد حقيقة البكاء أم أن ذلك تمثيل لعظم فقد المؤمن. (الأمر محتمل)

قال الزمخشري: "كذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما من بكاء مصلى المؤمن، وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء: تمثيل".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/