.............................. .........


يعتقد أهل السنة أن رب العالمين يتكلم بما شاء متى شاء، ويفرقون بين أفعال الله التي تقوم بذاته - وهي غير مخلوقة لأنه لا يجتمع خالق ومخلوق - ومفعولاته المخلوقات . قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر} ففرّق بين المفعول (الخلق) والفعل (الأمر)، وكذلك قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.

ينكر عامة أهل الكلام أفعال الله الاختيارية التي تقوم بذاته، ويثبتون المفعولات (المخلوقات) فقط .
ولهذا قال المعتزلة إن القرآن مخلوق، بمعنى أن الله لا يتكلم فلهذا هذا القرآن إنما هو من مفعولاته. وأما الكلابية والأشعرية فإذا قالوا إنه غير مخلوق فهم يريدون أنه ليس فعلا أصلا وإنما صفة ذاتية مثل القدرة والحياة لا تتعلق بالمشيئة، وأما القرآن الذي بين أيدينا فهو مخلوق بمعنى أن الله لم يتكلم به ابتداءً، وقولهم هذا أنكره المعتزلة وأهل السنة جميعًا وقالوا إن الكلام لا يكون إلا شيئا اختياريا، فإما فعل كقول أهل السنة أو مفعول كقول المعتزلة.

وقد رأيت بعض الأشاعرة يزعم أن البخاري على مذهبهم في القرآن والصفات الفعلية وأنه أخذ عن شيوخ الأشعري، ولو رجع إلى شروح الأشاعرة والكلابية لصحيح البخاري لاستبان له ضعف دعواه وأن غالبهم صرحوا بالإنكار على الإمام البخاري ونسبته لموافقة المعتزلة أو أهل الظاهر!

قال ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري: "غَرض البخاري الفرق بين وصف كلام الله تعالى بأنه مخلوق وبين وصفه بأنه مُحدَث فأحال وصفه بالخلق وأجاز وصفه بالحدث اعتمادا على الآية وهذا قول بعض المعتزلة وأهل الظاهر".

أقول: ثم تعقب ابن بطال كلام البخاري ووصفه بالباطل والغلط، وواضح من نسبته الكلام للمعتزلة وأهل الظاهر أنه يراه باطلًا، ويقصد بأهل الظاهر داود الأصبهاني، وهم ينسبون له أنه قال "محدث غير مخلوق"، والصواب أنه قال "محدث مخلوق" كما في تاريخ بغداد، فمقالته قريبة من مقالتهم أصلا .
وقد قال إسحاق شيخ البخاري: "من قال القرآن محدث يريد مخلوق فهو جهمي".

والبخاري لم يرد شيئا سوى إثبات أفعال الله الاختيارية وأن القرآن منها، فهو فعل غير مخلوق، وهذا مذهب ابن تيمية الذي يعبر عنه بقوله "قديم النوع حادث الآحاد" أو كما قال أحمد "لم يزل الله متكلما إذا شاء".
وواضح من إثبات البخاري للحرف والصوت في خلق أفعال العباد أنه أراد هذا المعنى، ولا يخفى أن هذا نقيض مذهب الكلابية والأشعرية.

وقال ابن المنير في المتواري على أبواب البخاري:
وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
وقال ابن مسعود عن النبي ﷺ: إِن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنّ مما أحدث أَن لا تكلموا في الصلاة.
فيه ابن عباس: قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم، وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله تقرؤنه محضا لم يشب. وقال مرّة: وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله.

قلت: رضى الله عنك ! يحتمل بأَن البخاري أجاز وصف الكلام بأنه محدث لا مخلوق ، كما زعم بعض أهل الظاهر، تمسكا بقوله: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث}، فإن أراد هذا فقد بيّن أَن الإحداث ههنا ليس الخلق والاختراع. لأنه لو كان مخلوقا لكان مثل كلام المخلوقين. وكما أَن الله ليس كمثله شيء، كذلك ليس مثل صفاته صفات.
ويحتمل أَن يريد البخاري حمل لفظ المحدث على معنى الحديث. فمعنى قوله: {من ذكر من ربهم محدث} أَي متحدّث به. والظاهر أَنه أراد الأول".

وقال الدماميني في مصابيح الجامع: "قال المهلَّب وغيره: غرض البخاري بهذا الباب الفرق بين وصف كلام الله بأنه مخلوق، وبين وصفه بأنه محدث، وهذا قول لبعض المعتزلة، وبعض أهل الظاهر، وهو خطأ من القول".

ونقَل ابن حجر القول نفسه.
وقال القسطلاني في إرشاد الساري: "لعل مراده أن المحدث غير المخلوق كما هو رأي البلخي وأتباعه".
وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: "وقال الداودي الذكر في هذه الآية هو القرآن وهو محدث عندنا وهو من صفاته تعالى، ولم يزل سبحانه وتعالى بجميع صفاته. قال بن التين: وهذا منه -أي من الداودي- عظيم، واستدلاله يرد عليه فإنه إذا كان لم يزل بجميع صفاته وهو قديم فكيف تكون صفته محدثة وهو لم يزل بها إلا أن يريد أن المحدث غير المخلوق كما يقول البلخي ومن تبعه، وهو ظاهر كلام البخاري حيث قال: وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين. فأثبت أنه محدث".

تأمَّل أن ابن التين ينسب مذهبا للداودي ويستعظمه ثم يقول هو ظاهر كلام البخاري !


وقد دافع ابن حجر عن الداودي وتأوَّل كلامه، ولكن كلام البخاري ظاهره واضح، وكل بحثهم مبني على أن الله ﷻ لا يفعل ما شاء متى شاء فعلا قائما بذاته، ويسمون ذلك حلول حوادث.
وعجيب فرحهم بشروح القوم على صحيح البخاري وهي تؤكد أن عقيدة البخاري غير عقيدتهم، غير كلام البخاري الواضح في تجهيم منكر العلو وتكفيره في خلق أفعال العباد.
وعجيب أيضا شدة الإنكار على ابن تيمية، ثم يقال إن ظاهر كلام البخاري كمذهب الشيخ !


منقول من صفحة عبد الله الخليفي