وقولُ: (لوْ) لا يُجْدِي عليهِ إلاَّ الحزنَ والتحَسُّرَ، مَعَ ما يُخَالِطُ تَوْحيدَهُ منْ نوعِ المعاندةِ للقدرِ الذي لا يكادُ يَسْلَمُ منها مَنْ وَقَعَ منهُ هذا إلاَّ ما شاءَ اللهُ.
فـهذا وجهُ إيرادِهِ هذا البابَ في التوحيدِ.
قالَ ابنُ كثيرٍ: (فسَّرَ ما أَخْفَوْهُ في أنْفُسِهم بقولِهِ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} أيْ: يُسِرُّونَ هذهِ المقالةَ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
قالَ ابنُ إسحاقَ: (حدَّثَنِي يحيى بنُ عبَّادِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، عنْ أبيهِ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ قالَ: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اشْتَدَّ الخَوْفُ عَلَيْنَا، أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْنَا النَّوْمَ، فَمَا مِنَّا رَجُلٌ إِلاَّ ذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، فَوَاللهِ إِنِّي لأَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ ما أَسْمَعُهُ إلاَّ كالْحُلْمِ: {لَوْ كَانَ لَنَا مِن الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} فحَفِظْتُهَا منهُ، وفي ذلكَ أَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} لقولِ مُعَتِّب) رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ.
قالَ اللهُ تَعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أيْ: هذا قدرٌ مُقَدَّرٌ من اللهِ عزَّ وجلَّ، وحُكْمٌ حَتْمٌ لازمٌ لا مَحِيدَ عنهُ ولا مَنَاصَ منهُ.
قُلْتُ: فَتَبَيَّنَ وجهُ إيرادِ المصِّنفِ الآيَةَ على الترجمةِ؛ لأنَّ قولَ: (لَوْ) في الأمورِ المُقَدَّرَةِ منْ كلامِ المنافقينَ؛ ولهذا ردَّ اللهُ عليهم ذلكَ بأَنَّ هذا قَدَرٌ، فمَنْ كُتِبَ عليهِ شيءٌ فلا بُدَّ أَنْ ينالَهُ، فماذا يُغْنِي عنكم قولُ (لَوْ) و(لَيْتَ) إلاَّ الحسرةَ والندامةَ؟ فالواجبُ عليكُم في هذهِ الحالةِ الإيمانُ باللهِ والتعزِّي بقَدَرِهِ معَ ما تَرْجُونَ منْ حُسْنِ ثوابِهِ، وفي ذلكَ عينُ الفلاحِ لكم في الدُّنيا والآخرةِ، بلْ يَصِلُ الأمرُ إلى أَنْ تَنْقَلِبَ المخاوفُ أمانًا، والأحزانُ سُرورًا وفرحًا، كما قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: (أَصْبَحْتُ وما لي سُرُورٌ إلاَّ في مواقعِ القضاءِ والقدر).
روى ابنُ جريرٍ عن السُدِّيِّ قَالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَقَدْ وَعَدَهُم الفَتْحَ إِنْ صَبَرُوا.
فَلَمَّا خَرَجُوا رَجَعَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ فِي ثَلاثِمِائَةٍ، فَتَبِعَهُمْ أَبُو جَابِرٍ السُّلَمِيُّ يَدْعُوهُمْ، فَلَمَّا غَلَبُوهُ وَقَالُوا لَهُ: مَا نَعْلَمُ قِتَالاً، وَلَئِنْ أَطَعْتَنَا لَتَرْجِعَنَّ مَعَنَا، فَنَزَلَ: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}[آل عمران: 168]).
وعن ابنِ جُرَيْجٍ في الآيَةِ قالَ: (هوَ عبدُ اللهِ بنُ أُبيٍّ {الَّذِينَ قَعَدُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ } الذينَ خرجُوا معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أُحدٍ) رواهُ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ.
فَعَلَى هذا؛ إخوانُهم هم المسلمونَ المجاهدونَ، وسُمُّوا إخوانَهُم؛ لموافقتِهم في الظَّاهِرِ.
وقِيلَ: إخوانُهُم في النَّسَبِ لا في الدِّينِ.
{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} قالَ ابنُ كثيرٍ: (لوْ سَمِعُوا مَشُورَتَنا عليهم في القعودِ وعدمِ الخروجِ ما قُتِلُوا معَ مَنْ قُتِلَ، قالَ اللهُ تعالى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أيْ: إنْ كانَ القعودُ يَسْلَمُ بهِ الشخصُ من القتلِ والموتِ، فينبغي أنَّكم لا تموتُونَ، والموتُ لا بُدَّ آتٍ إليكم ولوْ كنْتُم في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، فادْفَعُوا عنْ أنفسِكُم الموتَ إنْ كنتم صادقينَ).
قالَ مجاهدٌ: (عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ: (نزَلَتْ هذهِ الآيَةُ في عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ).
قُلْتُ: وكانَ أشارَ على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أُحُدٍ بعدمِ الخروجِ.
فلَمَّا قدَّرَ اللهُ الأمرَ قالَ ذلكَ تصويبًا لرَأْيِهِ، ورفعًا لشأنِهِ، فردَّ اللهُ عليهِ وعلى أمثالِهِ: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فلا تُعذَرُونَ عنْ ذلكَ.
فعُلِمَ أنَّ ذلكَ بقضاءِ اللهِ وقدَرِهِ؛ أيْ: يَسْتَوِي الذي في وَسَطِ الصفوفِ والذي في البروجِ المشَيَّدةِ في القتلِ والموتِ، بلْ {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}[آل عمران:154] فلا يُنجِّي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ.
وفي ضِمْنِ ذلكَ قولُ (لوْ) ونحْوِهِ في مثلِ هذا المَقَامِ؛ لأنَّ ذلكَ لا يُجْدِي شيئًا، إذ المُقَدَّرُ قدْ وقعَ فلا سبيلَ إلى دَفْعِهِ أبدًا، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}[الطور:48].
قولُهُ: (في الصحيحِ) أيْ: صحيحِ مسلمٍ.
قولُهُ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)) إلخ، هذا الحديثُ اختصرَهُ المصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ.
ولفظُهُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)) إلى آخرِهِ.
فقولُهُ عليهِ السلامُ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) فيهِ أنَّ اللهَ سبحانَهُ موصوفٌ بالمَحَبَّةِ، وأنَّهُ يُحِبُّ على الحقيقةِ كما قالَ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة:57].
وفيهِ أَنَّهُ سبحانَهُ يُحِبُّ مُقْتَضَى أسمائِهِ وصفاتِهِ، وما يُوَافِقُها فهوَ القَوِيُّ، ويُحِبُّ المؤمنَ القَوِيَّ، وهوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِترَ، وجميلٌ يُحِبُّ الجمالَ، وعليمٌ يُحِبُّ العلماءَ، ومحسِنٌ يُحِبُّ المحسنينَ، وصَبورٌ يُحِبُّ الصابرينَ، وشكورٌ يُحِبُّ الشاكرينَ.
قُلْتُ: الظاهرُ أَنَّ المرادَ القُوَّةُ في أَمْرِ اللهِ وتنفيذِهِ، والمسابقةُ بالخيرِ، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ، والصبرُ على ما يُصِيبُ في ذاتِ اللهِ، ونحوُ ذلكَ، لا قُوَّةُ البدنِ؛ ولهذا مَدَحَ اللهُ الأنبياءَ بذلكَ في قولِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}[ص:45]، فالأيْدِي: القُوَّةُ والعزائمُ في تنفيذِ أَمْرِ اللهِ، وقولِهِ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:17].
وقولُهُ: ((وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ)) أيْ: كُلٍّ من المؤمنِ القويِّ والمؤمنِ الضعيفِ على خيرٍ وعافيَةٍ؛ لاشتراكِهما في الإيمانِ والعملِ الصالحِ، ولكنَّ القَوِيَّ في إيمانِهِ ودينِهِ أحبُّ إلى اللهِ.
وفيهِأَنَّ محبَّةَ المؤمنينَ تَتَفَاضَلُ، فَيُحِبُّ بعْضَهم أكثرَ منْ بعضٍ.
وقولُهُ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)) هوَ بفَتْحِ الراءِ وكسْرِها.
قالَ ابنُ القيِّمِ: (سعادةُ الإنسانِ في حِرْصِهِ على ما ينفعُهُ في معاشِهِ ومعادِهِ، والْحِرْصُ: هوَ بَذْلُ الْجَهْدِ واستفراغُ الْوُسْعِ؛ فإذا صادفَ ما ينتفِعُ بهِ الحريصُ كانَ حرصُهُ محمودًا، وكمالُهُ كُلُّهُ في مجموعِ هذيْنِ الأمرَيْنِ:
- أَنْ يكونَ حريصًا.
- وأَنْ يكونَ حِرْصُهُ على ما ينتفعُ بهِ.
فإنْ حَرَصَ على ما لا ينفعُهُ، أوْ فعلَ ما ينفعُهُ بغيرِ حرصٍ فَاتَهُ من الكمالِ بحَسَبِ ما فاتَهُ منْ ذلكَ، فالخيرُ كُلُّهُ في الحرصِ على ما ينْفَعُ).
قولُهُ: (وَاسْتَعِنْ بِاللهِ) قالَ ابنُ القيِّمِ: (لمَّا كانَ حرصُ الإنسانِ وفعلُهُ إنَّما هوَ بمعونةِ اللهِ ومشيئتِهِ وتوفيقِهِ، أمرَهُ أَنْ يستعينَ بهِ لِيَجْتَمِعَ لهُ مَقَامُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ فإنَّ حرصَهُ على ما ينفعُهُ عبادةٌ للهِ، ولا تَتِمُّ إلاَّ بمعونتِه، فَأَمَرَهُ بأَنْ يعْبُدَهُ ويستعينَ بهِ).
وقالَ غيرُهُ: (اسْتَعِنْ بِاللهِ) أي: اطْلُب الإعانةَ في جميعِ أُمُورِكَ مِن اللهِ لا مِنْ غيرِهِ، كما قالَ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:4] فإنَّ العبدَ عاجزٌ لا يَقْدِرُ على شيءٍ إنْ لمْ يُعِنْهُ اللهُ عليهِ، فلا مُعِينَ لهُ على مصالحِ دينِهِ ودُنْيَاهُ إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ.
فمَنْ أعانَهُ اللهُ فهوَ المُعانُ، ومَنْ خَذَلَهُ فهوَ المخذولُ، وقدْ كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ في خُطْبَتِهِ ويُعَلِّمُ أصحابَهُ أَنْ يقُولُوا: ((الْحَمْدُ للهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ)) ومنْ دُعَاءِ الْقُنُوتِ: ((اللهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ)) وأمرَ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ أَنْ لا يَدَعَ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ أنْ يقولَ: ((اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) وكانَ ذلكَ منْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهُ أيضًا: ((اللهُمَّ أَعِنِّي، وَلاَ تُعِنْ عَلَيَّ)).
وإذا حقَّقَ العبدُ مَقَامَ الاستعانةِ وعملَ بهِ كانَ مُستعينًا باللهِ عزَّ وجلَّ، مُتَوَكِّلاً عليهِ، راغبًا وراهبًا إليهِ؛ فَيُسْتَحَقُّ لهُ مَقَامُ التوحيدِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
قولُهُ: ((وَلاَ تَعْجَزْ))وهوَ بكسرِ الجيمِ وفتحِها: اسْتَعْمِل الحرصَ والاجتهادَ في تحصيلِ ما ينفعُكَ منْ أَمْرِ دينِكَ ودُنْيَاكَ التي تستعينُ بها على صيانَةِ دينِكَ، وصيانَةِ عيالِكَ، ومكارمِ أخلاقِكَ، ولا تُفَرِّطْ في طَلَبِ ذلكَ، ولا تَتَعَاجَزْ عنهُ مُتَّكِلاً على القَدَرِ، أوْ مُتَهَاوِنًا بالأمرِ؛ فَتُنْسَبَ للتقصيرِ، وتُلامَ على التفريطِ شرعًا وعقلا، معَ إنهاءِ الاجتهادِ نهايتَهُ، وبلاغِ الحرصِ غايتَهُ، فلا بُدَّ من الاستعانةِ باللهِ والتوكُّلِ عليهِ والالتجاءِ في كلِّ الأمورِ إليه، فمَنْ ملكَ هذَيْنِ الطريقَيْنِ حَصَلَ على خيرِ الدارَيْنِ.
وقالَ ابنُ القيِّمِ: (العجزُ يُنَافِي حِرْصَهُ على ما ينفعُهُ، ويُنَافِي استعانتَهُ باللهِ، فالحريصُ على ما ينْفَعُهُ المستعينُ باللهِ ضدُّ العاجزِ، فهذا إرشادٌ لهُ قبلَ رجوعِ المقدورِ إلى ما هوَ مِنْ أعظمِ أسبابِ حُصُولِهِ، وهوَ الحَرِيصُ عليهِ معَ الاستعانةِ بِمَنْ أَزِمَّةُ الأمورِ بيَدِهِ، ومصدرُها منهُ، وَمَرَدُّها إليهِ).
قولُهُ: (فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ) إلى آخرِه، العبدُ إذا فاتَهُ ما لمْ يُقَدَّرْ لهُ؛ فلهُ حالتانِ:
- حالةُ عَجْزٍ، وهيَ مِفْتَاحُ عملِ الشيطانِ، فَيُلْقِيهِ العجزُ إلى (لَوْ)، ولا فائدَة في (لوْ) هَا هُنَا، بلْ هيَ مِفْتَاحُ اللَّوْمِ والجَزَعِ والسَّخَطِ والأسفِ والحزنِ، وذلكَ كلُّهُ منْ عملِ الشيطانِ، فنهاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن افتتاحِ عملِهِ بهذا المفتاحِ.
- وأمرَهُ بالحالةِ الثانيَةِ، وهيَ النظرُ إلى القدرِ ومُلاحَظَتُهُ، وأنَّهُ لوْ قُدِّرَ لهُ لمْ يَفُتْهُ، ولمْ يَغْلِبْهُ عليهِ أحدٌ، فلمْ يَبْقَ لهُ ها هنا أَنْفَعُ منْ شهودِ القَدَرِ، ومشيئةِ الرَّبِّ النافذةِ، التي تُوجِبُ وُجُودَ المقدورِ، وإذا انْتَفَت امتنعَ وُجُودُهُ؛ فلهذا قالَ: (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ)؛ أيْ: غَلَبَكَ الأمرُ ولمْ يَحْصُل المقصودُ بعدَ بَذْلِ جَهْدِهِ والاستعانةِ باللهِ، فلا تَقُلْ: (لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ) فأرشدَهُ إلى مَا ينفعُهُ في الحالتَيْنِ؛ حالةِ حصولِ مطلوبِهِ، وحالةِ فواتِهِ.
فلهذَا كانَ هذا الحديثُ ممَّا لا يَسْتَغْنِي عنهُ العبدُ أبدًا، بلْ هوَ أشدُّ شَيءٍ إليهِ ضرورةً، وهوَ يتضَمَّنُ إثباتَ القَدَرِ والْكَسْبِ والاختيارِ والقيامِ بالعُبُوديَّةِ باطنًا وظاهرًا في حالَتَيْ حُصُولِ المطلوبِ وعدمِهِ، هذا معنى كلامِ ابنِ القيِّمِ.
وقالَ القاضي: (قالَ بعضُ العلماءِ: هذا النهيُ إنَّما هوَ لِمَنْ قالَهُ مُعْتَقِدًا ذلكَ حَتْمًا، وأنَّهُ لوْ فعلَ ذلكَ لمْ يُصِبْهُ قَطْعًا.
فأمَّا مَنْ ردَّ ذلكَ إلى مشيئةِ اللهِ تعالى، وأنَّهُ لنْ يُصِيبَهُ إلاَّ ما شاءَ اللهُ، فليسَ مِنْ هذا) واستدَلَّ بقولِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ في الغارِ: (لوْ أَنَّ أحَدَهُم رفعَ رأسَهُ لَرَآنَا).
قالَ القاضي: (وهذا ما لا حُجَّةَ فيهِ؛ لأنَّهُ أخبرَ عنْ مُسْتَقْبَلٍ، وليسَ فيهِ دَعْوَى لردِّ الْقَدَرِ بعدَ وقوعِهِ).
قالَ: (وكذا جميعُ ما ذكرَهُ البخاريُّ فيما يجوزُ مِن الـ(لَوْ)، كحديثِ: ((لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لأََتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ)).
و ((لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ)).
و ((لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ باِلسِّوَاكِ)) وشِبْهِ ذلكَ.
وكلّهُ مُسْتَقْبَلٌ لا اعتراضَ فيهِ على قدرٍ ولا كراهةَ فيهِ؛ لأنَّهُ إنَّما أخبرَ عن اعتقادِهِ فيمَا كانَ يفعلُ لَوْلا المانعُ، وعمَّا هوَ في قدرتِه، فأَمَّا ما ذهبَ فلَيْسَ في قُدْرَتِهِ).
(فإنْ قيلَ: ما تصنعونَ بقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: